رحلة الإنسان إلى أعماقه السحيقة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
..............
1
أحيانًا ، يتعلق
الإنسانُ بامرأة ، ليس لأنه يُحبها ، بَل لأنها تُذكِّره بامرأة كان يُحبها . وهذا
الغرقُ في الذكريات يُمثِّل استسلامًا للماضي ، وعَودةً إلى العُمق التاريخي
للأحزان الدفينة والآمال الضائعة . ولا بُد من انقلاب الذاكرة على الذكريات ،
وتحوُّل الذكريات إلى فأس تُحطِّم جبلَ الجليد الجاثم على القلب . والهروبُ إلى
الأمام ليس حلًّا لمواجهة العواطف الجيَّاشة ، والمشاعرِ المتمردة . والحلُّ يَكمن
في قُدرة الإنسان على التَّحَوُّل إلى أيقونة لا تُكسَر ، وزهرة لا تُسحَق تحت
الأقدام . وهذا لا يتحقق إلا إذا صارَ الإنسانُ رُوحًا للآخرين ، وصَوْتًا لمن لا
صوت له .
2
عندما يستمع الإنسانُ
إلى الصرخات المنبعثة من أعماقه السحيقة ، سيُدرك أن الثورة الحقيقية تتجلَّى في
تفجير الطاقة الرمزية في لغة الأحلام ، وعندئذ تصيرُ الأحلامُ واقعًا مُعَاشًا
وملموسًا . وإذا امتلكَ الإنسانُ القدرة على تأويل الأصوات وتفسير الألوان ،
والسيطرة على دلالتها الرمزية ، سيتوصَّل حتمًا إلى فَك شيفرة أحاسيسه المُختلطة ،
ومشاعره المُتداخلة ، لأن عناصر الطبيعة هي مصدر المشاعر الإنسانية ، والإنسانُ
ابن بيئته . ولا يُمكن معرفة مسار حركة النهر إلا مِن خلال معرفة مَنبعه لا روافده
، لأن الروافد فروع ، والمِحَكُّ الحقيقي هو تحديد الأصل . والطبيعةُ هي أُم
الإنسان ، الذي جاءَ مِن التراب ، وسيعود إلى التراب . وهذا يعني أن البداية
والنهاية معروفتان . ومعَ هذا ، فالغُموض يتَّضح في الحياة لا الموت ، لأن الحياة
حركة ، والموت سُكون ، والحركةُ تُولِّد انفعالات كثيرة ، تتفجَّر وتنبعث
كالشَّظايا . وكُلما ازدادت الشَّظايا صَعُبت السيطرة عليها ، وصار مِن العسير
تحديد أماكنها . أمَّا الموتُ فهو نقطة مركزية واحدة ، مِثل الضربة القاضية ، التي
تُنهي اللعبة ، وتقضي على الأحاسيس ، وتجتث المشاعر مِن جُذورها .
3
إن رحلة الإنسان إلى
أعماقه السحيقة، هي مسار الحرية والتحرر . الحريةُ في عالَم استهلاكي يقوم على
تقديس المادة ونبذ الرُّوح ، والتحرُّر مِن سَطوة الذكريات الحزينة التي تتكرَّس
كوحش كاسر يُطارد الإنسانَ ، ويُصادر المعنى من حياته اليومية . واكتشافُ الذات هو
بالضرورة اكتشاف للعالَم . ومَن يَطمح إلى اكتشاف تفاصيلَ الحياة ، وهو عاجز عن
اكتشاف نفْسه التي بين جَنْبَيْه ، كمن يُريد اكتشاف سِر الموت ، وهو عاجز عن
معرفة أسرار حياته . وليس كُل عائش حَيًّا ، وليس كُل مَدفون مَيْتًا .