طبيعة الحُلم الإنساني في المجتمع المادي
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
صحيفة المثقف ، 30/6/2019
............
يبدأ الحُلم الإنساني مِن حيث انتهى المعنى اللغوي للوجود . وهذه المُعادلة
تكشف الترابط المصيري بين الحُلم وماهية الوجود ، وتُبيِّن العلاقة الحتمية بين
مسار الإنسان ومصيره . والإنسانُ في رحلة بحثه عن ذاته ، سيكتشف أن الحُلم هو
الوجه الحقيقي للحياة ، وما عداه عبارة عن أقنعة زائلة وكوابيس وهمية . وفي هذه
الرحلة المُدهشة ، سوفَ تتساقط الأقنعةُ ، وتزول الأعراض المُؤقَّتة ، ليظل الجوهر
الحقيقي ، والمعدن النفيس ، الذي لا يَطرأ عليه الصدأ ولا الصدى . ويجب على
الإنسان أن يكون صوتًا لا صدى ، ويبتعد عن المعارك الجانبية في الحياة ، لأن
الهامش لا يصنع مجدًا ، ولا يَقُود إلى نصر . والتعويلُ إنما يكون على المركز
وإصابة الهدف .
2
إن الحقيقة كالدواء المُر ، لا بُد من شُربه
، مهما كان مَذاقه ، لأن فيه النفع والفائدة . ومهما كانت الحقيقة صعبة وجارحة
وصادمة ، لا بُد من تقبُّلها واعتناقها ، لأنها هي الواقع الملموس ، المُؤثِّر على
حياة الإنسان . والخيارُ الآخر هو الوهم القاتل ، ومهما كان لذيذًا وناعمًا ،
فعاقبته وخيمة ، ونتيجته مُدمِّرة . والإنسانُ قد يَخدع الآخرين ، وهذه مُصيبة .
لكن المصيبة الأكبر أن يَخدع نَفْسَه .
3
عندما يُهاجر الإنسانُ من مادية اللغة إلى رُوح اللغة ، سيُدرِك أن الألفاظ
والمعاني لَيست وسيلة لتوصيل الأفكار فَحَسْب ، بل هي أيضًا منظومة رمزية ، وطاقة
معرفية ، وبُنية مشاعرية ، وهذه هي الأضلاع الثلاثة في مثلت الوجود الإنساني .
وهذا الوجودُ ليس محصورًا في الزمان والمكان ، وإنما هو عابر للتاريخ والجُغرافيا
. وإذا بنى الإنسانُ حياته في قلب اللغة ، امتلكَ معنى الخلود ، لأن الكلام باقٍ ،
بسبب مصدره الروحي ، أمَّا الجسد فمصيره إلى التراب والتَّحَلُّل والذوبان في
عناصر الأرض . وكُل شيء يَعود إلى أصْله ومصدره ، كما يعود الطفلُ إلى حِضن أُمِّه
.
4
إذا لم يمتلك الإنسانُ صوته الخاص ، سيصبح
صدى للآخرين ، وعندئذ سيكتب تاريخَ الآخرين لا تاريخه الشخصي . وهذا يعني أنه قضى
حياته خادمًا لا سَيِّدًا ، ونَسِيَ أن يعيش حياته في ضجيج مصالح الآخرين ، ولم
يَقْدِر على اكتشاف وجهه في زحمة الأقنعة ، ولم يستطع إيجاد بصمته الخاصة في ظِل
الصراعات على احتكار المجتمع والسيطرة عليه . والمجتمعُ الإنساني تحوَّلَ إلى
غابة، مِمَّا كرَّس مبدأ الصدام ، وعزَّز مفهوم الصراع . وبالتالي ، ظهر نَوعان من
الصراع: الصراع في الإنسان ، والصراع على الإنسان . وهذا يعني أن الإنسان يخوض
حربًا معنوية على جبهتين : الجبهة الداخلية ، حيث يتصارع مع أهوائه ورغباته
وأحلامه وأفكاره وهواجسه، ويُحاول التغلُّب عليها ، وتطويعها ، وتحويلها من خيالات
هُلامية إلى أحداث واقعية . والجبهة الخارجية ، حيث يتصارع مع العقل الجمعي
المُسيَّس الذي يُحاول السيطرة على الإنسان ، والهيمنة على حياته جُملةً وتفصيلًا
، والتحكُّم بمساره ومصيره ، من أجل تحويل الإنسان إلى شيء استهلاكي وعنصر ضِمن
القطيع ، الذي يُساق إلى الذبح _ وقت الحاجة _ بلا اعتراض ولا شكوى .