الفرق بين المغامرة والمقامرة في الفكر الاجتماعي
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
..............
1
إن العواطف الإنسانية
تُجسِّد العلاقةَ المركزية بين هُوية الإنسان وتاريخه الشخصي . وهذه العلاقة لا
تنفصل عن مسار البُنى الاجتماعية ، لأن الإنسان كيان فكري اجتماعي قائم بذاته ،
حتى لو كان مُنعزلًا عن الآخرين ، فالعُزلةُ فلسفة اجتماعية وموقف فكري من عناصر
الوجود ، وأحد أشكال البُنى العقلية المعرفية . والعُزلةُ لا تعني أن الإنسان صارَ
وحشًا بلا قيم إنسانية أو فلسفة اجتماعية، وإنما تعني أن القيم الإنسانية
الجَمْعية تَمَّ اختزالها في قيمة فردية مُحاطة بشَرنقة، تَمنع العَالَمَ الخارجي
من الوصول إلى عوالم الإنسان الداخلية . وما دامَ الإنسانُ على قَيْد الحياة ، فهو
يَملِك بالضرورة شُروطَ المعنى الإنساني ، وحتميةَ الوجود الاجتماعي . والمنظومةُ
الفكرية المُتَكَوِّنة من المعنى والوجود تُمثِّل الأساسَ الفلسفي للفِكر
الاجتماعي ، الذي لا تقوم له قائمة ، إلا إذا عَرَفَ الإنسانُ مَعنى إنسانيته
ومارسها قَوْلًا وفِعْلًا ، وأدركَ تفاصيلَ وُجوده في الخيال والواقع معًا . وكُل
إنسان يتحرَّك في الوجود أُفقيًّا وعموديًّا ، استنادًا إلى المعنى الإنساني
المُسْبَق . والوجودُ الأُفقي هو التَّحرك في المسارات الحياتية الواقعية ، والوجود
العمودي هو التَّحرك في عوالم الخيال والأحلام . وينبغي على الإنسان إيجاد صيغة
منطقية عقلانية محسوبة بِدِقَّة ، لحفظ توازنه المعنوي والماديِّ ، بعيدًا عن
المُقامرة بمصيره ، واللعبِ على الأضداد والتناقضات ، وتعريض معنى حياته للخطر .
والإنسانُ العاقلُ الذي يَملِك شُروط الوَعْي والوعي المُضاد ، لا يُحاول تقليدَ
لاعب السيرك الذي يَمشي على الحَبْل بدون شبكة أمان،لأنه مُعرَّض للسقوط في أيَّة
لحظة، وخسارة حياته. والخطأ الأول هو الخطأ الأخير، ولا مجال للتعويض ، ولا الحصول
على فرصة ثانية. والحَلُّ هو المشي على أرض صلبة، وتأسيس الفكر العقلاني على قاعدة
اجتماعية مُتماسكة، مع فتح جميع النوافذ على المعنى الإنساني ، والحياةِ الأخلاقية
الفاضلة ، من أجل حراسة الإنسان مِن الوحشية والتَّوَحُّش ، وحمايته من الغرق في
النُّظم الاستهلاكية المُوحِشة . وعمليةُ فتح النوافذ على الحياة بكل تفاصيلها
ضرورية للغاية ، لأنها تضمن وجود خيارات كثيرة أمام الإنسان ، وإذا أُغْلِقَت
نافذة سيجد نوافذ أُخرى ، ولن يقف حائرًا مكتوفَ الأيدي . وإذا وَصَلَ إلى طريق
مَسدود ، سيرجع ، ويَبحث عن طريق آخَر ، وخيار جديد . ولن يَقف عاجزًا يعضُّ
أصابعه من الندم . والعاقلُ لا يَضع كُلَّ البَيض في سَلَّة واحدة ، ولا يَستثمر
جميعَ أمواله في مجال واحد . كما أن الدولة الناجحة تُعدِّد مصادرَ الدَّخْل ، ولا
تعتمد على مَصدر واحد .
2
المعنى الإنساني كجِلْد
الإنسان ، لا يَستطيع أن يَخْلعه ، حتى لو أراد ذلك . والفِكرُ الاجتماعي كبصمة
إصبع الإنسان ، لا يُمكن أن يتحايل عليها ، حتى لو أراد ذلك . وهذا الأمرُ يَدفع
باتجاه حتمية مُواجهة المشكلات ، وعدم الهروب مِنها ، ولا ترحيلها إلى الأجيال
القادمة . والوقتُ الذي يَقضيه الإنسانُ لتبرير أخطائه وشَرْعنتها ، يَكفي
لإصلاحها وتعديل المسار. والوقتُ الذي يَقضيه الإنسانُ في دفن النار تحت الرماد ،
يَكفي لإطفائها ، والتخلص مِن شَرِّها .
3
إذا اندمجَ المعنى
الإنساني الداخلي بالسلوك الاجتماعي الخارجي ، وَصَلَ الإنسانُ إلى حالة التوازن
الذاتي بين الأفكار العقلانية والغرائز الجسدية ، وتصالحَ معَ نفْسه، وعَقَدَ
هُدنة دائمة بين مصلحته الشخصية ومصلحة الجماعة التي ينتمي إليها . وكما أن الحق
لا يتصادم مع الحق ، في البيئة المبنية على قواعد المنهج العِلْمي السليم ، الذي
يقوم على ثنائية ( العقل الصريح والنقل الصحيح ) ، كذلك مصلحة الفرد لا تتصادم مع
مصلحة الجماعة ، في المجتمع القائم على العقلانية المؤمنة والفِطرة النَّقِيَّة ،
لأن منهجية الاعتدال والتوازن مُؤسَّسة على نظام الحقوق والواجبات ، وتبادُلِ
المنافع المشروعة ، وهذا يَحفظ مصالح جميع الأطراف .
4
ينبغي على كل صاحب
منظومة فكرية أن يُحيطها ببالونات اختبار ، تتلقى الضربات ، ويتم التضحية بها ، من
أجل حماية أساس المنظومة الفكرية وجذورها ، وكُل ضربة يُمكن امتصاصها وتجاوزها
بشرط أن لا تصل إلى الأساس ، لأن الأساس إذا ضُرِبَ انهارَ البناء ، والعمود
الفقري إذا تعرَّض لضربة قد يُصاب الجسم بالشلل، وإذا تَلَوَّثَ منبعُ النهر ، فإن
النهر سيصبح فاسدًا بشكل كامل . وهذه المعاني تعكس أهميةَ ترتيب الأولويات. وإذا
كانت التضحيةُ حتمية ولازمة ، ولا مفر مِنها ، فيجب التضحية بالعناصر الرخيصة
لحماية العناصر الثمينة . والأمرُ يُشبه قيام الطبيب بقطع أحد أعضاء الإنسان من
أجل الحفاظ على حياته . وهذا هو الحَل الأخير ، بعد استنفاد جميع الحُلول المُمكنة
. وكما يُقال : آخِر الدواء الكَي . ولا يمكن أن تتكرَّس هذه المبادئ كنظام فكري ،
إلا بعد معرفة الأولويات ، وترتيب العناصر حَسَب درجة أهميتها . والذكاءُ لا
يتجلَّى في تمييز الأبيض من الأسود ، فهذا أمر معروف وسهل ، ولكن الذكاء يتجلَّى
في تمييز الأسود من الأسود ، أي : تمييز درجات السَّواد والخطر ، ودَفْع الضرر
الأكبر بالضرر الأصغر ، والتضحية بالرخيص من أجل الغالي .
5
أحيانًا، تكون أنصافُ
الحُلول قاتلةً، والمنطقة الرمادية مرفوضة ، والحِياد غير مَقبول ، ولا بُد من
المُواجهة حتى النهاية، وعلى الإنسان ضرب رَأسَ الأفعى، وعدا ذلك ، سيكون ضحيةً
للأفعى. وهناك جوانب كثيرة من الحياة تُشبِه لُعبة الشِّطْرَنج ، إمَّا أن تكسب
كُلَّ شيء وتنتصر ، أو تخسر كُلَّ شيء وتنهزم .