سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

19‏/10‏/2012

البعثة النبوية

البعثة النبوية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     إن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي الإشراقة الكبرى في حياة البشرية التي مَنّ الله عليها بإرسال حامل الشريعة ، ومنقِذ الناس من الضلال ، ومحقِّق أحلام الجماهير المكبوتة، ومرشِد الأمم الضائعة إلى الحضارة الحقة ، محمد بن عبد الله النبي العربي الأُمي صلى الله عليه وسلم . 
     والرسالة النبوية قائمةٌ على الحق ، وكل حق لا بد أن يقوم على الحق ، من أجل تشييد بناء النبوة المتماسك ، وتطبيق مبادئها واقعاً ملموساً ، لإحداث نقلة نوعية في حياة الأفراد والشعوب : الانتقال من عبادة العبيد إلى عبادة رب العبيد ، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، والنجاة من جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام.
[قال ربعي بن عامر في خطبته أمام رستم قائد جيش الفرس ( البداية والنهاية 7/ 39 ) : (( الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله )). { راجع أحداث الخطبة كاملةً في الموضع السابق ، وأيضاً تاريخ الطبري ( 2/ 401 )، وجمهرة خطب العرب ( 1/ 242) } . ].
     وبهذا تتحقق السعادة المنشودة فيلتقي الإنسان بإنسانيته ، ويجد مسارَه الصحيح بعيداً عن الحيوانية الغريزية ، أو الاستهلاكية الجنونية ، أو العبث المضاد للمبادئ الإنسانية السامية .
     وإذا التقى الفرد بكيانه البشري ، فعندئذ سوف يكتشف مسارَه بدقة بالغة ، لأن معرفة الأشياء المحيطة تنطلق من معرفة الذات . فمن خلال تجذير الوعي الإيماني العميق يمكن للإنسان أن ينطلق في الحياة حاملاً شخصية متوازنة ومبدعة ومستقيمة. أما الذين لا يعرفون أنفسهم فسوف يضيعون في متاهات الوساوس الشاذة ، والأيديولوجياتِ المنحرفة . وكما قيل : لا يذهب بعيداً من لا يعرف إلى أين هو ذاهب .
     ومن خلال هذا الفهم التأصيلي يمكننا القول إن البعثة النبوية جاءت لكي تعرِّف الإنسان على إنسانيته ، وتعقد مصالحةً بين الفرد وجوارحه ، بحيث يحيا الإنسان في سلام مع نفسه ، ومن ثم ينشر مناخَ السلام في العناصر المحيطة به . فمن غير المنطقي أن يعيش الفردُ جو الحرب في ذاته ، ثم نطلب منه أن يكون عنصر سلام في مجتمعه وكوكبه . لذلك ليس غريباً أن يتحول المسلمون إلى صُنّاع للسلام المنبثق من موقف القوة لا الضعف .
     لذلك كانت طبيعة البعثة المحمدية طبيعةً جماعية تنتشل الأفراد والجماعات من المأزق الوجودي الخطر ، وتتيح لهم آفاقاً واسعة لاكتشاف جوهرهم الفطري بعد أن ينفضوا عنه الغبار ، وبالتالي يلتقون مع فطرتهم السليمة المتجهة إلى عبادة الله الواحد الأحد .
     وما انفتاح الطريق أمام الناس إلا ثمرة من ثمار الإشراقة النبوية ، فصارت الأنساق البشرية تملك هدفاً تعيش من أجله ، وتملك صراطاً مستقيماً تسير وفقه . فيحصل الإنسان على الشرف الدنيوي ، حيث السمعة الحسنة ، وإعمار الأرض ، وإنقاذ البشرية . ويحصل على الشرف الأُخْرَوِي ، فينال رضا الله تعالى ، ويستقر في الجنة خالداً بلا موت .
     ومن شأن التوحد بين المسار والمصير إغلاقُ الطريق على إفرازات مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة "، لأن الجنة كمصير نقي شريف لا بد أن يكون الدرب إليها طاهراً ، وهذا التوحد بين الوسيلة والغاية يحول دون تناقض الفرد مع ذاته ، والعيشِ في دوامة صراع الأضداد منفصم الشخصية . وهذا هو مبدأ المصالحة الحقيقية بين الفكر الإنساني ومجالِ تطبيقه .  
     فلم تكن البعثة مشروعاً تجارياً مادياً لاستغلال الفقراء والأتباع  ، والضحك عليهم بكلام
معسول، أو صفقةً مالية لتجذير سيطرة الأغنياء على الفقراء ، وزواجِ السلطة بالثروة ، أو فكرةً عصبية عشائرية لسيادة بني هاشم على باقي القبائل من أجل نيل النفوذ والسيادة ، أو اختراعاً بشرياً وضعه النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه ، أو نظريةً فلسفية تم تجميعها من هنا وهناك ، أو رحلةً استجمامية لملء وقت الفراغ ، أو أضغاث أحلام لا مستقبل لتطبيقها واقعياً ، أو نظاماً ملكياً أو جمهورياً للسيطرة على موارد البلاد والعباد .
     إن البعثة من تجليات رحمة الله تعالى على الخلائق ، حيث أراد الخالق تعالى أن لا يترك عبادَه تائهين كالأنعام دون مسار أو هدف . أراد لهم أن يُعمِلوا عقولَهم ، ويتفكروا في حالهم : من أين جاؤوا ؟ ، ولماذا يعيشون ؟ ، وأين سائرون ؟ .
     والبحث عن إجابات منطقية لهذه الأسئلة الحاسمة يدفع الكيان البشري إلى التأمل عميقاً في موقعه الأرضي وعلاقته بالسماء. فيخرج من دوائر الحيوانية الهائمة على وجهها ، والغريزيةِ المسعورة المنفلتة من عقالها .
     وهكذا ، تتجذر قيمة الحرية في فضاءات العقل المؤمن، وتتأسس منطقية التحرر من سطوة الأساطير والأوهام والوساوس الشيطانية. وحينئذ يقدر الفرد على صناعة قراره بنفسه ، واتخاذ خطوات مصيرية حاسمة في مواجهة التحديات الماثلة أمامه .
     ولا يمكن للعقل الخائف أن يُبدع ، لذلك فإن الإيمان يقود العقل إلى الانعتاق من الخوف ، وهذا يمنح العقلَ فرصة ذهبية لكي يفكر بكل حرية ، ويقود المسيرة البشرية على كوكب الأرض بإيمان وكفاءة .
     ولم تجيء البعثة النبوية لتدفن العقل البشري في حفرة كهنوتية مظلمة ، أو تلغيَ حرية التأمل والتفكير واتخاذ القرارات المصيرية . بل جاءت لكي تنتشل الفردَ من دوائر الهروب من الماضي، وحصارِ القلق على الحاضر، ومأزقِ الخوف من المستقبل، مما يؤدي إلى تحرر الإنسان من سُلْطة العناصر المادية ، والخضوعِ لسياسة الأمر الواقع القاهرة . وبعد تحرره الشامل من ثقل الهواجس الروحية ، والعناصر المادية ، سيتوجه إلى عبادة الله وحده بقلبٍ صافٍ لا شوائب فيه. وهذا هو جوهر التوحيد بأسمى معانيه . 
     فالله تعالى حينما خلق للناس عقولاً أراد أن تعمل هذه العقول . وكان الله تعالى قادراً أن يخلق الناس كالأغنام تساق حيث أُريد لها دون تفكير أو نقد أو نقض . لكن العناية الإلهية الشاملة لكل المخلوقات مَيّزت بني البشر بنعمة العقل ليعرفوا خالقهم ، وينشروا تعاليمه وتطبيقاتها على كوكب الأرض ، وهم عالمون بما يفعلون، ومقتنعون بجدوى الإيمان . فهم ليسوا آلاتٍ ميكانيكية تعمل وفق أجهزة التحكم عن بعد. بل إنهم حاملون لأمانة الخلافة، وإعمار الأرض، والدعوة الإسلامية ، لأن الحق أحق أن يُتّبع . وإذا عرف الإنسانُ طريقَ الإيمان وفضائلِ الأخلاق فليس له خيار إلا أن
يسير في ذلك الدرب من أجل خلاصه ، وتخليصِ البشرية من الأخطار المحدقة بها .
     وقد قال الله تعالى : (( إِنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم  ))     [ البقرة : 119] .
     فأساس الرسالة هو الحق الناصع ، لأن الحق هو مركزية الطهارة . ولما كانت الرسالة النبوية هي منبع الطهارة كان استنادها إلى الحق ، لتترسخ شرعيتها في النفوس، وتثبت تطبيقاتها على الأرض . وبالتالي فالرسالة النبوية تكون ذات مصداقية ومعنى وجدوى ، مما يقوِّي موقفها أمام الناس .
     فأي خللٍ داخلي في أية منظومة سوف يؤثر سلباً على مسارها، ويعيق حركتها، فيفقد الناس ثقتهم بها ، ومن ثم يتفرقون عنها . لذلك كانت المصداقية النبوية هي الجوهر الفكري للبعثة المحمدية . وهذا يفسر الالتفاف الشعبي حول منظومة البعثة المحمدية الإسلامية ، وحجم التضحيات التي بُذِلت في سبيل إيصال تعاليم هذه البعثة إلى أصقاع الأرض .
     وكل رسالةٍ نبوية إنما لها وجهان : البشارة والإنذار . البشارة بوجود الجنة النعيمِ الأبدي الذي لا ينتهي ، والإنذار بوجود النار اللانهائية . ولأن النفوس تختلف، كان هناك أفراد تؤثر فيهم البشارة ، والحديث عن النعيم . وهناك أشخاص آخرون يجب أن يستشعروا العذاب والإنذار ليتأثروا بشكل أكثر جدوى، ويلتزموا بالطريق القويم . وهذا يدل على شمولية الرسالة النبوية لكل طبائع الناس المختلفة حسب قدراتهم العقلية والبدنية .
     والنبي صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بالتبليغ واتخاذِ الوسائل الصحيحة لإيصال الدعوة الإسلامية نقيةً من الشبهات ، طاهرةً من الشوائب . أما ما وراء ذلك من تحقيق النتائج فليس من اختصاص الرسالة النبوية. وعليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن أصحاب الجحيم، وهم الكفار الذين رفضوا الدعوةَ ، لأنه أدّى أمانةَ التبليغ كاملةً غير منقوصة ، وكل إنسان يتحمل مسؤولية اختياره . وكما قال الله تعالى على لسان شعيب صلى الله عليه وسلم : (( يا قَوْمي لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحتُ لكم فكيف آسى على قوم كافرين )) [ الأعراف : 93] . أي : كيف أحزن على قوم كافرين ؟! .
     ونلاحظ من سياق الآية الشريفة أن النبي شعيب صلى الله عليه وسلم قام بأداء مهمة التبليغ  بشكل  كامل وواضح ، بلا نقص أو خلل . وذلك نابعٌ من حرصه على تنفيذ أوامر الله تعالى بكل دقة ، وإشفاقه على قومه ، حيث يريد لهم السعادة والنجاة .
     وهكذا هي الشخصية النبوية على الدوام . شخصية متماسكة ، وواثقة من نفسها ، ومشفقة
على الآخرين ، فتمد لهم يد العون ، ولا تبخل بإسداء النصيحة الصادقة ، وتوضيح المنهج السليم الموصل إلى الحق .
     لكن الأنبياء لا يقدرون على إدخال الإيمان في قلوب الناس _ رغم أنوفهم _ ، لذلك تتجلى مهمتهم في التبليغ الصافي ، والناس أحرارٌ في الإيمان أو الكفر. (( فَمَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرْ )) [ الكهف : 29] . ووفق هذه القاعدة يتحملون مسؤولية اختيارهم أمام الله تعالى الذي يملك _ وحده_ سُلْطة حسابهم .  
     ومن الأمور القطعية أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم عالميةٌ وناسخةٌ لما قبلها . قال الله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالَمِين )) [ الأنبياء : 107] .
     فالبعثة النبوية المحمدية ليست مخصوصة بقوم دون قوم ، بل هي شاملة لكل الأقوام في شتى الأزمنة والأمكنة لأنها هي الشريعة الباقية حتى يوم القيامة، وكما هو معلومٌ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك فالعناية الإلهية أَرست معالم طريق الهداية والوحي الرباني حتى انتهاء الحياة على الأرض . فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى تعالى ، فالوحي ما زال بيننا ، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة . 
     وقد جاء الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالإعلان عن أن دعوته عالمية شاملة للجميع ، فقال الله _ عز وجل _ : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً )) [ الأعراف : 158].
     وهذه الدعوة العالمية من شأنها تعميم النور الإلهي على كوكب الأرض ، فقد جاءت لإنقاذ البشرية عامةً ، ولم تجيء لإنقاذ قومية معينة أو عائلة محددة . لذلك اقتنع الجميع بأن الدعوة المحمدية الإسلامية مشروع عالمي لتحرير الإنسان الكَوْني ، وانتشال الشعوب المقهورة من مستنقع الجهل والمرض والتبعية والعبودية ، ومساندة الضعفاء عن طريق استئصال نقاط ضعفهم ، وإحلال نقاط القوة مكانها ، مما يجعل منهم أحراراً يملكون قرارَهم ، ويواصلون مسيرتهم نحو شمس الحرية والتقدم دون خوف أو خجل من أنفسهم .
     والثقة بالنفس ، والاعتزاز بالذات ، والشموخ الذي لا ينكسر أمام الشهوات والشبهات. كل هذه القيم قام الإسلام بزراعتها في النفوس، فنشأت أجيال ذهبية لا تسكت على الظلم ، ولا تنام مقهورةً، ولا تهرب من تحمل المسؤولية. وما كانت الدعوة الإسلامية لتجتاح العالم بالمعاني الطاهرة ، والأخلاقِ النبيلة ، لولا وجود أجيال مؤمنة تم تأسيسها على القواعد الشرعية الإسلامية التي تعلن حرباً بلا هوادة على الباطل ، أينما وُجِد ، دون أية حصانة لأحد ، كائناً من كان .   
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 128) عن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وكانَ النبِي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة ، وبُعثتُ إلى الناسِ عامة )).
     ونستدل من هذه اللغة النبوية على المكانة السامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يمتاز بعالمية دعوته بعكس الأنبياء السابقين _ عليهم الصلاة والسلام _ . وفي ذلك إشارة واضحة على عظمة رسالته وتميزها ، وعلو رتبته ، وقوة حجته ، إذ إن النبي الخاتم الناسخ لما قبله ، والقائد العالمي لمسيرة البشرية حتى يوم القيامة بلا منازع .
     وبالتالي فلا يمكن للإنسان أن ينال الخلاصَ الأبدي إلا بالمرور من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يقدر أي شخص أن يتجاوزها مهما علا كعبُه في حقل العلم والمعرفة . 
     والبعثة النبوية جاءت حاكمةً على الناس معتمدةً على أن الحاكمية لله تعالى الذي أرسل أنبياءَه _ عليهم الصلاة والسلام_ . قال تعالى : (( إِنِ الحكمُ إلا لله )) [ الأنعام : 57] . فهذه الحاكمية المطلقة بيد الله وحده، لكي يدرك البشر أنهم محكومون بشريعة إلهية _ شاؤوا أم أَبَوا _ ، لأن العبد لا يملك أن ينازع سَيّده في حُكمه . ولا يرضى الخالق الصانع أن يتساوى مع المخلوق المصنوع .  
     قال الله _ سبحانه وتعالى _: (( إِنا أنزلنا إليك الكتابَ بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله )) [ النساء : 105] .
     إذن ، نخلص إلى القول بوجود حُكم للنبي صلى الله عليه وسلم مشيّد على أركان ثابتة مستمدة من وحي الله تعالى وتوفيقه . وفي الأصل إن البعثة النبوية المحمدية هي حُكْمٌ على العباد ، وحكمٌ بين العباد . بمعنى أنها حُجّةٌ على الخلائق ، وإقامة البينة عليهم . وفي نفس الوقت شريعةٌ تنظِّم أمورهم ، وتحل منازعاتهم ، وتقضي بينهم بالحق .
     ولم تجيء الشريعة لتقضيَ على طموحات الناس ، وتقيِّد حركتهم ، وتصادر حرياتِهم ، وتحيل حياتهم إلى جحيم من الأوامر العسكرية ، والأحكام العرفية ، وقوانين الطوارئ . فالشريعة الإسلامية هي حركة عالمية لتحرير الفرد من ذاته ، لكي يتخلص من ثقل الشهوة في سياقها المنحرف ، ويفلت من قبضة الشبهة . وهي كذلك لانتشال الفرد من مستنقع العبودية لغير الله تعالى . مما ينتح فرداً صالحاً قادراً على الوقوف في وجه التحديات ، وحاملاً لعبء أمانة المسؤولية بكل كفاءة وإخلاص ، من أجل إعمار الأرض بالقيم الإيمانية روحاً ومادة ، قلباً وقالباً ، خيالاً وواقعاً ، وفق مسار منهجي منضبط يقضي على الشبهات ، ويضع الشهوات في سياقها الطبيعي الطاهر بلا إفراط أو تفريط .
     قال القرطبي في تفسيره ( 5/ 357 ) : (( [ بما أراك الله ] معناه : على قوانين الشرع ، إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي . وهذا أصل في القياس، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئاً أصاب ، لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة )) اهـ .
     وهكذا ، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مستنداً إلى مبادئ ثابتة من التأييد الإلهي ، والتوفيق الرباني . ويأتي كذلك في ضوء الوحي المعصوم . كما أن مفهوم البعثة النبوية يعطي ماهيةً للمرجعية البشرية الخاضعة للمرجعية السماوية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خليفة الله في الأرض ، والحاكم على الناس وبين الناس ، مستنداً إلى الأمر الإلهي بتطبيق أحكام الله تعالى .
     فالبعثة النبوية فتحت الطريقَ إلى الخالق تعالى ، وأقامت اتصالاً بين السماء والأرض والعكس . وهذا يدل على أن الله تعالى لم يخلق العباد ليعذبهم ، بل ليرشدهم وفق طريق البعثة النبوية المقدسة والوحي المعصوم .
     قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/ 289 ): (( وقال ابن عباس: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه. وقال الله تعالى لنبيه _عليه السلام_ : [ لتحكم بين الناس بما أراك الله ] ، ولم يقل بما رأيت )) اهـ .
     وهذا يدل على أن البعثة النبوية هي أمرٌ إلهي لا يملك النبي صلى الله عليه وسلم أن يغيره وفق عقله ، أو يبدله حسب رأيه الشخصي وخبراته الحياتية ، أو يضيف إليه ويحذف منه اعتماداً على نظرته إلى الأمور، أو يَستدرك على شريعة الله الكاملة .
     ودور النبي صلى الله عليه وسلم مقتصر على التبليغ ، وعدمِ محاسبة العباد ، فلا يرسل أحداً إلى الجنة، ولا يرسله إلا النار . قال الله تعالى : (( ما على الرسول إلا البلاغ  )) [ المائدة : 99].
     قال القرطبي في تفسيره ( 6/ 304 ) : (( أي : ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب ، وإنما عليه البلاغ )) اهـ .
     ومن خلال هذه القاعدة القرآنية التأصيلية يتضح دور النبوة كمنهج تبليغي يوصل المعلومة واضحةً وكاملةً ، ولا يملك أكثر من هذا . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخترع حزباً سياسياً حاكماً له ولأسرته وحاشيته ، ولم يبنِ مجدَه على سرقة الشعب كما يفعل الطواغيت في كل زمان ومكان ، حيث يتاجرون بالقيم النبيلة، والشعاراتِ البراقة .
     فكل أمر صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، كان يطبِّقه على نفسه واقعاً ملموساً أمام العيان لكي يقتدوا به . فلم يأمرهم بالزهد في الدنيا وهو يعيش في القصور ، بل كان يعيش في بيت بسيط شديد التقشف يحتوي على أثاث متواضع للغاية ، ونسمِّيه أثاثاً من باب المجاز . ولم يأمرهم بالتقدم في المعارك وهو يختبئ خلف الصفوف ، أو يرتعش في غرفة العمليات بعيداً عن جو المعركة . وإنما كان في قلب العاصفة يتقدم الصفوف، ويضحِّي من أجل أمته. ولم يأمر المؤمنين بالطهارة وستر أعراضهم ، ونساؤه مكشوفات أمام الناس ، بل كانت نساؤه مثالاً للطهارة والشرف والالتزام الأخلاقي . وكل هذا من شأنه تثبيت القدوة على أرض الواقع ، لكي يقتديَ المؤمنون بقائدهم الذي يضرب الأمثلةَ العملية التي تجسِّد الأخلاقَ النبيلة ، والقيم الفاضلة . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بشيء إلا طبّقه على نفسه قبل الآخرين، وما نهى عن شيء وقام بفعله، لأنه صلى الله عليه وسلم يعرف أن القول والعمل متلازمان، وأن أية انحراف عن الصراط المستقيم هو عارٌ،ومقام النبوة أبعد ما يكون عن العار .
لا تنهَ  عن خلُقٍ و تأتي مثله          
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
     قال الله تعالى : (( يا أيها الرسول بَلغْ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغتَ رسالته والله يعصمك من الناس )) [ المائدة : 67] .
     وبالقطع فإن التبليغ هو أساس الدعوة النبوية، والركيزة الثابتة في البعثة . فالبعثة النبوية ليست رصيداً بنكياً شخصياً لا شأن للناس به ، أو مزرعةً للشخص وعائلته ضمن قالب أرستقراطي . بل هي تبليغ عبر إيصال الألفاظ والمعاني إلى الناس أينما وُجِدوا لإقامة الحجة عليهم . وهكذا تكون البعثةُ عملاً جماعياً يؤدي كل مؤمن دورَه المرسوم له بدقة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم .
     وإن غاب التبليغ سقط معنى الرسالة ، وزالت شرعية البعثة من جذورها ، لأن الركن الأعظم في البعثة هو التبليغ . لذلك قال تعالى : (( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته )) .
     قال الشاطبي في الاعتصام ( 1/ 133) : (( والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول ، المعنى : فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها )) اهـ .
     وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بأداء أمانة التبليغ على أكمل وجه، وبأسلوب طيب واضح ، يجذب الناس ، ويقرِّبهم من الله تعالى ، بعيداً عن الغلظة ، وقسوةِ القلب ، وصعوبةِ الأسلوب ، وخشونةِ الكلام . فمنهج النبوة طريق مستقيمة في التعامل مع النفس البشرية المختلفة حسب طبيعة الشخص ، وظروفِ البيئة .
     ووفق هذه القاعدة النفسية الراسخة قام المنهاج النبوي بتأسيس المجال الدعوي بشكل يتناسب
مع اختلاف العقول ، وتباينِ القدرات ، وتغيراتِ العواطف ، واتجاهاتِ النزعات الإنسانية . ومن هذا المنطلق جاءت الدعوة المحمدية الإسلامية ملبِّيةً لكل حاجات البشر ، ووفّرت أرضيةً صلبة يقف عليها الجيل المؤمن المضطلع بإعمار الأرض لصالح خير البشرية ، وليس إعمارها لصالح عِلْية القوم ضد مصلحة الطبقات المتدنية في المجتمع الكَوْني .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 159 ): أن السيدة عائشة_ رضي الله عنها_ قالت : (( ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفِرْية،والله يقول: [ يا أيها الرسول بَلغْ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ] )) .
     وهذا يعكس الأمانة المتناهية في مجال تبليغ الدعوة دون زيادة أو نقصان ، وعدم كتمان الشرع . فالمنهاج النبوي الواضح هو منهاج إنساني عالمي لم يأتِ لقبيلة النبي صلى الله عليه وسلم، أو للعرب وحدهم . وإنما جاء لخلاص الإنس والجن معاً . فلم يحوِّل النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى حزبٍ هاشمي تعصباً للقبيلة، أو تكتلٍ عربي تعصباً للقومية، أو منتدى لعِلْية القوم تعصباً للسلطة ، أو شركةٍ للأغنياء تعصباً للمال .
     فالدعوة الإسلامية شمولية في منهجها ، وواضحة في أسلوبها ، وترمي إلى استئصال الفقر والضعفِ والجهلِ والأخلاقِ الذميمة ، لكي يتحول المجتمع إلى طبقة واحدة متماسكة ، تتمتع بالقوة الروحية والمادية ، مع اختلاف وظيفة كل فرد حسب قدراته ، وبذلك يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، ويتحرك المجتمع إلى الأمام .    
     أما قوله تعالى : (( والله يعصمك من الناس )) . ففيه حمايةٌ ما بعدها حماية ، وتثبيت للشخصية النبوية بأن تفرّغ للنبوة ولوازم البعثة واستحقاقاتها ، ولا تشغل بالك بأمنك الشخصي ، وحمايتك من أعداء الدعوة ، لأن الله تعالى قد تعهد بعصمتك من الناس ، فلن يصلوا إليك مطلقاً . وهذا يجعل جهد النبي صلى الله عليه وسلم مركّزاً على التطبيقات العملية للبعثة النبوية قولاً وفعلاً .
     ولا بد للنبي القائد العالمي من حماية لكي يفوِّت الفرصة على أعداء الحق الطامحين إلى وأد نور الدعوة الإيمانية، وتثبيتِ عبودية البشر للبشر. وجاءت الحماية الربانية ميزةً كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يستعن بحراس شخصيين ، أو جهاز مخابرات ، أو سيارات مصفحة ، لأن الحماية الإلهية أعظم من كل التدابير المادية القاصرة .  
     فعن عائشة_ رضي الله عنها_ قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرَس حتى نزلت هذه الآية : (( والله يعصمك من الناس )) ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة ، فقال لهم : (( أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 342 ) برقم ( 3221) وصححه ، ووافقه الذهبي . ورواه الترمذي في سننه ( 5/ 251 ) برقم ( 3046 ) بسند حسّنه الحافظ في الفتح ( 6/ 82 ) .].
     وحينما ندرس البعثة النبوية لا بد أن نؤمن بوجد باعث ومبعوث ومبعوث إليه. أما الباعث فهو الله تعالى الذي أراد إنقاذ عباده لحبه لهم . والمبعوث هو النبي صلى الله عليه وسلم المرشِد البشري والقائد الكَوْني، الذي يأخذ بأيدي الخلق إلى التعرف على خالقهم ، وقد بعثه الله تعالى إلى الإنس والجن ( المبعوث إليه )، مع العلم أن الظهور النبوي إنما تم في العرب تلك الأمة الهمجية الضائعة في الصحراء التي لا تملك وزناً على الصعيد العالمي، والتي هي في أمس الحاجة إلى الهداية، والخروج من مستنقع الوثنية .
     قال الله تعالى : (( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )) [ الجمعة : 2] .
     قال الطبري في تفسيره ( 12/ 88 ) : (( الأميون هم العرب )) اهـ .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 18/ 81 ) : [ قال ابن عباس : (( الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونو أهل كتاب )).وقيل : الأميون الذين لا يكتبون، وكذلك كانت قريش ] اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 4/ 127 ) : (( أُمية بلفظ النسب إلى الأم . قيل : ... أُمة العرب لأنها لا تكتب ، أو منسوب إلى الأمهات ، أي إنهم على أصل ولادة أمهم ، أو منسوب إلى الأم لأن المرأة هذه صفتها غالباً . وقيل : منسوبون إلى أم القرى ... وقيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة... ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب ، لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة )) اهـ .
     وهكذا نرى أن البعثة النبوية كانت موجّهةً إلى قوم جهلاء متخلفين في أمس الحاجة لطوق النجاة . مما يدل على رأفة الله تعالى بعباده ، حيث لم يرض لهم أن يعيشوا كالأنعام في الصحراء دون أن ينالوا شرفَ التعرف إلى خالقهم تعالى . فأراد لهم _ سبحانه وتعالى _ أن يخلعوا حضارتهم الوثنية الغارقة في الأصنام والعصبية القبلية والحاضر التائه والمستقبل الضائع والحيوانية الغريزية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
     وعندئذ سيكونون مؤهّلين لحمل أمانة الدعوة الإسلامية ، وبناء مجتمعات الازدهار، وتحقيق مبادئ الفتوحات الحضارية لنشر شمس الدعوة في أرجاء العالم ، وهذا ما حصل واقعاً ملموساً لا كلاماً شعاراتياً .
[راجع كتابنا " الأساس الفكري للجاهلية " ، دار اليازوري ، عَمّان، 2007م، من أجل التعرف على انحرافات العرب في الجاهلية .].
     وبما أن الدين الإسلامي مهيمن على باقي الأديان باعتباره الدين السماوي الوحيد ، فإن الأمة الإسلامية الحاملة له ستسطع شمسها على العالَم . وقد رأينا العرب في الجاهلية وجودهم كعدمه ، لكنهم حينما اعتنقوا الإسلامَ عقيدةً وتطبيقاً فتحوا العالَمَ من المشرق إلى المغرب . وهذه ليست عصبيةً قبلية ، أو استكباراً على الأمم والشعوب ، أو استخراباً ( ولا أقول استعماراً ) ، أو تكريساً لاستعباد الآخرين وإذلالهم وسرقتهم . بل هي عملية تصحيحية لمسار البشرية المنحرف ، وانتشال الناس من حياة الحيوانات ، ووضعهم في الحياة الإنسانية الكريمة . وذلك لكي يكتشف الإنسانُ الصراطَ المستقيم الذي يوصله إلى سعادة الدارين . 
     وعملية السطوع الإيماني ، والإشراق الكَوْني ، ومحو الحق للباطل ، وهيمنة الشريعة الإلهية بكل حضارة وتقدم وإنسانية ، وظهور شمس الإسلام على باقي الشموس المزيفة، وضّحها الله تعالى في قوله العزيز : (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) [ التوبة : 33] .
     فالمراد من البعثة النبوية ( الرسالة المحمدية ) هو إشراق الحق من جديد في هذا الكَوْن ، وانتشال الإنسان من وحل الكفر والتخلف ، وتحويل كوكب الأرض من إقليم متمرد على خالقه تعالى إلى جنّة عائشة في كنف مجد الله تعالى ورعايته ونعيمه.
     فالبعثة النبوية لم تجيء إلا لتكون المحور والصدارة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأت ليكون وصيفاً لأحد ، أو يأخذ الرقم الثاني . إنما جاء ليكون القائد الأول بلا منازِع ، حامل الشريعة الربانية ، المتحرك باسم الله تعالى سَيّده ومرسِله . ووفق هذه الرؤية ترسّخت تجليات البعثة نوراً ساطعاً في الكَوْن بأسره ، مما يدل على عالمية الدعوة الإسلامية ، وشمولية الرسالة المحمدية للإنس والجن . فأزال المسلمون أعظم دولتين : الروم والفُرْس ، في مدة قصيرة جداً ، وامتدت الفتوحات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها. مما يدل على أن البعثة النبوية ماحية للباطل ، ناشرة للحق ، ذات امتداد شاسع ، وأنها تتوسع باطراد بالغ ، حتى تبسط نفوذها الإيجابي وهيمنتها التصحيحية على العالم أجمع . ولو كانت البعثة النبوية فكرةً بشرية لما وصلت إلى ما وصلت إليه ، ولاقت القبول عند الناس قلبياً وجسدياً ، رغم كل العوائق الشرسة الموضوعة في طريقها . 
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2215 ) : عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله زوى لي الأرض _ جَمَعَها_ ، فرأيتُ مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ مُلْكُها ما زوى لي منها )) .
     وفي هذا دلالة على اتساع دائرة نفوذ الإسلام، وسيطرته المحمودة على أصقاع الأرض. وبذلك يتاح للإنسان أن يعيش في ظل نظام اجتماعي رحيم ، يشتمل على كل مقومات الحياة الهنيئة للأفراد، فلا طواغيت يسرقون الشعب باسم الآلهة والوحدةِ الوطنية والشعاراتِ الأخلاقية ، ولا مجتمعٌ يصادر أحلامَ الأفراد ، ويجعل منهم كائناتٍ ممسوخة خاضعة لسياسة الأمر الواقع . ومن هنا تبرز ثورية الإسلام في تحرير المجتمع روحياً ومادياً ، وتوحيد كلمته ضد كل المعاني السلبية .  
     وروى الحاكم في المستدرك ( 4/ 477) وصحّحه ووافقه الذهبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ليبلغن هذا الأمر _ الإسلام _ مبلغ الليل والنهار ، ولا يترك اللهُ بيتَ مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدينَ بعز عزيز أو بذل ذليل )) .     
     ومن الثابت أن البعثة أمرٌ إلهي أعلى من النبي شخصياً صلى الله عليه وسلم ، فالبعثة باقية إلى يوم القيامة بغض النظر عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو موته . فالأمر الإلهي ثابت ومنتشر ومستمر ونافذ غير محدود بزمن ، سواءٌ عاشت المخلوقات أم فَنِيَت . لذلك قال الله تعالى : (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإِن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم )) [ آل عمران : 144] .
     وإذا عدنا إلى مشهد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وما صاحب ذلك المشهد الرهيب من أحداث ، سنجد أن سبب البلبلة هي اختزال ماهية البعثة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يُتَصَوّر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، مع العلم أن صاحب البعثة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغ يؤدي وظيفته بإتقان ثم يمضي، وتظل الرسالة المحمدية في حفظ الله تعالى في بدايتها ونهايتها عندما تنتهي الحياة على الأرض .
     وفي صحيح البخاري ( 4/ 1618 ) وصفٌ لبعض الأحداث المرافقة لموت النبي صلى الله عليه وسلم : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس ، فقال : (( اجلس يا عمر ))، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر . فقال أبو بكر : (( أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات ، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال الله : [ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإِن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ] )) .
     وقد يظن البعض أن الاتصال بين السماء والأرض انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن البعثة زالت بسبب وفاته ، أو أن الوحي غاب عن الأرض نتيجة انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى . وفي واقع الأمر هذه خيالات لا أساس لها من الصحة. فما دام القرآن موجوداً على كوكب الأرض، فالوحي موجود ، والشريعة موجودة ، والاتصال بين السماء والأرض مستمر .
     إن رسالة الإسلام هي المعنى الكَوْني العظيم . فقد جاءت لإعادة صناعة الوعي في العقل البشري ، وتنقيته من كل الشوائب التي تؤثر سلباً على فطرته ، واتجاهه الحياتي . وعبر تعميق القيم الفاضلة لا الشعارات المفرغة من معناها ، استطاع الإسلام الوصول إلى قلوب الناس عرباً وعجماً، لأنه زرع فيهم قيم الإيمان الصافي، والجهادية الثورية ، وعدم رفع الراية البيضاء أمام الظالمين .
     لذلك كان الإسلام أكبر حركة ثورية في تاريخ الوجود البشري ، حيث غيّر المفاهيم الوجودية من السالبية إلى الإيجابية ، وأعطى دوراً جديداً للقبيلة يتجاوز ماهيةَ العصبية القبلية ، والاستبدادَ السياسي والاجتماعي ، وظلمَ المرأة ، وإلغاءَ حقوق الإنسان . وهذا الدور أضحى دوراً تنموياً تنويرياً ، ثائراً ضد العادات الجاهلية المتوارثة التي تنطلق دون تفكير ، ودون تحديد مسار البداية
والنهاية .
     كما أعطى الإسلام دوراً جديداً للفارس ، فأخرجه من حب الشهرة والرياء ، واستعراض العضلات أمام الناس ، ليجعل منه مجاهِداً مخلصاً لله تعالى ، يقاتل في سبيله _ سبحانه _ لا في سبيل القبيلة أو السّمعة .
     وانتقل دور المرأة _ بفعل الفكر الإسلامي التنويري التحرري _ من دائرة التبرج الذميم ، والإغراء الغريزي ، وكشف المفاتن لجلب الزبائن ، إلى عوالم الإيمان ، والشرف ، وطلب العلم ، وبناء الأسرة المتماسكة ، وإعداد الجيل المؤمن المتمتع بروح القيادة والتضحية ، والوقوف مع الرجل في صناعة حاضر جميل ، والتخطيط لمستقبل مزدهر .
     وهكذا استطاع الإسلام تغيير الماهيات، وتثبيت المعاني الجديدة، وإعادة تشكيل الإنسان وخارطةِ المجتمع . وكل ذلك يؤدي إلى كوكب أكثر جمالاً ، وأقل قبحاً ، ضمن منظومة متكاملة روحاً ومادة .