حقيقة القرآن وتصديقه للكتب السابقة
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
قال الله تعالى : (( أفلا يتدبرون القرآنَ ولو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافاً كثيراً )) [ النساء : 82] .
فالقرآنُ هو
كلام الله، لا يمكن الوقوف على عظمته إلا بفهم معانيه والغوص في دلالات آياته. ولو
كان القرآنُ من تأليف بَشر كما يزعم الكافرون لوجدوا فيه تناقضاتٍ شديدة ، وخليطاً
من الحق والباطل ، وأخباراً متضاربة . ولكن القرآن _ لأنه من عند الله _ مُنَزّهٌ
عن الخطأ والتناقض والكذب .
كما أن كلام
البشر إذا طال سيضعف مستواه اللغوي والفكري ، أما القرآنُ فليس فيه إلا البلاغة
والبيان سواءٌ كانت السورة طويلة أم قصيرة . وكل آياتِ القرآن يُصَدّق بعضُها
بعضاً ولا يَهدم بعضُها بعضاً . كما أن القرآن خالٍ من الاختلاف والتعارض . (( ولا
يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسوَر ، لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم
المطابقة للواقع ، وهذا شأن كلام البشر ، لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب
فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر )).
[فتح
القدير للشوكاني ( 1/ 741 ) .].
فالقرآنُ
الكريم تختلف سُوره وآياته في مقدارها والمواضيعِ التي تتحدث عنها ، والأحكامِ
الواردة ، وهذا كله لا علاقة له بالتناقض . إنما هو دليل إعجاز القرآن وتلائمه مع
كل زمان ومكان رغم ما فيهما من متغيرات وأحوالٍ مستجدة واختلافِ طبائع الناس
وأجناسهم وبيئاتهم . والقرآنُ الذي قَدّم الحلولَ النافعة للبشرية لأكثر من أربعة
عشر قرناً ، قادرٌ أن يُقدِّم الحلولَ حتى يوم القيامة . فهو الكتابُ الإلهي
الكامل المعصوم المحفوظ الخالي من التناقض والأخطاء . وإذا اعتمده المسلمون
دستوراً حياتياً واقعياً فإن حياتهم ستتغير للأفضل كما تغيرت حياة أسلافهم .
وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم : (( ... وإنما نزل كتابُ الله يُصَدق بعضُه بعضاً ، فلا
تُكذبوا بعضَه ببعض، فما علمتُم منه فقولوا ، وما جهلتُم فكلوه إلى عالمه )).
[رواه
أحمد في مسنده مرفوعاً ( 2/ 185 ) برقم ( 6741 ) ، وحسّنه العراقي في تخريج
الإحياء ( 2/ 285 ) .].
وفي صحيح
مسلم ( 4/ 2053 ) : أن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنه _ قال : هجرتُ _ أي بَكرْتُ_
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً. قال: فسمع أصوات رَجلين اختلفا في آية فخرج
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرَف في وجهه الغضب،فقال: (( إنما هَلَكَ مَن
كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)).
وهذا
الاختلاف المحذور هو الاختلاف في الأصول التي لا تَقبل النقاش ، ولا تقبل
الاجتهادَ بسبب كَوْنها ثوابت غير مطروحة للحوار ، ويشمل الحظرُ الاختلاف المؤدي
إلى الفتن وتشكيكِ الناس في دينهم ، وتأجيجِ العداوات بينهم. أما الاختلاف في
تفسير بعض الآيات ظَنية الدلالة فهذا لا يدخل في باب الاختلاف في الكتاب .
قال النووي
في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 218 ) : (( وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه
_ أي من القرآن _ ، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة ، وإظهار الحق واختلافهم
في ذلك فليس منهياً عنه ، بل هو مأمور به وفضيلة ظاهرة . وقد أجمع المسلمون على هذا
من عهد الصحابة إلى الآن ، والله أعلم )) اهـ .
وقال الله
تعالى : (( لو أَنزلنا هذا
القرآنَ على جبلٍ لرأيتَه خاشعاً مُتصدعاً من خشية الله )) [ الحشر : 21] .
فالقرآنُ
العظيم لو أُنزِل على جبل _ رغم قسوته وضخامة حجمه _ لاهتز وتصدع وصار ذليلاً
خاضعاً لكلام الله تعالى لما فيه من الحكمِ البليغة ، والفصاحةِ العظمى ، والبيانِ
الجليل ، والبشارةِ الكبرى ، والإنذارِ المخيف ، وخوفاً من عدم القيام بحق القرآن المتمثل
في فهمه وتعظيمه وتطبيقه. فعلى المرء أن يستوعب هذا المعنى العظيم من أجل تعميق
كتاب الله في قلبه فهماً وحفظاً، ويسعى _ قدر المستطاع _ إلى جعل الآيات القرآنية
واقعاً عملياً لا حِبراً على الورق فحسب ، فالقرآن لم يجيء ليوضع على الرفوف .
وقال الطبري
في تفسيره ( 12/ 51) : (( يقول _ جَل ثناؤه _ : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل وهو حجر
لرأيته يا محمد خاشعاً ، يقول : متذللاً متصدعاً من خشية الله على قساوته حذراً من
أن لا يؤديَ حَق الله المفترَض عليه في تعظيم القرآن ، وقد أُنزل على ابن آدم ، وهو
بحقه مستخف ، وعنه عما فيه من العِبر والذكر مُعرِض ، كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً
)) اهـ .
وقال الله
تعالى : (( ولقد يَسرْنا القرآنَ
للذكْر )) [ القمر : 17] .
فالقرآنُ تم
تيسيره للحفظ والفهم والتطبيق الواقعي دون تعقيدات . فهو مقروءٌ في الكتب ،
ومحفوظٌ في الصدور ، ومنتشرٌ بسهولة على الألسنة .
وفي الحديث
القُدسي الذي رواه مسلم( 4/ 2197 ): أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم :
(( وأَنزلتُ عليكَ كتاباً لا يغسله الماءُ تقرأه نائماً ويقظان )) .
والمعنى :
إن القرآن الكريم محفوظٌ في السطور والصدور على مر الأزمنة، لا يمكن إزالته أو
استئصاله أو التلاعب به ، وقراءته مُيَسّرةٌ وسهلة في كل الأوضاع .
وقال الله
تعالى : (( نزل عَلَيْكَ الكتابَ
بالحق مُصدقاً لما بين يَدَيْه وأَنزل التوراةَ والإنجيلَ )) [ آل
عمران : 3] .
فاللهُ
تعالى نزّل القرآنَ الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق والعدل والصدق وبالحجج
الساطعة مُصَدِّقاً للكتب السابقة التي أنزلها اللهُ تعالى كالتوراة والإنجيل .
وفي هذه الآية إشارةٌ إلى أن مصدر الكتب السماوية واحدٌ ، وأن الأنبياء كلهم يدٌ
واحدة جاؤوا بالتوحيد بأمر الله تعالى الذي أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى
النور . كما أن هناك إشارة بليغة إلى صدق الرسالة المحمدية الإسلامية . فلو كان
القرآنُ من تأليف إنسان يسعى لنيل مصالح دنيوية لما ذَكر التوراةَ والإنجيل خوفاً
من تفرق أتباعه عنه . لكن النبي صلى الله عليه وسلم الأمين يُبَلِّغ كلامَ الله
تعالى كما أُنزِل دون زيادة أو نقصان ، فقد جاء مُصَدِّقاً لموسى وعيسى _ عليهما
الصلاة والسلام _ ، ولم يطمسهما أو يتجاهل ذكرهما أو يحاول رفع مكانته عبر
الانتقاص منهما، كما يفعل الكثير من المؤلِّفين الذين يطمحون إلى رفع منازلهم عبر
التهجم على منافِسيهم . مما يشير إلى أن القرآن ليس من كلام المؤلِّفين
المتنافِسين على حطام الدنيا ، كما يشير إلى إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم في
تبليغ الكلام الإلهي حرفياً .