الوحي الإلهي
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن قوة الوحي تنبع من كونه إخباراً بالغيب،
وكشفاً لماوراء قدرة الإنسان وحواسه. والإنسان عموماً متطلع لاكتشاف المجهول
بالنسبة إليه ، والوقوف على مستقبله الغامض ، ومصيره القادم . لذا رأينا من يتمسك
بالأحلام والرؤى ، ويسعى إلى تفسيرها جاهداً إيماناً منه بأنها طريق لمعرفة الغيب
والمستقبل . وهناك من يذهب إلى الكهنة والدجالين لكي يطلعوه على أمور غيبية _ كما
يزعمون _ . وقد انتشرت _ للأسف _ الأبراج في الجرائد ، وقراءة الطالع ، وقراءة
الفنجان ، والضرب بالمندل أو الودع ، وكل هذه الوسائل المرفوضة تعكس هوساً
إنسانياً ، ولهاثاً وراء معرفة خبايا القدر ، والمستقبل الغيبي .
قال الله تعالى : (( ذلك من أنباء الغيب
نوحيه إليك )) [ آل
عمران : 44] .
قال القرطبي في تفسيره ( 4/ 86 ) : (( [ ذلك من أنباء الغيب
] ، أي الذي ذكرنا من حديث
زكريا ويحيى ومريم _عليهم السلام_ من أخبار الغيب . [ نوحيه إليك ] ... والإيحاء هنا الإرسال إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ، والوحي يكون إلهاماً وإيماء
وغير ذلك . وأصله في اللغة إعلام في خفاء ، ولذلك صار الإلهام يسمى وحياً )) اهـ .
والوحي (
الإخبار بالغيب ) هو قوة الإبهار التي تدهش الناسَ الذين هم محاصَرون في عالم
الشهادة ، لذلك وقعه في النفوس يكون قوياً ، وعلامةً واضحة على صدق النبي صلى الله
عليه وسلم الذي يتحدث عن أمور حصلت في أزمنة غابرة دون علمٍ بتاريخ الأمم ، أو
بالكتب السابقة ، أو الدراسة عند علماء التاريخ والحضارات .
وقد رأينا
من ادَّعى النبوة أو الألوهية _ زوراً _ يحاول التلبيس على أتباعه بادعاء معرفة
الغيب ، وتنسيق بعض الحوادث المستقبلية في ذهنه لكي ينال القبول ، ويقنع الأتباع
بصدقه ، ونيله التأييد الإلهي الذي كشف له خبايا الغيب _ على حد زعمه _ .
ومن أمثلة
ذلك ما فعله " بهاء الله " المؤسس الفعلي للبهائية _ وهي ديانةٌ أرضية
باطلة _ : (( وادعى أنه يعلم الغيبَ ، وقد
كان يعلن غيبيات تقع في المستقبل. ويصادف أن كان يصح بعضها . فقال إن حكومة
نابليون الثالث ستسقط ، فسقطت بعد أربع سنوات ، فكان هذا داعياً لأن يصدقه
الكثيرون بسبب مبالغة أتباعه مع أنه لم يعيّن زمنَ السقوط، ولعل ذلك فراسة منه ما
دام لم يعيّن.وهل صدق في كل نبوءة قالها ؟ . لم يدع أحد ذلك ، حتى أشد أتباعه
حماسة له )).
[تاريخ
المذاهب الإسلامية ( 1/ 215) ، محمد أبو زهرة .
].
وقال
الشاطبي في الموافقات ( 2/ 74 ) عن "وسائل معرفة الغيب" : (( ومنها ما كان
أكثره باطلاً أو جميعه كعلم العيافة والزجر
والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة ، فأبطلت الشريعةُ من ذلك الباطل ، ونهت
عنه كالكهانة والزجر وخط الرمل، وأقرت الفألَ، لا من جهة تطلب الغيب، فإن الكهانة والزجر
كذلك . وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل ، فجاء النبي صلى الله
عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام ، وأبقى للناس
من ذلك بعد موته _عليه السلام_ جزءاً من النبوة ، وهو الرؤيا الصالحة ، وأنموذجاً من
غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة )) اهـ .
وعن عبادة
بن الصامت_ رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( رؤيا المؤمن جزءٌ من
ستة وأربعين جزءاً من النبوة
)).
[متفق
عليه. البخاري( 6/ 2563 )برقم ( 6586 )، ومسلم ( 4/ 1774 ) برقم ( 2264 ).].
وهذه الرؤيا الصالحة إنما هي تواصل مع
النبوة ، وامتدادٌ للوحي ، وتصديقٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك ليظل المؤمن
على صلة وثيقة بعالم الغيب ، والمشاهدِ غير المنظورة، والوقائعِ غير المحسوسة .
مما يزيده يقيناً بموعود الله تعالى ، وثباتاً على الحق . وهذا يعطيه قوةً دافعة
إلى التمسك بالحق ، والسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الإرشاد الرباني
في القرآن الكريم . فتهون عليه مصائب الدنيا ، ويقل حرصه اللاهث على حطامها
ومتاعها ، وذلك عائد إلى تعلقه بالآخرة ، وارتباطه الوثيق بماوراء القدرة
الإنسانية .
وبلا شك فإن انكشاف بعض الأمور الغيبية في
المنام دليلٌ واضح على أن هناك قوةً فوق مستوى البشر ، وهذه القوة أحاطت بالمعرفة
المحسوسة وغير المحسوسة . وبالتالي هي تملك السيطرة على الماوراء، ولديها القدرة
المطلقة على معرفة عالم الغيب وكشفها . فالله تعالى الذي صفاته مطلقة غير محدودة
لا يوجد عنده ماضٍ وحاضر ومستقبل ، وإنما أحاط بكل شيء علماً . وإذا شاء الله
تعالى كشف غيبياتٍ محددة لأناس محددين في وقت محدد ، ليكون ذلك رسائل إلهية يريد
الله تعالى أن يوصلها إلى العبد ليزداد يقيناً ، ويتمسك بمنهج الكتاب والسنة
الصحيحة ، ويوقن أنه أمام خالق عظيم مالك لعالم الغيب والشهادة .
والوحي هو منهجٌ شامل وكلي لجميع الأنبياء _
عليهم الصلاة والسلام _، فهو بذلك تكوين جمعي دقيق ومنضبط ، ووحدةٌ جماعية واحدة ،
فلا شذوذ ولا تعارض ، لأن الوحي معصوم منح العصمةَ للأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام
_ ، لذلك تنَزّهوا عن التعارض أو الشذوذ أو الانحراف.
قال الله تعالى : (( إِنا أوحينا إليك
كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده )) [ النساء : 163].
وفي هذه الآية تأسيس واضح للمنهج المشترك
الموحّد بين الأنبياء _ عليهم السلام _ الذين هم يدٌ واحدة في مسيرة الدعوة
الإسلامية ، يتحركون في ضوء توجيه الوحي المعصوم ، وبذلك يستندون إلى قوة لا
تُضَاهَى أعلى من قوة البشر الغارقين في التناقضات والنقص الإنساني . وهذا يمنح
المسيرةَ النبوية الثقةَ والثبات والإصرار والعزيمة المستمرة على الرغم من كل
الصعوبات الجسام ، والتحديات العنيفة .
أضف إلى هذا أن الوحي المرسَل إلى أي نبي هو
تصديقٌ ودعمٌ لباقي الأنبياء_ عليهم السلام_، وهذا يدل على وحدة المسار والمصير
عند كل الأنبياء ، وأنهم يقتبسون من مشكاة واحدة معصومة فوق قدرة البشر . لذلك
كانت النبوة هي التميز ، ومالكة الصدارة ، والتفوق على المخلوقات ، وصاحبة الريادة
.
ومنهج الوحي هو إيصال الرسالة الإلهية إلى
بني البشر دون أن يحيد النبي صلى الله عليه وسلم عن المرجعية الربانية ( القرآن
الكريم ). فقد جاء القرآنُ حكماً عادلاً وحاكماً مهيمناً لا أن يوضع على الرفوف ليُقْرَأ
في المناسبات أو في المآتم كإجراء روتيني تعارف عليه الناس .
لذلك قال الله تعالى : (( وأُوحيَ إِلَي هذا
القرآنُ لأنذركم به ومن بلغ )) [
الأنعام : 19] .
وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لا
يمكنه تجاوز القرآن ، بل عليه الاعتماد على القرآن لإيصال رسالة الإنذار ، ووضع
كلمة الله تعالى في مسامع الناس وقلوبهم . وفي ذلك إشارة واضحة إلى مركزية القرآن
الكريم الذي أسّس الصراطَ المستقيم للخلق كي يسيروا في النور لا الظلمات .
فكلام الله تعالى ليس نظريةً فلسفية عائمة ،
أو ضرباً من القصص الشعبية ، وحكاياتِ المغامرات. بل هو تأسيس متكامل للوجود
البشري وفق مبادئ الاستقامة التي لا تنحرف. والقرآنُ المقدّس يحمل البشارة
والإنذار ، وبذلك يكون ملائماً لكل زمان ومكان ، ومناسباً لكل الطبائع البشرية
.
قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 172 ) : (( وهو نذير _ أي
القرآن_ لكل من بلغه )) اهـ .
وقال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 152 ) :
(( أي
أوحى الله إلي هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به، وأنذر به من بلغ إليه
: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة . وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن
سيوجد كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول ))اهـ .
والوحي منهجٌ ضابط ومنضبط لا يملك النبي صلى
الله عليه وسلم أن يحيد عنه، أو يضيف عليه ، أو ينقص منه، أو يستدرك عليه. أو يفكر
في مدى مناسبته للواقع أم لا، لأن الوحي جاء ليتم تطبيقه عملياً على أرض الواقع
بسبب اشتماله على مصالح الناس في الدارين .
والدرب المستقيم الذي أسّسه الوحي المقدّس
لا يمكن أن يقود إلا إلى خير ، لأنه مستند إلى وحي إلهي معصوم لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه . وهذا التميز الواضح يكشف الفرق
بين الوحي والأفكارِ
البشرية .
فكثير من الأفكار العلمية التي تم تقديمها
على أنها نظريات صحيحة ومسلّمات حاسمة ونهائية ، تبيّن لاحقاً الأخطاء المنهجية
التي تعتريها ، والثغرات القاتلة التي تضرب جذورها . وعندئذ سيعاد النظر في كثير
من التطبيقات المبنية على هذه القواعد العلمية المتهاوية ، فما بُني على باطل فهو
باطل . وقِسْ على هذا باقي العلوم الطبيعية والإنسانية المحتوية على النظريات
والفرضيات .
أما الوحي فلا يمكن أن يسقط في هذا الفخ ،
لأن مرجعه إلى الله تعالى العالِم بكل شيء . وبالتالي فالوحي المعصوم مُنَزّه عن
التناقض مهما طال الزمان أو قصر ، ومهما حدث من تغيرات زمنية ومكانية . ومن هنا يبرز مبدأ صلاحه لكل وقت ، وكل طبع
بشري . وهذا يعكس قوة
الوحي باعتباره خلاصاً
للمخلوقات ، وطريقاً وحيدة لاتصال الأرض بالسماء .
قال الله تعالى : (( إِنْ أتبع إلا ما يُوحَى
إِلَي )) [ الأنعام : 50] .
وهذا يدل على أن مهمة النبي صلى الله عليه
وسلم هي التبليغ ، لأن الرسول ما عليه إلا البلاغ الذي أرسله به الله تعالى . فهذه
الشرائع القرآنية ليس من بنات أفكار النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من خبراته
الحياتية ، أو من آرائه الشخصية وتحليلاته العقلية، وإنما هي رسالة إلهية، ودور
النبي صلى الله عليه وسلم محصور في تبليغها كما هي، بلا زيادة أو نقصان . لذلك فمن
رد على النبي صلى الله عليه وسلم كلامَه ، هو _ في واقع الأمر _ يرد على الله تعالى
الذي جعل كلامَه الإلهي المقدّس في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى لسانه .
وهكذا يتضح أن الذي يدعي نزول الوحي عليه بلا دليل يفتري على الله تعالى الكذبَ،
ويتقول على خالقه تعالى. لذلك قال تعالى: (( ومن أظلم ممن افترى
على الله كذباً أو قال أُوحيَ إِلَي ولم يُوحَ إليه شيء )) [ الأنعام: 93] .
ومن الواضح أن الوحي لا ينزل على أي مخلوق .
بل هناك صفات يجب أن تتوفر في الإنسان لكي يقدر أن يقوم بمهمات النبوة بعد اختيار
الله له وتوفيقه . فلا بد أن يكون رجلاً إِنسياً ، وأن يكون ذلك الرّجل من أهل القرى
لا من الأعراب أو البدو الرّحل . فقد قال تعالى : (( وما أرسلنا من قبلك
إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى )) [ يوسف : 109] .
قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 111) : (( وهذا معنى النبوة ، والذي
عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلا من
الرِّجال...وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري _ رحمه الله _ الإجماع على ذلك )) اهـ .
وهذا يشير إلى أن النبوة تستلزم مواصفات
خاصة لا تتوفر في كل الخلائق ، فهي المنهج الرباني المتكامل الذي يجب أن يُحمَل
على أكتاف ثابتة غير مهزوزة . وهؤلاء النخبة البشرية ( الأنبياء ) الذين اختارهم
الله تعالى لحمل كلمته ، لم يأتوا بواسطة ، أو محسوبيات ، أو اعتماد على النفوذ
العشائري . فالله تعالى اختارهم لأنه يعلم أنهم الصفوة الإنسانية المتميزة بالصفاء
القلبي ، والقوة الروحية ، والتماسك الجسدي . مما يجعلهم أفضل من يؤدي مهمة النبوة
بكل أمانة واقتدار ، دون تقاعس أو استسلام للتحديات .
(( ولما كانت الغلظة والجفاء
في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى )).
[تفسير
ابن كثير ( 2/ 504 ) . وانظر أيضاً تفسير النسفي ( 2/ 207 ) ، والكشاف للزمخشري ( 1/ 607 ) ، وأحكام القرآن
للجصاص ( 4/ 396 ) . ].
وهذا يعكس
أهمية الصفات النبوية في مسيرة الدعوة الإسلامية . فمنهج النبوة ذو تماس مباشر مع
الناس ، والناس ينظرون إلى شخصية الداعية ، فيقتربون منه حينما يرونه ذا أخلاق
حميدة ، وينفرون منه حينما يرونه غير ذلك .
وهكذا تبرز
أهمية الأخلاق النبوية في استقطاب المؤمنين ، وحشد الرأي العام في سبيل ترسيخ
الخير ، وتدعيمِ مسيرة السعادة . فالشخصية لها دور فاعل في إقناع الناس بالأفكار .
لذلك كان الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ مُنَزّهين عن كل ما ينفِّر الناس ،
سواءٌ من ناحية الخُلُق أو الخَلْق .
قال القرطبي
في تفسيره ( 9/ 233 ) : (( أي أرسلنا رجالاً ليس فيهم امرأة ولا جني ولا مَلَكٌ ... ولم يبعث الله نبياً من أهل البادية لغلبة الجفاء
والقسوة على أهل البدو، ولأن أصل الأمصار أعقل
وأحلم وأفضل وأعلم . قال الحسن : لم يبعث الله نبياً من أهل البادية قط ، ولا من النساء
، ولا من الجن . وقال قتادة : [ من أهل القرى ] ، أي من أهل الأمصار ، لأنهم أعلم وأحلم . وقال
العلماء : من شرط الرسول أن يكون رجلاً آدمياً مدنياً )) اهـ .
ومعاناة
النبي صلى الله عليه وسلم مع
الأعراب الأجلاف مشهورة ومنتشرة وثابتة . فقد كانوا أصحاب طبائع خشنة ، وصفات
قاسية ناتجة بفعل البيئة الصعبة التي يعيشون فيها . ومع هذا كان النبي صلى الله
عليه وسلم يعرف أبعاد الموضوع بكل حيثياته ، فيتعامل مع الأعراب بكل رقة ، وحسن
خلق ، فيصحح انحرافاتِهم ، ويرشدهم إلى الدرب القويم ، وهكذا يعيد بناء شخصياتهم
وفق المنهج الإنساني السامي .
فعن ابن عباس _ رضي
الله عنه _ : أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وسلم فأثابه
عليها ، فقال: (( رضيت )) ؟ ، قال : لا ، فزاده
، وقال : (( رضيت )) ؟ ، قال : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لقد هممتُ
أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي )).
[رواه ابن
حبان في صحيحه ( 14/ 296 ) برقم( 6384 ) واللفظ له ، والحاكم في المستدرك ( 2/ 71 )برقم ( 2365 ) وصححه ووافقه الذهبي.
وأحمد ( 1/ 295 ) برقم ( 2687) . وقال الهيثمي في المجمع ( 4/ 263 ) : (( رواه أحمد
والبزار ... ورجال أحمد رجال الصحيح )) اهـ . وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 504 )
: (( لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن، مكة والطائف
والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء ))
.].
وهذا يعكس قسوة الأعرابي ، وخشونة طبعه ،
وغلظة صفاته ، بعكس القرشي أو الأنصاري
أو الثقفي الذين هم
سكان المدن ، أصحاب الطباع اللينة ، والصفات المهذّبة .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 1808 ) : عن عائشة قالت
: قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أَتقبلون
صبيانكم ؟، فقالوا: نعم، فقالوا : لكنا والله ما نُقبل، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : (( وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة )) .
وقد كان
اختيار الله تعالى للأنبياء من أهل القرى نعمةً لبني البشر ، ورحمةً إلهية عليهم .
وذلك لكي يكونوا أصحاب أخلاق حميدة ورقيقة ، غير متعصبين ولا أصحاب طبائع قاسية .
ومما لا شك فيه أن هذا سيكون له بالغ الأثر في تحبيب الناس بالدعوة ، وتقريب
الدعوة إلى قلوبهم وحياتهم العملية .
لذلك فإن
الله تعالى اعتنى بالمرسَلِين وصفاتهم ، وجبلها على اللين والرفق ، وسخّر من أجل
ذلك الأسر العريقة لاحتضان الأنبياء ، وهيّأ البيئةَ المناسبة التي سيخرجون منها
يحملون الرسالة الربانية الخالدة .
والوحي هو
مجدُ الأنبياء، وحضارةُ البشرية ، وحياةُ الأمم وإشراقها ، وقوة شرعية الوجود
البشري الخاضع للخالق العظيم، وطريق الحياة الأبدية، ومنبع المعارف في القلوب
الطاهرة الحية ، والروح السامية التي تبعث الحياةَ المتدفقة في أوصال المجتمع .
لذلك قال
الله تعالى : (( وكذلك أوحينا إليك رُوحاً من أمرنا )) [ الشورى : 52] .
إن الوحي
جاء لانتشال أرواح الناس من المستنقع العميق . جاء لجعل الناس يكتشفون إنسانيتهم
المدفونة تحت وحل الشبهات الصادمة والشهواتِ الغريزية العابثة .
والفرد لا
يمكنه أن يصبح عنصراً صالحاً في مجتمعه الجزئي ، ومجتمعه الكَوْني الكلي ، إلا إذا
اكتشف روحه ، وأطلق سراحَها خارج أسوار
الانهيار الأخلاقي ، وقام بتحريرها من قيود عالم
الأشباح. وبذلك تقدر على الانطلاق نحو خالقها
تعالى.
وفي ذات
الوقت لا يمكن للإنسان أن يحرر روحَه من قيودها ، ويتحرر من سطوة العناصر السلبية
، إلا من خلال درب الوحي المعصوم الذي يجعل الأرض تلتقي مع السماء، مما يجعل الفرد
كائناً حراً في تفكيره العقلاني ، ومتحرراً من أوهام الدنيا متاعِ الغرور .
وفي الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري
( نقلاً عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة ، ص 5 ) : (( كيف يشرق قلب صور
الأكوان منطبعة في مرآته ؟ . أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبّل بشهواته ؟ . أم كيف
يطمع أن يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته ؟ )) .http://www.facebook.com/abuawwad1982