الرسالة النبوية
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن كل رسالة سماوية أو
أرضية تدل على صفات المرسِل. ولما كانت الرسالة المحمدية الإسلامية أعظم رسالة على
الإطلاق ، اقتضى الأمر أن تتحلى بطبيعة خاصة تأخذ بأيدي الناس عن طريق النبي صلى
الله عليه وسلم إلى
خالقهم العظيم . وهذه الرسالة السماوية ليست مشروعاً عائلياً تجارياً ، أو نظاماً
ملكياً متوارثاً ، بل هي منهاج قول وفعل لخلاص البشرية من مأزقها الوجودي الصادم .
والله قادرٌ أن يبقيَ الناسَ في جهالة الكفر بلا رسول ولا رسالة ، لكن رحمة الله
تعالى التي وسعت كل شيء أبت إلا أن تنقذ الناس وتخرجهم من مستنقعهم الآسن .
ومن أهم خصائص طبيعة الرسالة النبوية إفرادُ
الله تعالى بالعبادة بلا شريك ، واللجوءِ إليه وحده ، وعدم اتخاذ البشر أرباباً من
دونه تعالى . وهذا المعنى كرّسه القرآن الكريم في قوله تعالى : (( ما كان لبشرٍ أن
يؤتيَه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ ثم يقول للناس كونوا عباداً لي مِن دون الله
ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون )) [ آل عمران : 79] .
قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 501 ) : (( أي ما ينبغي لبشر آتاه
الله الكتاب والحكمة والنبوة أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أي مع الله . فإذا
كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسَل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى
)) اهـ .
وهذا يدل
على أن الرسالة النبوية ليست مشروعاً عشائرياً لابتزاز الناس ، وتنصيب النبي ملكاً
عليهم ، أو إلهاً فرعونياً ، يستعبدهم ليحقق أكبر نفوذ ممكن ، ويمتص موارد البلاد
والعباد، مثلما يفعل الطواغيت في كل العصور . بل إن منهجية النبي صلى الله عليه
وسلم رد الأمر إلى الله تعالى صاحبِ الأمر ، وتوجيه الناس إلى عبادة خالقهم لا
عبادة أنبيائهم أو كبرائهم . وهذا دليل ساطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم
صادقٌ
فيما يقول ، إذ إنه لم يُحوِّل النبوةَ
إلى زعامة عشائرية له ولأسرته لتصير أسرةً حاكمة على الشعب المسحوق، وإنما رسم
الطريق الموصل إلى الله تعالى بلا زيادة أو نقصان، وأجره يكون عند خالقه لا عند
الناس . فلا ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم وزارة
إعلام تطبِّل وتزمِّر له ليلاً نهاراً بأموال الشعب، ولم يوزِّع مناصبَ الدولة على
عائلته والمنافقين من حوله ، ولم ينهب موارد البلاد. وهو في ذلك ينتظر نعيمَ
الآخرة الذي أعده الله تعالى للمتقين. ولم يغتر بزخرف الدنيا المنثور حوله لعلمه
التام بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى . وبالتالي تمتاز الرسالة النبوية ببعد النظر ،
وعدم الانجرار وراء المظاهر الدنيوية الخادعة ، وعدم اتخاذ العباد أرباباً من دون الله تعالى.
وإنما توجيه كل الجهود البشرية نحو تحقيق معنى العبودية لله وحده لا شريك له ، لأن
الوحدانية هي المجد المطلق .
[
فقد عرض مشركو قريش على النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً إغرائياً تم رفضُه بكل حزم
، فقالوا : (( فَإِنْ كُنْتَ إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من
أموالنا حتى تكون أكثرَنا مالاً، وإن كنتَ إنما تطلب الشرف فينا سَودْنَاكَ علينا ،
وإن كنتَ تريد به مُلْكاً مَلكْنَاكَ علينا )) . { تفسير الطبري ( 15/ 164 ) .
وانظر أيضاً تفسير ابن كثير
( 3/ 63) ، والسيرة النبوية ( 2/ 131 ) ، والسيرة الحلبية ( 1/ 487 ) .}
ولو كان في مكان النبي صلى الله عليه وسلم شخص غير صادق لقبل فوراً دون أدنى تردد
، فمثلاً مُسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة كان يسعى من وراء دعوته الساقطة إلى
مكاسب شخصية وتحقيق نفوذ_ لا أكثر ولا أقل _ لذلك قال بكل وقاحة : (( إِنْ جَعَلَ
لي محمدٌ الأمرَ من بعده تبعتُه )) { متفق عليه.البخاري( 3/ 1325 ) برقم ( 3424
)،ومسلم ( 4/ 1780)برقم ( 2273 ).} ].
{ انظر / صورة اليهود في القرآن والسنة
والأناجيل ، ص 81 ، إبراهيم أبو عواد ، دار اليازوري. }.
وهكذا نرى أن أعداء الدعوة الإلهية عبر
الأزمنة يحاولون تقديم الإغراءات بشتى أصنافها من أجل وأد الدعوة في مهدها ،
والقضاءِ على المجتمع الإيماني عبر اختراقه بزخرف الحياة الدنيا . إذ إن سلاحهم
المتداعي يتمحور حول اللعب بورقة الشهوات .
وأخرج ابن إسحق
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو
رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى
الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟، فقال رجل من أهل
نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريده منا يا محمد ؟، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((معاذ
الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني ))
، فأنزل الله في ذلك من قولهما : [ ما كان لبشرٍ أن يؤتيَه الله الكتابَ ] ... .
{
الدر المنثور للسيوطي ( 2/ 250 ).وانظر العجاب في بيان الأسباب لابن حجر ( 2/ 705
).}.
إن طبيعة الرسالة النبوية بالإضافة إلى
توحيد الله تعالى ، تمتاز بأنه ذات نظرة ما ورائية ، أي النظر إلى نعيم الآخرة دون
ترك الدنيا للكفار، وعدم الانغماس في الشهوات الدنيوية بلا حساب . مما يدل _ بلا
شك_ على صدقها ، وقدومها من مصدر أعلى من النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش حياته
متقشفاً مع أنه نبي له السطوة والسيطرة في حدود ما أُرسِل به ، وبإمكانه أن يعيش
حياةَ الملوك في القصور ، حيث الحراس والحاشية والجواري والخدم والفرش الوثيرة .
ومع هذا كان صلى الله عليه وسلم على الحصير ، ليعطيَ درساً للبشرية بأن المسؤولية
أمانة عظيمة ، وحِمْل شديد ، يُسْأَل الإنسان عنه يوم القيامة .
فليست أمانةُ المسؤولية رحلةً استجمام ، أو
أوسمةً عسكرية ، أو حفلاتٍ صاخبة ، أو ربطاتِ عنق أنيقة وفساتين سهرة ، أو سيارات
مرسيدس . بل هي منهجٌ حياتي وأُخْرَوِي متكامل يعتمد على القيم الأخلاقية لا
الابتزازية المصلحية. فهدف منهج تحمل المسؤولية هو أداء الأمانة على أكمل وجه ،
لما في ذلك من صلاح حياة الأفراد والجماعات ، مما ينشئ مجتمعاً قوياً فاضلاً
بعيداً عن امتصاص الناس لدماء بعضهم البعض ، ونشوءِ طبقات اجتماعية ظالمة حيث
الشطط الطبقي ، وغيابِ العدالة الاجتماعية ، والاستبدادِ السياسي والاجتماعي .
كما أن تحمل مسؤولية الأمانة ليس بزةً
عسكرية يرتديها القائد في الاحتفالات العسكرية ثم يخلعها، وإنما هي أسلوب حياة
لتثبيت قيم الفضيلة ، واحترام الأخوة الإنسانية ضمن مسارات عادلة وفق الخضوع
لسيادة حكم الله تعالى ، لا سيادة قانون الغاب حيث يأكل القوي الضعيفَ .
كما أن طبيعة الرسالة النبوية تقتضي أن يكون
القائد قدوةً أمام الأتباع ، وأسوةً حسنة . فلا يأمر القائدُ بالتقشف وهو يعيش في
القصور ، أو يأمر باحترام المرأة وهو يظلم زوجته ، أو ينادي بالعدالة الاجتماعية
وهو يسرق الشعبَ ، أو يطالب بتحقيق الفضيلة وهو يمنح التراخيص لأماكن البغاء
والعري ، أو يحاول تأسيس العلم في المجتمع وهو يسجن العلماء وينفيهم .
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم القائد
القدوة الذي يطبِّق المبادئَ على نفسه قبل أن يأمر بها الآخرين، فهو الزاهد التقي
الورع الذي يعيش حياةً بسيطة متقشفة ليمنح البشريةَ بارقةَ أمل ، ويتأسى الناس به،
حيث إن الأنبياء أعظم البشر ، وفي نفس الوقت أشد الناس بلاءً . فلا يشعر الفقير
أنه خارج منظومة المجتمع لفقره ، ولا يشعر الضعيف أن الناس ينبذونه لقلة إمكانياته
.
فقد دخل عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه _ على
النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أثر الحصير في جنبه الشريف فبكى، فقال صلى الله
عليه وسلم : (( ما يبكيك ؟ )) ، فقلتُ : يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما
فيه ، وأنت رسول الله ، فقال : (( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ )) .
[متفق
عليه.واللفظ للبخاري( 4/ 1866 )برقم( 4629 ).ومسلم( 2/ 1105)برقم ( 1479).].
والخاصية الأساسية في طبيعة الرسالة النبوية
هي الربانية . قال الله تعالى : (( ولكن كونوا ربانيين )) . أي : كونوا فقهاء علماء حكماء منتمين إلى الله تعالى ،
لكي تكونوا من أهله _ سبحانه وتعالى _. فمن اعتز بغير الله تعالى ذَل. فالربانية
التي هي العمود الفقري لطبيعة الرسالة النبوية ، هي أيضاً الحبل الوثيق بين الخالق
والمخلوق، وهذا يعزز الرابطة بين السماء والأرض ، فلا يشعر المؤمن أنه يتحرك عبثاً
في الدنيا، بل يتحرك استناداً إلى مرجعية ربانية سماوية واضحة المعالم والأهداف.
وبالتالي يكون تأثير الرسالة النبوية قوياً للغاية لأنها تستمد قوتها من السماء لا
من الأرض .
ومما لا شك فيه أن الرسالة النبوية ترتكز
إلى قاعدة لا محيد عنها، وهي اتخاذ الله ولياً لا شريك له . وهذا يدفع باتجاه
تثبيت الوجود الحق للرسالة النبوية السماوية ، وجعلها ذات طبيعة متفردة مميزة لا
جدال فيها ولا مجاملات .
وحينما يكون الله تعالى هو الذي يتولاك ،
ويرعاك ، ويحفظك ، فعندها لا خوفٌ ولا حزن ، وقد تم المراد ، وانتهى الأمر وفق
أحسن خاتمة .
قال الله تعالى : (( قُلْ أغيرَ الله
أتخذ ولياً فاطرِ السماوات والأرض )) [ الأنعام : 14].
وهذا الاستفهام التوبيخي يدل على أن طبيعة
الرسالة النبوية عدم الالتجاء لغير الله تعالى ،
وعدم اتخاذ أولياء من
دونه ، لأنه_ سبحانه _ هو الولي مالك الرسالة ، وصاحب الأمر كاملاً غير منقوص
.
والرسالة المحمدية السماوية هي المرجعية العليا ، والقدوة السامية التي
ترنو إليها الأبصار ، ولها الريادة والصدارة ،
خصوصاً وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول المسلمين في الأُمة ، وهذا
يعكس أهميةَ القيادة الرائدة ، وكَوْن النبوةُ رأسَ الأمر ، وفاتحة الخير .
وقد قال الله تعالى : (( قل إني أُمرتُ أن
أكون أول مَن أسلم )) [ الأنعام
: 14] .
والنبوة هي منهاج بيان وتوضيح لا مسألة
فلسفية غامضة . وذلك لأنها جاءت لكل الناس على اختلافهم، والناس متباينون في
القدرات العقلية والجسمية. فلو كانت النبوة كعلم الرياضيات لما فهمها إلا القليل ،
ولو كانت شِعْراً رمزياً لما وقف على معناها إلا أصحاب الاختصاص ، ولو كانت
ألغازاً شعبية وحكاياتٍ تراثية لما أدرك فحواها إلا المؤرخون والمشتغلون بالأمثال
الشعبية .
لذلك كانت الرسالة المحمدية واضحةً في
مبناها ومعناها ، تتناسب مع كل زمان ومكان ، لأنها خالدة حتى يوم القيامة . كما
أنها تتلاءم مع الفطرة البشرية ، فليس فيها أمرٌ ضد العقل والمنطق ، أو خلقٌ ذميم
، أو دعوة إلى الخراب ، أو أوامر تعجيزية ، أو نظريات خيالية مثالية . وهذا جعلها
قريبة من الناس وملتصقة بهم على اختلاف مشاربهم وأوضاعهم الروحية والمادية .
وفي واقع الأمر فإن الإسلام هو أعظم داعية
إلى نفسه ، بسبب اشتماله على كل شيء ، واحتوائه على الدنيا والآخرة ، والروح
والمادة ، والحياة والموت ، ضمن أسلوب ترغيبي وترهيبي لا يُجارَى .
والفكر النبوي في إيصال المراد الإلهي إلى
الإنس والجن كان مؤسّساً على قواعد ثابتة تمتاز بالإخلاص لله تعالى، والقدرة
العلمية ، والكفاءةِ اللغوية ، ووضوحِ الأسلوب ، والابتعادِ عن الجدال العقيم ،
وذلك عبر إقامة الحجة بالتي هي أحسن .
وبالاعتماد على التأصيل الشرعي المنضبط
بالمنهجية القرآنية ، نجح النبي صلى الله عليه وسلم في أداء أمانة تبليغ الدعوة
بكل اقتدار ، والوصولِ إلى أماكن كانت بعيدة عن طريق الهداية ، وإرشادِ ألد أعداء
البعثة النبوية إلى النور المحمدي الإسلامي . وهذا كله لم يجيء من فراغ ، فهو
حصيلة جهود نبوية مضنية مستندة إلى منهج متكامل روحاً ومادة .
وقد قال الله تعالى : (( وما أنزلنا عليكَ
الكتابَ إلا لتبينَ لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون )) [ النحل : 64] .
وهذه الآية تشير إلى أن القرآن الكريم الذي
هو أساس الرسالة المحمدية جاء للبيان والتوضيح، وإيجاد حلول للمجتمع ، وإنهاء حالة
الاختلاف المذموم والتحزب حول المفاهيم المتوارثة . فقد حدّدت الرسالةُ المفاهيمَ
الشرعية ، وأنهت الخلافَ الحاصل بين الناس ، ووضّحت الطريقَ المناسبة لكل حالة ،
ورفعت الإنسان التائه إلى مستوى إنسانيته . مما يدل على أن طبيعة الرسالة تشتمل
على المناحي العلمية الفقهية في الأمور كلها ، فالعلم الذي يخاطب العقلَ ، ويجد
الحلولَ ، ما كان له أن يتكرس كنظام حياة لولا الشرعية التي جاءت من الرسالة
المحمدية .
ولا يمكن إغفال مبدأ شهادة الأنبياء على
أممهم ، والذي يُعتبَر من المبادئ الأساسية المتجذرة في طبيعة الرسالة . وهذه
الشهادة لإقامة الحجة على الناس ، وعند الله تجتمع الخصوم ليأخذ كل ذي حق حقه .
ومن الرحمة الإلهية بالخلائق أن منحها فرصة
الدفاع عن نفسها ، وشرح أوضاعها ، والله تعالى أعلم بها ، لكن إقامة الحجة لها
قواعد شرعية لئلا يظل للناس عذر ، ولا يذهب أحدٌ إلى النار إلا وهو مؤمن أنه مستحق
لها ، وخاضع للعدالة الإلهية ، ولم يظلمه الله تعالى أو يأخذ حقه.ولا أحد يذهب إلى
الجنة إلا وهو مؤمن بأن ذلك قد تم بمحض الفضل الرباني.
قال الله تعالى : (( ويومَ نبعث في كل
أُمة شهيداً عليهم من أنفسهم )) [
النحل: 89] .
أي إن الله
تعالى سيبعث كل نبي شاهداً على أمته ، ليعلن أمام الله تعالى شهادته ودوره الذي
قام به في تبليغ الرسالة ، ويقيم الحجةَ على قومه . والنبي محمد صلى الله عليه
وسلم سيشهد على قومه ، فقد قال الله تعالى : (( وجئنا بك شهيداً على هؤلاء )) [ النحل: 89] .
ومنهج
الرسالة واضحٌ للغاية في التعامل مع عمل العبد ، فيجب أن يكون عملاً صالحاً
موافقاً للشرع لا ابتداع فيه ، وخالصاً لوجه الله تعالى في آن معاً . قال الله
تعالى : (( فمن كان يرجو لقاءَ ربه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشْرِكْ بعبادة ربه
أحداً )) [ الكهف : 110] .
وأساس
الرسالة هو الإخلاص لله تعالى ، ورفض الشرك الأكبر والأصغر ( الرياء ) . فلا معنى للرسالة التي تم توجيهها
إلى المخلوقين ونسيان الخالق . ولا معنى للعبادة إذا خلت من الصلاح والإخلاص .
فتوجه العبد يجب أن يكون نحو خالق واحد أحد لا شريك له ، فمرجعية المؤمن هي مرجعية
السماء المعصومة ، لا مرجعية أرضية وضعية .
وعن ابن
عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني أقف الموقف أريد وجه الله
، وأريد أن يُرى موطني ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت
: (( فمن كان يرجو لقاءَ ربه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشْرِكْ بعبادة ربه أحداً
)) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 122) برقم ( 2527 ) وصححه
، ووافقه الذهبي .].
وهذا يشير
إلى خطورة الرياء ، ووضوح الرسالة السماوية في رفضه جملةً وتفصيلاً ، لأنه يسلب
العبادةَ معناها ، ويحيل العبادات إلى إجراءات ميكانيكية موجّهة لنيل رضا
المخلوقين الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً ، ولا يملكون جنةً ولا ناراً .
فعن شداد بن
أوس _ رضي الله عنه _ قال : (( كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
الرياء الشرك الأصغر )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 365 ) برقم ( 7937 ) وصححه
، ووافقه الذهبي .].
والنبوة
ليست اختراعاً من اختراعات العصور أو طفرةً في تاريخ البشرية . بل هي منهج متكامل
على مدار السنوات . ولم يأت محمد صلى الله عليه وسلم برسالة من تلقاء نفسه ، ولم
يكن أول مرسَل لكي يتعجب الناس ، وينظروا إلى الأمر بارتياب ، ويُصابوا بالدهشة
والاستغراب . فالرسالة المحمدية ليست أمراً جديداً ، فقد سبقها_ زمنياً _ كل
رسالات الأنبياء الذين مهّدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم الطريقَ ، وبالتالي فالبشرية
معتادة على الرسالات السماوية ، وقدومِ الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ .
وقد قال الله تعالى : (( قُلْ ما كنتُ بِدْعاً من الرسل )) [ الأحقاف : 9]
.
أي
: كان هناك رسلٌ قبلي، ولم أكن أولَ نبي لكي يندهش الناس، ويظنوا أني جئتُ ببدعة
غير معهودة . وهذا يدل على أن طريق الأنبياء واحدٌ ، وكل نبي يبدأ من حيث انتهى من
سبقه . لذلك فالمنهج النبوي العمومي متكامل منذ بدء الخليقة حتى يوم القيامة بلا
تنافر. وكل نبي يقوم بوضع لبنته الخاصة في البنيان الإيماني المتماسك، مما يعكس
تضافر الجهود الدعوية في سبيل إنقاذ الناس ، وإعمار الأرض .
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إِن مثلي ومَثَلَ
الأنبياء من قبلي كمثلِ رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ،
فجعل الناس يطوفون به ، ويُعجَبون له، ويقولون : هلا وضعتَ هذه اللبنةَ ، فأنا
اللبنةُ ، وأنا خاتَمُ النبيين )).
[متفق
عليه.واللفظ للبخاري(3 / 1300)برقم( 3342 ).ومسلم( 4 / 1790)برقم ( 2286).].
لذلك كان
الطعن في أي نبي طعناً في كل الأنبياء _ عليهم السلام _ ، لأنهم يمثلون منهجاً
إلهياً واحداً. فالإسلام هو دين جميع الأنبياء بلا استثناء. وهذه الوحدة في المسار
والمصير تؤدي إلى تشييد البناء الإيماني المتراص على أسس من التكاملية لا التضاد ،
والوعي المصيري لا تضارب وجهات النظر ، ومعرفة الطبائع البشرية المتغيرة حسب تعاقب
الأجيال، وإدراك الظروف الزمنية والمكانية المختلفة باختلاف العصور .
ومما ساعد
في انتشار الدعوة المحمدية الإسلامية، الإحساس الجماعي بضرورة حمل أمانة الدين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحوِّل آل البيت إلى إقطاعيات
سياسية وبرجوازية ، كما يحدث في بعض المجتمعات البدائية ، ولم يجعل من الصحابة
عِصابةً لاستعراض عضلاته أمام القبائل . وإنما زرع في نفس كل فرد أهمية هذا الدين
، فأصبح الأفراد مؤمنين بأن الدعوة الإسلامية مسؤولية الجميع ، وليست حكراً على
أحد . مما عزّز روح الانتماء للمجتمع الإسلام بكل قوانينه .
فالفقير لم يشعر بأنه غريب أو منبوذ في الجماعة المسلمة بسبب مكانته الاجتماعية
، بل وجد نفسَه في قلب صناعة الحدث التاريخي المستند إلى رؤية الإسلام في تحرير
العالم. والغني لم يشعر بأن المجتمع يستغله وينهب ثروته ، أو يحترمه من أجل أمواله
. لذلك ضحى الأغنياء بأموالهم في سبيل نشر الإسلام ، وحمل أمانة الدعوة محتسبين
أجرهم عند الله تعالى في الدار الباقية . وهذا ينسحب على كل الثنائيات المجتمعية :
الذكر والأنثى ، العالم والجاهل ، العربي والعجمي ، القرشي وغير
القرشي ... إلخ .
إن الله
تعالى لا يرسل الأنبياء ثم ينساهم أو يتخلى عنهم. بل يرسلهم سادةً للبشرية ،
ويؤيدهم بالمعجزات والعون الإلهي ، ويثبِّتهم على الصراط المستقيم بدون انحراف أو
تقصير . وهذا أعظم إمداد معنوي ومادي في حياة الأنبياء السائرين في حقول من الشوك
والألغام ، حيث الصعوبات محيطة بهم من كل مكان ، والمخاطر الجسيمة تهدد عملَهم
الدعوي ، وقد وصلت في بعض الحالات إلى قتل الأنبياء كما كان يفعل اليهود .
لذلك فمهمة
النبي صلى الله عليه وسلم ليست نزهةً سياحية ، أو رحلة استجمام لقضاء وقت الفراغ.
ولم تكن المسيرة النبوية مفروشة بالورود والعطور . إنها طريق شاقة للغاية تتضمن
المعاناة ، والسهر ، والعذاب الجسدي في المعارك ، والتألم الروحي بسبب الرافضين
لنور الله تعالى .
وكل ذلك من
أجل إيصال الدعوة بأفضل أسلوب ، وزيادة عدد المؤمنين الناجين من النار الذاهبين
إلى الجنة .
ولما كان
تأييد الرسالة النبوية أمراً بالغ الأهمية في إتمام نجاح دعوة النبي صلى الله عليه
وسلم ، فقد كانت دعوة الأنبياء كلهم متضافرة لا متضادة ، وكل رسالة تؤيد الرسالات
الأخرى ، وكلها تمهِّد للرسالة المحمدية الخاتمة . وهذا يدل على أن دعوة الأنبياء
إنما هي دعوةٌ واحدة ، وطريقٌ واحدة، وذلك لاعتناقهم _جميعاً _ دين الإسلام ( الدين
السماوي الوحيد ) مع اختلاف الشرائع تبعاً لإمكانياتِ كل نبي ، وظروفِ قومه
وقدراتهم .
قال الله
تعالى : (( وإِذْ أخذ اللهُ ميثاقَ النبيين لما آتيتكم
مِن كتاب وحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه )) [ آل عمران :
81] .
وهذه الآية
الشريفة منهجٌ متكامل في فهم طبيعة العلاقة بين الأنبياء _ عليهم السلام _ ، فقد
أخذ اللهُ تعالى عليهم العهدَ المؤكد بالالتزام بالشريعة الإلهية . (( فأخذ الله ميثاق
النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد _ عليه السلام _ وينصروه إن أدركوه ، وأمرهم أن يأخذوا
بذلك الميثاق ، إذ هو بمنزلة الاستخلاف )) .
[تفسير
القرطبي ( 4/ 122 ) .].
ولا يخفى أن
هذا تأييدٌ قوي للرسالة المحمدية ، ومساندة من قبل الأنبياء لدور محمد صلى الله
عليه وسلم في انتشال البشرية من مستنقعها ، وذلك عبر توفير الدعم له بكل ما يملكون
من نفوذ وسُلْطة على الأتباع بما لهم من مكانة خاصة ، مؤيّدين بالكتاب والحكمة .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 1/ 502 ):[ قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس _ رضي الله عنهما
_: (( ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث الله محمداً وهو
حي ليؤمنن به وينصرنه . وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء
، ليؤمنن به ولينصرنه )) . وقال طاوس والحسن البصري وقتادة : (( أخذ الله ميثاق النبيين
أن يُصَدق بعضهم بعضاً ، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه
ويقتضيه )) ] .
ومنزلة
النبي صلى الله عليه وسلم الرفيعة تؤهله لأن يكون في صدارة الكوكبة النبوية
العالمية ، لذلك كان واضحاً حرص الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ على مبايعته
إماماً لهم . وفي هذا إشارة بالغة الوضوح على أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم وعلو
كعبه .
ومن خلال هذا الوعي التأصيلي يتضح تماسك البنيان النبوي الكَوْني ، حيث
تعاون الأنبياء كلهم في رسم المنهاج القويم على كوكب الأرض . فلا نبي يلغي الآخرَ،
ولا كتاب سماوي يتعارض مع الآخر ، لأن المرجعية السماوية التي يعود إليها كل
الأنبياء واحدة لا تتعدد ، وكاملة غير منقوصة ، ومُنَزّهة عن التناقض .
وعن العرباض
بن سارية السلمي قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إني عند الله في أول
الكتاب لخاتَم النبيين، وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة أبي إبراهيم،
وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 656 ) برقم ( 4175 ) وصححه ، ووافقه الذهبي . وصححه ابن
حبان ( 14/ 312 ) برقم ( 6404 ) .].
وهذا يعكس
حجمَ التأييد الذي حظي به النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ إن العونَ الإلهي هيأ له
دعمَ الأنبياء روحياً ومادياً . وإن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على المكانة
السامية للرسالة المحمدية الناسخة الخاتمة .
ومنهجية
التأييد الرباني ثابتةٌ وواضحة ومستمرة . فالله تعالى لا يرسل الأنبياءَ ثم ينساهم
، وإنما يؤيدهم بالوحي ، والتثبيت في كل المراحل ، ولا يتخلى عنهم ، فهم أولياؤه
الكبار ، وحملة رسالته المجيدة ، والذين يأخذون بأيدي الناس إلى الهداية ،
ويرشدونهم إلى الله تعالى . فقد قال الله تعالى : (( ولولا
فضلُ الله عليك ورحمته لهمت طائفةٌ منهم
أن يُضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما
يضرونك من شيء )) [ النساء : 113] .
ومما لا شك فيه
أن تأييد الرسالة المحمدية يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مستنداً إلى قوة جبارة
تحميه ، وتدفعه إلى الأمام بلا تخاذل أو تردد . فيزداد تركيز النبي صلى الله عليه
وسلم في الدعوة ، ولا يحمل هَم حمايته أو ضمان أمنه . ومن شأن هذا الدعم
الإلهي أن تسير الرسالة النبوية بثبات وعمق نحو تحقيق كامل أهدافها .
وما كان الدعم المادي ليؤتيَ أُكله بدون ثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم
. ولو كان مهزوزاً من الداخل ، أو يحمل قلباً خائفاً متردداً ، لما استطاع تأسيس
الدولة الإسلامية وقيادتها في أحلك الظروف ، حيث الأعداء يتربصون من كل الجهات .
ولما قدر على صناعة جيل الصحابة _ رضي
الله عنهم _ الذين حملوا الإسلامَ على أكتافهم بكفاءة واقتدار . وبما أن الصحابة ( التلاميذ ) قد تمت تربيتهم بكل ثقة وقوة
وإيمان ، فهذا يدل على أنهم يقتبسون من مشكاة مُعلم متمكن وقوي، ففاقد الشيء لا
يعطيه .
إذن ، الثبات القلبي للنبي صلى الله عليه وسلم أمّن الجبهةَ الداخلية ،
فكان القائد الأعلى للدولة الإسلامية واثقاً بربه ، وواثقاً بنفسه ، وواثقاً
بصحابته . ومنبع هذه الثقة هي القوة الداخلية الثابتة ، لأن الواثق لن يخدع نفسَه
باختراع قوة وهمية، بل يستند _ حقيقةً_ إلى معرفة متمكنة ، وإيمان راسخ، وإدراك كامل
لمواطن القوة التي ترفض أي نوع من الضعف . فلا يمكن للثقة أن تتجذر في قلب مهزوز ،
ولا يمكن تأسيس القوة الخارجية إلا إذا تأسست داخلياً قبل كل شيء . وقد قال الله
تعالى : (( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك )) [ هود : 120] .
ففي أخبار الرسل السابقين ، وبيان معاناتهم وصبرهم ورباطة جأشهم في أصعب
الظروف فائدةٌ جمة في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ، وزيادة قدرته على
الصبر والتحمل لئلا يكون ثغرةً في البنيان النبوي الكَوْني الذي شيّده الأنبياء
منذ الوجود البشري على سطح كوكب الأرض . وهذا الثبات النبوي منهجٌ قائم بذاته
يساند الرسالةَ السماوية ، لأن الوحي لن ينزل على قلبٍ خائفٍ متردد ، والنور
الإلهي الصافي لا يهبط في نفسٍ بشرية نجسة . (( وقد قَص الله تعالى على
نبيه صلى الله عليه وسلم أخبارَ الأنبياء _ عليهم السلام _ حثاً له على التمسك بالصبر
، وتسهيلاً للمحنة عليه ... وقص علينا أخبار القرون السالفة لنتعظ بها،وننتهي عن مثل
الأفعال التي استحقوا العقاب بها ، فليس فيها أمر لنا بشيء أكثر من اعتقاد صحتها ،
والاتعاظ بها )).
[الفصول في
الأصول للجصاص ( 2/ 73 ) .].
قال الإمام
الغزالي في إحياء علوم الدين ( 1/ 285 ) : (( وإن سمع _ العبدُ_ قصصَ الأولين والأنبياء
علم أن السمر غير مقصود ، وإنما المقصود ليعتبر به ... فما
من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، ولذلك
قال تعالى : [
ما نثبت به فؤادك ] ، فليقدر العبد أن الله ثبّت فؤاده بما يقصه
عليه من أحوال الأنبياء، وصبرهم على الإيذاء، وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى
)) .
وتعميماً
لمفهوم تأييد الرسالة ، فإن الأمة تواصل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلاً
وقولاً وتقريراً في كل مراحل وجودها ، لكي يظل الاتصال وثيقاً بين القدوة الأولى (
محمد صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه المؤمنين الحاملين
للرسالة من بعده، فالإسلام ليست وظيفةً حكومية يتقاعد منها النبي صلى الله عليه
وسلم أو يستقيل . إنها منهج مستمر إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومن
عليها ، ورايةٌ لا تسقط بسبب المؤمنين السائرين في ضوء النبوة وإرشادها.
قال الله تعالى: ((
لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة )) [الأحزاب: 21].
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو مركزية الوجود البشري، وهو المثل الإنساني الأعلى،
والقدوة الشريفة التي ينبغي اتخاذها نبراساً في الحياة . وهنا تترسخ قيم الانتماء
البشري للشخصية النبوية، ويتعمق الاقتداء بها في كل النواحي ، ويتركز الوعي بأهمية
أن يظل مقام النبوة حياً في القلوب والواقع .
وفي واقع الأمر إن النبي صلى الله عليه وسلم
حي معنوياً ومادياً ، فكل الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ أحياء عند الله تعالى
، وفي قبورهم لا تأكلهم الأرض .
لذلك فيجب تأسيس منهج التعامل مع الأنبياء
على أنهم أحياء ، ليس بالمعنى المجازي فقط ، بل أيضاً بالمعنى الحقيقي .