تنزيه القرآن عن الشعر
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
القرآنُ كلامُ الله تعالى لا يُشبِه كلامَ
البشر ، ولا يشبهه أي كلام . وما طعنُ المشركين في القرآن ورَمْيه بالشِّعر إلا
دليل عجز . فقد فشلوا في محاكاة القرآن أو التفوق عليه ، مما جعلهم يختبئون خلف
التشكيك في القرآن ، وإلقاءِ التهم التي لا يسندها أي دليل . لذلك فقد وَصفوا القرآن
بالشِّعر مع إيمانهم بأنه مخالف للشِّعر في طريقة نظمه ، وأنه فوق مستوى البشر ،
فقد اشتمل على الغيبيات ، وأحكامِ الحلال والحرام ، والفصاحةِ الساطعة ، والقوةِ
البيانية الباهرة ، والنظم الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
فهو متفوق على كلام العرب ، يلهثون وراء أسلوبه دون أن يدركوه مع أنهم أهل الفصاحة
والبيان ، ومنبع الشعراء العباقرة . وإذا كان العرب _ أهل البلاغة _ قد عَجزوا عن
محاكاة القرآن أو التفوق عليه ، فغيرهم سيكون أكثر عجزاً ، وهم الأعاجم .
قال الله
تعالى : (( وما عَلمْناه الشعرَ
وما ينبغي له إن هو إلا ذِكْرٌ وقُرآنٌ مُبين )) [ يس : 69].
فاللهُ
تعالى لم يُعَلِّم النبي صلى الله عليه وسلم الشِّعرَ ، وما ينبغي له أن يكون
شاعراً . فالقرآنُ ليس شِعراً ، وإنما عظةٌ وتذكير للإنس والجن لكي يخرجوا من
الظلمات إلى النور فيفوزوا بالدارَيْن.
وقال
البيضاوي في تفسيره ( 1/ 440 ) : (( [ وما عَلمْناه الشعرَ ] رد لقولهم إن محمداً شاعر
، أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن ، فإنه لا يماثله لفظاً ولا معنى ، لأنه غير مُقفى
، ولا موزون ، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغِّبة والمنفِّرة ونحوها
. [ وما ينبغي له ] وما يصح له الشعر ولا يتأتى
له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحواً من أربعين سنة )) اهـ .
واختلافُ
القرآن عن الشِّعر واضحٌ للعيان.فلسنا بحاجة إلى عالم باللغة لكي يكتشف الموضوع.
وهذه الحقيقة كانت معروفة لدى الذين يستمعون القرآن .
ففي صحيح
مسلم( 4/ 1919): قال أنيس _وهو أخو أبي ذر الغفاري وكان أحدَ الشعراء_ حينما سمع
القرآنَ : (( لقد سمعتُ قولَ الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعتُ قولَه على أقراء الشعر
_يعني طرقه_ فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شِعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون
)).
فها هو أنيس
الشاعر في رحلة بحثه عن الحقيقة ، وبعد سماعه للقرآن الكريم ، يدرك أنه ليس بكلام
الكهنة ، وليس بالشعر ، ويختلف عن أساليب الشعراء ، وقد شهد بصدق النبي صلى الله
عليه وسلم وأن الذين يرمونه بالكهانة والشعر كاذبون .
وهذا كلامُ
الذي يَطرح التعصبَ جانباً ، ويسعى إلى معرفة الحق والحقيقة بقلبٍ صادقٍ خالٍ من
الأهواء ، والأفكارِ السيئة المسبقة ، والنزواتِ الشخصية ، والمنافعِ الدنيوية
البحتة .
والحق ما
شهدت به الأعداء . فقد روى الحاكم في المستدرك ( 2/ 550 ) وصححه ووافقه الذهبي :
أن الوليد بن المغيرة قال بعد أن سمع القرآنَ : (( فوالله ما فيكم من رَجل أعلم بالأشعار
مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً
من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ،
مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يُعلَى ، وإنه ليحطم ما تحته )) .
وقد سُئلت
السيدة عائشة_ رضي الله عنها _ : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر
؟ ، قالت : (( كان يتمثل بشِعر ابن رواحة ، ويتمثل ويقول : ويأتيكَ بالأخبار مَن لم
تُزَودِ )).
[رواه
الترمذي في سُننه ( 5/ 139 ) برقم ( 2848 ) وصحّحه .].
وقد استدل
الحافظ ابن حجر بهذا الحديث على جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم
بشيء
من الشعر . فقال في فتح الباري ( 10/ 541 ) : (( وقد اخْتُلِف في جواز تمثل النبي
صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر وإنشاده حاكياً عن غيره ، فالصحيح جوازه )) اهـ
.
ولا تعارض
بين الآية النافية لكَوْن النبي صلى الله عليه وسلم
قد تعلم الشعرَ وبين الحديث السابق الذي يوضح أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل
بشيء من الشعر . فالتمثل بالشعر يستند إلى التقاط الشعر من البيئة المحيطة وترداده في حادثة مناسبة ، وهذا الأمرُ يختلف
عن تعلم أوزان الشعر وتأليف القصائد كما يفعل الشعراء .