القرآن ومحاججة المنكرين الجاحدين
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن
الله تعالى قد أقام الْحُجةَ على خلقه بإنزاله الكتب السماوية على رُسُله الكرام _
عليهم الصلاة والسلام _ . والقرآنُ الكريم هو الكتاب الخاتَم الناسخ لما قبله ،
وقد وردت فيه آياتٌ كثيرة في محاججة المنكِرين ، والرد عليهم ، ودحضِ باطلهم ،
وتفنيدِ شبهاتهم . وهذه الآيات تخاطب العقلَ بما يَمكن إدراكه . فاللغةُ القرآنية في
الرد على المخالِفين لغةٌ راقية تُقَدِّم الدلائلَ الواضحات، وليست لغةً فلسفية
محصورة في عالم الأخيلة والافتراضات اللامنطقية ، كما أن المنهج القرآني في دحض
شبهات المخالِفين ليس سِباباً أو صراخاً أو جعجعةً بلا طحن . إنه منهجٌ إلهي
متكاملٌ يملك الْحُجةَ الناصعة ، ومشتملٌ على معرفة النفس البشرية وما يصلحها وما
يفسدها . فاللهُ تعالى مُنْزِلُ القرآن هو خالق الإنسان وأعلم به منه ، ويعلم _
سبحانه وتعالى _ طريقةَ تفكير البشر ، وطبيعةَ شهواتهم وشبهاتهم ووساوسهم .
وقد أورد
القرآنُ شبهاتِ الخصوم وفَنَّدها ، وقَدّم الدلائلَ الباهرة على وحدانية الخالق
تعالى وصدقِ الرسالة ، وكل هذا بلغة قرآنية سامية تعلو ولا يُعلَى عليها .
وقد تحدى
اللهُ تعالى المرتابين في القرآن والشاكين فيه أن يأتوا بسورة من مثله ، لكنهم
عجزوا عن ذلك . وهذا التحدي مستمرٌ حتى يوم القيامة .
قال الله
تعالى : (( وإن كُنتم في رَيْبٍ
مِما نَزلْنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شُهداءكم من دون الله إن كُنتم
صادقين )) [ البقرة : 23] .
وهذا التحدي
للمشركين الطاعنين في القرآن الكريم أن يأتوا بسورة من مثله في حسن النظم ،
والفصاحةِ اللغوية ، والبيانِ الباهر ، ويستعينوا على هذا الأمر بأعوانهم وفصحائهم
وآلهتهم من دون الله تعالى .
وقال الطبري
في تفسيره ( 1/ 200) : (( وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابَيْن
في شك _ وهو الريب _، مما نَزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان
وآيات الفرقان : أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ، ولم تصدِّقوه
فيما يقول ، فأتوا بحُجّة تدفع حُجّته ، لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في
دعواه النبوة : أن يأتيَ ببرهان يعجز عن أن يأتيَ بمثله جميع الخلق ، ومن حُجة محمد
صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وبرهانه على حقيقة نبوته وأن ما جاء به من عندي ، عجز
جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله ، وإذا
عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذرابة _ حدة اللسان _ فقد علمتم
أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز )) اهـ .
قال الله
تعالى : (( ويقول الإنسانُ أإذا
ما مِت لَسَوْفَ أُخرَج حَياً ( 66) أولا يذكر الإنسانُ أنا خلقناه من قبل ولم
يَكُ شيئاً ( 67 ) )) [ سورة مريم ] .
ويُقدِّم
القرآنُ الْحُجةَ الساطعة على حقيقة البعث. فالإنسان الذي يتساءل مستنكِراً ومستبعِداً
أن يُبعَث بعد موته ، جاءته الْحُجةُ الباهرة بأن الذي أوجد الإنسانَ من العَدَم
قادرٌ على إعادته .
(( قال بعض
العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حُجة في البعث على هذا الاختصار لما
قدروا عليها ، إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً )).
[الفخر
الرازي ( 21/ 241 ) نقلاً عن صفوة التفاسير للصابوني ( 8/ 48 ) .].
وفي صحيح
البخاري ( 4/ 1903 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : (( قال اللهُ : كَذبَني ابنُ آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما
تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أولُ الخلق بأهون علي من إعادته ...
)) .
فالبعثُ
ثابتٌ نقلاً وعقلاً . وقد خاطب اللهُ تعالى الناسَ بما يَعقلون، فذكر _ سبحانه _
أن البعث أهون وأيسر من بدء الخلق _ وفق التفكير الإنساني _ . أمّا اللهُ تعالى
فكل شيء عنده هَيِّنٌ
فلا يعجزه شيء ، ولا تتفوق على قدرته _ سبحانه _ أية
قدرة . فالبداءةُ والبعثُ أمران خاضعان
لقضاء الله تعالى ومشيئته . (( وإذا قَضى أَمراً فإنما
يقول له كُن فَيَكون )) .
وقال الله
تعالى : (( وقالوا لولا أُنزِل
عليه مَلَكٌ ولو أَنزلنا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمرُ ثم لا يُنظَرون )) [ الأنعام : 8] .
ويخبر اللهُ
تعالى عن عناد المشركين وجهلهم ، فقد اقترحوا _ بكل جحود _ إنزال مَلَك على النبي
صلى الله عليه وسلم ليكون معه نذيراً ومُسانِداً . وهذا مما يتذرع به المشركون ،
حيث يخترعون الأشياءَ من بنات أفكارهم بسبب عجزهم عن مقارعة الْحُجة بالْحُجة . فينتهجون
هذا الأسلوب العقيم الذي يُنبئ عن جهل وعناد وفكرة مسبقة رافضة للإيمان مهما حصل
من معجزات. لذلك تراهم يبحثون عن أمور غير منطقية ، ويحاولون إلباسها ثوب المنطق
ومقارعة الدليل بالدليل .
لكنَّ الرد
الإلهي لا يتأخر في دحض باطلهم ، فلو أُنزِل مَلَكٌ لما أطاقوا رؤيته لعظمته وهَيْبته
ومنظره العظيم، أو أن العذاب سيأتيهم عاجلاً بلا تأخر ، وعندئذ لا يُمهَلون ، ولا
يُمنَحون فرصةً للتوبة .
وفي زاد
المسير ( 3/ 8) : (( قال مقاتل : نزلت _ أي الآية _ في النضر بن الحارث وعبد الله ابن
أبي أمية ونوفل بن خويلد . ولولا بمعنى هَلا أُنزل عليه ملك نصدِّقه ، ولو أنزلنا مَلكاً
فعاينوه ولم يؤمنوا لقضي الأمر ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها أن المعنى لماتوا ولم يُؤخروا
طرفة عين لتوبة ، قاله ابن عباس . والثاني : لقامت الساعة ، قاله عكرمة ومجاهد . والثالث
: لَعُجِّل لهم العذاب، قاله قتادة )) اهـ .
ويتواصل
الرد على الكافرين . وهذه المرة يدحض القرآنُ باطلَ أهل الكتاب ، ويُفحِمهم فلا
يقدرون على الرد .
قال الله
تعالى : )) وقالت اليهودُ
والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فَلِمَ يُعذبكم بذنوبكم )) [ المائدة : 18] .
وهذا الرد
البليغ على غرور أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين زعموا أنهم أبناء الله
تعالى ، أي إنهم عباده المخلَصون الذين اختارهم وفضّلهم على الخلق ، وأحبابُه
وصفوته من بين الناس . وهذا الزعم الباطل تهاوى أمام الرد القرآني ، فإن كانوا _
كما يزعمون _ فلماذا أعدّ اللهُ لهم نارَ جهنم خالدين فيها جزاء كفرهم وكذبهم ورفضهم
للرسالة المحمدية الإسلامية المصدِّقة لما قبلها من الرسالات السماوية ؟ .
وفي الآية
معنى لطيفٌ أن الله تعالى لا يُلقِي حبيبَه في النار ، فلو كان اليهود والنصارى
أحباباً لله تعالى لما عَذّبهم ، بل حماهم من الجحيم ومنحهم الجنةَ .
وفي الدر
المنثور للسيوطي ( 3/ 44) : { أخرج ابن إسحق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : (( أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ابن أبي ، وبحري ابن عمرو ، وشاس بن عدي ، فكلمهم
وكلموه ، ودعاهم إلى الله ، وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تُخوفنا يا محمد ، نحن والله
أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى )) }، فأنزل الله فيهم : [ وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل
فَلِمَ يُعذبكم بذنوبكم ] .
وعن أنس _
رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( واللهِ لا يُلقِي اللهُ حبيبَه
في النار )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 4/ 195) برقم ( 7347 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
فاللهُ
تعالى إذا أحب عبداً حماه من كل سوء ، ووفقه لفعل الخيرات حتى يقبضه طاهراً مُطَهّراً
، ثم يدخله الجنةَ ، ولا يجعل النارَ تأكل جسدَه .
وقال الله
تعالى في الرد على اليهود أصحابِ الْحُجَج الواهية : (( قُل إن كانت لكم الدارُ الآخِرة عند الله خالصةً من دون
الناس فتمنوُا الموتَ إن كنتم صادقين )) [ البقرة : 94] .
وهذه الآية
فَضحت اليهودَ وكَشفت عن دواخلهم الممتلئة بحب الدنيا وكراهية الموت . فإن كان
جزاءُ اليهود الجنةَ في الآخرة فليتمنوا الموتَ ، وملاقاةَ الله تعالى لكي
يكافئَهم بالنعيم الأبدي ، فيرتاحوا من عناء الدنيا . لكنهم يعلمون أن مصيرهم إلى
العذاب فيهربون من الموت _ حسب نظرتهم القاصرة _، ويتشبثون بالدنيا بأسنانهم
وأظافرهم لعلمهم بما ينتظرهم بعد الموت من العقوبة الشديدة .
وروى أحمد
في مسنده ( 1/ 248 ) عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( ... ولو أن اليهود تمنوا
الموتَ لماتوا ، ورأوا مقاعدهم في النار )) .
وفي تفسير
ابن كثير ( 1/ 178 ) وصححه ، عن عكرمة في قوله تعالى : [ فتمنوُا الموتَ إن كنتم صادقين ] ، قال : قال ابن عباس :
(( لو تَمَنى يهودٌ الموتَ لماتوا )) .
والأسلوبُ
القرآني في المحاجَجة يتضمن الرد على الوثنيين المؤمنين بتعدد الآلهة رداً
مُفحِماً ينتشل العقلَ من مستنقع الوهم ، ويزرعه في نور الهداية .
قال الله
تعالى : (( قُل لو كان معه آلهةٌ
كما يقولون إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش سبيلاً )) [ الإسراء : 42] .
فلو كان
هناك آلهةٌ _ على حد زعم المشركين _ لقامت هذه الآلهة بمنافسة الله تعالى ،
ومحاولةِ انتزاع مُلْكه _ كما يحصل بين ملوك الأرض _ . أو لقامت هذه الآلهة بالسعي
لنيل رضا الله تعالى لأنها دونه . وبما أنها محتاجة ، إذن ، فهي ليست آلهة .
وهذا الرد
الباهر المفحِم الموجَز يخاطب عقولَ الناس بشتى مستوياتهم الفكرية ، فهو متوافق مع
الفطرة السليمة والعقلِ الطبيعي . فلم يُقدِّم القرآنُ رداً فلسفياً مُعقّداً ،
ولم يجيء بأنواع الشتائم للمشركين . وإنما عرض الدليلَ الواضح على وحدانية الله
تعالى وبطلانِ فكرة تعدد الآلهة . وهذا يشير إلى عظمة القرآن ، وقوةِ حُجّته
المضيئة التي لا يمكن مواجهة نورها بأية وسيلة من الوسائل . فالحق يعلو بكل ثبات ،
والباطلُ يذهب أدراج الرياح .
وقال ابن
الجوزي في زاد المسير ( 5/ 38 ) : (( قوله تعالى : [ إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش سبيلاً ] فيه قولان : أحدهما لابتغوا
سبيلاً إلى ممانعته وإزالة مُلكه ، قاله الحسن وسعيد بن جبير .
والثاني : لابتغوا سبيلاً إلى رضاه لأنهم دونه ، قاله قتادة
)) اهـ .
وقال الله
تعالى : (( لو كان فيهما آلهةٌ
إلا اللهُ لَفَسَدَتَا )) [ الأنبياء : 22] .
فلو كان في
السماوات والأرض آلهةٌ غير الله تعالى لفسد نظامُ الكَوْن ، واختل الوجودُ ، وذلك
لما يحدث بينها من تنازع وتضاد ومنافسة . فلا يوجود مَلِكان في دولة واحدة ، ولا
يوجد جسدٌ برأسَيْن.
[قال
الصابوني في صفوة التفاسير ( 9/ 7) : (( قال المفسرون : في الآية دليلٌ على
التمانع الذي أورده الأصوليون ، وذلك أنا لو فرضنا إلهين فأراد أحدهما شيئاً وأراد
الآخرُ نقيضَه ، فإما أن تُنفّذ إرادة كل منهما وذلك محال لاستحالة اجتماع
النقيضَيْن ، وإما أن تُنفّذ إرادة واحد منهما دون الآخر،
فيكون الأولُ الذي تُنفذ إرادته هو الإله ، والثاني عاجزٌ فلا يصلح أن يكون إلهاً
)) .].
وقال البغوي
في تفسيره ( 1/ 314 ) : (( لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل
أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام )) اهـ .