سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/12‏/2013

خرافة حصر فهم الإسلام بالسلف الصالح

خرافة حصر فهم الإسلام بالسلف الصالح

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

.....................

     ينبغي أن ندرك أن القرآن الكريم بوصفه كتاباً مُعجِزاً لا تنقضي عجائبه، وهذا يستلزم أن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه ، مما يقود إلى فهم متجدد واجتهادات مبتكرة ، فكل ذي أهلية للاستنباط عليه أن يستنبط. والقرآن الكريم لم يمنح السلف الصالح حق الاجتهاد والاستنباط ويمنع الخلف من ذلك ، بل إن الاستنباط مفتوح على مصراعيه لكل من امتلك أهلية الاستنباط . قال الله تعالى :  ]وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ والراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [[ آل عمران: 7 ] . والراسخون في العِلم لم يحصرهم القرآن الكريم بالسلف الصالح ، وإنما هو لفظ عموم يفيد كل الراسخين في العلم سواءٌ كانوا في القرن الأول الهجري أو القرن العاشر الهجري مع الاعتقاد بأفضلية السلف الصالح بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن العِصمة فقط لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، أما ما عداه فيؤخذ منه ويُرَد عليه . فَكَوْنُ العالِم من السلف الصالح سواءٌ كان صحابياً أم تابعياً فهذا لا يعطيه حصانة ضد النقد أو عِصمة ضد الخطأ . وهذه الآية اختلف فيها العلماء هل هي موصولة أم مقطوعة ؟ .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 218 ) : (( واختلف العلماء في الراسخين في العِلم، هل يعلمون تأويل المتشابه وتكون الواو في ] والراسخون [ عاطفة أم لا، ويكون الوقف على ] وما يعلم تأويله إلا الله [ ، ثم يبدأ قوله تعالى : ] والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ ؟ وكل واحد من القولين محتمل واختاره طوائف والأصح الأول، وإن الراسخين يعلمونه لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد ، والله أعلم )) اهـ .
     قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/ 85 ): (( الواو للعطف أم الأَوْلى الوقف على ] الله [، قلنا كل واحد محتمل. فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أَوْلى، وإلا فالعطف. إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق )) اهـ .
     وقد تظهر مسألة للخلف لم تظهر للسلف ، وقد تظهر مسألة للسلف لم تظهر للخلف . والْحَكَم هو القرآن والسنة الصحيحة ضمن منهجية رد المتشابه إلى المحكَم ، وتقييد العام بالتخصيص، والتوفيق بين النقل والعقل ضمن منهجية وسطية معتدلة ، فالنقل لا يُفهَم إلا بالعقل ، والعقل لا يكون إلا خاضعاً للنقل . والنقل والعقل يوجدان معاً ويغيبان معاً ، ولا يُقبَل أحدهما دون الآخر . فلو تم حصر فهم القرآن الكريم بالسلف الصالح فهذا يعني أن عجائب القرآن قد انقضت ، وظهرت على أيدي السلف الذين فسّروها ، وصار موقفنا نحن المعاصرين التفرج على منجزات السلف الصالح فقط دون إعمال عقولنا ، وهذا يضاد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي بيّن أن القرآن لا تنقضي عجائبه ، مما يعني تعدد الاستنتاجات والفهوم ، وتجدد الاجتهادات والمعارف الخاضعة لسلطان الكتاب والسنة الصحيحة ، أي إن الأمر غير محصور بفهم السلف الصالح .
     وعن عبد الله بن مسعود_رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا القرآن مأدبة الله ، فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبلُ الله والنور المبين والشفاء النافع ، عِصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فَيُسْتَعْتَبُ، ولا يُعَوّجُ فَيُقَوّم، ولا تنقضي عجائبه)) [(1)].
     شَبّه القرآنَ بصنيع صنعه اللهُ تعالى للناس ، لهم فيه خير وبركة ومنفعة . وعلى المرء أن يُقبِل على كتاب الله ، فهو الحبل الممدود بين الأرض والسماء، والنور الواضح ، والشفاء لكل الأمراض الروحية والمادية . مَن تمسّك به عُصم من الخطأ والضلال ، ومَن تَبعه قاده إلى النجاة في الدارين . والقرآنُ كتابٌ كامل معصوم لا يَزيغ ، ولا يَنحرف . وستظل عجائبه حتى يوم القيامة .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 38 ) : (( فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها ، والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرِّفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه ، والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه ، والعمل بِمُحْكمه والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه )) اهـ .
     وعدم انقضاء عجائب القرآن يعني أن هناك تفاسير جديدة ، وفتوحات ربانية سوف تظهر في كل زمن حول فهم آيات القرآن الكريم ، وما يُصَدِّق هذا الكلام تعدد تفاسير القرآن في كل العصور ، واختلاف مستويات التحليل والفهم للمفسِّرين . وبالقَطْع فهذا لا يعني تحريف الآيات عن سياقها الدِّيني واللغوي من أجل اختراع فهمٍ غير مسبوق .
     وروى البخاري في صحيحه( 1/ 53 ) عن أبي جحيفة قال: قلتُ لعلي: هل عندكم كتاب ؟، قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أُعطيه رَجل مسلم .
     فلم يقل علي _ عليه السلام_: أو فهم أُعطيه رَجل من السلف الصالح، بل قال رَجُل مسلم ، أي قد يكون من السلف أو من الخلف أو من زماننا المعاصر . لذا فالفهم غير محصور في السلف الصالح . والذين يقومون بحصر فهم الإسلام بالسلف الصالح مع اختلافاتهم اللانهائية ، وتباين منهجيات اجتهاداتهم هم يؤسِّسون في أذهانهم الواهمة سلطة كهنوتية تحتكر حق فهم وتأويل النص الديني، وهذا باطل بالضرورة. كما أن أقوال السلف ليست من حجج الشرع ( الكتاب ، السنة ، الإجماع ، القياس ) ، فكيف نبني ديننا على فهوم رجال مختلفين أصحاب مدارس فكرية شتى ونلغي أعظم من فسّر مراد السلف وهم الخلف ( الأشاعرة والماتريدية ) ؟! . إن هذا الدِّين لا يقوم إلا بالسلف والخلف معاً ، ولا يُقبَل أحدهما دون الآخر ، فالذي يُسقِط السلف كلهم هذا مرتد كافر لأنه أسقط طبقة كاملة حاملة للدِّين ، والذي يُسقِط الأشاعرة كلهم فهذا مرتد كافر لأنه أسقط طبقة حاملة للدِّين ، وإذا كان السلف ضالين أو الأشاعرة ضالين فمن الذي حمل إلينا هذا الدِّين ؟. وهذه العقيدة الفاسدة تستلزم أن يكون إسلامنا مشكوكاً فيه لأنه حُمِل على أكتاف رجال خونة ضالين ، والعياذ بالله تعالى . وهذا لا يقول به إلا زنديق ألقى الإسلام وراء ظَهره نابذاً إياه .   
     وعن قيس بن عبادة_رضي الله عنه_ قال: دخلتُ أنا والأشتر على علي بن أبي طالب_ رضي الله عنه _ يوم الجمل ، فقلتُ : هل عَهِدَ إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً دون العامة ؟ ، فقال : لا ، إلا هذا ، وأخرج من قراب سيفه فإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، لايُقْتَل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده [(2)].
     وفي صحيح مسلم ( 2/ 994و995) برقم ( 1370) : [ عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة،_ قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه_ فقد كذب ، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات ، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم :   (( المدينة حَرَم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حَدَثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) ] اهـ .     
     فها هو النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص آل بيته بعِلم دون المسلمين ، ومن باب أَوْلى أنه لم يخص السلف الصالح بشيء دون المسلمين . إذن ، الباب مفتوح للاجتهاد على مصراعيه سلفاً وخلفاً، وغير محصور بالسلف فقط كما يزعم بعض العوام الذين يظنون أنفسهم علماء .
     وقد تظهر للخلف مسألة لم تظهر للسلف الصالح ، فإن امرأة من المسلمين ردّت على عمر بن الخطاب    _ رضي الله عنه _ ، وخطّأته وهو على المنبر ، والصحابة حاضرون. فعن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفنَّ ما زاد رَجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم،قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين نهيتَ الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال : نعم ، فقالت : أما سمعتَ ما أنزل الله في القرآن ، قال : وأي ذلك ؟. فقالت : أما سمعتَ الله يقول : ]وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [[ النِّساء : 20] ، قال : فقال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال : أيها الناس إني كنتُ نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطيَ من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل [(3)].
     فانظر كيف ردّت امرأة من المسلمين على أعظم الصحابة _ رؤوس السلف الصالح _ بعد أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _. وأيضاً يُستفاد من هذه القصة أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه        _ رضي الله عنهم _ لأمر ما ليس من دلائل التحريم . إذ إن التحريم بحاجة إلى نص شرعي واضح في التحريم . والذين يعتبرون ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه _ رضي الله عنهم _ لأمر ما تحريماً له فهذه القصة ترد عليهم وتلجمهم إلجاماً .
     واستناداً إلى هذه القصة فقد تنكشف لي مسألة أنا العبد الفقير لله تعالى الغني به لم تنكشف لصحابي أو تابعي ، وقد تنكشف مسألة لِرَجل من الخلف لم تنكشف لرَجل من السلف الصالح ، أما أن نأخذ أقوال السلف الصالح مصدراً من مصادر التشريع ، وحُجّة لا تقبل المناقشة ، فهذا هو الجنون بعينه .
     والذين يسمون أنفسهم بالسلفيين لا يؤمنون بشرعية المذاهب الأربعة، إذ إنهم يقولون بوجوب الذهاب فوراً إلى الكتاب والسنة قافزين على المذاهب الأربعة. وهذا أمر كارثي يقود الأمة إلى اللادينية، فالأغلبية الساحقة من الأمة هم عوام من ناحية العلوم الدينية لا يملكون أهلية الاستنباط والاجتهاد مباشرة من النصوص الشرعية . وعندما يتم إلغاء المذاهب الأربعة بِحُجّة الذهاب إلى القرآن والسّنة مباشرة ، فإن الأمة سوف يضيع دِينها ، فهي غير قادرة على صياغة نصوص فقهية لحياتها.
     وفي هذا الموضوع يقول الإمام الأسنوي في التمهيد ( ص 527 ) كلاماً هاماً جداً : (( إذا علمتَ ذلك فمن فروع المسألة : عدم جواز تقليد الصحابة _ رضي الله عنهم أجمعين _ كذا ذكره ابن برهان في الأوسط ، قال : لأن مذاهبهم غير مُدوّنة ولا مضبوطة حتى يمكن المقلِّد الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال . وذكرَ إمام الحرمين في البرهان نحوه فقال : أجمع المحقِّقون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة _ رضي الله عنهم _ بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سَبَروا فنظروا ، وبَوّبوا الأبوابَ ، وذكروا أوضاع المسائل ، وجمعوها وهذّبوها وثبّتوها . وذكرَ ابن الصلاح أيضاً ما حاصله أنه يتعين الآن تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم قال : لأنها قد انتشرتْ وعُلم تقييد مُطْلَقها ، وتخصيص عامها ، وبشروط فروعها بخلاف مذهب غيرهم _ رضي الله عنهم أجمعين _ )) اهـ .
     وقد تطاول بعض الجهال على الأشاعرة بِحُجّة أنهم خاضوا في مسائل وتعرّضوا لأشياء لم يقلها السلف الصالح _ رضي الله عنهم _، فنقول إن الأشاعرة قد قاموا بتفصيل الأشياء المجملة التي قالها السلف الصالح ، وهم أفضل من شرح مراد السلف خصوصاً مع انتشار الطوائف الضالة كالمعتزلة والرافضة الذين أثاروا أشياء عديدة مستقاة من الفلسفات الدخيلة وأقحموها في دينهم ، لذا كان لا بد أن يُرَد عليهم بنفس سلاحهم ، من أجل فضح باطلهم أمام الناس ، والتحذير منهم خوفاً من انجرار العوام وراءهم معتمدين على شُبَه خطافة ، فكما هو معلوم فإن المعتزلة يقدِّمون العقل على النّص ، وبالتالي فعلينا محاورتهم عقلياً لكي نرد كيدهم ، وهذا أحد أسباب نشأة علم الكلام [(4)]. وبما أن الإسلام نَقْلٌ وعقلٌ ، فعلينا إثبات حُججنا الشرعية نقلياً وعقلياً لكي نُقدِّم البرهان الساطع المتكامل على صحة هذا الدِّين ، إذ إن الدليل الشرعي الصحيح لا يضاد العقل الصحيح ، والعقل السليم محالٌ أن يتصادم مع نص شرعي صحيح .
     والكفار والملاحدة والماديون الجدليون عندما تقول لهم قال الله تعالى في القرآن الكريم يجيبونك بأنهم لا يؤمنون بكلام الله تعالى. وعندما تقول لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لك إنهم لا يؤمنون بالنّبوة، ومثل هؤلاء عليك أن تحاورهم _لِزاماً_ بعِلم الكلام والمنطق والبراهين العقلية لكي تَقْدر على كشف باطلهم ، والانتصار للحق الذي جاء به الإسلام .
     يقول الإمام الحسن البصري في رسالة أرسلها إلى عبد الملك بن مروان أو الحجاج ( روايتان وردتا في ذلك ) يتحدث فيها عن القضاء والقَدَر : (( ...ولم يكن أحد من السلف يَذكر ذلك ولا يجادل فيه ، لأنهم كانوا على أمر واحد . وإنما أحدثنا الكلامَ فيه لَمّا أحدث الناسُ من النُكرة له . فلما أحدث المحْدِثون في دينهم ما أَحدثوا ، أَحدث اللهُ للمتمسكين بكتابه ما يُبطلون به المحْدَثات ويُحذِّرون به من المهْلِكات )) [(5)].
     يقول الكوثري في مقدمة تحقيقه لكتاب ( تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري لابن عساكر 9_15 ) : كان عِدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ، ثم أخذوا بعدهم في بث ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ، ممن لم يتهذب بالعِلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم. فتلقفوها منهم وردوها لآخرين بسلامة باطن ، معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه ، ومستأنسين بما كانوا عليه من الاعتقاد في جاهليتهم .. فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتَقَد الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة . وقد سمع معبد بن خالد الجهني من يتعلل في المعصية بالقَدَر ، فقام بالرد عليه ، ينفي كَوْنَ القَدَر سالباً للاختيار في أفعال العباد ، وهو يريد الدفاع عن شرعية التكاليف . فضاقت عبارته وقال : (( لا قَدَرَ والأمر أُنُف )) فسُمِّيَ جماعةُ معبد قَدَرية ..وأول مَن عَرَف القول بخلق القرآن الجعد بن درهم الدمشقي ، وكان جهم بن صفوان أخذ ذلك القول عن الجعد وضمّه إلى بدعه التي قام بإذاعتها. ومن جملتها نفي الخلود . ولما قام الحارث بن سريج بخراسان ضد الأموية داعياً إلى الكتاب والسنة اعتضد بجهم . وكان مقاتل بن سليمان ينشر هناك نِحلة في التجسيم ، فأخذ جهم يرد عليه وينفي ما يثبته مقاتل ، فأفرط في النفي حتى قال : (( إن الله لا يوصف بما يوصف به العباد ، ولم يفرِّق بين الاشتراك في الاسم والاشتراك في المعنى )) .. فأمر المهدي علماء الجدل من المتكلِّمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة ، فأقاموا البراهين ، وأزالوا الشُبه ، وأوضحوا الحق ، وخدموا الدِّين . وكان القائمون بأعباء تلك المدافعات طائفة من المعتزلة ، وقد عَلِق بنفوسهم ما لا يُستهان به من أمراض عقلية عَدَتْ إليهم من مناظريهم أورثتهم تلك البدع التي عرفوا بها . اهـ مع الاختصار .
     فلا بد من بناء عِلم الكلام وفق الكتاب والسنة الصحيحة لكي تحصل الفائدة المرجوة من إلجام أصحاب البدع والانحرافات ، فالمشكلة ليست في عِلم الكلام إذا كان مبنياً وفق أسس شرعية ، وإنما المشكلة في أولئك الذين يستخدمونه .
     وينبغي ألا ننسى أن علم الكلام كالدواء يوضع بمقادير محدّدة في أوقات محدّدة ، ولا ينبغي أن يطلع عليه العامة لأن ذلك قد يُخَلْخِل إيمانهم، وإنما يظل بين أوساط العلماء الذين يعرفونه حق المعرفة ، ويستخدمونه لنصرة هذا الدِّين .
     وفي فتنة خلق القرآن الشهيرة أحدث الإمام أحمد بن حنبل كلاماً لم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ، إذ قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهذه العبارة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه _ رضوان الله عليهم _ ، وهذا مشهور ومبسوط في الكتب. وإنما أحدث الإمام أحمد ذلك الكلام الجديد لما فيه من مصلحة ، وبسبب انتشار الفئات الضالة التي أحدثت أموراً دفعت الإمام أحمد إلى إحداث أمور ليرد عليهم ، فهل يجوز لنا أن نصف الإمام أحمد بالبدعة لأنه جاء بشيء لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام ؟! . لا وألف لا . ومَن ضلّل الأشاعرةَ لأنهم خاضوا في أشياء لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح ، فعليه أن يُضلِّل الإمامَ أحمد قبلهم لأنه خاض في أمور مُسْتَحْدَثة ، وهذا باطل بالضرورة .
............الحاشية.......................
[(1)] رواه الحاكم ( 1/ 741 ) برقم ( 2040 ) وصححه . وقال المنذري في الترغيب والترهيب ( 2/ 231) : (( رواه الحاكم من رواية صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عنه ، وقال : تفرد به صالح بن عمر عنه ، وهو صحيح )) اهـ .
[(2)] رواه الحاكم ( 2/ 153) برقم ( 2623 ) وصحّحه، ووافقه الذهبي .
[(3)] رواه ابن كثير في تفسيره ( 1/ 617 ) وقال : (( إسناده جيد قوي )) اهـ .
[(4)] هو العِلم الذي يستخدم الحجج العقلية والبراهين المنطقية لإثبات العقائد الإسلامية، وهو كالدواء لا يُستخدم إلا في حالات خاصة جداً ، منها استخدامه مع أولئك الذين يرفعون العقل فوق درجة النّص الشرعي، أو مع أولئك الذين لا يؤمنون إلا بالعقل غير معترفين بالكتاب والسنة .  

[(5)] المنية والأمل لابن المرتضى 12_ 13 .

29‏/12‏/2013

مسألة البدعة

مسألة البدعة

من كتاب / قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

.....................

     إن البدعة جاءت من الفعل " بدع"_ بَدَعَهُ : أنشأه على غير مثال . والبِدعة : ما اسْتُحْدِث في الدِّين[(1)].
     قال اللهُ تعالى :  ]وَرَهْبَانِيةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَق رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُم فَاسِقُونَ [ [ الحديد: 27] .
     بعضُ الجهال يستدلون بهذه الآية على تحريم البدعة مُطْلقاً ، وهذا الاستدلال فيه نظر ، لأن الأمر ذو منحى عكسي تماماً ، فهذه الآية مَدحت أولئك الذين سَنّوا هذه البدعة .
     قال القرطبي في تفسيره  ( 17/ 223 ): (( ابتدعها هؤلاء الصالحون ، ] فما رعوها [ المتأخرون ] حق رعايتها[ ، ] فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم [، يعني الذين ابتدعوها أولاً ورعوها، ] وكثير منهم فاسقون [ يعني المتأخرين )) اهـ .
     وقال الطبري في تفسيره ( 11/ 689 ) : (( وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بعض الطوائف التي ابتدعتها ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم ، قال: فدل بذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها،فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحق الأجر الذي قال جل ثناؤه : ] فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم [ ، إلا أن الذين لم يرعوها حق رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم )) اهـ .
     وهكذا يتبين أن الله تعالى لم يعب على أولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، بل عاب على الذين لم يتمسكوا بهذه البدعة الحسنة ، ولم يرعوها حق رعايتها . ولو كانت هذه البدعة مذمومة لما آتى اللهُ تعالى الذين آمنوا منهم أجرهم ، كما يتضح من الآية الشريفة . وهذه الآية دليل قاطع على جواز الابتداع بشرط عدم مخالفة هذه البدعة لأصول الدِّين وفروعه ، كما أن هذه الآية دليل واضح كالشمس على وجود بدعة حسنة يؤجر صاحبها إذا قام بها حق القيام .
     وفي صحيح البخاري ( 2/ 707 ) عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجتُ مع عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يُصلي الرجل لنَفْسه ، ويُصلي الرجلُ فيُصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : (( إني  أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل )) ، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يُصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : (( نِعْمَ البِدعة هذه )) .
     نلاحظ أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قد استحدثَ هذا الأمرَ في الدين ، ولم يقم الصحابةُ بالإنكار عليه . كما أنه سمى هذا الأمر بِدعةً ، أي إنه أمرٌ تم إنشاؤه على غير مثال سابق.
     وقال الحافظ في الفتح ( 4/ 253 ) : (( والبدعة أصلها ما أُحْدِث دون مثال سابق ، وتُطلَق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة ، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة )) اهـ .
     وهذا التقسيمُ ضروري جداً في موضوع البِدعة ، لأن يؤسس منهجاً شَرعياً وسطياً قادراً على إزالة كافة الإشكاليات التي قد تنشأ في أذهان البعض حول هذه القضية . ولم يقف العلماءُ عند تقسيم البِدعة إلى حسن وقبيح ، بل ذهبوا إلى تقسيمها وفق الأحكام الخمسة ، فصارت البِدعةُ واجبةً أو مندوبةً أو محرّمةً أو مكروهة أو مباحة .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 6/ 154): (( قال العلماء: البِدعة خمسة أقسام : واجبة ومندوبة ومحرّمة ومكروهة ومباحة )) اهـ .
     وقال الحافظ في مقدمة فتح الباري ( 1/ 85 ) عن البِدعة  : (( هو فعل ما لم يُسبَق إليه ، فما وافق السنةَ فحسن، وما خالف فضلالة، وهو المراد حيث وقع ذم البدعة، وما لم يوافق ولم يخالف فعلى أصل الإباحة )) اهـ .
     وقد قام الصحابةُ باستحداث بِدع حسنة لم تَصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مُطْلقاً ، نذكر منها[(2)]:
     [1] جمع القرآن : فقد روى البخاري في صحيحه ( 4/ 1720 ) : عن زيد بن ثابت الأنصاري _ رضي الله عنه _ ، وكان ممن يَكتب الوحي، قال : أَرسل إلَيّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقُراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن تجمع القرآن ، قال أبو بكر : قلتُ لعمر : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، فقال عمر : هو والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري .
     فجمعُ القرآن بِدعة لم تَصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال أبو بكر الصديق _ رضي الله عنه _ : (( كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ )) ، ورد عليه عمر _ رضي الله عنه _ : (( هو والله خير )) ، في إشارة إلى وجود بدع حسنة وتمتاز بالخير والصلاح والفضل ، تنضوي تحت تعاليم الشرع . وعلينا أن نستنبط الأحكام من النصوص لا أن نقف عند ظاهر النص دون إعمال عقولنا _ كما يفعل بعض المتنطعين دون بصيرة _ .
     [2] مَقام إبراهيم: فقد روى البيهقي عن السيدة عائشة _ رضي الله عنها _ أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر _ رضي الله عنه _ ملتصقاً بالبيت ، ثم أخّره عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ [(3)] .
     قال الحافظ في الفتح ( 8/ 169) : (( وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عُيَيْنَة قال : [ كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوّله عمر، فجاء سيل فذهب به فردّه عمر إليه ، قال سفيان : لا أدري أكان لاصقاً بالبيت أم لا ])) اهـ. ولم ينكر الصحابة  فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعاً ، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى ، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن )) اهـ .
     [3] زيادة الأذان الأول يوم الجمعة : فقد روى البخاري في صحيحه ( 1/ 309 ) عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر ، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ فلمّا كان عثمان _ رضي الله عنه _، وكَثُرَ الناسُ زاد النداء الثالث على الزوراء .
     يُقال له ثالث باعتبار إضافته إلى الأذان الأول والإقامة ، ويقال له أول باعتبار سبقه في الزمان على أذان الجمعة ، ويقال له ثانٍ بإسقاط اعتبار الإقامة .
     [4] زيادة ابن عمر لعبارة"وحده لا شريك له" في التشهد: قال ابن عمر_ رضي الله عنهما_: (( زدت فيها _ أي في الشهادة في الصلاة _ وَحْدَه لا شريك له )) [(4)] .
     وهذا دليلٌ على وجود بِدعة حسنة ، إذ إن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ زاد عِبارة في الصلاة ، لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم مُطْلقاً ، وقد رأى هذا الصحابي الجليل خيراً في ابتداع هذه العبارة ، فقام بزيادتها من عنده لاشتمالها على معانٍ طيبة .
     [5] ابتداع ذِكر غير مأثور في الصلاة : فقد روى البخاري في صحيحه ( 1/ 275 ) : عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : كنا يوما نُصَلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رَفَعَ رأسَه من الركعة قال : (( سمع الله لمن حمده ))، قال رَجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً طيباً مُبارَكاً فيه، فلما انصرف قال:(( مَن المتكلم ؟ ))، قال: أنا، قال : (( رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكَاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)).
     وهذا دليلٌ باهر على جواز إحداث ذِكر في العبادات بشرط عدم مخالفته للشريعة . وقد يَقول أحدُهم : ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّه فصار شَرْعاً . فنقول : القضيةُ هي أن هذا الصحابي اجتهدَ ، وقال ما قال مِن عِنده قبل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم .  
     قال الحافظ في الفتح ( 2/ 287 ) بشكل عام : (( واستدل به على جواز إحداث ذِكر في مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور )) اهـ .
     وروى مسلم في صحيحه ( 4/ 2058 ) أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مَن سَن في الإسلام سُنةً حسنة فَعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر مَن عمل بها ولا يَنقص مِن أجورهم شيء ، ومَن سَنَّ في الإسلام سُنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )).
     وهذا لا يتعارض مع كَوْن الدِّين كاملاً . فالإسلامُ يحتوي على ثوابت ومتغيرات ، وهو نظامٌ شامل يَقْبل كل جديد ما دام متوافقاً مع النصوص الشرعية .
     وكل مَن أتى بسُنة حسنة ( طريقة مرضية متوافقة مع الشريعة ) فهو على خير عظيم ، له أجرها وأجرُ من عمل بها من بعده . وهذا يشير إلى جواز الابتداع في مجال الخير . أمّا مَن أتى بطريقة سيئة مخالفة للشرع ، فقد ابتدعَ بِدعة مذمومة يتحمل إثمَها ، وإثمَ من عمل بها من بعده .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 11/ 166 ): (( ومثله من ابتدع شيئاً من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة )) اهـ .
     وقد تعلق الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين بما رواه مسلم في صحيحه( 2/ 592 ) عن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( وشر الأمور مُحدَثاتها، وكل بدعة ضلالة )).
     فقاموا بتحريم كل أنواع البدع ، ورفض تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة أخذاً بظاهر الحديث دون إعمال عقولهم. واستدلالهم فيه نظر . فالمقصود بالحديث هو البدع المذمومة المتعارضة مع الشريعة .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 104 ): (( المراد به الْمُحْدَثات الباطلة والبدع المذمومة ... إن البدع خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرّمة ومكروهة ومباحة )) اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 253 ) : (( قال الشافعي : البدعة بدعتان محمودة ومذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم ، أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي . وجاء عن الشافعي أيضاً ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال : المحدَثات ضَرْبان ، ما أُحدث يخالف كتاباً أو سُنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه بدعة الضلال، وما أُحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك فهذه محمودة، اهـ.وقسّم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة وهو واضح )) .
     وأضاف الحافظ في الفتح ( 13/ 254 ) : (( فإنه يدل على أن المحدَث يُسمى بدعة ، وقوله : كل بدعة ضلالة ، قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها ، أما منطوقها بالحق يقال : حُكم كذا بدعة وكل بدعةٍ ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى ...، والمراد بقوله : كل بدعة ضلالة ، ما أُحدِث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام )) اهـ .
     حتى إن ابن تيمية ( الإمام المعصوم للذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ! ) يؤمن بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ، حيث يقول في مجموع الفتاوى ( 1/ 162 ): (( كل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين ، ومن قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي أنها مستحبة ، فأمّا ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين أنها من الحسنات التي يُتقرّب بها إلى الله )) اهـ .
     وهناك حديث يتمسك به الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ليدعموا رأيهم الشاذ الرافض لتقسيم البدعة . فعن السيدة عائشة _ عليها السلام _ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن أَحدثَ في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رَد )) [(5)] .
     انظر إلى عبارة " ما ليس فيه " . فلو قام بشخص بإحداث شيء من الدِّين وليس خارجاً عن الدِّين ، فهذا مأجور لا محالة على فعلته تلك . فالحديث يرد الأشياء المحدَثة التي ليست من الدِّين ، كما يوضح السياق اللغوي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم .
     وهكذا ينهار بنيان الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين بالأدلة القاطعة . وإذا استمر هؤلاء في المعاندة ورفض الأدلة الشرعية الواضحة ، فعليهم أن يجيبونا عن هذه البدع التي وضعوها هُم بأنفسهم،[راجع مطوية "هل نحتفل ؟" الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دبي ] :
     [ أ] جمع الناس على إمام واحد لأداء صلاة التهجد بعد صلاة التراويح في الحرمين الشريفين وغيرهما من المساجد .
     [ب] قراءة دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح ، وكذلك في صلاة التهجد .
     [ج] تخصيص ليلة (27) لختم القرآن في الحرمين .
     [د] قول المنادي بعد صلاة التراويح : (( صلاة القيام أثابكم الله )) .
.................الحاشية ..............................
[(1)] انظر المعجم الوجيز ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ص 40 .
[(2)] هذه النقاط الثلاث الأولى مذكورة بدون تفاصيل في مطوية صادرة عن دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دبي ، وقد قمتُ بتأصيلها وتفصيلها وتخريج أحاديثها وتدقيقها وشرحها . 
[(3)] ذكره ابن كثير في تفسيره ( 1/ 172 ) ، وقال : (( هذا إسناد صحيح )) اهـ .
[(4)] رواه أبو داود في سُننه( 1/ 319 )برقم ( 971 )، والدارقطني في سُننه ( 1/ 351 ) برقم (6)، وقال : (( هذا إسناد صحيح )) اهـ ، والبيهقي في سُننه ( 2/ 139 ) برقم ( 2646 ) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار  ( 1/ 263 ) ، وصححه الشوكاني في نيل الأوطار ( 2/ 312 ) .

[(5)] متفق عليه . البخاري ( 2/ 959 ) برقم ( 2550) ، ومسلم ( 3/ 1343 ) برقم ( 1718).

27‏/12‏/2013

نقد كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب

نقد كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب

من كتاب / قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

........................

     هذا الكتاب [1] يُعتبَر من عُمدة الكتب عند الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ، وهو من تأليف شيخهم محمد بن عبد الوهاب ، وقد قام الكثيرون بشرحه ، وهذا الكتاب فيه الحق وفيه الباطل ، والباطل ليس نابعاً من النصوص الشرعية ، والعياذ بالله تعالى ، بل هو نابع من سوء الفهم والاستنتاج والاجتهاد المغلوط المفتقِد إلى المنهجية العلمية الإسلامية ، وهذا غير مستغرَب على محمد بن عبد الوهاب الذي كان ناقلاً لا أكثر لأفكار ابن تيمية وابن القيم ، فهو ناسخ فقط لا إمامٌ ولا عالِم ، ولم يُؤَصِّل علماً ذاتياً مبنياً على منهجية علمية مُحْكَمة مثلما فعل الأئمة الأعلام المجتهدون طوال العصور . ولستُ معنياً بنقد شخصي لمحمد بن عبد الوهاب بقدر ما أنا معنيٌّ بنقد بعض الأفكار المنحرِفة . كما أنني سأُرَكِّز على بعض المسائل بشكل خاص . وهذه  المسائل التي تعرضتُ لها تكشف عن الجذور الفكرية للسلفية التّيمية النجدية بشكل عام وحاسم ، وتكشف عن المستوى الفكري لمحمد بن عبد الوهاب خاصةً ، علماً بأن الكتاب فيه كثير من الأخطاء ربما أنقدها كاملةً في المستقبل مع تخريج تفصيلي للأحاديث وتمييزها_ إن شاء الله_ .
     وإليك بعض الانتقادات العلمية الإجمالية الموجّهة للفكر السلفي التّيمي النّجدي الذي رسّخه الشيخ    محمد بن عبد الوهاب :
     أولاً : مسألة التبرك بالشجر أو الحجر ونحوهما ، فالسلفية التيمية النجدية تعتبر كل من تبرّك بهذه الأشياء مُشْرِكاً خالداً في نار جهنم ، وهذا الكلام غير صحيح وفيه تفصيل واسع :
     [ أ ] جواز التّبرّك بما مس جسد النبي صلى الله عليه وسلم من وضوء وعَرَق أو شَعْر : وهذا معروف عند الصحابة_ رضوان الله عليهم _ ولا خلاف فيه البتة. فعن أبي موسى _ رضي الله عنه _ أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : ألا تنجز لي ما وعدتني ، فقال له : (( أَبْشِرْ ))، فقال: قد أكثرتَ عليّ من أبشر ، فأقبلَ على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال : (( رَدّ البُشرى فاقبلا أنتما )) ، قالا : قبلنا ، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومَجّ فيه، ثم قال: (( اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا))، فأخذا القدح ففعلا ، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما ، فأفضلا لها منه طائفة [2].
     نلاحظُ غِلظةَ الأعراب ( سكان البادية ) ، وسوء أخلاقهم ، وقسوة طباعهم . فَهُم متأثرون بالبيئة الصحراوية القاسية. فهذا الأعرابي قد رَدّ البُشرى النبوية ولم يَقبل بها . وهذا يدل على جهله، وسوء خُلقه، وابتعاده عن قواعد الأدب واللياقة. وهذا غير مستغرَب ، فمَن بدا فقد جفا . فالذي يَلْزم الباديةَ لا بد أن يُصاب بالفظاظة وغِلظةِ الطبع . أمّا أبو موسى وبلال _ رضي الله عنهما _ فقد قَبِلا البُشرى لعِلْمهما بأهمية هذه الفرصة التي لا تتكرر دائماً ، وقاما بالتبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذه القضيةُ انتبهت إليها أُم سلمة _ رضي الله عنها _ ، فَطَلبت منهما إبقاء كمية من الماء للتبرك به ، فهو يَحمل آثار الرسول صلى الله عليه وسلم .  
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم(15/82) وقد أفرد باباً خاصاً عن التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره الشريفة : (( باب قُربه صلى الله عليه وسلم من الناس وتبرّكهم به وتواضعه لهم . قوله : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها ، وفي الرواية الأخرى رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يَحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شَعرة إلا في يد رَجل )) اهـ .
     إن النبي صلى الله عليه وسلم قريبٌ من الناس، فهو السّيدُ المتواضع ، لا يتكبر عليهم ، ولا يُعرِض عنهم . وهذا القُرب جعل الناس حريصين على التبرك بآثاره ، والتمسك بها .
     وفي صحيح البخاري ( 2/ 976 ): إن عروة جعل يرمق أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال :  (( فوالله ما تنخم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وَقعت في كَف رَجل منهم، فدلك بها وجهه وجِلْده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له )) .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 75 ) عن ابن سيرين قال : قلتُ لعبيدة : عندنا من شَعْر النبي صلى الله عليه وسلم ، أصبناه من قِبَل أنس أو مِن قِبَل أهل أنس ، فقال : لأن تكون عندي شَعرة منه أحب إليّ من الدنيا وما فيها .
     إذن ، التبرك بما مَسّ جسد النبي صلى الله عليه وسلم من وضوء أو عَرَق أو نحو ذلك جائز بلا خلاف ، فقد تكاثرت الأدلة الصحيحة وتلاحقت على ثبوت ذلك ، ولا أعلم في ذلك خِلافاً مُطْلقاً . والقصد من التبرك هو نيل البركة والطهارة والشرف بعد ملامسة الأشياء التي مسّت جسد أشرف مخلوقات الله تعالى على الإطلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد بأن هذه الأشياء لا تنفع ولا تضر استقلالاً ، وإنما تنفع وتضر بشكل خاطع كلياً لمشيئة الله تعالى .
     [ب] جواز التبرك بالْحَجَر الأسود، وتقبيله ، واستلام الركن اليماني: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى الْحَجر الأسود فَقَبّله فقال : إني أعلم أنك حَجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُقَبّلك ما قَبّلْتك [3] .
     إن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ أرادَ إعطاءَ درس لمن يراه ويَسمعه بأن الْحَجَر لا يضر ولا يَنفع ، لأن الناس كانوا قريبين من عهد عبادة الأصنام . ولو لم يَفعل ذلك لظنّ الجهالُ أن الحجر يَضر ويَنفع مثلما كانوا يعتقدون في الأصنام . فأغلقَ عمر هذا البابَ ، وقام بسد الذريعة .
     قال الحافظ في الفتح ( 3/ 462و463 ) : (( قال الطبري : إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية ، فأراد عمر أن يُعلِّم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان ))اهـ.
     قلتُ : أما الحجر فهو ينفع ويضر بإذن الله تعالى. فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يَشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق )) [4] .
     وقال الحافظ في الفتح ( 3/ 475 ) : (( في البيت أربعة أركان : الأول له فضيلتان كَوْن الحجر الأسود فيه ، وكَوْنه على قواعد إبراهيم ، وللثاني الثانية فقط وليس للآخرين شيء منهما ، فلذلك يُقبّل الأول ويستلم الثاني فقط ، ولا يُقبّل الآخران ولا يستلمان هذا على رأي الجمهور . واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضاً . فائدة أخرى : استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب،وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأساً، واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك ، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين )) اهـ .
     قلتُ : والمقصود من كلام عمر _ رضي الله عنه _ أن الحجر ليس له نفع أو ضر بشكل استقلالي خارج عن إرادة الله تعالى . والتبرك بالحجر الأسود يأتي من باب نيل الشرف والرفعة والبركة، وليس من باب أن الحجر يضر وينفع استقلالاً كما كان يعتقد أهل الجاهلية في أحجارهم. 
     ونخلص إلى قاعدة جليلة عامة وليست مخصّصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أن تقبيل الأشياء المبارَكة والتمسح بها والتبرك بها مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفاعل والمؤثِّر الحقيقي أمر طيب رائع لا إشكال فيه البتة ، فليست مسألة شِرْكية ولا تقود إلى الشِّرك . فليس لقائل أن يقول بمنعها سداً للذريعة ، فهذا الأمر غير مقبول نهائياً ، فنحن لا نستطيع أن نمنع زراعة العنب خوفاً من تحويله إلى خمر . إنها حُجّة العاجز ولا حُجّة أصلاً .
     وبما أننا نُقَبِّل الحجر الأسود اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا شِركاً ، فكيف يكون التبرك بحجر آخر أو التمسح بأشياء طيبة شِركاً مع اعتقاد أن الفاعل والمؤثِّر هو الله تعالى وحده ؟ . وقد أخطأ الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين في هذه المسألة خطأً واضحاً وجانبهم الصواب ، بل ودخلوا في الضلال بعد أن رموا من يفعل ذلك بالشِّرك والخروج من الإسلام ، وما هو إلا أمر مباح لا شيء فيه .  
     [ج] ومن المعلوم تبرّك ابن عمر _رضي الله عنهما_ بالأماكن التي تواجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وشدة اتباعه لآثاره الشريفة صلى الله عليه وسلم . قال الحافظ في الفتح ( 1/ 569 ): (( إن ابن عمر كان  يتبرك  بتلك الأماكن ، وتشدده في الاتباع مشهور ، ولا يعارض ذلك ما ثبت عن أبيه أنه رأى الناس في سَفَر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا قد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مَن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض ، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً لأن ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة أو خشي أن يَشْكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجباً ، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر ، وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصَلِّيَ في بيته ليتخذه مُصَلى وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فهو حُجّة في التبرك بآثار الصالحين)) اهـ .
     قلتُ: كما أن اجتهاد ابن عمر لا ينقضه اجتهاد والده،فقول المجتهِد لا ينقض قولَ مجتهِد آخر.
     وحديث  عتبان  حُجّةٌ في التبرك بآثار الصالحين ، وهو متفق عليه . البخاري ( 1/ 164) ومسلم ( 1/ 455 ) : أن عتبان بن مالك ، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً من الأنصار أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قد أنكرتُ بصري وأنا أُصلي لقومي ، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ، ووددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سأفعل إن شاء الله ))، قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: (( أين تحب أن أُصليَ من بيتك )) ، قال : فأشرتُ له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبّر ، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلّم )) .
     ولا ينبغي التعلق بالشبهات دون معرفة العِلة الحقيقية التي تقف وراء الأحداث والأقوال ، والحكمة المرجوة من وراء الفعل ، فاحذر أن تتعلق بالظاهر دون فهم كافة التفاصيل والأحداث وملابسات الأمور ، وللأسف فإن الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين تعلّقوا بالظاهر دون الغوص في الحُكم والأحداث المرافقة لمجريات الأمور ، وهذا أوقعهم في تناقضات شديدة ، وأخطاء كارثية سوف يأتي ذكرها تفصيلاً _ إن شاء الله تعالى _ . 
     وبقيت شبهتان استحوذت على تفكير الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ، فلم يعودوا قادرين على النظر وراء الأمور ، وسوف نُفَنِّد هاتين الشبهتين بشكل علمي مدروس وفق منهجية البحث العلمي النابع من الكتاب والسنة الصحيحة :
     [ أ] عن أبي واقد الليثي قال _ وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم _ : لَمّا افتتح رسولُ الله مكة خَرج بنا معه قِبَل هوازن حتى مررنا على سدرة الكفار ، سدرة يعكفون حولها ويدعونها ذات أنواط ، قلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (( الله أكبر، إنها السنن ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ) اجْعَل لنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( [ الأعراف: 138] ))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنكم لَتَرْكَبُن سَنَنَ مَن قَبْلكم )) [5] .
     قال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر ( 5/269) : (( اجعل لنا ذات أنواط ، وهي اسم شجرة بعينها ، كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم ، أي يُعلِّقونه بها ، ويعكفون حولها ، فسألوه أن يجعل لهم مثلها ، فنهاهم عن ذلك . وأنواط جمع نُوط ، وهي مصدر سُمي به المنوط)) اهـ .
     قلتُ : تعلّق الذين يُسمون بالسلفيين بهذا الحديث فمنعوا التبرك بالْحَجر والشجر ونحوهما . وهذا الاستدلال فيه نظر ، فالحديث السابق يتحدث عن الكفار الذين اتخذوا الأشجار والأحجار جزءاً مقسوماً من آلهتهم ، ونوعاً من العبادة لغير الله تعالى . ومن الواضح أن الحديث الشريف يتحدث عن الكفار ، فلا يجوز تطبيقه على المسلمين الموحِّدين الذين إن تبرّكوا بالشجر أو الحجر الذي فيه خاصية دينية عامة أو خاصة فهم لا يعبدون هذه الأشياء من دون الله تعالى كما هو واضح ، بل إنهم يقصدون نيل البركة والشرف . فمن تمسّح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو بقبر أحد الصحابة  _ رضوان الله عليهم _ أو بقبر رَجل صالح ، أو قبّله ، أو مسّه مُتَبَرِّكاً فلا شيء عليه البتة ، ومن قال بالكراهة حمل الأمر على قلة الأدب ، إذ إن عِلة الكراهة نفي الأدب ، أما من كان مُؤَدّباً وذا يقين بالله تعالى النافع الضار وَحْدَه ، فلا يُكْرَه ذلك . وهذا القول الذي أدين الله تعالى به طبقاً لما مر معنا من أدلة شرعية .
     [ب] وهناك شُبهة تعلّق بها الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين، وهي قضية شجرة بيعة الرضوان. وفي هذه القصة كلام طويل ، نوجزه على النحو التالي :
     قال الحافظ في الفتح ( 7/ 448 ): (( وجدتُ عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فَيُصَلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقُطعت )) اهـ .
     قلتُ : هذا سند صحيح حتى نافع ، لكنه منقطع بين نافع وعمر ، فنافع لم يلقَ عمر ، ولم يرو عنه . قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 10/ 369 ) : (( وقال أحمد بن حنبل : نافع عن عمر منقطع )) اهـ . وفي عمدة القاري ( 17/ 54 ) : (( وقال الكرماني : أما نافع عن عمر فهو مرسل، لأن نافعاً لم يدرك عمر )) اهـ . وقال الترمذي في سُننه ( 1/ 392 ) : (( ... نافع عن عمر منقطع )) اهـ .
     ثانياً: قال الشيخ إن الاستعاذة بغير الله تعالى من الشِّرك، وهذا الكلام فيه تفصيل ولا يؤخذ على إطلاقه . فالاستعاذة لغةً : هي الالتجاء والاحتماء وطلب الحفظ من الشرور والأشرار . فالمسلم يستعيذ بالله تعالى ، هذا لا خلاف فيه . ولكن يجوز له أن يستعيذ بغير الله تعالى في الأمور التي في متناول المخلوق . فمثلاً لو أن شخصاً هارباً من اللصوص ودخل مركزاً للشرطة ، وقال للضابط : أعوذ بك من هؤلاء اللصوص ، أي أحتمي وألتجئ إليك من أجل حمايتي من هؤلاء ، ففي هذه الحالة لا شيء عليه مُطْلقاً ، وقِسْ عليها باقي الحالات. ولو قال شخص : أعوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يَرُدّني خائباً ، فلا شيء عليه البتة ، لأن معنى هذا الكلام : أحتمي وألتجئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضني ، وهذا الكلام صحيحٌ شرعاً ولغةً .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2208 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يعوذ عائذ بالبيت )) .
     ولو كانت الاستعاذة بغير الله تعالى شِرْكاً لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العائذ ، لكن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم تشريع وموافقة على الفعل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الباطل . 
     ثالثاً : زعم الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن الاستغاثة بغير الله تعالى شِرْك ، وقد وضّحنا بطلان هذا القول باستفاضة تفصيلية بالأدلة الشرعية في موضوع " التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين " الذي سبق عرضه .
     رابعاً : رفض تسويد النبي صلى الله عليه وسلم ( أي منع إطلاق لفظة سَيّدنا على النبي صلى الله عليه وسلم ) . وهذه نقطة كارثية تُعتبَر من أساسات بدعة السلفية التيمية النجدية ، وهي تنطوي على عدم توقير النبي صلى الله عليه وسلم . واعلم أخي المسلم أن الذي يَحجب السيادةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول إنه ليس سَيّداً ، أو ليس سَيّدنا فهذا مرتد عن الإسلام يُستتاب ، فإن تاب تاب وإلا قُتِل حَدّاً . ففي هذا عدم احترام للنبي صلى الله عليه وسلم. واللهُ تعالى يقول عن النبي يحيى صلى الله عليه وسلم : ) وَسَيداً وَحَصُوراً وَنَبِياً منَ الصالِحِينَ ([ آل عمران: 39]. فالله تعالى أثبت السيادة للنبي يحيى صلى الله عليه وسلم . وبإجماع المسلمين من كل الطوائف أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمخلوقات ، فيكون أولى بالسيادة ، كما أن السيادة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم في النصوص الشرعية المتضافرة .
     والله تعالى يقول: ) فَالذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتبَعُوا النورَ الذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( [ الأعراف : 157] .
     ومعنى ) عَزرُوهُ ( : وقّروه وعظّموه وحموه من الناس . انظر تفسير الطبري ( 6/ 82 ) .
     وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سَيد الناس يوم القيامة )) [6].
     والنبي صلى الله عليه وسلم هو سَيّدُ الناس في الدنيا والآخرة . وإنما خُصّ يوم القيامة بسبب شدّته وصعوبته ، والسّيدُ الحقيقي يَظهر في الشدائد . وكَوْن النبي صلى الله عليه وسلم سَيّداً للناس يوم القيامة يدل على مجده العالي ، ومكانته السامية ، وقَدْره العظيم عند الله تعالى .
     والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا الكلام بدافع الغرور، أو الاستعلاء بالباطل ، أو اختراع ألقاب وهمية ، وإنما يقوله لبيان نعمة الله عليه ، وإظهاراً لتعاليم الشريعة ، وإبرازاً لأهميته التي أمره اللهُ تعالى بتوضيحها للناس .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 66 ) : (( إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم تحدّثاً بنعمة الله تعالى ، وقد أمره الله تعالى بهذا ، ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صلى الله عليه وسلم . قال القاضي عياض : قيل السّيد الذي يفوق قومه والذي يفزع إليه في الشدائد ، والنبي صلى الله عليه وسلم سَيّدهم في الدنيا والآخرة ، وإنما خُصّ يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها وتسليم جميعهم له )) اهـ .
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1341 ) أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قال مخاطباً أبا بكر الصديق _ رضي الله عنه _ : (( فأنتَ سَيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1371 ) أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ كان يقول : (( أبو بكر سَيدنا، وأعتق سَيدنا( يعني بلالاً ) )) .
     وقال سهل بن حنيف _ رضي الله عنه _ للنبي صلى الله عليه وسلم : (( يا سَيدي ، والرقى صالحة ؟ )) [7] .
     وفي صحيح البخاري ( 2/ 962 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن _ رضي الله عنه _ : (( إن ابني هذا سَيد )) .
     وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للأنصار:(( قوموا إلى سَيدكم )) [8].يعني:سعد بن معاذ_رضي الله عنه_.
     ولنرد الآن على الشبهات التي تعلّق بها أتباع بدعة السلفية التيمية النّجدية :
     [ أ] روى البخاري في صحيحه( 3/ 1271 ) عن عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله )) .
     استدلوا بهذا الحديث على تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من السيادة ، لأنه إطراء مذموم من وجهة نظرهم القاصرة، وهذا استدلال لا نصيب له من الصحة ، لأن الإطراء المقصود في الحديث الشريف مُقَيّد بإطراء النصارى للمسيح صلى الله عليه وسلم ، ومعروف أن إطراء النصارى هو تأليه المسيح صلى الله عليه وسلم واتخاذه إلهاً وابناً لله تعالى . أمّا المسلمون فيمدحون النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وباقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما فيهم، وليس فيهم إلا الحق والخير والشرف والسيادة بوصفهم عباداً لله تعالى وأنبياء طاهرين . والقياسُ مع الفارق باطل ، فلا ينبغي بناء استدلال خاطئ على سوء فهم للحديث الشريف .
     قال الحافظ في الفتح ( 6/ 490 ): (( قوله : لا تطروني، بضم أوله، والإطراء المدح بالباطل، تقول : أطريت فلاناً مدحته فأفرطت في مدحه. قوله:كما أطرت النصارى ابن مريم أي في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك )) اهـ .
     واستناداً إلى هذا المعنى قال البوصيري في البردة :
 دَعْ ما ادّعته النصارى في نَبِيّهــم            واحكم  بما شئت مدحاً فيه واحتكمِ
وانسُب إلى ذاته ما شئتَ من شَرَفٍ             وانسُبْ إلى قَدْره ما شئتَ من عِظَمِ
     [ب] عن مطرف قال : قال أبي : انطلقتُ في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أنتَ سَيدنا، فقال : (( السيد الله تبارك وتعالى ))، قلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طَوْلاً، فقال : (( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان )) [9] .
     وهذا الحديثُ الشريف يعكس مدى تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ينفي عنه السيادة أو الأفضلية على الإطلاق سواءٌ قُلتَها في وجهه أو في غيابه لِمَا تقدّم من الأدلة الشرعية السابقة ، فلا دليل البتة لمن نفى السيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل خاب وخسر من تجرّأ على ذلك .
     قال المقدسي في الفروع ( 3/ 415 ) : (( قال ابن الأثير : في قوله : السّيد الله ، أي الذي تحق له السيادة كأنه كره أن يُحمَد في وجهه ، وأحب التواضع )) اهـ .     
     خامساً: نشر عقائد التجسيم استناداً إلى أحاديث آحاد ، مع العلم أن خبر الواحد أو حديث الآحاد مقبول غير مردود ، يفيد العمل في جميع الأبواب الفقهية وفي فروع الاعتقاد إلا إذا عارض نَصاً قطعي الورود  ( آية قرآنية أو حديث متواتر ) وقطعي الدلالة ، وفي هذه الحالة يُضْرَب به عرض الحائط. ودلالة حديث الآحاد ظنية وليست قطعية ، وبذلك يفارق القرآن والحديث المتواتر والإجماع . وإليك شبهاتهم التي بنوها على آحاديث الآحاد ، وتفنيدها :
     _ قال عبد الله: إن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، إن الله يمسك السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملِك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قرأ : (( ] وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَق قَدْرِهِ [ )) [ الزمر: 67] [10].
     قال أبو سليمان الخطابي  :  (( وذكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السّنة التي شرطها في الثبوت ما وصفنا ، فليس معنى اليد في الصفات معنى اليد حتى يتوهم بثبوتها الأصابع ، بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه )) [11].
     _ روى مسلم في صحيحه ( 4/ 2148) عن عبد الله بن عمر _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يَطوي اللهُ _ عَز وَجَل _ السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملِك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ، ثم يطوي الأرضين بشماله ، ثم يقول : أنا الملِك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ )).   
     وهذا الحديث رواه البخاري( 4/ 1812 ) دون ذكر لفظة "بشماله "، فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( يقبض اللهُ الأرضَ ويطوي السماوات بيمينه ، ثم يقول : أنا الملِك ، أين ملوك الأرض ؟ )) .
     ويؤيد هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه( 3/ 1458)عن زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم _ عن الله تعالى_ : (( وكِلْتا يَدَيْه يمين )) .
     وهذا يوهن ذكر الشمال ، ويظهر لنا أن لفظة " الشمال " من تصرف الرواة لا أكثر .
     قال ابن الجوزي في دفع شُبه التشبيه ( ص 210 ) : (( فأما لفظ " الشمال" فهي في رواية مسلم ، وهي مما انفرد به عن عمر بن حمزة عن سالم عن ابن عمر ، وقد روى الحديث نافع وغيره عن ابن عمر فلم يذكروا لفظة الشمال، ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر أحد منهم في الشمال ، وقد رُوِيَ ذِكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعيف بالمرة ، ورواه بعض المتروكين )) اهـ . 
     قلتُ :  والعقيدة السليمة في هذا الموضوع التسليم بالآية القرآنية  :  ] وَالسمَاوَاتُ مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ [   [ الزمر: 67] ، واعتماد الأحاديث الخاضعة لهذه الآية القرآنية الشريفة .
     _ عن العباس بن عبد المطلب _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تدرون كَم بين السماء والأرض ؟ )) ، فقلنا : الله ورسوله أعلم ، فقال : (( بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، وبين كل سماء إلى السماء التي تليها مسيرة خمس مائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمس مائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهم وأظلافهم كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء )) [12].
     قلتُ : وهذا الحديث الواهي سنداً ومتناً من أساسات التجسيم عند أتباع بدعة السلفية التيمية النجدية ، وفيه كوارث سيأتي تفصيل تفنيدها . وبالطبع فهو لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلج الجمل في سَم الخياط ، وعلى فرض أن سند هذا الحديث صحيح فإنه مرفوض لأن متنه شاذ . وهناك أحاديث كثيرة صحيحة سنداً شاذة متناً ، وهذا النوع من الأحاديث لا يستطيع أن يكتشفه إلا الذي رَسَخت قَدَمُه في هذا العِلم ، وتعمّق في العلوم الشرعية كلها .
     وللحديث الصحيح خمسة شروط : 1) اتصال السند 2) عدالة الراوي 3) ضبطه 4) عدم الشذوذ 5) عدم العلة القادحة .
     مع الانتباه إلى أن الشرطَيْن الأخيرَيْن لا يدركهما إلا العلماء الذين جمعوا بين الفقه والحديث مستندين إلى عقيدة راسخة من الكتاب والسنة المتواترة ، أما غيرهم فلن يتمكنوا من اكتشاف الشذوذ والعلة القادحة .
     ذَكَرَ الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية( 1/ 141) أن الإمام الشافعي قال: (( ليس الشاذ من الحديث أن يرويَ الثقة حديثاً لم يروه غيره ، إنما الشاذ من الحديث أن يرويَ الثقات حديثاً فيشذ عنهم واحد فيخالفهم )) اهـ .
     قلتُ : فما بالك إذا خالف الحديثُ القرآنَ أو حديثاً متواتراً ؟! . ففي هذه الحالة لا بد أن يُضْرَب به عَرْض الحائط ، لأن القرآن والسنة المتواترة لهما صفة قَطْعي الورود .
     وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث ( 1/ 119 ) : (( فإن المعلول ما يوقف على عِلته أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راوٍ ، أو أرسله واحد فوصله واهم )) اهـ .
     وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 457 ) مُوَضِّحاً قبول الحديث الصحيح سنداً ، إلا إذا تبيّن لنا العلة القادحة : (( إلى أن تتبين العِلة القادحة بأن تكون مفسرة ولا تقبل التأويل )) اهـ .
     وقال ابن الجوزي في دفع شُبه التشبيه ( ص 143 ) : (( اعلم أن للأحاديث دقائق وآفات لا يعرفهما إلا العلماء الفقهاء ، تارة في نظمها ، وتارة في كشف معناها )) اهـ .
     ولنرجع إلى خرافة الأوعال لتفنيد هذا الحديث الواهي سنداً ومتناً ، فنقول :
     [ أ] يحيى بن العلاء ، وهو أحد الرواة في السند الذي عند الحاكم وأحمد وأبي يعلى . قال الحاكم في المستدرك ( 2/ 316 ) : (( يحيى واهٍ ). قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 9/ 179 ) : قال يحيى بن معين: ليس بشيء . قال عمرو بن علي : متروك الحديث جداً .  اهـ . قال البخاري في التاريخ الكبير (8/ 297 ): (( كان وكيع يتكلم فيه )) اهـ. وقال ابن عدي في الكامل ( 7/ 198): قال النسائي : متروك الحديث . اهـ. قال المزي في تهذيب الكمال ( 31/ 487 ): (( وقال أبو حاتم : سمعتُ أبا سلمة ضعّف يحيى بن العلاء )) اهـ . وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 595 ): (( رُمِيَ بالوضع )) اهـ. وقال الذهبي في الكاشف ( 2/ 372 ): (( تركوه )).
     [ب] أما في السند الذي عند أبي داود والترمذي وابن ماجة ففيه " عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس " . قال البخاري في التاريخ الكبير ( 5/ 159) عن عبد الله بن عميرة : (( ولا نعلم له سماعاً من الأحنف )) اهـ . وقال ابن عدي في الكامل ( 4/ 232 ) : (( لا يُعلَم له سماع من الأحنف )) اهـ .
     أمَّا متن الحديث شاذ، وفيه كوارث لا يعلمها إلا الله تعالى والراسخون في العِلم،وإليكَ الأدلة:
     [ أ ] القرآن الكريم يفيد أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية لا اليوم . قال الله تعالى : ] وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [ [ الحاقة : 17] .
     [ب] القرآن الكريم نعى على الكفار تسمية الملائكة إناثاً ، فقال الله تعالى : ]أَفَأَصْفَاكُمْ رَبكُم بِالْبَنِينَ وَاتخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً [ [ الإسراء : 40] ، والحديث يفيد أنهم أوعال ، والإناث أشرف من الأوعال .
     [ج] الوعل هو التيس الجبلي. قال المرداوي في الإنصاف( 3/ 536 ) : (( وهو التيس الجبلي، قاله الجوهري وغيره )) اهـ. والوصف به يدل على الذم، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّل تيساً مستعاراً.
     ووصفَ الذين يتخلفون في نساء المجاهدين بالفاحشة بأنهم ينبّون نبيب التيس . فقد روى مسلم في صحيحه ( 3/ 1319 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس )).
     وبالتالي فإن الوصف بالوعل ( التيس الجبلي ) يدل على الذم الأكيد ، وهذا محال في حق السادة الملائكة _ عليهم السلام _ الذين هم عباد كِرام أصحاب مكانة سامية .
     [د] القرآن الكريم يصف الملائكة بأنهم ذوو أجنحة ، فقد قال الله تعالى : ] الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [ [ فاطر : 1] . أمَّا الحديث فجعلهم أوعالاً _ والعياذ بالله تعالى _ .
     وهكذا نكون قد وضّحنا أهم الكوارث التي وضعها محمد بن عبد الوهاب في كتابه الذي سماه بالتوحيد ، والذي صار فيما بعد دستوراً لبدعة السلفية التيمية النجدية . ولنلخِّص المسائل الخمس المرفوضة التي دحضناها ونسفناها وفق المنهج العلمي الشرعي ، وهي : 1) التبرك بالشجر والحجر من الشِّرك ، 2) الاستعاذة بغير الله تعالى من الشِّرك ، 3) الاستغاثة بغير الله تعالى من الشِّرك ، 4) رفض تسويد النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تعظيمه ، 5) نشر عقائد التجسيم ونسبها إلى السلف الصالح .
     ومن الأخطاء المنهجية التي اتخذها أتباع محمد بن عبد الوهاب أساساً لعقيدتهم توسعهم الغريب في مفهوم البدعة ، فهم يرفضون تقسيم البدعة نهائياً ، ويعتبرون كل بدعة هي ضلالة بدون نقاش، وهذا الكلام سيأتي تفنيده تفصيلاً وبالأدلة القاطعة . 
     وبدعةُ النجدية ظهرت في الصحراء العربية نتيجة الإفراط في تقديس الأشخاص والأضرحة بشكل يخالف الدين ، فنشأتها كانت طيبة ذات أهداف شرعية نبيلة لكنها سرعان ما انحرفت ، بعد أن تم أدلجتها سياسياً لتحقيق مكاسب سياسية وتثبيت الحكم السياسي الذي صبغ نفسَه بإطار ديني لنيل الشرعية ، وهذا ما كان ليتم لولا القتل العشوائي الجنوني الذي ارتكبه أتباع بدعة النجدية لأهداف سياسية لا علاقة لها بالدين . وقد تطرف هؤلاء المبتدعون بشكل غريب ، حتى إن بعض العامة منهم يعتبرون المدخن بمنزلة المشرك ، وهم بذلك يُشبهون الخوارج . وكانوا في أول أمرهم يُحرمون القهوة على أنفسهم وما يماثلها لكنهم تساهلوا في هذا الأمر بعد ذلك . وأيضاً حرّم علماؤهم التصوير الفوتوغرافي ، ويظهر ذلك في فتاواهم المتطرفة ، وقد توسّعوا في مفهوم البدعة بشكل جنوني، حتى إنهم منعوا تجديد ستائر الروضة النبوية الشريفة معتبرين ذلك بدعة مرفوضة . كما أنهم شديدو التعصب لأفكارهم، فهم يعتبرون أنفسهم على الحق المطْلَق،والآخرين على الباطل المطْلَق [13] .
..............الحاشية.............................
[1] الكتاب الذي أنقده هو( مع عقيدة السلف. كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب )/ يقدِّمه للعالم الإسلامي مصطفى العالم . 1392هـ _ 1972م .
[2] متفق عليه. البخاري ( 4/ 1573 )برقم ( 4073 )، ومسلم ( 4/ 1943 )برقم ( 2497 ).
[3] رواه البخاري ( 2/ 579 ) برقم ( 1520 ) ، ومسلم ( 2/ 925 ) برقم ( 1270 ) .
[4] رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 627 ) برقم ( 1680 ) وصحَّحه ، وابن خزيمة في صحيحه ( 4/ 221) برقم ( 2736 ) ، وابن حبان في صحيحه ( 9/ 25) برقم ( 3711 ) .
[5] رواه ابن حبان في صحيحه ( 15/ 94 ) برقم ( 6702 ) ، والترمذي ( 4/ 475 ) برقم ( 2180) وصححه. والحديث له طرق عديدة تقوِّيه لخصها ابن كثير في البداية والنهاية( 4/ 325).
[6] متفق عليه . البخاري ( 4/ 1745 ) برقم ( 4435 ) ، ومسلم ( 1/ 184 ) برقم ( 194 ).
[7] رواه الحاكم ( 4/ 458 ) برقم ( 8270 ) وصححه ، ووافقه الذهبي . 
[8] متفق عليه. البخاري ( 4/ 1511 )برقم ( 3895 )، ومسلم ( 3/ 1388) برقم ( 1768 ).
[9] رواه أبو داود في سُننه ( 2/ 669 ) برقم ( 4806 ) واللفظ له ، والنسائي في سُننه الكبرى   ( 6/ 70) برقم ( 10076 ) وعمل اليوم والليلة ( 1/ 249 ) برقم ( 247 ) . وقال المقدسي في الفروع ( 3/ 414 ) : (( رواه أحمد ، ورواه النسائي في اليوم والليلة من طرق ، ورُوِيَ أيضاً في اليوم والليلة بإسناد جَيد )) اهـ .
[10] رواه البخاري( 6/ 2712 )برقم( 7013 ) واللفظ له،ومسلم ( 4/ 2147 ) برقم( 2786). وفي بعض الألفاظ التي وردت في البخاري ( 4/ 1812) برقم( 4533 ) : (( فضحكَ النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحَبر )) . ولفظة " تصديقاً " هي من تصرف الرواة ، وهي مردودة بشكل قاطع لأنها تعارض العقيدة الإسلامية التي تُنَزِّه الخالقَ تعالى عن مشابهة مخلوقاته. واليهود غارقون في التشبيه والتجسيم . وضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب صغر عقل اليهودي وحُمقه وغرقه في الاستهزاء والسخرية سواءٌ كان مقصوداً أو غير مقصود ، وعدم معرفته بربّه تعالى ، لذلك تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية الشريفة : ] وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَق قَدْرِهِ [ . قال الحافظ في الفتح ( 13/ 398) نقلاً عن القرطبي : (( قوله إن الله يمسك الى آخر الحديث ، هذا كله قول اليهودي وهم يعتقدون التجسيم ، وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبِّهة من هذه الأمة ، وضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي ، ولهذا قرأ عند ذلك : ] وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَق قَدْرِهِ [، أي ما عرفوه حق معرفته ولا عظّموه حق تعظيمه، فهذه الرواية هي الصحيحة المحقّقة ، وأمّا من زاد "وتصديقاً له" فليست بشيء فإنها من قول الراوي، وهي باطلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُصَدِّق المحال ، وهذه الأوصاف في حق الله محال ، إذ لو كان ذا يد وأصابع وجوارح كان كواحد منا فكان يجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلهاً ، إذ لو جازت الإلهية لمن هذه صفته لصحت للدجال، وهو محال فالمفضي إليه كذب، فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله في الرد عليه ] وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَق قَدْرِهِ [ ، وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله، فظن الراوي أن ذلك التعجب تصديق وليس كذلك )) .
[11] انظر دفع شُبه التشبيه بأكف التنزيه للإمام ابن الجوزي ، ص 206 .
[12] رواه الحاكم ( 2/ 410 ) برقم ( 3428 ) وصححه !، ووافقه الذهبي ! .
قلتُ : وتعجبتُ من تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له ، ففي سنده يحيى بن العلاء ، فقد اعترف الحاكم نفسه بأن يحيى واهٍ ( المستدرك 2/ 316 ) ، واعترف الذهبي كذلك بأن يحيى واهٍ ، ومع هذا فقد صحّحاه ! .

[13] راجع " تاريخ المذاهب الإسلامية " للشيخ محمد أبو زهرة ، ص 208_ 211 .