نقد بدعة السلفية
من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم
تأليف: إبراهيم أبو عواد
............................
من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم
تأليف: إبراهيم أبو عواد
............................
بدايةً ينبغي
أن نحدِّد المصطلحات بدقة بالغة الخصوصية . فمصطلح " السلفية "
باعتبارها مرحلة زمنية مباركة لأعظم رجالات الإسلام على الإطلاق وهم السلف الصالح
أهل القرون الثلاثة الأولى المشهود لهم بالخيرية مصطلح زمني يحدِّد مرحلة طيبة
ناصعة البياض ولا يحدِّد مذهباً إسلامياً ذا قواعد أصولية وفروع منبثقة عن تلك
القواعد . والخيرية ثابتة ليست موضوع نقاش ، فعن عمران بن حصين _رضي الله عنهما_قال
: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( خَيْركم قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم ))[1]. وينبغي أن نُقَيِّد لفظة " السلف" بلفظة " الصالح
" ، لأن كثيراً من الطوائف والفئات المنحرفة ظهرت أيضاً في القرون الثلاثة
الأولى ، وبالطبع فإن الحديث يستثنيهم ضميناً .
قال النووي في شرحه على صحيح
مسلم (3/ 138) ناقلاً عن ابن عبد البَر : (( إن قوله صلى الله عليه وسلم : (( خَيْرُكم
قَرْني )) على الخصوص ، معناه خير الناس قرني ، أي : السابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم ، فهؤلاء أفضل الأمة ، وهُم المرادون بالحديث ،
وأما من خَلط في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وإن رآه وصحبه ، أو لم يكن له سابقة ،
ولا أثر في الدِّين ، فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على
ما دلت عليه الآثار )) اهـ .
وهذا كلام نفيس للغاية رغم أن
الغالبية الساحقة من العلماء على خِلافه ، فهالة القداسة التي تحيط بالصحابة وأنهم
لا يُنْقَدُون هالة وهمية ، فالصحابي تشرّف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه
مزية جليلة ومنحة ربانية عظيمة ، ولكن يجب أن تكون أفعاله موافقة للشرع ، فالصحابي
الذي أسرف على نفسه بالمعاصي والآثام علينا أن ننقده نقداً علمياً مُنْصِفاً ونبيِّن
حاله للناس . فنحن لا نعطي حصانة دبلوماسية للصحابي تجعله فوق مستوى النقد .
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتمتع
بالحصانة فقط ، وكل الذين هم دونه مُعَرّضون للنقد والجرح والتعديل حسب الحالة .
لذا فتقديس الصحابة كلهم فرداً فرداً رغم الآثام الكارثية للبعض مرفوض جملة
وتفصيلاً ، وهذا سيأتي بحثه معنا في هذا الكتاب فيما بعد . والرأي الذي نقف عليه
أن هناك أناساً من القرون المتأخرة يفوقون بعض الصحابة الذين خلطوا الأمور
وارتكبوا المحرّمات ، منزلةً ورُتبةً عند الله تعالى. وهذا لا يَطعن في الصحابة_
رضوان الله عليهم _ حملة هذا الدِّين، لأن الله تعالى قيّض لحمل الرسالة صحابة
أثباتاً عدولاً ينشرون تعاليم الإسلام الدين السماوي الأوحد ، وبعض الصحابة لم يكن
لهم دور في نشر الإسلام ولا سابقة ولا أثر في الدِّين ، والبعض لم يكونوا عدولاً ،
وهذا الأمر المعلوم لا ينتقص من قَدْر الصحابة الأثبات الذين حملوا الدِّين على
أكتافهم كمرجعية كُلية ومدرسة فكرية مخلِصة . ونحن لسنا من الروافض الذين أسقطوا
السواد الأعظم من الصحابة ، ولسنا ممن يُردِّدون خرافة أن كل الصحابة عدول فرداً
فرداً بلا استثناء . وسيأتي تفصيل هذا الكلام واضحاً في موضع آخر .
ولنأتِ إلى مصطلح آخر وهو " السلفية
التّيمية النجدية "، نسبة إلى ابن تيمية ومقلِّده محمد ابن عبد الوهاب . ويجب
أن نُمَيِّز بينه وبين مصطلح السلفية المراد بها مرحلة السلف الصالح الزمنية.
فبدعة السلفية التّيمية النجدية هي إسهامات مبنية على اجتهادات في غير محلها،
وأخطاء منهجية واضحة ، وحمل النصوص على ظواهرها دون معرفة قواعد اللغة العربية .
وهي إعادة بَلْورة لأفكار صِغار العقول من الحنابلة الذين دخلوا في التجسيم
الواضح، وأعرضوا عن منهجية الإمام أحمد بن حنبل _ رضي الله عنه _ ، ولم يلتزموا
بالقواعد الحنبلية الأساسية للمذهب التي وضعها علماء المذهب الأثبات من أصحاب
العقيدة الراسخة مثل الإمام أحمد وابن الجوزي ( المتوفى سنة 597 هـ ) الذي رَدّ
على مُجسِّمة الحنابلة الذين شَوّهوا المذهب ، مثل القاضي أبي يعلى المجسِّم الذي
كان إذا ذُكِر الله سبحانه ، قال : (( ألزموني ما شِئْتُم فإني ألتزمه إلا اللحية
والعورة )) كما نقل ابن العربي في العواصم ( 2/ 283)، ومثل هذا الكفر البواح
استهزاء واضح بالذات الإلهية وهذا راجع إلى حمل النصوص على ظواهرها الحسية المادية
. وقد قال العلامة أبو محمد التميمي في الكامل لابن الأثير ( 10/ 52 ) : (( لقد شان أبو يعلى الحنابلة
شيئاً لا يغسله ماء البحار )) اهـ، ومن مجسِّمة الحنابلة ابن الزاغوني ( المتوفى
سنة 527هـ )، وأيضاً أبو عبد الله بن حامد ( المتوفى سنة 403هـ ) [2] .
والسلفية التّيمية النجدية في ثوبها المعاصر
وضعها محمد بن عبد الوهاب [3]، حيث استمد عقائده
من عقائد ابن تيمية ( 661هـ_728هـ) وأفكار ابن القيم [4] (691هـ_751 هـ) لا السلف الصالح . وهذه السلفية التيمية
النجدية هي فلسفة الفقه البدوي الأعرابي البدائي. فمن بدا جفا ، لأن الأعراب الذين
يعيشون في البادية بعيداً عن التجمعات المدنية المتحضرة يمتازون بغلظة الطبع لقلة
مخالطة الناس، فيصعب التعامل معهم، ويغلب فيهم الجهل والجفاء والقسوة . وبسبب قسوة
قلوبهم وجهلهم حوّلوا الدِّينَ وكأنه أوامر عسكرية ميكانيكية مُفرَغة من الروحانية،
وعذوبةِ الرّوح ، وهذا دَيْدنهم .
وإنني أجزم أن نية محمد بن عبد الوهاب كانت
صالحة وأفكاره فيها خير كثير ، وفيها انحرافات كثيرة أيضاً، لكن النية الصالحة لا
تُصْلِح العملَ الفاسد. وإن الكارثة الحقيقية هي الغرق في أفكار ابن تيمية
المنحرِفة دون بصيرة، فكانت النتيجة مأساوية ، لا سيما وأن المصالح السياسية
تدخَّلت لأدلجة السلفية النجدية من أجل ترسيخ الحكم السياسي .
وَلْيُعْلَم أنه لا يوجد في الإسلام شيء
اسمه " السلفية " كمذهب إسلامي. فالصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة
والقرآن الكريم يَنْزل عليهم . كما لا يوجد في الإسلام شيء اسمه عقيدة السلف أو
مذهب السلف . هناك العقيدة الإسلامية المستقاة من النصوص قطعية الورود ( الكتاب والسنة
المتواترة) وقطعية الدلالة . فهذه المصطلحات البدعية المنحرِفة ( عقيدة السلف،
مذهب السلف ... إلخ ) مرفوضة لأنه لا دليلَ شرعياً عليه . وإذا كان الأمر هكذا
فسيأتي من ينادي بعقيدة الأشاعرة ومذهب الأشاعرة ، وآخر بعقيدة الماتريدية ومذهب
الماتريدية ، ويختفي مصطلح "العقيدة الإسلامية " من الوجود . قال الله
تعالى : )إِن الذين
فَرقوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُم فِي شَيء إِنما أَمْرُهُم إِلَى
اللهِ ثُمَّ يُنَبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون ( [ الأنعام: 159] . مع العلم أن النبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم سَمّانا
المسلمين ولم يُسَمِّنا السلفيين ولا الأشاعرة ، قال الله تعالى: )
مِلةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَماكُم الْمُسْلِمِين ( [ الحج : 78] .
ويحاول البعضُ إحلال ما يسمى بعقيدة السلف
مكان العقيدة الإسلامية ، وهذا إرهاب فكري يضاد الإسلام ويتجاهل وجوده. وأخشى من
يوم يستخدم فيه هؤلاء القوم عبارة" الديانة السلفية" لتحل مكان الديانة
الإسلامية. وتراهم يُنافِحون بكل ما أُوتوا من قوة لتسويق مصطلحاتهم البدعية، وهذا
يدل على انتصارهم لأفكارهم وفهمهم ، لا انتصارهم للإسلام . فهم لم يسعهم ما وسع
الأمة الإسلامية ( أهل السنة والجماعة ) ، فتراهم يشذون عنها أكثر فأكثر . وقد
أجار اللهُ تعالى الأمة أن تجتمع على ضلالة ، إذ إن الأمة معصومة عِصمة عامة ، فإن
وجدتَ اختلافاً فعليك بالسواد الأعظم أي : بالحق وأهله ، لأن الذي على الحق أغلبية
ولو كان لِوَحْده .
ولنرد على مصطلح " عقيدة السلف "
رداً علمياً فنقول إن هذا المصطلح يفترض أن الصحابة والتابعين وباقي السلف الصالح
_ رضوان الله عليهم _ متحدون في كل مسائل العقيدة ، دون اختلافات فيما بينهم ، وأنهم يملكون مذهباً مُوَحّداً في الأصول والفروع جاهزاً لمن يريد الأخذ
به ، وهذا
غير صحيح البتة ، فقد تباينت اجتهاداتهم في فهم أمور عَقَدية هامة مثل مسألة رؤية
الله تعالى ومسألة تأويل الصفات . وسوفَ نفصِّل هذه القضايا لاحقاً .
................................الحاشية....................................
[1] متفق عليه. البخاري ( 2/ 938 ) برقم ( 2508 ) ، ومسلم (
4/ 1964 ) برقم ( 2535).
[2] راجع كتاب "دفع شُبه التشبيه
بأكف التنزيه" للإمام ابن الجوزي .
[3] وُلد
في العيينة سنة 1115 هـ ، ورحل في طلب العلم إلى الحجاز والشام والبصرة ، وكانت
دعوته بدعية بعيدة عن منهج الفهم الصحيح للكتاب والسنة الصحيحة ، أعاد استلهام
انحرافات ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ، وقد رمى الناس بالشِّرك والبدعة دون
وجه حق . غطّت بدعته على المذهب الحنبلي في بلاد الحرمين الشريفين ، ورد عليه
علماء كثيرون بسبب انحرافه وجهله الفظيعين. أسس بِدعة " النجدية " ولا
أقول الوهابية، لأن الوهابية مشتقة من اسم الله الوهاب، وهذا المذهب البدعي لا
يجوز أن يُسمّى باسم ذي اشتقاق من اسم الله تعالى . كما أسس منهج التكفير دون وجه
حق ، واستحلال المحارم ، وقتل المخالفين . ولهذه البدعة الجديدة خمسة أصول رئيسة :
1) اتخاذ ابن تيمية مُقَدّساً وأقواله حُجّة قطعية 2) تشبيه الله تعالى بالخلق 3)
التثليث في العقيدة إذ يُقسِّمون التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وتوحيد
الأسماء والصفات ، وهو تقسيم باطل لا دليل عليه ، وإنما انتشر بعد القرن السابع
الهجري ، وهو غير معروف عند السلف الصالح مُطْلقاً 4) عدم توقير النبي صلى الله
عليه وسلم 5) تكفير الناس دون وجه حق . فمن توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو
عندهم كافر حلال الدم ، ومن استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك ، وهناك
مسائل كثيرة لا يتسع المجال لذكرها كاملةً . مات سنة 1206هـ . وفي صحيح البخاري(
6/ 2598) : عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _
قال : ذَكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم : (( اللهم بارك لنا في شأمنا، اللهم بارك
لنا في يمننا ))، قالوا : يا رسول الله، وفي نجدنا. قال : (( اللهم بارك لنا في
شأمنا ، اللهم بارك لنا في يمننا )) ، قالوا : يارسول الله ، وفي نجدنا . فأظنه
قال في الثالثة : (( هناك الزلازل والفتن وبها يَطْلع قَرْنُ الشيطان )) .
[4] لمعرفة العقائد المنحرفة عند ابن القيم راجع كتابَيْ
: السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ، وتبديد الظلام المخيِّم على نونية ابن
القيم .