المأزق الوجودي للحضارة الأمريكية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .
إن نظرة سريعة على خارطة المشهد السياسي
العالمي تشير إلى الاضمحلال المتسارع للحضارة الأمريكية، حيث الاقتصاد مبني على
أسس غير سليمة، والحالة الاجتماعية مبنية على إجهاض الروح والجسد ، والتمييز
العنصري المتجذر في الثقافة المجتمعية، والمستوى الثقافي متمركز في دائرة
الاستهلاك ، والوعي السياسي عاجز عن اختراع دور حقيقي لشرطي العالَم الذي لم يحل
مشكلات العالَم .
والنظر إلى العالَم بدون سيطرة القطب الواحد
ليس لعبة خيالية لزراعة الوهم، وتسويق الخديعة في أوساط الناس. بل هي نتيجة طبيعية
لنظرية تداول الحضارات وانهيارها، وقد بدت آثار هذه الانهيار على أرض الواقع. لكن
العجب، كل العجب، أن تجد بعض المثقفين يعتقدون أن الإمبراطورية الأمريكية مستمرة
حتى نهاية التاريخ، وهذا السراب الخادع الجاثم على عقول البعض جاء بسبب الحملة
الإعلامية الشرسة التي تحرص على تصوير أمريكا بوصفها الحضارة النهائية الحاسمة على
سطح الأرض .
وفي زحمة اندلاع الوهم لا تجد الجامعات
الأمريكية العريقة، أو مراكز الأبحاث تتحدث عن انتهاء حلم خلود الإمبراطورية
الأمريكية بشكل واضح ومباشر. مع أن الدلائل الظاهرية واضحة للعيان، والمؤشرات حول
انكسار حلم التوسع والسيطرة في ذهن " العم سام" باتت تُلمَح في الأفق.
لكن منطق القوة، وسياسة الأمر الواقع، والتموضع في بؤرة المجد الوهمي، والآلة
الإعلامية الجبارة، وغيرها من العوامل، ساهمت في اختراع صورة أسطورية للحضارة
الأمريكية تماماً كما تفعل هوليوود مع الممثلين عبر اختراع هالة خرافية لهم بواسطة
المكياج والأقنعة والمؤثرات البصرية والصوتية. وكلها عوامل سرعان ما تذوب مع ظهور
شمس الصباح خارج الأستديوهات .
وهذه الأفكار إنما هي تدقيق فلسفي تأصيلي
ينحو منحىً سياسياً استشرافياً لنهاية أحلام هذه الكتلة الجغرافية الجبارة التي
تقمصت خدعة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ". وبما أن الحضارة
الأمريكية قامت وفق قاعدة إبادة السكان الأصليين ( الهنود الحمر )،فهي لا ترى
وجوداً حقيقياً خارج نطاق وجودها، فمن الطبيعي أن تنظر إلى الآخر على أنه بشر درجة
ثانية أو ثالثة، لأن أدبيات الأنظمة السياسية الأمريكية على مدار التاريخ تنتهج
سياسة الأنانية ، والتمركز حول الذات ، وإقصاء الآخر بكل وحشية، وتجريده من قيم
الحضارة والمعاني الإنسانية الراقية .
فالانكسار الحضاري المتقوقع على شكل فقاعة
صابون أو بالون منتفخ ، والذي يُسَمَّى القطب السياسي الأوحد ، ما هو إلا تشكيل
خيالي وهمي يشتمل على بذور انهياره في أنويتـــه الداخلية . وما الأزمة المالية
الخانقة إلا عملية قرع جرس الإنذار .
إن المجتمع الأمريكي الأمي من ناحية الثقافة
السياسية لا يهتم بالسياسة الخارجية، وإنما كل تفكيره منصب حول نظامه الاستهلاكي
العنيف. وإن أية دراسة تتناول المستوى المعرفي في بنية الأداء السياسي الأمريكي
ينبغي أن تعتمد منهجية اعتبار السياسة الأمريكية جزءاً من المشكلة وليس الحل .
فأمريكا هي أكبر ملوث للبيئة في العالم ، وأكبر مصدِّر للسلاح ، وأكثر دولة
استخدمت الفيتو في مجلس الأمن .
ولا يخفى أن أمريكا تكرَّست كقطب واحد في
العالَم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، وهذه المعلومة الواضحة صارت مفروغاً منها
من فرط تكرارها. وعلى الرغم من صحة المعلومة السابقة جزئياً إلا أن مفهوم القطب
يحمل عدة طبقات من صياغات المفاهيم. فأمريكا هي حجر الرَّحى الذي يدور حوله النظام
السياسي العالمي . ومع هذا فإن التصدعات العميقة في روح الحضارة الأمريكية تزداد
بشكل متسارع . وإذا سَقطت روحُ الحضارة فلا بد أن تَسقط ظواهرها الخارجية ضمن
انهيار شامل، أي سقوط السياسات كأحجار الدومينو ضمن مسلسل فشل سياسي واقتصادي
واجتماعي، خصوصاً مع عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية التي تقودها الدبابات بدلاً
من الدبلوماسية.
ومهما يكن من أمر ، فإن طاقة الحلم الأمريكي
سوف تنتهي بسبب غياب القوة الإنسانية الجوهرية، وتآكل قوة الدفع الداخلية، حيث
الأزمات الاقتصادية تعصف بالكيان الأمريكي، وتهدد النسيج الاجتماعي الذي لم يكن في
يوم من الأيام متجانساً، وإنما هو خليط من أصول شتى مختلفة في كل شيء، لكنها
مجتمعة حول " المنفعة الاقتصادية ". لذلك فإن مصطلح " الأمة
الأمريكية " يأتي في سياق تلميع إعلامي، وهو مصطلح لا أساس له من الصحة بسبب
غياب التجانس الحقيقي في المجتمع الأمريكي .
لقد بدأ التآكلُ الحقيقي في الإمبراطورية
الأمريكية التي ابتلعت المسارَ الحضاري للإنسان العالمي ، وهذا يُبرز فلسفةَ بدء العد
التنازلي لهذه الحضارة العظمى. لكن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها البعض،
فالأنظمة التداخلية في الولايات المتحدة شكلياً، والمتناحرة واقعياً، أنظمة مفتوحة
تمتاز بحرية الاختيار، وهذا يعني أنها قادرة على إجراء تصحيح ذاتي لمسارها في كل
أزمة. لكن المرحلة المتقدمة من مرض أمريكا في هذا الوقت لا يمكن علاجها نهائياً .
فقد اتسع الفتقُ على الراتق ، ووصل الطبيب إلى المريض دون وجود دواء .