سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/12‏/2013

خرافة حصر فهم الإسلام بالسلف الصالح

خرافة حصر فهم الإسلام بالسلف الصالح

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف: إبراهيم أبو عواد .

.....................

     ينبغي أن ندرك أن القرآن الكريم بوصفه كتاباً مُعجِزاً لا تنقضي عجائبه، وهذا يستلزم أن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه ، مما يقود إلى فهم متجدد واجتهادات مبتكرة ، فكل ذي أهلية للاستنباط عليه أن يستنبط. والقرآن الكريم لم يمنح السلف الصالح حق الاجتهاد والاستنباط ويمنع الخلف من ذلك ، بل إن الاستنباط مفتوح على مصراعيه لكل من امتلك أهلية الاستنباط . قال الله تعالى :  ]وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ والراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [[ آل عمران: 7 ] . والراسخون في العِلم لم يحصرهم القرآن الكريم بالسلف الصالح ، وإنما هو لفظ عموم يفيد كل الراسخين في العلم سواءٌ كانوا في القرن الأول الهجري أو القرن العاشر الهجري مع الاعتقاد بأفضلية السلف الصالح بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن العِصمة فقط لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، أما ما عداه فيؤخذ منه ويُرَد عليه . فَكَوْنُ العالِم من السلف الصالح سواءٌ كان صحابياً أم تابعياً فهذا لا يعطيه حصانة ضد النقد أو عِصمة ضد الخطأ . وهذه الآية اختلف فيها العلماء هل هي موصولة أم مقطوعة ؟ .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 218 ) : (( واختلف العلماء في الراسخين في العِلم، هل يعلمون تأويل المتشابه وتكون الواو في ] والراسخون [ عاطفة أم لا، ويكون الوقف على ] وما يعلم تأويله إلا الله [ ، ثم يبدأ قوله تعالى : ] والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ ؟ وكل واحد من القولين محتمل واختاره طوائف والأصح الأول، وإن الراسخين يعلمونه لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد ، والله أعلم )) اهـ .
     قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/ 85 ): (( الواو للعطف أم الأَوْلى الوقف على ] الله [، قلنا كل واحد محتمل. فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أَوْلى، وإلا فالعطف. إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق )) اهـ .
     وقد تظهر مسألة للخلف لم تظهر للسلف ، وقد تظهر مسألة للسلف لم تظهر للخلف . والْحَكَم هو القرآن والسنة الصحيحة ضمن منهجية رد المتشابه إلى المحكَم ، وتقييد العام بالتخصيص، والتوفيق بين النقل والعقل ضمن منهجية وسطية معتدلة ، فالنقل لا يُفهَم إلا بالعقل ، والعقل لا يكون إلا خاضعاً للنقل . والنقل والعقل يوجدان معاً ويغيبان معاً ، ولا يُقبَل أحدهما دون الآخر . فلو تم حصر فهم القرآن الكريم بالسلف الصالح فهذا يعني أن عجائب القرآن قد انقضت ، وظهرت على أيدي السلف الذين فسّروها ، وصار موقفنا نحن المعاصرين التفرج على منجزات السلف الصالح فقط دون إعمال عقولنا ، وهذا يضاد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي بيّن أن القرآن لا تنقضي عجائبه ، مما يعني تعدد الاستنتاجات والفهوم ، وتجدد الاجتهادات والمعارف الخاضعة لسلطان الكتاب والسنة الصحيحة ، أي إن الأمر غير محصور بفهم السلف الصالح .
     وعن عبد الله بن مسعود_رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا القرآن مأدبة الله ، فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبلُ الله والنور المبين والشفاء النافع ، عِصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فَيُسْتَعْتَبُ، ولا يُعَوّجُ فَيُقَوّم، ولا تنقضي عجائبه)) [(1)].
     شَبّه القرآنَ بصنيع صنعه اللهُ تعالى للناس ، لهم فيه خير وبركة ومنفعة . وعلى المرء أن يُقبِل على كتاب الله ، فهو الحبل الممدود بين الأرض والسماء، والنور الواضح ، والشفاء لكل الأمراض الروحية والمادية . مَن تمسّك به عُصم من الخطأ والضلال ، ومَن تَبعه قاده إلى النجاة في الدارين . والقرآنُ كتابٌ كامل معصوم لا يَزيغ ، ولا يَنحرف . وستظل عجائبه حتى يوم القيامة .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 38 ) : (( فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها ، والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرِّفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه ، والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه ، والعمل بِمُحْكمه والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه )) اهـ .
     وعدم انقضاء عجائب القرآن يعني أن هناك تفاسير جديدة ، وفتوحات ربانية سوف تظهر في كل زمن حول فهم آيات القرآن الكريم ، وما يُصَدِّق هذا الكلام تعدد تفاسير القرآن في كل العصور ، واختلاف مستويات التحليل والفهم للمفسِّرين . وبالقَطْع فهذا لا يعني تحريف الآيات عن سياقها الدِّيني واللغوي من أجل اختراع فهمٍ غير مسبوق .
     وروى البخاري في صحيحه( 1/ 53 ) عن أبي جحيفة قال: قلتُ لعلي: هل عندكم كتاب ؟، قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أُعطيه رَجل مسلم .
     فلم يقل علي _ عليه السلام_: أو فهم أُعطيه رَجل من السلف الصالح، بل قال رَجُل مسلم ، أي قد يكون من السلف أو من الخلف أو من زماننا المعاصر . لذا فالفهم غير محصور في السلف الصالح . والذين يقومون بحصر فهم الإسلام بالسلف الصالح مع اختلافاتهم اللانهائية ، وتباين منهجيات اجتهاداتهم هم يؤسِّسون في أذهانهم الواهمة سلطة كهنوتية تحتكر حق فهم وتأويل النص الديني، وهذا باطل بالضرورة. كما أن أقوال السلف ليست من حجج الشرع ( الكتاب ، السنة ، الإجماع ، القياس ) ، فكيف نبني ديننا على فهوم رجال مختلفين أصحاب مدارس فكرية شتى ونلغي أعظم من فسّر مراد السلف وهم الخلف ( الأشاعرة والماتريدية ) ؟! . إن هذا الدِّين لا يقوم إلا بالسلف والخلف معاً ، ولا يُقبَل أحدهما دون الآخر ، فالذي يُسقِط السلف كلهم هذا مرتد كافر لأنه أسقط طبقة كاملة حاملة للدِّين ، والذي يُسقِط الأشاعرة كلهم فهذا مرتد كافر لأنه أسقط طبقة حاملة للدِّين ، وإذا كان السلف ضالين أو الأشاعرة ضالين فمن الذي حمل إلينا هذا الدِّين ؟. وهذه العقيدة الفاسدة تستلزم أن يكون إسلامنا مشكوكاً فيه لأنه حُمِل على أكتاف رجال خونة ضالين ، والعياذ بالله تعالى . وهذا لا يقول به إلا زنديق ألقى الإسلام وراء ظَهره نابذاً إياه .   
     وعن قيس بن عبادة_رضي الله عنه_ قال: دخلتُ أنا والأشتر على علي بن أبي طالب_ رضي الله عنه _ يوم الجمل ، فقلتُ : هل عَهِدَ إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً دون العامة ؟ ، فقال : لا ، إلا هذا ، وأخرج من قراب سيفه فإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، لايُقْتَل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده [(2)].
     وفي صحيح مسلم ( 2/ 994و995) برقم ( 1370) : [ عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة،_ قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه_ فقد كذب ، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات ، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم :   (( المدينة حَرَم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حَدَثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) ] اهـ .     
     فها هو النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص آل بيته بعِلم دون المسلمين ، ومن باب أَوْلى أنه لم يخص السلف الصالح بشيء دون المسلمين . إذن ، الباب مفتوح للاجتهاد على مصراعيه سلفاً وخلفاً، وغير محصور بالسلف فقط كما يزعم بعض العوام الذين يظنون أنفسهم علماء .
     وقد تظهر للخلف مسألة لم تظهر للسلف الصالح ، فإن امرأة من المسلمين ردّت على عمر بن الخطاب    _ رضي الله عنه _ ، وخطّأته وهو على المنبر ، والصحابة حاضرون. فعن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفنَّ ما زاد رَجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم،قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين نهيتَ الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال : نعم ، فقالت : أما سمعتَ ما أنزل الله في القرآن ، قال : وأي ذلك ؟. فقالت : أما سمعتَ الله يقول : ]وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [[ النِّساء : 20] ، قال : فقال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال : أيها الناس إني كنتُ نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطيَ من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل [(3)].
     فانظر كيف ردّت امرأة من المسلمين على أعظم الصحابة _ رؤوس السلف الصالح _ بعد أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _. وأيضاً يُستفاد من هذه القصة أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه        _ رضي الله عنهم _ لأمر ما ليس من دلائل التحريم . إذ إن التحريم بحاجة إلى نص شرعي واضح في التحريم . والذين يعتبرون ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه _ رضي الله عنهم _ لأمر ما تحريماً له فهذه القصة ترد عليهم وتلجمهم إلجاماً .
     واستناداً إلى هذه القصة فقد تنكشف لي مسألة أنا العبد الفقير لله تعالى الغني به لم تنكشف لصحابي أو تابعي ، وقد تنكشف مسألة لِرَجل من الخلف لم تنكشف لرَجل من السلف الصالح ، أما أن نأخذ أقوال السلف الصالح مصدراً من مصادر التشريع ، وحُجّة لا تقبل المناقشة ، فهذا هو الجنون بعينه .
     والذين يسمون أنفسهم بالسلفيين لا يؤمنون بشرعية المذاهب الأربعة، إذ إنهم يقولون بوجوب الذهاب فوراً إلى الكتاب والسنة قافزين على المذاهب الأربعة. وهذا أمر كارثي يقود الأمة إلى اللادينية، فالأغلبية الساحقة من الأمة هم عوام من ناحية العلوم الدينية لا يملكون أهلية الاستنباط والاجتهاد مباشرة من النصوص الشرعية . وعندما يتم إلغاء المذاهب الأربعة بِحُجّة الذهاب إلى القرآن والسّنة مباشرة ، فإن الأمة سوف يضيع دِينها ، فهي غير قادرة على صياغة نصوص فقهية لحياتها.
     وفي هذا الموضوع يقول الإمام الأسنوي في التمهيد ( ص 527 ) كلاماً هاماً جداً : (( إذا علمتَ ذلك فمن فروع المسألة : عدم جواز تقليد الصحابة _ رضي الله عنهم أجمعين _ كذا ذكره ابن برهان في الأوسط ، قال : لأن مذاهبهم غير مُدوّنة ولا مضبوطة حتى يمكن المقلِّد الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال . وذكرَ إمام الحرمين في البرهان نحوه فقال : أجمع المحقِّقون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة _ رضي الله عنهم _ بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سَبَروا فنظروا ، وبَوّبوا الأبوابَ ، وذكروا أوضاع المسائل ، وجمعوها وهذّبوها وثبّتوها . وذكرَ ابن الصلاح أيضاً ما حاصله أنه يتعين الآن تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم قال : لأنها قد انتشرتْ وعُلم تقييد مُطْلَقها ، وتخصيص عامها ، وبشروط فروعها بخلاف مذهب غيرهم _ رضي الله عنهم أجمعين _ )) اهـ .
     وقد تطاول بعض الجهال على الأشاعرة بِحُجّة أنهم خاضوا في مسائل وتعرّضوا لأشياء لم يقلها السلف الصالح _ رضي الله عنهم _، فنقول إن الأشاعرة قد قاموا بتفصيل الأشياء المجملة التي قالها السلف الصالح ، وهم أفضل من شرح مراد السلف خصوصاً مع انتشار الطوائف الضالة كالمعتزلة والرافضة الذين أثاروا أشياء عديدة مستقاة من الفلسفات الدخيلة وأقحموها في دينهم ، لذا كان لا بد أن يُرَد عليهم بنفس سلاحهم ، من أجل فضح باطلهم أمام الناس ، والتحذير منهم خوفاً من انجرار العوام وراءهم معتمدين على شُبَه خطافة ، فكما هو معلوم فإن المعتزلة يقدِّمون العقل على النّص ، وبالتالي فعلينا محاورتهم عقلياً لكي نرد كيدهم ، وهذا أحد أسباب نشأة علم الكلام [(4)]. وبما أن الإسلام نَقْلٌ وعقلٌ ، فعلينا إثبات حُججنا الشرعية نقلياً وعقلياً لكي نُقدِّم البرهان الساطع المتكامل على صحة هذا الدِّين ، إذ إن الدليل الشرعي الصحيح لا يضاد العقل الصحيح ، والعقل السليم محالٌ أن يتصادم مع نص شرعي صحيح .
     والكفار والملاحدة والماديون الجدليون عندما تقول لهم قال الله تعالى في القرآن الكريم يجيبونك بأنهم لا يؤمنون بكلام الله تعالى. وعندما تقول لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لك إنهم لا يؤمنون بالنّبوة، ومثل هؤلاء عليك أن تحاورهم _لِزاماً_ بعِلم الكلام والمنطق والبراهين العقلية لكي تَقْدر على كشف باطلهم ، والانتصار للحق الذي جاء به الإسلام .
     يقول الإمام الحسن البصري في رسالة أرسلها إلى عبد الملك بن مروان أو الحجاج ( روايتان وردتا في ذلك ) يتحدث فيها عن القضاء والقَدَر : (( ...ولم يكن أحد من السلف يَذكر ذلك ولا يجادل فيه ، لأنهم كانوا على أمر واحد . وإنما أحدثنا الكلامَ فيه لَمّا أحدث الناسُ من النُكرة له . فلما أحدث المحْدِثون في دينهم ما أَحدثوا ، أَحدث اللهُ للمتمسكين بكتابه ما يُبطلون به المحْدَثات ويُحذِّرون به من المهْلِكات )) [(5)].
     يقول الكوثري في مقدمة تحقيقه لكتاب ( تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري لابن عساكر 9_15 ) : كان عِدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ، ثم أخذوا بعدهم في بث ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ، ممن لم يتهذب بالعِلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم. فتلقفوها منهم وردوها لآخرين بسلامة باطن ، معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه ، ومستأنسين بما كانوا عليه من الاعتقاد في جاهليتهم .. فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتَقَد الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة . وقد سمع معبد بن خالد الجهني من يتعلل في المعصية بالقَدَر ، فقام بالرد عليه ، ينفي كَوْنَ القَدَر سالباً للاختيار في أفعال العباد ، وهو يريد الدفاع عن شرعية التكاليف . فضاقت عبارته وقال : (( لا قَدَرَ والأمر أُنُف )) فسُمِّيَ جماعةُ معبد قَدَرية ..وأول مَن عَرَف القول بخلق القرآن الجعد بن درهم الدمشقي ، وكان جهم بن صفوان أخذ ذلك القول عن الجعد وضمّه إلى بدعه التي قام بإذاعتها. ومن جملتها نفي الخلود . ولما قام الحارث بن سريج بخراسان ضد الأموية داعياً إلى الكتاب والسنة اعتضد بجهم . وكان مقاتل بن سليمان ينشر هناك نِحلة في التجسيم ، فأخذ جهم يرد عليه وينفي ما يثبته مقاتل ، فأفرط في النفي حتى قال : (( إن الله لا يوصف بما يوصف به العباد ، ولم يفرِّق بين الاشتراك في الاسم والاشتراك في المعنى )) .. فأمر المهدي علماء الجدل من المتكلِّمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة ، فأقاموا البراهين ، وأزالوا الشُبه ، وأوضحوا الحق ، وخدموا الدِّين . وكان القائمون بأعباء تلك المدافعات طائفة من المعتزلة ، وقد عَلِق بنفوسهم ما لا يُستهان به من أمراض عقلية عَدَتْ إليهم من مناظريهم أورثتهم تلك البدع التي عرفوا بها . اهـ مع الاختصار .
     فلا بد من بناء عِلم الكلام وفق الكتاب والسنة الصحيحة لكي تحصل الفائدة المرجوة من إلجام أصحاب البدع والانحرافات ، فالمشكلة ليست في عِلم الكلام إذا كان مبنياً وفق أسس شرعية ، وإنما المشكلة في أولئك الذين يستخدمونه .
     وينبغي ألا ننسى أن علم الكلام كالدواء يوضع بمقادير محدّدة في أوقات محدّدة ، ولا ينبغي أن يطلع عليه العامة لأن ذلك قد يُخَلْخِل إيمانهم، وإنما يظل بين أوساط العلماء الذين يعرفونه حق المعرفة ، ويستخدمونه لنصرة هذا الدِّين .
     وفي فتنة خلق القرآن الشهيرة أحدث الإمام أحمد بن حنبل كلاماً لم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ، إذ قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهذه العبارة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه _ رضوان الله عليهم _ ، وهذا مشهور ومبسوط في الكتب. وإنما أحدث الإمام أحمد ذلك الكلام الجديد لما فيه من مصلحة ، وبسبب انتشار الفئات الضالة التي أحدثت أموراً دفعت الإمام أحمد إلى إحداث أمور ليرد عليهم ، فهل يجوز لنا أن نصف الإمام أحمد بالبدعة لأنه جاء بشيء لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام ؟! . لا وألف لا . ومَن ضلّل الأشاعرةَ لأنهم خاضوا في أشياء لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح ، فعليه أن يُضلِّل الإمامَ أحمد قبلهم لأنه خاض في أمور مُسْتَحْدَثة ، وهذا باطل بالضرورة .
............الحاشية.......................
[(1)] رواه الحاكم ( 1/ 741 ) برقم ( 2040 ) وصححه . وقال المنذري في الترغيب والترهيب ( 2/ 231) : (( رواه الحاكم من رواية صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عنه ، وقال : تفرد به صالح بن عمر عنه ، وهو صحيح )) اهـ .
[(2)] رواه الحاكم ( 2/ 153) برقم ( 2623 ) وصحّحه، ووافقه الذهبي .
[(3)] رواه ابن كثير في تفسيره ( 1/ 617 ) وقال : (( إسناده جيد قوي )) اهـ .
[(4)] هو العِلم الذي يستخدم الحجج العقلية والبراهين المنطقية لإثبات العقائد الإسلامية، وهو كالدواء لا يُستخدم إلا في حالات خاصة جداً ، منها استخدامه مع أولئك الذين يرفعون العقل فوق درجة النّص الشرعي، أو مع أولئك الذين لا يؤمنون إلا بالعقل غير معترفين بالكتاب والسنة .  

[(5)] المنية والأمل لابن المرتضى 12_ 13 .