السياسة الشعرية والسياسة الاجتماعية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة أثير العُمَانية ، 1/7/2019
.............
إِن الأدوار الاجتماعية الفكرية المساهِمة
في
صناعة
بُنى
شِعرية ،
هي سِمات حقيقية لثقافة تنقلب على الأحكام المسْبقة
الجاهزة .
وهذا
الرفض
للقوالب الجاهزة هو الذي يُذَوِّب الفروقاتِ بين الشِّعر
والنثر . ففي بركان الحرارة العاطفية
الجياشة ،
تغيب
الفروقات
بين المدلول الشِّعري والدلالة النثرية ضمن ثنائية
واعية
وليست
عَدمية .
وهكذا
يَفرض إعصارُ القصيدةِ شُروطَه على المتلقي ، كما تفرض
الذاكرةُ
شُروطَها
على
النِّسيان. ويتأجج الدعم الذي تقدمه الصورةُ الشعرية
لعناصر
الشرعية
البؤرية
في
سياق
الكلام . إذ إن تلك العناصر تساهم في
خلق
متوالية
تكاثرية
تصنع
قانونها الخاص بها ، انطلاقاً من حركات معرفية دائمة
البحث
عن
معنى .
والشَّاعر
هو
مَلِكٌ دائم البحث عن عرشه .
وهذا
هو
القَلَق اللذيذ . إنه قَلَقٌ ينقل الأبجديةَ الشِّعرية من
نمذجة
المصطلَح
الجاهز ،
إلى
صناعة مُصطلَحات دائمة الاكتشاف والتحول . والشاعرُ يَكتشف ذاته في مشروعه الوجودي ، من أجل أن يكتشفَ
هذا
المشروعُ الرؤيةَ
الكَوْنية للشاعر . ومن الممكن اكتشاف الذات عن
طريق
اكتشاف
ذوات
الآخرين ،
لأن الكلمة تخرج من ذات الشاعر ، وتعيش في كيانات أخرى ( روحية ومادية ).وهكذا يمكن القول
إِن الشاعر ما هو إلا المتلقِّي ، وهنا تتعدد الأنا
الواحدة
لتشمل
ذوات
الآخرين .
والشِّعرُ
صوتٌ صاعق ،
والمجتمعُ صَدى لهذا الصوت الصاعق . وإذا اتَّجهنا إلى علاقات النصوص المتقابِلة داخل رؤية التكثيف الشِّعري ، سَنُدرِك حتميةَ
الصِّدام
بين
مُكوِّنات القصيدة .
وهذا
الصِّدام
يَنقل
الرؤيةَ التعبيرية من دائرة التوازي معَ الذات إلى
دائرة
مُعادَلة
الذات
. وعندئذٍ، يُصبح الشاعرُ هو القصيدةَ ، والقصيدةُ هي الشاعر .
وبعبارة أخرى ، يتَّحد الصانعُ والمصنوعُ .
والكلامُ
هو الذي
يُقولنا
ولا
نَقوله . والشِّعرُ
لا يُعطيكَ بَعْضَهُ ، إِلا إذا أعطيتَه كُلَّكَ . وهذا لا يعني
أن
يَتَقَوْقَع الشَّاعرُ على نفْسه، ويبتعد عن العلوم
والمعارف.
لكن
المقصود
هو
أن يَهَبَ الشاعرُ نفْسَه للشِّعر في لحظة التقاء
عُيونه
بجيش
الحروف ، الذي يَغزو رُوحَ
الشاعر بدون تحذير مُسْبَق .
وتُشْبِهُ
الحروفُ
في
هذا السِّياق الثوري نوابضَ مغناطيسية جاذبة
للأفق
الشعري . ويجب أن نلاحظ الأدوار
التعبيرية
التي
تُجسِّد
طموحاتِ سياسة الشِّعر في تكوين جيل ثائر ضد الخرافة
. والأبجديةُ الشِّعرية الثقافية لا تنفصل عن
الثورة
بأية
حال
من
الأحوال .
ودخولُ الأفق السياسي في الأسلوب الشِّعري ، لا
يَستلزم
بالضرورة
تقييد
حرية
حركة الصور الفنية والتعابيرِ الرمزية . فالقضايا الوجوديةُ تُحضِر معها أبجدية خيالها
أفقياً
وعمودياً ،
مِمَّا
يؤدي
إلى إدراك حتمية التحويل الجغرافي في بنائية
تاريخ
الشِّعر ،
باعتبار
القصيدة تاريخاً جديداً وجزءاً من رواية عجائبية لا
تعتمد
على
السَّرْد
، بل تعتمد على التقاط اللحظة
وتثويرها
وإحاطتها
بهالة رمزية ذات هدف غير عبثي .
ويمكن
أن نُفكِّك القيمَ المتحوِّلة في إطار النظريات الاجتماعية
الهادفة
إلى
قلب
نظام
حُكم القصيدة ، وتكوينِ نظام جديد نابع من صيرورة المتحوِّلات البنائية العامة والخاصة . وهنا يَحدث تمازج بين الأدب والسياسة
، لأنهما
عاملان
أساسيان
في تحريك المجتمع روحياً ومادياً .ولكنْ علينا أدْبَنةُ السياسة ( حَقْنها بالأدب الجامح لكي يَكبح تهورها )، وتسييسُ الأدب بالمعنى الإيجابي للكلمة ( جعله
سياسياً
بالقَدْر
الذي يَسمح
بتأجيج
عُنف
اللغة
ذهنياً ) .
وتتكرس النماذجُ الاجتماعية المسيطِرة على النسق الشِّعري كواقع عملي لا مَهْرب منه . وهذا الأمرُ يؤدي إلى إعادة تشكيل
الوعي
الموجب ، وتعبئته ضد سالبية الوعي السُّلطوي المفروض على النَّص من خارج النَّص. ويجب ألا تخضعَ القصيدةُ للابتزاز الخارجي
المتمثِّل في الأنظمة الأبوية، التي تَصيغ الثقافةَ والحياةَ
من منظور
أحادي استبدادي
.