رواية جبل النظيف / الفصل السادس عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
...................
كان
فايز يسأل عن حارس المقبرة. لم يَرَه منذ مدة بعيدة. سأل عنه باعةَ الخضار في ساحة
مسجد طارق بن زياد . اتفقوا جميعاً على عدم رؤيته ، وتمنوا لو يُهاجر من هذا الجبل
لأن قدومه كان نحساً عليهم .. هكذا قالوا . سأل عنه سائقي سيارات الأُجرة فأَخذوا
يلعنونه ، ويقولون إنه تسبَّب في مجيء الأشباح إلى الجبل ، وإنهم يَرَوْنَ كوابيس
في منامهم بسببه . أخذ فايز يناقشهم في خرافة الأشباح ، وأنها مجرد أوهام . ولكنْ
لا حياة لمن تنادي .
مضى إلى المقبرة فلم يجد غير بسام ابن
عمِّه، وهو مشغول في القراءة والكتابة . اقترب منه بهدوء لأنه لا يريد أن يَقطع
حبلَ أفكاره. انتبه بسام إلى قدوم ابن عمِّه ، فرحَّب به . جلسا بجانب بعضهما
البعض . أسندا ظَهْرَيْهما إلى السُّور الذي تقشِّره أشعةُ الشمس كما تقشِّر
السكينُ خدودَ البرتقال . لكن بسام ظلَّ ممسكاً القلم والأوراق ، ويكتب بكل مثابرة
.
قال له فايز :
_ ماذا تكتب ؟ .
لم يَقطع بسام عملَه . ظلَّ غارقاً في
أفكاره ، وقال وهو مطأطئ الرأس :
_ أحلُّ مسائل في الرياضيات لطالبة في مدرسة
راهبات الوردية .
ذُهل فايز من هذه الإجابة غير المتوقَّعة ،
وقال واللهفةُ تتلاعبُ به :
_ وكيف تعرَّفتَ إليها ؟ .
_ أنا لا أعرفها ، ولكنها ترمي الأوراق في
المقبرة ، وعندما آتي إلى هنا أجمعُ الأوراق المبعثرة وأُرتِّبها ، وأحلُّها ، ثم
أُلصقها على السور الخارجي . وبصراحة ، صرتُ أحب هذه اللعبة .. تذكِّرني بلعبة
القط والفأر .
ابتسم فايز ساخراً ، وقال :
_ لعبةُ الرياضيات أم لعبة الحب ؟.. ما زلتَ
صغيراً على الرومانسية يا وَلد ! .
ضحك بسام بشكل هستيري كشخص لم يضحك منذ قرون
، وقال :
_ حرام عليك ! . هذه الطالبة في المرحلة
الثانوية .. يعني في عُمر جَدَّتي ! .
وما إن أنهى كلامَه حتى تفجَّر الدمعُ في
عيون فايز . التفتَ إلى قبر جَدَّته قائلاً :
_ الله يَرحمها .. كان أظفرُها بألف رَجل .
وأردف يقول :
_ أصعب شيء في الحياة أن يموت الأشخاصُ
الذين نحبهم قبل أن نخبرهم بأننا نحبهم .
أحسَّ بسام أن كلماته فَتحت بابَ الآلام ،
فاعتذر من فايز ، وقال له إنه لم يَقصد أن يُعيد الأوجاع .
فركَ فايز عينيه ، وأراد تغيير الموضوع
بسرعة ، فقال :
_ أنا أصلاً جِئتُ لكي أسأل عن حارس المقبرة
.. هل رأيتَه ؟ .
ضحكَ بسام ، وقال بصوتٍ متذبذب بين المرح
والمأساة :
_ الحارسُ صار رَجل أعمال .. لقد افتتح
مَكَب نفاياتٍ خاصاً به ! .
تأفَّف فايز ، وبَدت على وجهه علاماتُ السخط
، وقال :
_ لا أُحب المزاحَ في هذه المواضيع ..
أَجِبْ على قَدْر السؤال أو اخرسْ .
انتشرت التضاريسُ الخشنةُ على جبين بسام ،
وقال بحدَّة :
_ أنا لا أمزح . لقد صار يُجمِّع النفاياتِ قرب
الكسَّارة التي يَعمل فيها أبي ، ويقوم بالتفتيش فيها عن كل شيء له قيمة..وإذا لم
تُصدِّقني اذهب وشاهِد بنفسكَ.
سَقطت أجفانُ فايز على حشائش المقبرة ، وقال
بصوتٍ جارح :
_ قُم .. سنذهب معاً . رِجْلي على رِجْلكَ .
سارا في لهيب العواصف . خطواتُهما وهجُ
الظلال النازف . الصمتُ يقودهما نحو فوهة الشموع الخرساء . كانت النسورُ تطير في
رئة الشمس فوق مَكَب النفايات . أجنحتها اللامعةُ تغطِّي الأفقَ الملتهب .
والضجيجُ يملأ المكانَ . الجميعُ في حركة مستمرة .
كان حارسُ المقبرة يَجلس على كرسي هزَّاز
قرب أكوام النفايات ، ويُلقي الأوامرَ على الأطفال الغاطسين بين القمامة ،
ويُوجِّههم نحو الجهات المختلفة . إنهم في حركة دؤوبة لا تحتمل الكسلَ أو الهدوء .
وما إن رأى فايز وبسام قادمَيْن حتى قفز في
الهواء كلاعب السيرك ، وأسرع إليهما مُرَحِّباً . وقد استغربا كيف صار هذا العجوز
الذابل رياضياً رشيقاً .
قال الحارسُ :
_ أهلاً وسهلاً بالعُضْوَيْن في مجلس الثورة
.
نظر فايز حَوْله ، وهو غير مصدِّق ما يَحدث
، وقال باستغراب شديد :
_ ماذا تفعل في هذا المكان القذر ؟! .
ابتسم الحارسُ قائلاً :
_ هذه قصة طويلة .. تعالا إلى مكتبي
المتواضع لنشرب الشاي ، ونتحدث في الموضوع .
كان مكتبُه عبارة عن طاولة صغيرة عليها
أوراق وأقلام وآلة حاسبة ، ويحيط بها عِدَّة كراسي تافهة .
نادى الحارسُ على أحد الأطفال :
_ يا وَلد .. أحضِر لنا إبريق شاي مع ثلاث
كاسات .
وانطلق صوتٌ ذابل من بين أكوام القمامة :
_ أمرك يا معلِّم ! .
وبعد وقتٍ قصير جاء طفلٌ صغير يَحمل إبريقَ
الشاي مع الكاسات . وضع
الحارسُ
الكاساتِ على الطاولة . صَبَّ الشاي فيها ، وقال للطفل :
_ مع السلامة .. اذهبْ في ستين داهية ! .
ابتسمَ الطفلُ رغمَ أن الدموعَ السحرية في
عينيه كانت تتوهج ، وقال :
_ أمرك يا معلِّم ! .
قال فايز :
_ لماذا تعامله بهذا الأسلوب ؟! .
صمتَ الحارسُ ، وحدَّق باتجاه أجنحة النسور
في أعالي الحزن ، ثم قال :
_ هؤلاء الأطفال يجب أن تريهم العين الحمراء
. يجب أن يظلوا مسحوقين تحت الأقدام لكي يَعملوا على مدار الساعة .. لا وقت عندي
للحنان ولا الرومانسية.
تضايق فايز ، وذابَ قلبُه في البخار المنبعث
من الشاي ، وقال :
_
حرام عليك .. هؤلاء أطفال في عُمر أحفادك .
تجهَّم وجهُ الحارسِ. طأطأ رأسَه كأنه
يَنتشل الذكرياتِ السحيقة من بئر الأيام ، ثم قال والألَمُ يتفشى في حروفه :
_ أحفادي ! . أين هُم أحفادي ؟ .. أولادي
الذين أنجبتُهم ورَبَّيْتهم ودفعتُ دَمَ قلبي من أجل تعليمهم رموني في ملجأ
العَجزة والمسنِّين..وأنتَ تقول لي: أحفادك؟!.
وأردف قائلاً :
_ اشربا الشاي .. لا فائدة من الأولاد ولا
الأحفاد ! .
أراد فايز وبسام التهرب من شرب الشاي الذي
بدا لونُه غريباً بعض الشيء ، كما أنهما أُصيبا بالقرف من منظر القمامة . ووجودُ
الشاي في هذا المكان يبعث فيهما الغثيان . أمَّا الحارسُ فكان يَشرب الشاي غير
عابئ بكل ما يَجري حَوْله .
قرَّر فايز تغيير الموضوع ، وإنهاء اللقاء
بسرعة ، فقال :
_ باختصار شديد .. ماذا تفعل هنا بالضبط ؟ .
_ بدون مقدِّمات . نحن نَجمع الزبالة في هذا
المكان ، والأطفالُ يقومون بفصل المواد البلاستيكية وعلب المشروبات الغازية ،
وفرزِ كل شيء له قيمة من أجل بَيْعه.
فالأطفالُ
عيونهم ستة على ستة . يعني نظرهم حاد ، ويمكنهم تمييز المواد وفصلها .
قال بسام بكل براءة :
_ وما ذَنْب هؤلاء الأطفال الفقراء ؟ .. لا
بد أن يُصابوا بالأمراض والجراثيم .
_
أنا لا أضرب أحداً على يده ليعمل معي. بلا مؤاخذة ، كل وَلد يأخذ أُجرته
نهاية
اليوم ، ولا آكل حقَّ أحد . والذي يَمرض أو يَموت مع ألف سلامة .. لَدَيْنا ألف
وَلد مكانه .
كيف صار حارسُ المقبرة قاسياً إلى هذا الحد
؟! . مشاعرُه أضحت في زاوية الربح والخسارة . لقد تغيَّر كثيراً منذ ابتعاده عن
المقبرة . وربما غيَّر هاجسُ المال أحاسيسه ، وبدَّل قناعاتِه . هذه الأفكار كانت
تَطوف في ذِهن فايز وبسام مع اختلاف زاوية الرؤية . وقد فكَّر فايز أن يَطرد
الحارسَ من مجلس قيادة الثورة ، ويمنعه من حضور أي اجتماع للقيادة ، لكنه تخلى عن
هذه الفكرة قائلاً في نَفْسه :
_ الدمُ لا يَصير ماءً ، وسيظل الحارسُ
مِنَّا وفِينا رغم كل شيء .
افترَقوا . ذهب كلُّ واحد في طريقه . كل شخص
مؤمن بقناعاته . الشموسُ طَوَتْها ثيابُ الحِداد ، وما زال البشرُ يَمشون .
يَركضون في أنفاق العُمر . قد يُولَد ضوءٌ في النهاية ، وقد لا يُولَد . تظل
الاحتمالاتُ هي الدستور الشفهي لهذه الوجوه المعجونة بعَتمة الأزقة ، والمختفية
وراء ظلال النوافذ المكسورة .
عاد
بسام إلى بَيْته ، والخواطرُ تتلاعب به . دَخل المطبخَ الصغير . جهَّز ثلاث
سندويشات ، وأخرج من الثلاجة علبة مشروبات غازية . إنه يتجهز للسَّفر . أينَ
سيُسافِر ؟. إنه يسافر عبر الزمان.. يطوي الأمكنة، ويَقفز من نَفْسه ليتزوج بناتِ
أفكاره . قرَّر الذهابَ إلى عالَمه الخاص .. إنه قَبْو مَنْزله .
وهذا القبو لا بابَ له . والدخولُ إليه يتم
من خلال فجوة في الجدار. وقد اتخذ بسام القبو صومعةً له ، ومختبراً عِلمياً لإجراء
أبحاثه التي تحتاج إلى أدوات ومعدات .
إن
بسام قد قسَّم عُمره إلى قِسْمَيْن : الرياضيات والعلوم . وقد اتخذ من المقبرة
مقراً لإجراء الحسابات الرياضية ، والتبحر في نظريات الرياضيات . أمَّا القبو فصار
مختبَراً للعلوم ، لأن فيه أدوات عديدة لا يمكن نقلُها إلى المقبرة. ولا نبالغ إذا
قُلنا إن حياته هي المسافة بين القبو والمقبرة ، أو بين المقبرة والقبو . وهو يقضي
ساعاتٍ طويلة في القبو في إجراء الأبحاث ، ولا يُرافقه غير الصراصير ، وأحياناً
الفئران .
لم يَستطع بسام التحرر من أفكار حارس
المقبرة حول مكب النفايات . كان مُعجَباً بفكرة فرز النفايات ، وفصلِ المواد .
لماذا لا تتم الاستفادة من النفايات ؟ . إنها كنز ثمين يُنظَر إليه على أنه شيء
تافه . السرُّ في الإدارة لا الموارد . وأحياناً يكون البروازُ أجمل من الصورة .
قد يَكتب الشاعرُ قصيدةً جميلة عن شيء قبيح ، والعكس صحيح. إذن ، لا بد من إمساك
الخيط ، والسيطرة على العناصر المحيطة . فالمسيطر هو القوي .
أدرك بسام هذه المعاني ، وأدرك كذلك أنه
أمام اختبار صعب سوف يُحدِّد مصيرَه العِلمي إلى الأبد. أخرجَ من جَيْبه علبة
كبريت، وتناول عودَ ثقاب ، وأشعلَ فتيلةَ المصباح الذي كان مصدر الإضاءة الوحيد في
القبو . وراح يُسجِّل بعض الملاحظات السريعة على دفتره بشكل مُرقَّم :
1_ يجب حماية الأطفال من الأمراض والجراثيم،
وتزويدهم بقفازات ، وملابس خاصة للحفاظ على صحتهم .
2_ ضرورة تصميم جهاز آلي لفصل المواد البلاستيكية
، وعلبِ المشروبات الغازية ، ويكون التجميع في حاويات خاصة .
3_ إيجاد آلية لجمع النفايات دون التسبب في
تلويث البيئة .
4_ الاستفادة من الغازات المنبعثة من
النفايات .
صار هذا المشروع هو الشغل الشاغل لبسام .
إنه مشروع تخرُّجه من جامعة الذكريات . فإذا نجح فيه فسوف يَخرج من تحت الأرض ،
ويصبح نقطةً مضيئة في التاريخ . سوفَ ينتشل تاريخَه الشخصي من بئر الإبادة . وإذا
فشل سيظل عائشاً تحت الأرض مثل الجرذان ، ويَذهب إلى النسيان مثل الملايين الذين
يُولَدون ويموتون دون أن يَتركوا بصمةً في حياتهم .
وفي هذا القبو ، إمَّا أن تَنطلق شرارةُ
المعنى ، أو يَحترق هذا الولدُ إلى الأبد مثل فراشةٍ ماتت قبل أن تُولَد . لا بد
من المغامرة وليس المقامرة . لا يوجد عنده
ما يَخسره.
سَيَلعب الجوكر ، ويَرمي بكامل ثقله في جسد الأحزان الأخضر ليُفجِّره .. مرة
واحدة ، وللأبد .