الحرية سلاح ذو حدين
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
............
تُمثِّل القُدرةُ على
صناعة التاريخ امتحانًا حقيقيًّا للإنسان ، في رحلته داخل نفْسه وخارجها . وهذا
الامتحان لا يقوم على ثنائية ( الأسئلة / الأجوبة ) ، وإنما يقوم على ثنائية (
الصُّمود / التَّكَيُّف ) ، إذ إن وُجود الإنسان الفِعْلي والفَعَّال لا يتكرَّس
في بنية العلاقات الاجتماعية ، إلا إذا صَمد الإنسانُ في وجه التحديات المصيرية ،
ونجح في تجاوزها ، وتَكَيَّفَ معها . وهذا التَّكَيُّف لا يعني الذوبان فيها ، ولا
الاستسلام لها ، بَل يَعني العمل المتواصل لإيجاد حُلول للمشكلات الفردية
والجماعية،لأن المشكلات جُزء مِن تركيبة المجتمع الإنساني ، وهي دليل على حياة
المجتمع وحيويته ، وسَعْيه إلى العمل الدؤوب، وصناعة الإنجازات،والتَّقَدُّم إلى
الأمام . ووجود الأخطاء طبيعي ومُتَوَقَّع ، لأن كُل مَن يَعْمَل مُعرَّض للخطأ ، ومَن
لا يَعمل لا يُخطِئ . ووجودُ المرض ومُقاومته دليلان على حياة الإنسان وإرادته
وإصراره ، والميت _ وَحْدَه _ لا يُصاب بالمرض ولا يُقَاوِم . والباحث عن مجتمع
بلا مشكلات ، كالباحث عن حياة بلا مَوت .
2
رحلة
الإنسان في هذا الوجود عبارة عن حركة تصحيحية مُتواصلة ، تهدف إلى تصحيح الأخطاء ،
وتدارُك ما فات ، وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه . ولَن يَنجح الإنسانُ في صناعة التاريخ
إلا إذا تحرَّر مِن الخَوف . وأكبر خطر يُهدِّد الإنجازَ البشري والتقدُّم الحضاري
، هو ترك العَمل خَوفًا مِن ارتكاب الخطأ ، والوقوف على الحِياد خَوْفًا مِن لَوم
الناس وعِتابهم ، وعدم أخذ زِمام المُبادرة خَوفًا مِن رَدَّة فِعل المُجتمع. وهذه
الرَّهبة المُتجذرة في نفوس الكثيرين ، تُحطِّم المَواهبَ ، وتَقتل الإبداعَ ،
وتَجعل الإنسان مَيتًا في الحياة ، بلا هُوية مستقلة ولا شخصية اعتبارية . وبسبب
الخَوف ، والتفكيرِ في أحكام المُجتمع المُسبقة ، وعدمِ الثِّقة بالنَّفْس ،
يتحوَّل الإنسانُ إلى شبح فارغ ، وظِل باهت ، وتابع مكسور ، وجُزء مَنسي في
المجموع الكُلِّي ، بلا أحلام ولا آمال . وعِندئذ ، يَخسر المجتمعُ مواهبَ أبنائه
الإبداعية وطاقاتهم الهائلة . وكثير مِن الناس لَدَيهم وجهات نظر خاصَّة ، وكلام
تحليلي للأحداث ، وبُنى فلسفية عميقة ، ومعَ هذا ، يَلُوذون بالصَّمْت ، ويَدفِنون
كلامَهم في قلوبهم ، خَوْفًا مِن نَظرة المجتمع ، أو رَدَّة فِعل الآخرين (
السُّخرية ، الاستهزاء ، التَّوبيخ ) . ومَواهبهم الذاتية وإمكانياتهم الشخصية
تُؤهِّلهم أن يَكونوا قادةً للرَّأي في المُجتمع الإنساني ، ومعَ هذا يَقبلون بدور
الكومبارس ، والتابع لإفرازات العَقل الجَمعي ، والخاضع للأفكار الشَّعبوية التي
تَمَّ ترسيخها كمُسلَّمات ، بفِعل ضَغط الجماهير ، وهَيَجَان الرأي العام ، وليس
بفِعل الدليل الصحيح ، والمَنطق السديد . وسُلوك الجماعة بلا تفكير ولا تخطيط
يُجذِّر سياسةَ القطيع في المجتمع الإنساني ، ويَقوده إلى الهاوية السحيقة ،
لأنَّه أغفلَ الحُجَجَ والبراهين ، واعتمدَ على الأفكار الشَّعبوية العاطفية ،
والمشاعر الجماهيرية الحماسية . والرَّأي الصحيح يُؤخَذ بالحُجَّة القوية ، وليس
بالأغلبية . وعلى الإنسان أن يثق بنفْسه وإمكانياته ، ويَمتلك الشجاعة للتعبير عن
آرائه بشكل هادئ وعِلمي ومنطقي ، لأنَّه الخَوف سيقتله مِن الداخل ، ويَجعله
كيانًا مُفرغًا مِن الحُلم والإبداع والإنجاز ، وهذه العملية بداية الانهيار والنهاية
، لأن الكيان الإنساني الفارغ سيسقط ، كما تَسقط العمارة المُفرغة من الهواء بفِعل
الضغط الخارجي . وكما قال الزعيم الهندي غاندي : (( في البداية ، يَتجاهلونك ، ثُم
يَسخرون مِنك ، ثُم يُحاربونك ، ثُم تنتصر ! )) .
3
الذكاءُ
الاجتماعي على الصعيدَيْن الفردي والجماعي يقوم على ثلاثة أركان : أ_ الذهاب إلى
أبعد نُقطة بأقل تكلفة . ب_ التأقلم مَعَ الظروف الصعبة ، وتَطويعها ، وتحويلها
مِن مِحْنة إلى مِنْحة . ج _ الإمساك بطَرف الخَيط مَهْما كانت التهديدات
والضغوطات ، لأن التَشَبُّث بطرف الخَيط يعني أن الإنسان على الطريق الصحيح ،
وسيصل إذا واصلَ المشي ، مهما كان بطيئًا وضعيفًا . ولكن فقدان طَرف الخَيط يَعني
خسارة الطريق ، وضياع الإنسان في متاهة . ولا فائدة مِن التقدُّم ، والمشي بسرعة ،
وصَهر المراحل ، إذا كان الطريقُ خاطئًا ، كما أنَّه لا فائدة مِن سُرعة القِطار
إذا كان في الاتِّجاه الخاطئ .
4
عندما يصل
المجتمعُ الإنساني إلى الحضيض ، ويغيب اليقين ، وينتشر الشَّك ، وتزول الثِّقة
بالنَّفْس ، ويُصبح الشُّركاء في الوطن أعداء ، وتصير مؤسسات الوطن عِبئًا ثقيلًا
على المواطنين، تُصاب الجماهيرُ بالعَمى الأيديولوجي ، وتفقد القُدرة على التمييز
، وتتكرَّس سياسةُ القطيع كحالة نهائية للخلاص الوهمي ، ويَؤول العقلُ الجَمعي إلى
عواطف غير منطقية ، وإفرازات اجتماعية مَهووسة ، وتُصبح الحُرِّيةُ خطرًا على
الناس ، لأن الحُرِّية مسؤولية ، وإذا عَجِزَ الإنسانُ عن تحمُّل المسؤولية ، ولم
يَستطع تقدير قيمة الحُرِّية ، ولم يَقدر على استخدامها في المجال الصحيح ، سوف
يُؤذي نَفْسَه ، ويضرُّها بدلًا مِن أن يَنفعها . والأمرُ يُشبه إعطاء طِفل
سِكِّينًا كَي يَقطع تُفاحة ويأكلها. إن هذه العملية تهديد لحياة الطفل، ولَيست
حِرصًا على تغذيته وتَقوية جِسمه . وينبغي أن نعرف أن الزعيم النازي أدولف هتلر
وَصَلَ إلى السُّلطة بانتخابات ديمقراطية حُرَّة ونزيهة ، وفقًا لقواعد السُّلوك
الانتخابي ، ولم يجئ بانقلاب عسكري ، ولم يَسفك قطرة دم واحدة في طريقه إلى الحُكم
. ولكن النتيجة كانت كارثية ، ومعروفة للجميع . وهذا يعني أن الجماهير التي منحته
أصواتها الانتخابية كانت في حالة غرق ، والغريق يتعلَّق بِقَشَّة ، أو يتعلَّق
بحبال الهواء . صحيحٌ أن هذه حالة نادرة ، والنادر لا حُكم له ، ولكن حُدوث شيء
مَرَّة واحدة على أرض الواقع ، يَعني أن احتمالية تَكراره واردة . وكُل إنسان لا
يَعرف قيمةَ النِّعمة سيجعلها نِقمةً، وتَكون وَبالًا عليه. والشعوبُ التي لا
تَعرف معنى الحُرِّية، سوف تستخدمها لذبح نفْسها. وهذا ليس دفاعًا عن الاستبداد ،
أو دَعْمًا للطغاة ، ولكن ينبغي معرفة أن الحُرِّية مُمارسة تعليمية تدريجية
جماعية، ولَيست قفزة في المَجهول، أو انتقالًا مِن الوجود إلى العدم ، أو تفكيكًا
لمؤسسات الدولة ، أو تدميرًا للمُنجزات الوطنية الحضارية ، أو إضاعةً لحاضر الشعوب
ومُستقبلهم . ومَن أرادَ تعلُّم السباحةَ ، عليه أن يَذهب برفقة مُدرِّب إلى بركة
ماء صغيرة ، ولا يَذهب إلى البحر وحيدًا ، لأنَّه سيغرق حَتْمًا . والحُرِّيةُ
شُعلة نار ، قد تُنير طريقَ الإنسان في الظلام ، وتُوصله إلى أهدافه وأحلامه ،
وتَجلب له الدفء ، وتُوفِّر له الحماية مِن الأعداء. وفي نَفْس الوقت، قد تُنهي
حياةَ الإنسان، وتحرق الأخضرَ واليابس، وتَجعل الحياةَ جحيمًا لا يُطاق .