رواية جبل النظيف / الفصل الخامس عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
..............
انتهت الحفلةُ . وبدأت حفلةُ الموت الخاصة
برأفت . خرج من الفيلا ، ودخل في قصر الليل . صداعُه غابةٌ منسية في رسائل الموج .
ودموعُه تحرق الشوارع . شَعر أنه مصاب بعمى ألوان . المناظرُ أمامه تتداخل بصورة
غريبة ، والأصواتُ تصير ألواناً ، والألوانُ تصير أصواتاً .
أوقفَ سيارة تاكسي ،
وطلب من السائق أن يوصله إلى جبل النظيف . جلس في المقعد الخلفي ، وغرق في النوم .
لاحظَ السائقُ التعبَ العميق على وجه هذا الراكب العائش بين المومياوات . شَغَّل
العدَّاد ، ثم فكَّر لو يَدور في الشوارع ، فتزداد المسافة ، ويحصل على أُجرة أكبر
. لكنه طردَ هذا الخاطر الخبيث قائلاً في نَفْسه :
_ لا تكن نذلاً ، ولا
تستغل ضعفَ الآخرين .
وعندئذ فكَّر في كل
الطرقات المختصرة التي يمكن أن تقلِّل الأُجرة .
وَصلت السيارة إلى
المكان المدفون تحت أقواس الحزن لا النصرِ ، وراح السائق يوقظ رأفت . استيقظ رأفت
من مَوْته ، وهو يَنظر حَوْله كالمصروع . حاول أن يتذكر مجريات الأحداث ، ويعيد
السيطرة على أعضائه . أخبره السائق بأنهما في جبل النظيف. نظر رأفت إلى العدَّاد
الذي ظهر كإشارة مرور حمراء . دفعَ للسائق ، وسامحه بالباقي .
مشى إلى بيته . كلُّ
الأزقة أبوابٌ مغلقة أمام طيور الوهج . بيتُه ضريحٌ هادئ . وَحْدَها أُمُّه كانت
في انتظاره . وما إن رأتْه حتى قالت له :
_ هل أُعِد لك طعاماً ؟
.
اقترب منها ، وقبَّل
يَدَها ، وقال بصوتٍ حزين :
_ أخبرتُك يا أُمِّي ألا
تنتظريني ، فسوف أتناول الطعام في الخارج .
_ خفتُ عليك أن تنام
جائعاً .
وبصورة غير متوقعة ، راح
رأفت يبكي كالطفل الصغير ، وارتمى في أحضان أُمِّه . أُصيبت أُمُّه بالحيرة ،
واستغربت هذا التصرفَ المفاجئ ، وقالت :
_ لماذا تبكي يا رأفت ؟
.. هل مات أحد أقاربنا ؟ .
_ أنا مِتُّ يا أمي ! .
_ لا تقل هذا يا حبيبي .
ستبقى _ إن شاء الله _ كالحصان ، وتعيش لترى أولادك وأحفادك .
أحسَّت أُمُّه أن أمراً
كارثياً قد حَصل ، فليس من عادة رأفت أن يبكيَ ، أو أن يكون ضعيفاً بهذا الشكل .
إنها قلقة عليه للغاية ، وخائفة إلى أبعد حَد .
سألَتْه بحدَّة :
_ ماذا حصل يا رأفت ؟ ..
صَارِحني .
شَعر أنه في ورطة
حقيقية، فهو شخصياً لم يتوقع أن ينهار بهذه الصورة أمام أُمِّه، فلم يجد مفراً من
الكذب عليه ليريحها ، فقال :
_ أحد طلابي رَسب في
الامتحان مع أني دَرَّسْتُه جيداً ! .
تنفست أُمُّه الصعداء ،
وابتسمت قائلة :
_ إن شاء الله تكون هذه
أكبر المصائب . الطلابُ يَرسبون ويَنجحون . الأمرُ عادي . وقل له أن يدرس أكثر ،
وسوف يَنجح في المرة القادمة بإذن الله .
مضى رأفت إلى غرفته ،
وهو يقول بسخرية :
_ سوفَ أُخبره أن يَدرس
أكثر في المرة القادمة لينجح ، ويتخرج من الجامعة ،
ويصبح عاطلاً عن العمل ! .
جلس على كرسي مكتبه .
وأدرك في تلك اللحظة المخيفة أن الحل الوحيد لتفريغ عواطفه هو الكتابة . وطالما
أحب أن يصبح كاتباً مشهوراً ، لكن " العين بصيرة واليد قصيرة "، كما
يقولون . هذه هي اللحظة المناسبة ليؤلف كتابَه الأول . كل الأحداث جاءت إليه .
ارتمت على مكتبه بكل تفاصيلها ، وما عليه إلا أن يَنظمها بأسلوبه ، ويصبُّها في
قوالب أدبية . ما هو الشكل الأدبي الذي سيختاره ؟ . أطرق ملياً ، ثم لمع العنوان
في رأسه : " خواطر رَجل تافه أحب زوجةً خائنة " .
هل سينشره أم
سَيُخَبِّئه في درج المكتب ؟ . عنوان لافت للنظر ، وسَيَجذب آلاف القراء أو ربما
الملايين ، فيصبح كاتباً غنياً تركض وراءه وسائلُ الإعلامِ وعدساتُ المصوِّرين .
وقد يُتَرْجم إلى عدة لغات فيصبح كاتباً عالمياً مثل ماركيز أو فوكنر. ولكنْ قد
تعترض الرقابةُ على العنوان . هل سَيُسَمِّي الشخصيات بأسمائها الحقيقية ؟!. سوفَ
يلاحقونه قضائياً، وربما يَمنعون الكتابَ ، ويَخسر كلَّ أحلامه .
هل سيعتمد على أسلوب الفضائح ؟ . إن المنع والفضائح وقضايا المحاكم
سوف ترفع نسبةَ توزيع الكتاب ، والترويج له داخلياً وخارجياً . كل هذه الأفكار اصطدمت
في ذهنه . وهو حتى هذه اللحظة لم يكتب أيَّ حرف على الورق .
وصل إلى قناعة مفادها أن
الكتابة حاجة شخصية..تفريغ للمشاعر على الورق. وهو لا يَطمح أن يكون رَجل أعمال ،
أو يتلاعب بمشاعر الناس ليبنيَ إمبراطورية البزنس . هذا بالضبط ما توصَّل إليه بعد
صراع مرير مع نَفْسه .
جهَّز الأوراقَ ، وأمسكَ
قلمَ الحِبر ، وراح يَكتب منقطعاً عن العالَم :
[ هل ستصبح حياتي
المنطقية مجرد نزوة ؟ . هل يتحول القطارُ البخاري إلى إبريق شاي يغلي على نار
العشق ؟ . موقدة منسية يجلس أمامها عاشقان في كوخ منسي في غابة من الحطب . لأني
أكرهكِ أحبكِ ، لأني أهرب منكِ آتي إليكِ . مِن أين تأتي الأحزان ؟ . كيف يُولَد
الحبُّ في الجثث المتفحمة التي تَنشرها القلوبُ على حبل الغسيل ؟. ربما نمتلك
نَفْس قارورة العِطر ، لكنه عِطر قاتل يَسيل على نوافذ المطر الذي لم يجيء إلى
صحراء الروح. السمكةُ ابتلعت الطُّعمَ أم الطُّعمُ ابتلع السمكةَ ؟. كلماتي محطةُ
تشويش تُدمِّر رادارَ أعصابي. وأفكاري بئر التناقضات . هكذا تصبح الفوضى هي النظام
الحاكم في مشاعري. أدفنُ جثتي في علبة السَّردين، ويَكتشفُ قَبري الغزاةُ
المعلَّبون في أجساد مدافعهم .
الذكرياتُ الرمادية خلفَ
الستائر الذهبية ، والعوانسُ على شُرفات الطوفان . حِقْدي على نَفْسي لا يُوفِّر
لي وقتاً لأحقد على الآخرين . كَم أحتاج من الوخز لأموت على صدرها ؟ . هذا العاشقُ
لا يَنهار إلا إذا كان لديه قابلية للانهيار . وهذه النملةُ التي تَمشي على مكتبي
أفضل مني لأنها لا تَعْصي اللهَ .
كلُّ وجوه النساء
اللواتي مررنَ في حياتي هي وَجْهُ امرأةٍ غامض مَرَّ خلف زجاج أحد القطارات بينما
كنتُ جالساً في المحطة . نساء يَسقطنَ في الوهمِ يرسمنَ صورةً مسبقة لقصة حب
مخترَعة ثم يُسقطنَ الأحداث وفقها . إن رأيتَ عروساً زُفَّت إلى زوجها ، فهذا لا
يعني بالضرورة أنها تحبه . كانت أشعةُ الشمس متعامدة مع شواهد القبور . هذه الأرض
التي ندمرها سوف تنتقم منا . ستصبح الذكرياتُ لعنةً تطردنا وتطاردنا . عِشنا معاً
يا قططَ الشوارع ، لكننا لم نعرف أننا أصفار على الشمال ، مجرد أصفار لا وزن لها .
نضحك ، لكننا نضحك على أنفسنا ، ونلعب بمصيرنا واثقين من الفشل . نحن أرقام ..
مجرد أرقام خارج ميزانية الحضارات المنقرضة . نُلدَغ من نَفْس الجحر مئات المرات .
تصبحُ الذاكرةُ امرأةً جسدُها مع زوجها ، وقلبها مع رَجل آخَر. ذكرياتُنا مصابة
بانفصام في الشخصية. نحن غرباء عن أنفسنا. اكتئابي كالبيات الشتوي للدببة القطبية
، تخرج من بياتها فاقدةً ثلثَ وزنها ، تبحث بكل جنون عن الفقمات . ننتقل من فشل
إلى فشل . ومن فَرْطِ ما فشلنا ، صار الفشلُ هو النجاح الوحيد ، وصارت هزائمُنا
الكثيرة هي الانتصار الوحيد .
لا أقلق على مستقبلي
لأنه ليس لي مستقبل . صرتُ مثلَ قائد الطائرة ، إمَّا أن يوصلها بسلام أو يموت مع
الركاب.. لا مجال للهرب. وعندما تَسقط الطائرة ، ستذهب قصصُ الحب التي خاضتها
المضيفاتُ إلى النسيان . تتلاشى الحكاياتُ في وقود الطائرة المحطَّمة مثل الذكريات
المحطَّمة. وهذا الإنسانُ دمَّر الأرضَ، وسيذهب لكي يكتشف المريخَ. قضيتُ حياتي
هارباً من نَفْسي. صرتُ أخاف الالتقاءَ بوجهي. أخاف من المرايا .. كسرتُها . أن
تَطلب مني التخلي عن اكتئابي مثل أن تَطلب من الراقصة التخلي عن رقصتها . كان
عليَّ أن أبتعد عن المرأة التي أعشقُها ، لأحافظ على صورتي كأسطورة أو أيقونة ..
زجاجٌ بعيد عن اللمس لئلا يُخدَش . لكني الآن أسطورة مَيْتة .. أيقونة محترقة ..
مزهرية مكسورة .
كُنَّا نحتقر السبايا ،
وكلُّنا سبايا . حياتنا أسواق نخاسة كاملة المعالم . حياتي رَجْعُ صدى غامض ،
وأُمنيتي أن أكتشفَ الصوتَ . كلُّنا أسرى ننتظر في طابور الحزن لاستلام حِصَّتنا
من الموت . خضتُ حربَ استنزاف عاطفية ، وعدتُ مهزوماً أجرُّ أذيال الخيبة . جيوشُ
العارِ مهزومةٌ ، وحضاراتُ الإبادةِ مكسورة . فكيف سأكونُ الوردةَ في وسط المقبرة
أو قارورة العطر في مزبلة التاريخ ؟! . هل يمكن أن أغار على امرأة من زَوْجها ؟! .
هل يمكن أن أغار على امرأة أكثر من زوجها ؟! .
أطفالٌ يَحملون ألعابهم ويسيرون إلى الذبح .
بشرٌ يأكلون بعضهم في المزارع المحروقة. مُسدَّساتُ ماء يشتريها الأطفال في العيد
ثم يكسرونها . قُرى تُباد عن بكرة أبيها . والمتفرِّجون يزدادون ضحكاً . أنسحب من
حياتي ، ويأخذ مكاني الآخرون. أحترقُ بأوهامي ، والآخرون يعيشون أحلامي . عشتُ مع
العبيد والإماء منتظراً ضوء الفجر . كنتُ كاذباً ، وكان الفجرُ صادقاً .
إنني أحبُّ من أجل الذكريات لا الزواج . ولا
داعي أن أنتحر لأني كل يومٍ أنتحر . أشعرُ أني عاجز جنسياً . مشاعري عاجزة . أنا
جثة هامدة .. شبحُ إنسان منبوذٍ لا تاريخ له سوى النسيان . ولا أدري هل هذا وهم أم
حقيقة . صرتُ مِثلَ لاعب التنس الأرضي الذي فقدَ التوقيت والإيقاع ، فلا بد من
الهزيمة . الإماءُ كثيرات لكنَّ النَّخاس قد تقاعد ، والضبعُ سَقطت أسنانه ،
وأُغلقت سوقُ النخاسة بالشمع الأحمر ، وعاد المهرِّجون إلى بيوتهم بعد إغلاق
السيرك .
صرتُ رَجلاً آلياً سيتحول _ عمَّا قليل _
إلى خُردة ملقاة في مستودع مهجور. أستغربُ عندما أجد أحداً يحبني لأني شخصياً أكره
نَفْسي . فيا قاتلي ، إن سَحقتَ الترابَ بقدميكَ ، فلا بد أن يَعْلوكَ يوماً ما .
البوفيه مفتوح لكني فاقد الشهية . يتحول
الرَّجلُ إلى آلةٍ ، وتصير المرأةُ أثاثاً مستعمَلاً ، وتنتهي الحضارةُ قبل أن
تبدأ . إن أصعبَ شيء في الحب هو الوصول إلى نقطة اللاعودة . تغتصبُ المرأةُ
مغتصِبَها . تصطاد الفريسةُ صَيَّادَها . يصبح ردُّ الفِعل هو الفعل ، والضحيةُ هي
الجاني .
نعطي ظهورنا لبعضنا البعض ، ونحدِّق في بكاء
القمر ، ودموعُنا تحفر الوسادة الأسمنتية . هذا سريرُنا الحجري ، وتبقى نوافذُنا
تطل على الخريف رغمَ تعاقب الفصول. البابُ المفتوح لا يمكن فتحُه، والإنسانُ
المدمَّر لا يمكن تدميره . والراقصةُ مضطرة أن تتحمل قرفَ الزبائن. لا أحد يَسأل
عن مشاعرها. إنها جسد بلا روح . هي آلةٌ مهتزة في العَدَم ، متحركة في الفراغ . في
ذلك الظلامِ الأرجواني ، امرأةٌ تأخذ مالاً من زَوْجها لتشتريَ ثياباً تتزين بها
لعشيقها .
الدجاجةُ التي تأكلها في مطعم الوجبات
السريعة لا تَعرف مشاعرَها ساعة ذَبْحها . كلما اصطدتُ سمكةً أَطلقتُها. لا أُريد
امتلاكَ النساء. لا أُريد امرأةً أُمارس عليها سُلطاتي الذكورية . فلسفتي هي أن
يظل العصفور خارج القفص .. أن تظل الزهرة في البستان دون أن يَقطفها أَحد . أنا
حاضر دائماً في العُرس . عُرسي لا ينتهي ، لكني لا أَصل إلى ليلة الدُّخلة . أحتاجُ
إلى روحِ المرأة لا جسدها . أُمارسُ العشقَ لا الجنس ، أو ربما أُمارس الكراهيةَ
لا الحب . أعيشُ على هذا الحب المجنون القاتل كالطفيليات . صرتُ أخاف مِن نَفْسي . أخاف أن أنظر في
المرآة . أخاف من الناس . أشعرُ أن ظِلِّي يتجسس عليَّ، يكشف أسراري للينابيع
السامة . أخافُ من ظِلِّي . يُخيَّل إلي أنني اتخذتُ قراراً بالانتحار منذ طفولتي،
لكني طيلة هذه المدة كنتُ أفكر في طريقة الانتحار ، وأدركتُ أن حياتنا هي الانتحار
بِعَيْنه .] .
وعند هذا الحد توقف رأفت عن الكتابة . ألقى
القلمَ على سطح المكتب . وضعَ الأوراقَ في أحد الأدراج ، وأَغلق عليها كأنه يُغلق
أبوابَ عُمره ، ويَدخل في صومعة البرق دون مانعة صواعق . أحسَّ براحة كبيرة . قد
تكون مؤقَّتة وخادعة . لكنه أحس بها . ربما تكون مشاعره هدوءاً يَسْبق العاصفةَ .
ورغم هذا شعر بهدوء عميق. مفاصلُه مرتخية، وعظامُه تزداد نعومة ، ووجهه يَطرد
غبارَ الذاكرة ، وشَعره مبتل بالضوء الناعم كأنه خارج من الاستحمام للتو. لم يستحم
بالماء ، لكنه استحمَّ بدموع قلبه . خلعَ ملابسَه بالكامل ، وغرسَ نَفْسه في
السرير . اختبأ تحت اللحاف كأنه يَنتظر قدومَ مَن يُكَفِّنه ، وراح في نومٍ عميق .