سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

02‏/02‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الثامن

رواية جبل النظيف / الفصل الثامن

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

  _ لا يمكن أن أَفهم الرياضيات .. إنها مادة لا تطاق .
     هذا ما أكَّدته سهير أنطوان لنفسها وهي تخرج من مدرسة راهبات الوردية في شارع المصدار. إنها طالبة في المرحلة الثانوية، وتعاني من الأرقام والحسابات ، وتكاد رأسها تنفجر من تفاصيل هذه المادة وطرقها المتشعبة . ويبدو أن دَرْس اليوم كان قاسياً بشكل خاص. فقد وزَّعت المعلمةُ أوراقاً على الطالبات تتضمن أسئلةً إضافية، ونماذج امتحانات مقترَحة . وكلما حَدَّقت سهير في ورقتها أصابها صداعٌ رهيب . وحينما تتذكر النظاراتٍ السميكة لمعلمة الرياضيات العجوز ، يزداد صداعها ، وتشعر أنها بحاجة إلى البكاء أو الصراخ في هذا الشارع المعجون بالمارة ، والمزدحم بالسيارات التي لا تنتهي .
     كانت سهير فتاةً رقيقة لم تتعود على تحمل المسؤولياتِ ، ومواجهة الصدمات الحياتية . فهي آيلة للسقوط في أية لحظة . وقد كانت مرحةً لا تفارقها الضحكات ولا النكات . لكنها عندما صارت طالبةً في المرحلة الثانوية ، انطفأ عالَمها بسبب معاناتها الشديدة في المواد الدراسية ، فقد أجبرها والدُها على اختيار الفرع العلمي على عكس رغبتها . فهو يريدها أن تصبح طبيبة مثل ابنة عمِّها ، أمَّا هي فتريد أن تصبح مصممة أزياء أو عازفة بيانو أو لاعبة تنس أرضي . لكنها خَضعت لرغبة والدها الذي لم يُكمِل تعليمَه ، ويَطمح أن تتلقى ابنته أعلى الشهادات لكي يجد في ذلك تعويضاً عما فاته من التعليم . فهو يتمنى أن يراها طبيبة مشهورة ، يشير الناسُ إليها ويقولون : هذه الدكتورة سهير ابنة أنطوان الراوي . وبعد وفاته يقولون : امرأة بألف رَجل، والذي خَلَّف ما مات. ولأن سهير وحيدة أبوَيْها ازداد الضغطُ عليها ، ووَجدت نفسها في فوهة المدفع لوحدها .
     وسهير _ تلك الفتاة الناعمة المدلَّلة _ غير قادرة على تحمل هذه الأعباء . لذلك تشعر أنها منبوذة في هذا العالَم رغم انتمائها إلى أسرة غنية . فوالدها أنطوان الراوي يملك محلاً للذهب في حي الأشرفية . وأمُّها أوكرانية كانت بطلةً في الجمباز أيام شبابها ، وفازت بعدة ميداليات . وعمُّها طوني الراوي مُصمِّم أزياء عالمي يقيم
في باريس ، ويعمل مع أشهر نجمات السينما .
     ولا يمكن نسيان ذلك المشهد الذي جَمع بين سهير ووالدها . فقد قَررت مصارحته بأنها تريد أن تصبح مصممة أزياء مِثْلَ عمِّها . فقال لها أبوها إنه سَيُحْضِر لها كل أنواع القماش لتتدرب عليه في البيت ، وسوف يسمح لها بالذهاب إلى عمِّها في إجازة الصيف. وليكن تصميم الأزياء هواية، ولا داعي أن تتخذه مهنةً . وعندما أدركت أن هذا الطريق مسدود ، قالت له إنها تريد أن تصبح عازفة بيانو ، فقرر والدُها شراء بيانو لها ، وإحضار معلِّمة موسيقى لتعليمها العَزْف ، وليكن العزفُ هوايةً في وقت الفراغ ، فالموسيقى لا تُطعِم خبزاً في بلادنا . هكذا أكَّد لها . وبقي عندئذ خيار وحيد ، وهو أن تصبح لاعبةَ تنس أرضي مثل شتيفي جراف ، وقد أخبرها والدُها حين سمع هذا الكلام بأنه رَجل شرقي لا يسمح لابنته أن ترتديَ تنورةً قصيرة ، ولكنْ بإمكانها ارتداء بنطال ، وممارسة هذه الرياضة في جمعية الشابات المسيحيات التي تملك ملعباً للتنس الأرضي ، ولا داعي أن تصبح مثل شتيفي جراف ، فلتصبحْ مثلَ سامبرس ! ، ولتظل هذه اللعبة مجرد هواية. وهكذا وَجدت سهير نفسها في طريق واحد ، وهو اختيار الفرع العلمي لكي تصبح طبيبة مثل مونيكا ابنة عمِّها ، ليست مونيكا سيليش ، ولكنْ مونيكا طوني الراوي ! .   
     مشت سهير برفقة زميلاتها في شارع المصدار الذي بدا حينئذٍ مثل جبل لا قمة له . وقد أخبرتهن بمقدار معاناتها في مادة الرياضيات ، فأشارت عليها إحداهن بإحضار مدرِّس خصوصي ، وقالت لها أخرى إن عليها مضاعفة جهودها ، وقامت ثالثة بتأنيبها متهمة إياها بالتقصير ، والتفكير في أمور تافهة لا علاقة لها بالمدرسة .
     ازداد صداعُ سهير ، وازداد شعورُها بالغربة في هذا العالَم . وعندما وصلت إلى سور المقبرة ، نَظرت إلى ورقة الرياضيات ، ثم ألقتها على القبور ، وقالت بكل سخرية :
     _ فليحل الأمواتُ هذه الأسئلة ، ولتفرحْ معلمة الرياضيات العانس ! .
     وعَلَت ضحكاتُ البنات في الشارع ، واختلطت دموعهن الخفية بضجيج السيارات ، ورائحةِ الدُّخان ، واتَّجهت ضفائرهن نحو شموس الألم ، وواصلنَ السير إلى بيوتهن في حي الأشرفية الذي بدا _ رغم قُرْبه _ كأنه في آخر الدنيا .
     كان بسام يتجول في المقبرة وحيداً ، محاولاً تجميع قواه الذهنية ، والتركيز في مشاريعه المستقبلية . فهو لم يَقدر على التفكير في البيت بسبب كثرة المشكلات الأسرية ، والصراع الدائم بين أبوَيْه . وحين يشتد الصراعُ المنزلي لا يَمْلك إلا الهرب نحو دفء المقبرة ، حيث يجد فيها الهدوء ، وهذا يساعده على حل واجباته الدراسية ، والتأمل في مسار حياته ، وحركة هذا الوجود .
     رَاحَ يَمْسح شواهد القبور من الأغبرة ، ويلتقط بعض الحشائش الفوضوية ، ويُزيل الأوساخ المتكاثرة هنا وهناك . وأثناء انشغاله في هذا العمل وَجد ورقةَ الرياضيات التي رمتها سهير . أخذها ونفض عنها الغبار ، وجلس تحت شجرة الصنوبر القريبة من أحلامه ، البعيدة عن أشلائه المتكاثرة كالزنابق . وأخذ يتفحص الورقة ، ويستعرض الأسئلةَ سؤالاً سؤالاً . ثم هزَّ رأسه قائلاً :
     _ مستوى الأسئلة لا بأس به .
     أحضر حقيبته المدرسية ، وأخرج منها قلمَ حِبر ، وبعض الأوراق البيضاء . وأخذ يحل الأسئلة بشكل تفصيلي مع وضع شروحات جانبية . وبعد أن انتهى، قرَّر لصق الأوراق على سور المقبرة الخارجي، قريباً من المكان الذي أُلقيت منه ورقة الأسئلة . أحضر الصمغَ من الحقيبة ، وقفز كالقرد على السور ، ثم قفز مرةً أخرى على الشارع ، وسائقو السيارات يَنظرون إليه باستغراب شديد . لكنه لم يعبأ بتلك النظرات ، وألصق الأوراق كما خطَّط مسبقاً ، ومضى إلى حال سبيله .
     وفي اليوم التالي تابعت سهير وزميلاتها خطَّ السير المعتاد . فقد خرجنَ من المدرسة ، ودخلنَ في مواضيع شتى . وكل واحدة تُدلي بِدَلْوها. وعندما اقتربنَ من سور المقبرة ، قالت إحداهن بسخرية :
     _ لا بد أن الموتى قد حَلُّوا أسئلة الرياضيات ! .
     عَرفت سهير أنها المقصودة بهذا الكلام ، فقالت ساخرة :
     _ ولا بد أنهم وَضعوا لي علامةً كاملة بسبب عبقريتي ! .
     وأَطلقت سهير ضحكةً مجلجلة امتزجت مع أسمنت سور المقبرة ، وانتشرت ضحكاتُ البنات كانتشار النار في الهشيم ، لكنها انطفأت بسرعة . وخَمدت الأصواتُ العالية ، ودَبَّ الرعبُ في تفاصيل وجوههن . فقد رأينَ ورقة الرياضيات معلقةً على السُّور . ليس هذا فحسب . بل أيضاً الحلول موجودة إلى جانبها .
     تبادلت البناتُ النظراتِ القاتلة . وكلُّ واحدةٍ راحت تبلع رِيقها ، وأصابعها ترتعش . كانت أوصالهن تغطس في مستنقع عميق ، ورؤوسهن تجدِّف في دُوار شرس .
     اقتربت سهير من الأوراق وهي غير مصدِّقة ، صارت تشكُّ في نَفْسها . هل هذه حقيقة أم أحلام يقظة أم كابوس ؟! . إنها تفرك عينيها . تقرص خدودها لتتأكد أنها ليست نائمة . رَسمت الصليبَ على صدرها ، وأظافرها تَتساقط في الفراغ كالمطر الحامض . اختلط في ذاكرتها منظر السيارات والمحال التجارية والباعة المتجولين والمارَّة الراكضين نحو نهايات الحلم . شَعرت أنها مصلوبة على زجاج السيارات . أفكارٌ غريبة لا رابط بينها هاجَمَتْها في تلك الساعة المخيفة .
     تحسَّست الأوراق مثلما تتحسَّس جسدَ بيانو قديم سيصبح حطباً للموقدة في ليلة خريفية باردة . هَربت صديقاتها من المكان ، وتفرقنَ في الدروب الخشنة . وبقيت وحدها تحدِّق في الأوراق ، وتقرأ الأسئلة والأجوبة ، وتُجيل النظرَ في تفاصيل المشهد الذي بدا خارج الزمان والمكان . وبعد أن انتهت من قراءة كل سطرٍ، مشت إلى بيتها بخطواتٍ ضعيفة. إنها تجرُّ جثتها نحو الهاوية . أطرافُها عكازات من خشب الدهشة ، وذاكرتها بيتٌ للنمل ، ووجهها خيمةٌ تتلاعب بها الرياح الكاسرة . 
     وَصلت سهير إلى بيتها . ودَخلت إلى غرفتها بسرعة . وقد لاحظت الخادمةُ التي فَتحت لها الباب أن وجهها أصفر ، لكنها خافت أن تلقيَ عليها أيَّ سؤال ، أو تَحشر نَفْسها في أمر لا يَعنيها . 
     شَعرت سهير أن وحشاً برأسين يعيش معها في النهار والليل. قالت في نفسها إن الذكرياتِ قنبلة موقوتة مزروعة في أجفانها، ولا بد أن تتخلص منها قبل أن تنفجر . بدت مشوَّشةً إلى أقصى حد . ارتمت على الأريكة . أغمضت عينيها ثم فتحتهما كأنها تفتح صندوقاً مغلقاً منذ قرون . تمنَّت في قرارة نَفْسها لو كان هذا حُلماً عابراً لتستيقظ منه . لكنها عادت لتؤكد لنفسها أن هذا مجرد كابوس ، وسينتهي سريعاً . ولكن كيف سينتهي ؟ . هذا السؤال جعلها تتقلب على الأريكة كالملسوعة .
     قامت مسرعةً نحو عشيقها الأبدي البيانو ، وبدأت تعزف عليه وهي في غاية التوتر . سَمعت والدتها صوتَ البيانو ، فقرعت باب حُجرتها ، وقالت :
     _ تعالَي إلى الغداء يا سهير .
     ردَّت سهير بصوت مخنوق يكاد يقتلع رِئَتَيْها من جذورهما ليرتاح من صخب الجهاز التنفسي :
     _ لا أريد أن أتغدى .
     وبدأت الأسئلةُ العنيفة تنهمر عليها من كل الجهات وتتجاذبها بكل قسوة . أسئلةٌ تهرب من الإجابة الراكضة في الأذهان. وهذه الأنثى الحبيسة في الموسيقى تَذوب في جسدها الذابل . والوساوسُ تَهطل على رأسها الآيل للانفجار .
     وفي اليوم التالي ، كانت المدرسة بأكملها تتحدث عن موضوع سهير . وبدأت الطالبات ينظرنَ إلى سهير باعتبارها قديسة قادرة على التعامل مع الموتى ، واستحضار الأرواح ، لدرجة أن بعض الطالبات صِرْنَ يتمسحنَ بها ، ويُقبِّلنَ يدها.
     وقد صارت سهير تشعر بالإحراج ، وتتهرب من الطالبات . وازداد مَيْلها إلى العُزلة ، وحُب الاختفاء . وبدأت تسأل نَفْسها هل يمكن أن تكون قديسة وهي لا تَعْلم ؟! . إنها تضع الصليبَ في عنقها مُنذ طفولتها ، وتشارك في حفلات الكنيسة ، والعزف على البيانو ، وهي عضو في فرقة الإنشاد والتراتيل . وتذهب إلى الكنيسة بانتظام . فهل هذه سيرة ذاتية مقنعة للحصول على وظيفة قديسة ؟! . كلُّ هذه الهواجس كانت تحترق في صدرها. وبدأت تَشعر أنها غريبة عن نَفْسها ، وأنها قضت عمرها وهي لا تَعرف ذاتها .
     وفي أحد الأيام استدعتها الإدارة وأبلغتها أن الموضوع زاد عن حدِّه ، وأنها لن تَسمح لأمور الشعوذة والكذب أن تنتشر في المدرسة . وقد وجَّهت لها الإدارةُ إنذاراً شديداً ، وأخبرتها بضرورة الامتناع عن نشر القصص الخيالية عن الرياضيات والموتى والقبور ، وإذا استمر الأمر فسوف يتم استدعاء ولي أمرها ، وتسليمه قرار فصل ابنته من المدرسة بتهمة السِّحر والشعوذة . وهكذا بدأ الأمر ينطفئ تدريجياً في المدرسة ، لكنه في نَفْس سهير يزداد اشتعالاً .