رواية جبل النظيف / الفصل الثامن
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
................
_ لا يمكن أن أَفهم الرياضيات .. إنها مادة لا
تطاق .
هذا ما أكَّدته سهير
أنطوان لنفسها وهي تخرج من مدرسة راهبات الوردية في شارع المصدار. إنها طالبة في
المرحلة الثانوية، وتعاني من الأرقام والحسابات ، وتكاد رأسها تنفجر من تفاصيل هذه
المادة وطرقها المتشعبة . ويبدو أن دَرْس اليوم كان قاسياً بشكل خاص. فقد وزَّعت
المعلمةُ أوراقاً على الطالبات تتضمن أسئلةً إضافية، ونماذج امتحانات مقترَحة .
وكلما حَدَّقت سهير في ورقتها أصابها صداعٌ رهيب . وحينما تتذكر النظاراتٍ السميكة
لمعلمة الرياضيات العجوز ، يزداد صداعها ، وتشعر أنها بحاجة إلى البكاء أو الصراخ
في هذا الشارع المعجون بالمارة ، والمزدحم بالسيارات التي لا تنتهي .
كانت سهير فتاةً رقيقة
لم تتعود على تحمل المسؤولياتِ ، ومواجهة الصدمات الحياتية . فهي آيلة للسقوط في
أية لحظة . وقد كانت مرحةً لا تفارقها الضحكات ولا النكات . لكنها عندما صارت
طالبةً في المرحلة الثانوية ، انطفأ عالَمها بسبب معاناتها الشديدة في المواد
الدراسية ، فقد أجبرها والدُها على اختيار الفرع العلمي على عكس رغبتها . فهو يريدها
أن تصبح طبيبة مثل ابنة عمِّها ، أمَّا هي فتريد أن تصبح مصممة أزياء أو عازفة
بيانو أو لاعبة تنس أرضي . لكنها خَضعت لرغبة والدها الذي لم يُكمِل تعليمَه ،
ويَطمح أن تتلقى ابنته أعلى الشهادات لكي يجد في ذلك تعويضاً عما فاته من التعليم
. فهو يتمنى أن يراها طبيبة مشهورة ، يشير الناسُ إليها ويقولون : هذه الدكتورة
سهير ابنة أنطوان الراوي . وبعد وفاته يقولون : امرأة بألف رَجل، والذي خَلَّف ما
مات. ولأن سهير وحيدة أبوَيْها ازداد الضغطُ عليها ، ووَجدت نفسها في فوهة المدفع
لوحدها .
وسهير _ تلك الفتاة
الناعمة المدلَّلة _ غير قادرة على تحمل هذه الأعباء . لذلك تشعر أنها منبوذة في
هذا العالَم رغم انتمائها إلى أسرة غنية . فوالدها أنطوان الراوي يملك محلاً للذهب
في حي الأشرفية . وأمُّها أوكرانية كانت بطلةً في الجمباز أيام شبابها ، وفازت
بعدة ميداليات . وعمُّها طوني الراوي مُصمِّم أزياء عالمي يقيم
في باريس ، ويعمل مع أشهر نجمات السينما .
ولا يمكن نسيان ذلك
المشهد الذي جَمع بين سهير ووالدها . فقد قَررت مصارحته بأنها تريد أن تصبح مصممة
أزياء مِثْلَ عمِّها . فقال لها أبوها إنه سَيُحْضِر لها كل أنواع القماش لتتدرب
عليه في البيت ، وسوف يسمح لها بالذهاب إلى عمِّها في إجازة الصيف. وليكن تصميم
الأزياء هواية، ولا داعي أن تتخذه مهنةً . وعندما أدركت أن هذا الطريق مسدود ،
قالت له إنها تريد أن تصبح عازفة بيانو ، فقرر والدُها شراء بيانو لها ، وإحضار
معلِّمة موسيقى لتعليمها العَزْف ، وليكن العزفُ هوايةً في وقت الفراغ ، فالموسيقى
لا تُطعِم خبزاً في بلادنا . هكذا أكَّد لها . وبقي عندئذ خيار وحيد ، وهو أن تصبح
لاعبةَ تنس أرضي مثل شتيفي جراف ، وقد أخبرها والدُها حين سمع هذا الكلام بأنه
رَجل شرقي لا يسمح لابنته أن ترتديَ تنورةً قصيرة ، ولكنْ بإمكانها ارتداء بنطال ،
وممارسة هذه الرياضة في جمعية الشابات المسيحيات التي تملك ملعباً للتنس الأرضي ،
ولا داعي أن تصبح مثل شتيفي جراف ، فلتصبحْ مثلَ سامبرس ! ، ولتظل هذه اللعبة مجرد
هواية. وهكذا وَجدت سهير نفسها في طريق واحد ، وهو اختيار الفرع العلمي لكي تصبح طبيبة
مثل مونيكا ابنة عمِّها ، ليست مونيكا سيليش ، ولكنْ مونيكا طوني الراوي ! .
مشت سهير برفقة زميلاتها
في شارع المصدار الذي بدا حينئذٍ مثل جبل لا قمة له . وقد أخبرتهن بمقدار معاناتها
في مادة الرياضيات ، فأشارت عليها إحداهن بإحضار مدرِّس خصوصي ، وقالت لها أخرى إن
عليها مضاعفة جهودها ، وقامت ثالثة بتأنيبها متهمة إياها بالتقصير ، والتفكير في
أمور تافهة لا علاقة لها بالمدرسة .
ازداد صداعُ سهير ،
وازداد شعورُها بالغربة في هذا العالَم . وعندما وصلت إلى سور المقبرة ، نَظرت إلى
ورقة الرياضيات ، ثم ألقتها على القبور ، وقالت بكل سخرية :
_ فليحل الأمواتُ هذه
الأسئلة ، ولتفرحْ معلمة الرياضيات العانس ! .
وعَلَت ضحكاتُ البنات في
الشارع ، واختلطت دموعهن الخفية بضجيج السيارات ، ورائحةِ الدُّخان ، واتَّجهت
ضفائرهن نحو شموس الألم ، وواصلنَ السير إلى بيوتهن في حي الأشرفية الذي بدا _ رغم
قُرْبه _ كأنه في آخر الدنيا .
كان بسام يتجول في المقبرة
وحيداً ، محاولاً تجميع قواه الذهنية ، والتركيز في مشاريعه المستقبلية . فهو لم
يَقدر على التفكير في البيت بسبب كثرة المشكلات الأسرية ، والصراع الدائم بين
أبوَيْه . وحين يشتد الصراعُ المنزلي لا يَمْلك إلا الهرب نحو دفء المقبرة ، حيث
يجد فيها الهدوء ، وهذا يساعده على حل واجباته الدراسية ، والتأمل في مسار حياته ،
وحركة هذا الوجود .
رَاحَ يَمْسح شواهد
القبور من الأغبرة ، ويلتقط بعض الحشائش الفوضوية ، ويُزيل الأوساخ المتكاثرة هنا
وهناك . وأثناء انشغاله في هذا العمل وَجد ورقةَ الرياضيات التي رمتها سهير .
أخذها ونفض عنها الغبار ، وجلس تحت شجرة الصنوبر القريبة من أحلامه ، البعيدة عن
أشلائه المتكاثرة كالزنابق . وأخذ يتفحص الورقة ، ويستعرض الأسئلةَ سؤالاً سؤالاً
. ثم هزَّ رأسه قائلاً :
_ مستوى الأسئلة لا بأس
به .
أحضر حقيبته المدرسية ،
وأخرج منها قلمَ حِبر ، وبعض الأوراق البيضاء . وأخذ يحل الأسئلة بشكل تفصيلي مع
وضع شروحات جانبية . وبعد أن انتهى، قرَّر لصق الأوراق على سور المقبرة الخارجي،
قريباً من المكان الذي أُلقيت منه ورقة الأسئلة . أحضر الصمغَ من الحقيبة ، وقفز
كالقرد على السور ، ثم قفز مرةً أخرى على الشارع ، وسائقو السيارات يَنظرون إليه
باستغراب شديد . لكنه لم يعبأ بتلك النظرات ، وألصق الأوراق كما خطَّط مسبقاً ،
ومضى إلى حال سبيله .
وفي اليوم التالي تابعت
سهير وزميلاتها خطَّ السير المعتاد . فقد خرجنَ من المدرسة ، ودخلنَ في مواضيع شتى
. وكل واحدة تُدلي بِدَلْوها. وعندما اقتربنَ من سور المقبرة ، قالت إحداهن بسخرية
:
_ لا بد أن الموتى قد
حَلُّوا أسئلة الرياضيات ! .
عَرفت سهير أنها
المقصودة بهذا الكلام ، فقالت ساخرة :
_ ولا بد أنهم وَضعوا لي
علامةً كاملة بسبب عبقريتي ! .
وأَطلقت سهير ضحكةً
مجلجلة امتزجت مع أسمنت سور المقبرة ، وانتشرت ضحكاتُ البنات كانتشار النار في
الهشيم ، لكنها انطفأت بسرعة . وخَمدت الأصواتُ العالية ، ودَبَّ الرعبُ في تفاصيل
وجوههن . فقد رأينَ ورقة الرياضيات معلقةً على السُّور . ليس هذا فحسب . بل أيضاً
الحلول موجودة إلى جانبها .
تبادلت البناتُ النظراتِ
القاتلة . وكلُّ واحدةٍ راحت تبلع رِيقها ، وأصابعها ترتعش . كانت أوصالهن تغطس في
مستنقع عميق ، ورؤوسهن تجدِّف في دُوار شرس .
اقتربت سهير من الأوراق
وهي غير مصدِّقة ، صارت تشكُّ في نَفْسها . هل هذه حقيقة أم أحلام يقظة أم كابوس
؟! . إنها تفرك عينيها . تقرص خدودها لتتأكد أنها ليست نائمة . رَسمت الصليبَ على
صدرها ، وأظافرها تَتساقط في الفراغ كالمطر الحامض . اختلط في ذاكرتها منظر
السيارات والمحال التجارية والباعة المتجولين والمارَّة الراكضين نحو نهايات الحلم
. شَعرت أنها مصلوبة على زجاج السيارات . أفكارٌ غريبة لا رابط بينها هاجَمَتْها
في تلك الساعة المخيفة .
تحسَّست الأوراق مثلما
تتحسَّس جسدَ بيانو قديم سيصبح حطباً للموقدة في ليلة خريفية باردة . هَربت
صديقاتها من المكان ، وتفرقنَ في الدروب الخشنة . وبقيت وحدها تحدِّق في الأوراق ،
وتقرأ الأسئلة والأجوبة ، وتُجيل النظرَ في تفاصيل المشهد الذي بدا خارج الزمان
والمكان . وبعد أن انتهت من قراءة كل سطرٍ، مشت إلى بيتها بخطواتٍ ضعيفة. إنها
تجرُّ جثتها نحو الهاوية . أطرافُها عكازات من خشب الدهشة ، وذاكرتها بيتٌ للنمل ،
ووجهها خيمةٌ تتلاعب بها الرياح الكاسرة .
وَصلت سهير إلى بيتها .
ودَخلت إلى غرفتها بسرعة . وقد لاحظت الخادمةُ التي فَتحت لها الباب أن وجهها أصفر
، لكنها خافت أن تلقيَ عليها أيَّ سؤال ، أو تَحشر نَفْسها في أمر لا يَعنيها .
شَعرت سهير أن وحشاً
برأسين يعيش معها في النهار والليل. قالت في نفسها إن الذكرياتِ قنبلة موقوتة
مزروعة في أجفانها، ولا بد أن تتخلص منها قبل أن تنفجر . بدت مشوَّشةً إلى أقصى حد
. ارتمت على الأريكة . أغمضت عينيها ثم فتحتهما كأنها تفتح صندوقاً مغلقاً منذ
قرون . تمنَّت في قرارة نَفْسها لو كان هذا حُلماً عابراً لتستيقظ منه . لكنها عادت
لتؤكد لنفسها أن هذا مجرد كابوس ، وسينتهي سريعاً . ولكن كيف سينتهي ؟ . هذا
السؤال جعلها تتقلب على الأريكة كالملسوعة .
قامت مسرعةً نحو عشيقها
الأبدي البيانو ، وبدأت تعزف عليه وهي في غاية التوتر . سَمعت والدتها صوتَ
البيانو ، فقرعت باب حُجرتها ، وقالت :
_ تعالَي إلى الغداء يا
سهير .
ردَّت سهير بصوت مخنوق
يكاد يقتلع رِئَتَيْها من جذورهما ليرتاح من صخب الجهاز التنفسي :
_ لا أريد أن أتغدى .
وبدأت الأسئلةُ العنيفة تنهمر عليها من كل الجهات وتتجاذبها بكل قسوة
. أسئلةٌ تهرب من الإجابة الراكضة في الأذهان. وهذه الأنثى الحبيسة في الموسيقى
تَذوب في جسدها الذابل . والوساوسُ تَهطل على رأسها الآيل للانفجار .
وفي اليوم التالي ، كانت المدرسة بأكملها
تتحدث عن موضوع سهير . وبدأت الطالبات ينظرنَ إلى سهير باعتبارها قديسة قادرة على
التعامل مع الموتى ، واستحضار الأرواح ، لدرجة أن بعض الطالبات صِرْنَ يتمسحنَ بها
، ويُقبِّلنَ يدها.
وقد صارت سهير تشعر بالإحراج ، وتتهرب من
الطالبات . وازداد مَيْلها إلى العُزلة ، وحُب الاختفاء . وبدأت تسأل نَفْسها هل
يمكن أن تكون قديسة وهي لا تَعْلم ؟! . إنها تضع الصليبَ في عنقها مُنذ طفولتها ، وتشارك
في حفلات الكنيسة ، والعزف على البيانو ، وهي عضو في فرقة الإنشاد والتراتيل .
وتذهب إلى الكنيسة بانتظام . فهل هذه سيرة ذاتية مقنعة للحصول على وظيفة قديسة ؟! .
كلُّ هذه الهواجس كانت تحترق في صدرها. وبدأت تَشعر أنها غريبة عن نَفْسها ، وأنها
قضت عمرها وهي لا تَعرف ذاتها .
وفي أحد الأيام استدعتها الإدارة وأبلغتها
أن الموضوع زاد عن حدِّه ، وأنها لن تَسمح لأمور الشعوذة والكذب أن تنتشر في
المدرسة . وقد وجَّهت لها الإدارةُ إنذاراً شديداً ، وأخبرتها بضرورة الامتناع عن
نشر القصص الخيالية عن الرياضيات والموتى والقبور ، وإذا استمر الأمر فسوف يتم
استدعاء ولي أمرها ، وتسليمه قرار فصل ابنته من المدرسة بتهمة السِّحر والشعوذة . وهكذا
بدأ الأمر ينطفئ تدريجياً في المدرسة ، لكنه في نَفْس سهير يزداد اشتعالاً .