رواية جبل النظيف / الفصل الرابع عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
أتى موعدُ الحفلة كالرصاصة في صدر أعاصير
غامضة . وصل رأفت متأخراً على غير عادته ، فهو مشهور بين الناس باحترام المواعيد
دون زيادة أو نقصان . والسبب أنه قضى وقتاً طويلاً في الشوارع المزدحمة التي كانت
تغص بالناس والسيارات. واليوم هو الخميس، وهذا يعني ازدحاماً خانقاً ، وهو لا
يَملك سيارةً . وهذا جعله يطارد سيارات الأُجرة من شارع إلى شارع ، ويَغرق في
المواصلات البائسة ، ويَتلاشى في دخان السيارات ، وصخبِ الناس الذين كانوا مثل
خلية نحلٍ تتكاثر بشكل جنوني .
لم يَذهب إلى الفيلا
مباشرة . نَزل من سيارة الأجرة في مكان قريب . وذلك من أجل مسح الغبار عن وجهه ،
وتصفيف شَعره ، وترتيب ملابسه، ومسح حذائه من جديد ، يعني إعادة تنظيم كيانه
بالكامل .
وكلما اقترب من الفيلا
ازدادن نبضاتُ قلبه . كانت الأضواء باهرة ، والضحكاتُ تملأ الشارع . أخرج منديلاً
ومَسح عَرَقه . شَعر بالتردد والخوف . قدماه ترتجفان كأنه يساق إلى حبل المشنقة ،
وليس حفلة راقية تعج بالألوان والأصوات. فكَّر في العودة لكنه طَرد هذه الفكرة
سريعاً. وصل إلى نقطة اللاعودة، وسوفَ يتقدم مثل الجندي الداخل إلى المعركة ، ولا
يَعرف ماذا يَنتظره ، ولا يَعلم هل سيعود إلى أهله حياً أم سَيَسقط قتيلاً .
وحينما دَخل إلى الفيلا
وَجد عالَماً آخر لا يمكن أن يراه في جبل النظيف . حتى إنه لم يره في منامه .
رَجالٌ يرتدون أفخرَ الملابس يُدخِّنون السيجار ، وشخصيات مشهورة لا يشاهدها إلا
على شاشة التلفاز . نساء في فساتين مثيرة ، صدورهن مكشوفة .. تنانير قصيرة . روائح
العطور تملأ المكان . الجميع مشغولون كأنهم في سوق صاخبة يُقلِّبون البضائع
الأجنبية . كل شيء غريبٌ عنه . لم يَعرف أين يَذهب ، أو مع مَن يتحدث . وبينما هو
غارق في متاهته ، يلملم شظاياه المبعثَرة في المكان ، اقتربت منه ميادة وهي ترتدي غابةً
زرقاء من الأنوثة .. فستان أزرق مُرعِب يُخبِّئ براكين من الشهوة والوهج الحارق .
اقتربت منه بشكل واضح . صارت المسافة بينهما أقل من نصف متر . وقالت له :
_ أهلاً يا شكسبير ! .
كانت السيجارة تتلوى بين
أصبعين في يدها اليسرى . وهذه أول مرة يشاهدها وهي تدخِّن .
لم يعرف ماذا يقول في
تلك اللحظة . انعقد لسانه ، واكتفى بابتسامة خفيفة .
أخذت ميادة زمامَ
المبادرة ، وسَيطرت عليه بالكامل، وأمسكت يدَه ، وقالت :
_ تعال أُعرِّفك على
زَوْجي .
وراحت تسحبه مثلما
تُسحَب الشاةُ إلى الذبح . وهو لا يَملك إلا الاستسلام لهذه الأوامر العسكرية .
_ هذا زوجي .. الدكتور
لؤي عَطْوة ، دكتوراة في الهندسة المعمارية من جامعة السوربون .
قالت ميادة ، ووجهها يشع
مثل إعصار لا يَرْحم على وشك أن يَقتلع الشطآنَ التي ترفع الراياتِ البيضاء .
كان الدكتور لؤي صاحب
شخصية قوية . واثقٌ بنفْسه بشكل ملحوظ . الغليون في فمه . وعندما تراه تَشعر أنك
أمام جبل لا يَهتز ، وأنه يسيطر على العناصر حَوْله ، وأن الأحداث خاتم في أصبعه .
قال الدكتور :
_ لقد سمعتُ عنك الكثير
يا أستاذ رأفت ، وأن أسلوبك رائع في التدريس . وبدون مجاملة .. تأثيرك الإيجابي
واضح على رمزي .
_ شكراً لكم يا دكتور،
وأعدكم _ إن شاء الله _ أن أكون عند حسن ظنكم.
اختار رأفت عباراته
بعناية، وتعمَّد أن يخاطب الدكتور بضمير الجمع تعظيماً له، واحتراماً لمكانته .
_ والآن اسمحوا لي أن أذهب للترحيب بالضيوف .
قال الدكتور . ومضى إلى
ذاكرة المدى ، وذاب في الزِّحام .
استلمت ميادة القيادةَ ،
وقالت :
_ تفضَّل يا أستاذ رأفت
.. اجلس على الأريكة .
جلس على الأريكة مثل
الطفل في حضرة أُمِّه ، وقال :
_ شكراً يا ميادة ..
أقصد يا سيدة ميادة .
_ قُل لي ميادة فقط ..
بدون ألقاب . وأنا سأخاطبك رأفت فقط . ما رأيكَ ؟.
تردد رأفت قليلاً . بَلع
ريقَه ، وقال :
_ أنا موافق .
جَلست إلى جانبه . ظهر عليه
الارتباك ، وازداد تعرُّقاً .
قالت له بصوت هامس :
_ ما رأيكَ في هذا
الفستان ؟ .
قال رأفت وعيناه في
الأرض :
_ رائع .
_ تَحكم عليه دون أن
تنظر إليه ؟ .
رفع رأفت رأسَه ، وزرع
نظراتِه في الفستان ، وحدَّق في كل نقطة فيه مثل جيش يُمشِّط أرضَ المعركة . تأجَّجت
الشهوةُ في تفاصيل جسده الحارق المحترق ، وهزَّ رأسَه قائلاً :
_ كما قلتُ لكِ .. رائع
.
_ لا تنسَ أن لونه أزرق
.
لم يَفهم رأفت هذه
الكلمات . وراحت ملامح وجهه تستفسر عن المعنى .
أدركت ميادة هذا الأمر ،
وقالت بصوت راسخ وملتهب :
_ الأزرق هو اللون الذي
تحبُّه .
وفي تلك اللحظة فقط فَهم
رأفت لماذا سألته ميادة _ قبل عدة أيام _ عن اللون الذي يحبه .
حاصرهما الصمتُ الجارح.
فُرض حظر التجول في أعصابهما. انتشرت الحواجز العسكرية بين وَجْهَيْهما . تائهان
في عالَم الوخز. مجروحان في فضاء الرعب. لقاؤهما تذكرةُ ذهابٍ بلا عَودة . إنهما
مهاجران نحو أوردة الصدى ، والأصواتُ تتلاشى .
نادت ميادة أحدَ الخدم ،
وقالت له :
_ أحضر لي كأسَ ويسكي .
والتفتت إلى رأفت قائلةً
:
_ تشرب ويسكي ؟ .
_ الخمرُ حرامٌ لا
أشربها .
نظرتْ إلى الخادم ،
وقالت :
_ أحضرْ لي كأس ويسكي ،
وللأستاذ عصير برتقال . وستجدنا عند المسْبح .
نظرتْ إلى رأفت ، وقالت
:
_ تعالَ نخرج من هذا
المكان الخانق ، ونذهب إلى المسْبح .
ومشيا عند حافة المسْبح
.. هذه حافة الهاوية . تلالُ الحزن تطل على بحرٍ يتبخر بين أصابعهما المرتعشة . غاباتُ
القلوبِ تحترق ، ورجالُ الإطفاء نائمون في أحضان زوجاتهم . لم يجيء أحد لينقذ
الأشجارَ من المومياوات . سَيطرت الأشباحُ على المكان ، والأمواتُ يَفرضون شروطَهم
على الأحياء. جوارحهما تتهاوى بصورة دراماتيكية . هذا المسْبح هو مقبرة مائية
قديمة .. لعنةٌ أصابتْ علماءَ الآثار الذين لم يأتوا .
قالت ميادة بصوتٍ كسير
كأنه نداء غامض قادم من القرون الوسطى :
_ رأفت ، أنا أعشقكَ.
قُل عني ما تشاء. اعشقني اكرهني. احترمني احتقرني . ولكن يجب أن تسمعني حتى
النهاية . حياتي كلها انتحارات ، أنا بحاجة إلى المنقِذ . لو رأيتَني أغرق في هذا
المسْبح ، ماذا ستفعل ؟ . لا بد أنك ستقفز وتنقذني . أنا امرأة لم أشعر بأنوثتي
إلا معك . لا أشعر بوجودي إلا عندما تكون موجوداً . لا أتخيل حياتي بدونك . هل
تعلم أنني أتردد على طبيب نفسي منذ سنوات ؟ . ولا توجد أية نتائج . هل تعلم ماذا
قال لي الطبيب آخر مرة ؟ . قال لي إنني مريضة نفسياً ولا شفاء لي إلا الموت . لا
أريد أن أموت .. أريدك أن تنقذني من الموت .
وانفجرت باكيةً ، وارتمت
في أحضان رأفت الذي كاد يَسقط في المسْبح . غَرستْ رأسَها في صدره، وكانت دموعها
تتساقط على أزرار قميصه ، وهو واقفٌ كالأبله لا يَعرف ماذا يَفعل . أحسَّ برغبة
عارمة في البكاء ، أو الهرب من المكان . تمنى في تلك اللحظة لو يُنادي على أُمِّه
لتنقذه من هذا المأزق .. أن يَخلع جِلْدَه ، ويهرول نحو منفى اختياري ، ويموت
وحيداً . وصار يردِّد في سرِّه الآية القرآنية : } يا لَيتني مِتُّ قَبلَ هذا وكُنتُ نَسيًّا مَنسيًّا { .
لم تنجح مفاوضات فض
الاشتباك إلا مع قدوم الخادم . وقعُ أقدامه تتوالى كما تتوالى المسدسات على ثياب
الأدغال . ابتعد الاثنان. أخذت ميادة تمسح دموعها . أمَّا رأفت فرمى بصرَه على صفحة
الماء كأنه يريد أن يفض الاشتباك بين الأكسجين والهيدروجين اللذين يُكوِّنان الماء
.
تناولت ميادة عصير
البرتقال ، وأعطته لرأفت . ثم أخذتْ كأسَ الويسكي . لم ينبسا ببنت شفة ، وعاد
الخادمُ أدراجه .
لم تكد تضع حافةَ الكأس
على شفتها حتى أمسكَ يَدَها ، وانتزع منها الكأسَ ، وقال بكل شفقة :
_ لا تشربي هذا السم ..
خُذي عصير البرتقال .
_ تخاف على جسمي ولا
تخاف على قلبي ؟! .
وسكبَ الويسكي على إحدى
النباتات السجينة داخل وعاء بلاستيكي .
قال رأفت :
_ ميادة ، أنتِ امرأة
متزوجة وأُم .
_ عقدُ الزواج حِبرٌ على
ورق . الأوراقُ لا تحدِّد المشاعرَ . زَوْجي مشغول بالعشيقات والسكرتيرات . جسدي
معه رغماً عني، لكنَّ قلبي معك . أنا منقسمة . أجزائي متفرقة ، وأُريدك أن تجمعني
. أحتاج إلى صديق حقيقي يقف إلى جانبي . أنا وحيدة في هذا العالَم. فلنكنْ
صديقَيْن . لا أَطلب أكثر من هذا . هل هذا كثير ؟!.