رواية جبل النظيف / الفصل الثاني عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
............
الزِّينةُ منتشرة في كل مكان . والأضواءُ
تُحيل جبلَ النظيف إلى سيرك كبير . يودُّ هذا الليلُ لو يَقفز من السفينة قبل
غرقها . تصبح الضحكاتُ تاريخاً لقتل الضحكات . بَشَرٌ يُولَدون من ضفائر النساء
المقموعات جنسياً . وأغنياتُ الصدى جرذان تكاد تموت جوعاً . يمشي الإنسانُ وأشلاؤه
على خَطَّيْن متوازيَيْن . وفي الرياضيات لا فرصة لالتقاء الخطين المتوازيين .
أمَّا في الواقع فسوف يَصْطدمان .
تتوزع الطيورُ الذبيحة
بين تراب المقبرة وحديدِ السجون .. السجون التي يُشيِّدها الناسُ في عِظامهم
ضاحكين . إنهم يغنُّون .. يفتحون جراحَهم للفرح الذي يَغْسل أغصانَ خدودهم . هكذا
تصبح الأعراسُ تاريخَ مَن لا تاريخ له ، وانتصارَ المهزومين الوحيد .
تمشي القططُ المتعَبة
على أسلاك الكهرباء . إنه الضياع الجنوني على نصالٍ تنفيكَ، تنفي عناصرَ جسدكَ
المثقوب. وكلُّ ضائع يخترع جنونه ويمضي إلى حتفه الأكيد . مَن أنا ؟ ومَن أنتَ ؟،
نحن العابرَيْن في الأزقة التي تَصْلبنا لأننا نحبها حتى البكاء. ولكنْ مَن
سَيَبْكي علينا حين تنسانا صفحاتُ الوَفيات في الجرائد ؟ .
سوف يمضي العشاقُ غير
عابئين بدمنا المفروش على أعمدة الكهرباء . ويَبْحثُ الفقراءُ عن أسنانهم الصفراء
في أكياسِ القُمامة .
كلُّ هذه الهواجس
المرَّة كانت تلتهب في صدر بسام الجالس في إحدى زوايا المقبرة . لقد هربَ من عُرس
أُخته إلى عُرسه الخاص ، حيث يُقيم احتفالَه الخاص بالموتى. هربَ من عُرس الأحياء
إلى عُرس الأموات. وحياتُه تنزلق شيئاً فشيئاً نحو الهاوية السحيقة . تقدَّم من
أحد الحيطان، وأخرجَ أحدَ الأقلام الملوَّنة التي يَسْتعملها في حصة الرَّسم في
المدرسة ، وكتبَ على الحائط المتداعي : (( إن ليلة الدخلة بالنسبة للرجال حين يَدْخلون
على نسائهم لرؤية وجوه العرائس ، أمَّا بالنسبة إِلَيَّ فحين أُدخَل في مَوْتي
لأرى وجهَ مَلَكِ الموت )) . ثم غرقَ في نوبة بكاء شرسة .
استمر العُرسُ كالطوفان
الماحي ، لا يعبأ كمشاعر الآخرين . فالنهرُ يَحفر مجراه بنفْسه ، ويَعْرف طريقَه
بنفْسه ، ولا يهتم بأي شيء آخر. والناسُ يريدون أية فرصة للفرح ، حتى لو كان
خادعاً كالسراب ، أو مؤقَّتاً كالنوم اللذيذ . إنهم يَقتنصون الورودَ من قلوب
الأضرحة .
امتلأت شوارعُ جبل
النظيف بالناس . والمحال التجارية مفتوحة على مدار أربع وعشرين ساعة . وصوتُ
الرصاص يملأ الأرجاءَ . فالكثيرون يَعتقدون أن إطلاق الرصاص في الأعراس جزءٌ أساسي
من الاحتفال. وإذا ازداد إطلاقُ النار فهذا دليل على مكانة العائلة ، وأهمية
العُرس .
وعائلةُ المخلوسي لها وزنٌ
كبير في جبل النظيف ، ولها اسمٌ لامع في المناطق المحيطة . وهي تَحْرص على صناعة
هالة إعلامية لها بين باقي العائلات لتظل مرهوبة الجانب . والعائلاتُ الأخرى
تَعْرف مكانة " آل المخلوسي "، وهذا يَجعلها حريصةً على مشاركتهم
الأفراح والأحزان . فالكل يَبحث عن مصلحته . ومثل هذه المناسبات تكون وسيلة لعقد
الصفقات ، وتقوية الروابط الاجتماعية، وبناء تحالفات عائلية لتوسيع مناطق السيطرة
، وتقاسمِ النفوذ .
هكذا تصبح الحياةُ صفقةً
كبيرة ، ومباراة خشنة فيها لاعبون أساسيون ولاعبو احتياط . والجميعُ يَطمح إلى
تسجيل الأهداف ، وفرض كلمته على الخصم . وفي غالب الأحيان تكون الضحكاتُ ممارسةً
روتينية، تتجلى على الشفاه ، ولا تصل إلى القلوب . هذا هو قانون اللعبة المتعارف
عليه بين الناس ، ولا أحد يفكِّر في تغييره . فالناسُ أَسْرى ذواتهم ، ومشاعرهم
ستظل سجينةً في حساباتهم .
كلُّ تفاصيلِ العُرس
سارت كما خُطِّط لها. ولكنْ حدثَ ما لم يكن بالحسبان . تقدَّم بسام بخطى مثقلة نحو
أبيه المشغول باستقبال الضيوف . وظهرت على وجه الطفلُ علاماتُ الإرهاق الشديد ،
وقال بصوت ذابل :
_ لقد أُصبتُ برصاصة يا
أبي .
رَدَّ والدُه بكل برودة
أعصاب :
_ لا وقتَ للمزاح يا
بسام .. اذهب والعب مع الأولاد .
وارتمى الطفلُ على أقدام
والده . لاحظَ الوالدُ آثارَ دماء على ملابس ابنه ، وركض إليه الناسُ الذين كانوا
مشغولين بمتابعة الأعيرة النارية التي تَعْلو وتَهْبط . والحمدُ لله كان الجرحُ
بسيطاً .. مجرد خدش طفيف ، ولا أثر لوجود رصاصة في الجسم .
نادى أبو بسام على فايز
، وطلب منه أن يعتنيَ بابن عمِّه ، ويعالج جُرْحَه . وفايز لديه خبرة واسعة في
معالجة الجروح ، فقد اشترك في مشاجراتٍ لا حصر لها . كما لديه خبرة واسعة في الأسلحة
النارية والأسلحة البيضاء . (( فالولدُ شقي منذ طفولته . وعُمر الشقي بقي )) . هذا
هو الشعارُ الذي ترفعه أمُّه منذ مدة طويلة .
مزَّق فايز قميصَه ،
وأخذ قطعةً منه ، ولفَّ بها جُرحَ بسام . حَمَله على يديه ، وسار به في ممالك
اللهيب. وما زالت أصواتُ الرصاص تمزِّق رئةَ الصدى ، وتَحْرق الصوتَ . ولم يكن
جرحُ بسام مبرِّراً كافياً لتوقف إطلاق الرصاص . فالأمورُ سائرة كأن شيئاً لم يكن. فهذه المعركة مستمرة مهما
كانت الخسائر ، والضحايا لا يمكنهم إيقاف الحروب .
لكل بداية نهاية . كانت
أُم بسام توصِي ابنتها هند بضرورة طاعة زوجها ، والحفاظ على بيتها الجديد. وفي
زحمة الأفكار والوصايا ، أَخرجت أمُّ بسام من فتحة صدرها تلك الخلطة العجيبة التي أَحْضَرَتْها
من عند العطار ، وقالت :
_ اسمعي يا هند ، هذه
الليلة ليلة العُمر ، كلُّ عمرك يتوقف عليها .. ليلةُ الدُّخلة أهم امتحان في
العالَم .. أهم من التوجيهي والجامعة . وهذه الخلطة ضَعي منها لزوجك في طعام
العَشاء لزيادة طاقته الجنسية .
احمرَّت خدودُ هند ،
واحتل قسماتِ وجهها الاضطراب ، وتسلل الارتباك إلى جوارحها ، فقالت أمُّها :
_ أنتِ لم تَعُودِي
صغيرة يا هند .. ومنذ اليوم لا مكان للخجل .
أحسَّت هند أنها مُقْدِمة
على معركة حامية الوطيس. كان الخوفُ يزرع التشنج في عروقها، وازداد جسمُها
تعرُّقاً. شَعرت أنها وحيدة في غابة مجهولة مليئة بالمخاطر. الناسُ يتزوجون ببساطة
، ويُنجِبون بسهولة ، وتستمر الحياة بشكل روتيني عادي. أرحامٌ تَدْفع، وأرضٌ
تَبْلع . فلماذا كل هذه الخلطات والأسرار والتعليمات العسكرية ؟! . هذه الأفكار
كانت تحترق في قلبها ، والدخانُ يتجمع في شرايينها .
تجمَّع الزَّوْجان قيس
وهند في ذاكرة الأحلام . أحضرت أمُّ قيس العَشاء لابنها وزوجته ، وأُغلق عليهما
باب الليل . وخرجت الأمُّ وهي تبكي بصوت خافت . في جبهتها ذبولُ الأزهار . وفي
يديها تتساقط أوراق السنوات . أحسَّت أن ابنها الذي كان مُلْكاً لها تم اختطافه
بكل سهولة ودون طلب فِدْية . مَن سَيتذكر تعبَها طيلة هذا العُمر الراكض في مدارات
الدهشة والغربة والمعاناة ؟. كانت تجرُّ دموعَها وراءه كحصان مرهَق يجرُّ عربةَ
الآلام .
رآها زهدي فأشفق عليها ،
وقال محاولاً التخفيف عنها :
_ لا داعي للدموع يا أم
قيس .. الله يعطيكِ العافية، رَبَّيْتِ الولدَ أحسن تربية، والآن هو عريس له أُسرة
جديدة .. هذه سُنَّة الحياة. تعالي إلى النوم يا ابنة الحلال ، واتركيه لزوجته ،
والصباح رَبَاح .
ردَّت أم قيس وهي تحارِب
شهيقَها وزفيرَها :
_ نربِّي الأولاد صغاراً
، ونعتني بهم كِباراً ، ثم يُصبحون براويز على الحيطان .
ودخلت مع زوجها إلى أجفان
الظلام . ونام القمرُ في أسرار زيتونِ المجرات .
أمَّا قيس وهند فكانا
يتناغيان كعصفورين داخل القفص. أمسكَ يدَها المرتعشة، وعاهدها بأن يظل وفياً لها
إلى الأبد . كان متأثراً بالأفلام الرومانسية التي شاهدها في أمريكا . كلامُهما
سيناريو متكرر محفوظ مسبقاً . ومشاعرُهما تقاتِل الصدى لكي تَخْرج من دائرة الروتين.
إنهما عاجزان عن الإبداع .. هكذا يصيرُ التقليدُ دستوراً للعشق ، والوجهان رجعَ
صدى لتاريخ يُولَد من دموع الليل .
وَضعت هند كميةً كبيرة
من الخلطة في الطعام . وكان هذا اجتهاداً شخصياً منها ، فوالدتها لم توضِّح لها
المقدارَ الصحيح . واعتقدت هند أن زيادة الكمية تعني زيادة طاقة زوجها . وبدأ
الكابوسُ عندما تناول قيس العَشاءَ ، فأخذ يَشكو من آلامٍ شديدة في بطنه ومنطقةِ
الحوْضِ. أمعاؤه تكاد تتمزق . عيناه خرجتا عن السِّكة مثل قطارَيْن ذاهبَيْن نحو
الاصطدام الحتمي . وصارت ليلةُ الدُّخلة سِفْرَ الخروج الخاص به . وتمنى في قرارة
نفْسه لو تنتهي هذه الليلة المرعبة بسرعة لكي يرتاح . ارتمى على السرير ، وأخذ
يلتفُّ على نفْسه مثل الأفعى التي تلتف حول فريستها . ساد الرعبُ في تفاصيل هذا
المشهد المخيف .
أدركت هند أن كارثةً
حقيقية حلَّت بزوجها ، وأنها السبب . لم تَعرف ماذا تفعل في تلك الساعة الرهيبة .
تخلَّصت من الخلطة اللعينة التي هي سبب الشقاء . أَحضرت كوبَ ماء لزوجها الداخل في
طقوس الاحتضار أو شِبه الاحتضار. لم يَقْدر على تناول الماء. قفز بحركة لاإرادية
من السرير كالجن ، وذهبَ إلى المرحاض . تمنى عندئذ لو بقي في أمريكا ولم يجيء إلى
هذا المكان. حاصرته الأفكارُ الفوضوية من كل الجهات . أراد أن يناديَ على أُمِّه
في هذا الليل الجارح .. أن يهرب إلى حضنها كالطفل العاجز . أُصيب بإسهالٍ شديد .
معدته بركان ينفث الحممَ الحارقة بلا هوادة. ولأول مرة في حياته يَشعر أن الموتَ
قريب منه . إنه يعيش مع الموت في سجنٍ واحد .
أمَّا هند فراحت تَندب
حظَّها العاثرَ ، وتَلْطم خدودَها بصورة هستيرية مقزِّزة . اختلطت عروقُ كفِّها بالمكياج
المتساقط كأوراق الخريف . وها هو ربيعُها يصير خريفاً ، والحلمُ أضحى رماداً في
موقدة التاريخ الصاعق . وراحت تقول بنبرة كسيرة :
_ يا فضيحتك يا هند ..
يا فرحة ما تَمَّت .
وصارت هذه الكلماتُ هي
الشِّعار الرسمي لِلَيْلة الدُّخلة .
قضى قيس ليلته الكابوسية
ذاهباً إلى المرحاض عائداً منه . وزوجته تجلس على طرف السرير تضع يدها على خدِّها
بعد أن تعبت من لطم خدودها . عمَّ الأرقُ في كهرمان الذاكرة المغشوش . تبخرت
الأحلامُ الوردية ، ونثرت الرياحُ رمادَ القلوب في شهيق الحيطان . إنها أطول ليلة
في حياتهما .. ليلة للنسيان مثل مباراة رياضية انتهت قبل البداية . نسي الحَكمُ
صَفارته عند مرايا أكفانه ، واعتزل اللاعبون ، وغطَّت الثلوجُ الساخنة أرضَ
الملعب، وتفرق الجمهورُ في الدروب الحزينة . ذَهبوا ولم يَعودوا .
لم يَقدر الزوجان على
النوم إلا بعد طلوع الفجر. رَمَيا تاريخهما في بئر الرعشة، واستسلما أمام أنياب
الرياح التي كانت تصفع الأبوابَ ، وتَخْلع شبابيكَ العُمر . وساد الهدوءُ الصاعق
بعد انتهاء حربهما مع عقارب الساعة . هدأت الأعاصيرُ ، والفيضانُ يُحصي عددَ الجثث
، والراياتُ البيضاء ترفرف على الأكتاف المثْقلة بوخز السنوات ، وصَفاراتُ الإنذار
استقرت في القلوب المثقوبة .
استيقظ زهدي وزوجته قبل الظُّهر
. لقد سَهِرا حتى ساعة متأخرة من الليل . نفضا التعبَ عنهما. والحمدُ لله أن سار
العُرس على ما يرام ، ولم تحصل مشكلات . فالأعراسُ في هذه البُقعة غالباً ما تعج
بالصدامات بين السُّكارى والزعران، وتكسير الكراسي والطاولات . أمَّا هذا العُرس
فهو يَحمل اسم " آل المخلوسي " ذات النفوذ والسطوة ، وهذا جعله متمتعاً
بالحصانة والحماية . وكلُّ واحد يفكر ألف مرة قبل أن يرتكب حماقةً ما خوفاً من أن
يدفع الثمنَ غالياً . ففي هذا المكان يَسود قانونُ الغاب رغم عمليات الترميم
والتجميل .
حاولت أمُّ قيس إيقاظ
ابنها وزوجته لتناول طعام الإفطار ، لكن زهدي طلب منها أن تتركهما ، وقال مبتسماً
:
_ لا بد أنها ليلة طويلة
.. قيس رَجل من ظَهْر رَجل ، لا يُخاف عليه . أكيد بَيَّضَ وجهَه أمام زوجته .. في
هذه الليلة على الرَّجل أن يُشبِع زوجته ، وإلا فلن تَشْبع أبداً .. اتركيه نائماً
لكي يرتاح .
تغيَّر وجهُ زوجته ،
وقالت بتأفف :
_ أنتم الرجال تنظرون
إلى النسوان كالنعاج .. الواحدُ منكم يَحتقر زوجته طيلة النهار ، ويَعتبرها خادمة
، ثم ينام معها في الليل مثل كيس الطحين . يَضحك عليها بكلمتَيْن ليأخذ حاجتَه ،
ثم يرميها في المطبخ .
ولَمَّا سمع زهدي هذا
الكلام ضحك بملء فيه ، وقال وهو يغالب ضحكاتِه :
_ هذه هي الحياة يا أم
قيس .. الديك ديك ، والدجاجة دجاجة . وكلُّ إنسان يؤدي دورَه في الحياة ثم يَرحل
.. سنواتٌ تمضي ، والذي يَذهب لا يَرجع .
كان زهدي يُلقي الكلامَ
ثم يفكِّر فيه . وفي أحيان كثيرة لا يفكر فيه أصلاً . والأشياءُ التي في قلبه تظهر
على لسانه مباشرة بلا لف ولا دوران . وهو يَعرف أن كلامه قد يَجرح مشاعرَ البعض ،
ويسبِّب لهم ضيقاً . لكن اللامبالاة صارت إحدى شعاراته . ليس لأنه وغد أو إنسان
سيِّئ . بل لأنه مصاب بالملل من أحداث حياته . فما بَقِيَ في عُمره أقل مما مضى .
ورغمَ هذا تراه في بعض الأحيان يتصرف بلباقة ، وتكون كلماته موزونة ، ويتكلم
بالحِكم والمواعظ التي تُصلِح بين الناس . وبشكل عام فإن حالته المزاجية هي التي
تحدِّد طبيعةَ كلامه .
اجتمع أهلُ الدار على
طعام الغَداء ، وقبل أن يأكل قيس عاجله والده بسؤال مثل الطعنة :
_ قمحة أم شعيرة ؟ .. أُريد
رؤيةَ زهدي الثاني قبل أن أموت .
ارتبك قيس ، وبلع ريقَه
، ثم استجمع قواه مثل التلميذ الصغير الواقف أمام مدير المدرسة ، وقال بصوت مهزوز
:
_ اللهُ يُطيل عُمرَك ،
وترى أحفادك يلعبون حَوْلك .
أَظهرت هند قَدْراً من
اللامبالاة ، وراحت تأكل كأنها لم تَسْمع شيئاً . تعمَّدت أن تَظهر في تلك اللحظة كالبلهاء
المنقطعة عن العالَم الخارجي ، والمركِّزة في تناول الطعام . أرادت دفنَ نفْسها في
الصحون كالنعامة .
لاحظ زهدي أن شيئاً
غريباً يَحْدث ، فأعاد السؤال بلهجة صارمة :
_ قمحة أم شعيرة ؟ .
وبقي منتظراً الجواب
كالصنم . عيناه تبرقان كالخناجر الجاهزة ، وجبهته يَقْطر منها أعوادُ الثقاب
اللاهثة في أفلاك النهاية القاصمة .
نظر قيس إلى الأرض
كالقائد المهزوم المستسلم الذي رأى جيشَه يرفع الرايةَ البيضاء بكل خزي وعار ،
وقال بكل انكسار :
_ شعيرة ! .
هَبَّ زهدي كالرمح
الأعمى . حدَّق في وجه ابنه كأنه يريد أن يفترس ملامحَه حجراً حجراً . وبصورة غير
متوقَّعة بصق على ابنه ، ثم ترك الجميعَ في حالة ذهول وصدمة . رَكضت خَلْفه زوجته
، وخطواتها تحترق وتَحرق الأرضَ .
مَسحت زوجته البصاقَ
بطرف كُمِّها ، وقالت :
_ ستظل سَيد الرجال في
نظري .. أنتَ تاج على رأسي .
وضع رأسَه على صدر زوجته
، واستسلم لأمواج الدموع التي لا نهاية لها .
هبط
الظلامُ سريعاً . سراديبُ ترتمي أمامه متاهةً . طريقٌ في نهايته ضوء خافت ، أو ضوء
خافت في نهايته طريق . تصبح تعاليمُ الذباب جزءاً من صُداع الياسمين . كانت ظلالُ
قيس تَسخر منه ، تَسخر من زوجته . دخلا في وهجِ البكاء . هُوَ السجين والسجن
والسجان . سَتَذُوب الثلوجُ التي تَحجب عَرَقَ الشُّهب . الأرضُ سوف تموت ، وستذهب
الشمسُ إلى قبرها . كلُّ الحيطان صارت في عينيه سيوفاً خشبية تمزِّق أوصالَه .
شَعر أنه في سجنٍ : خليطٌ من الروائح
الألوان . أشياء تبحث عنه في أماكن الحصار . تتجمعُ الدموعُ في مقلاةِ تاريخ
الهزائم . الآنَ ، تنكمش أضلاعُه في غرفة معتمة . بينَه وبين أحلامه آلافُ الوديان
، وعواءُ الذئاب اليقظة . أجالَ بصرَه في المحيط فلم يجد غير نفْسه رغم وجود زوجته
. صار كشخصٍ مصاب بالحمى تَلعب الخفافيشُ برائحة عَرَقه .
مضى إلى غرفته وحيداً كما جاء إلى هذه
الحياة وحيداً . استلقى على السرير لأن التعب هَدَمه . أحسَّ أن الزوايا تخاطبه ،
وأن الوسادة الملوَّنة تبتلعه . تصمت الألوانُ تارةً ، وتَهيج تارةً أخرى . هذا عالَمه
الجديد ، سجونٌ تتجمع لِتُشِعَّ سِجْناً واحداً ، وسجنٌ واحدٌ يتَّحد ليقتل كُلَّ
وردةٍ تعشقُ الحقول . كأن نهراً يَحشره في بئر عميقةٍ ، ويرصده ليغتاله بعيداً عن
أعين الفراشات . والليالي تَفتحُ في بُكاءِ البراري منجمَ فحمٍ . صلَّى للهِ ،
وانطلقت دموعُه مع الدعاء الصاعد من أعماق قلبه ، وسَجدت أوصالُه في أرضه النازفة
، وانطلق إلى صباحات المطر الخارج من رُوحِه ، والذي يُطهِّر جوارحَه بشكلٍ صاعق .