سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

13‏/02‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الثاني عشر

رواية جبل النظيف / الفصل الثاني عشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

    الزِّينةُ منتشرة في كل مكان . والأضواءُ تُحيل جبلَ النظيف إلى سيرك كبير . يودُّ هذا الليلُ لو يَقفز من السفينة قبل غرقها . تصبح الضحكاتُ تاريخاً لقتل الضحكات . بَشَرٌ يُولَدون من ضفائر النساء المقموعات جنسياً . وأغنياتُ الصدى جرذان تكاد تموت جوعاً . يمشي الإنسانُ وأشلاؤه على خَطَّيْن متوازيَيْن . وفي الرياضيات لا فرصة لالتقاء الخطين المتوازيين . أمَّا في الواقع فسوف يَصْطدمان .
     تتوزع الطيورُ الذبيحة بين تراب المقبرة وحديدِ السجون .. السجون التي يُشيِّدها الناسُ في عِظامهم ضاحكين . إنهم يغنُّون .. يفتحون جراحَهم للفرح الذي يَغْسل أغصانَ خدودهم . هكذا تصبح الأعراسُ تاريخَ مَن لا تاريخ له ، وانتصارَ المهزومين الوحيد .
     تمشي القططُ المتعَبة على أسلاك الكهرباء . إنه الضياع الجنوني على نصالٍ تنفيكَ، تنفي عناصرَ جسدكَ المثقوب. وكلُّ ضائع يخترع جنونه ويمضي إلى حتفه الأكيد . مَن أنا ؟ ومَن أنتَ ؟، نحن العابرَيْن في الأزقة التي تَصْلبنا لأننا نحبها حتى البكاء. ولكنْ مَن سَيَبْكي علينا حين تنسانا صفحاتُ الوَفيات في الجرائد ؟ .
     سوف يمضي العشاقُ غير عابئين بدمنا المفروش على أعمدة الكهرباء . ويَبْحثُ الفقراءُ عن أسنانهم الصفراء في أكياسِ القُمامة .
     كلُّ هذه الهواجس المرَّة كانت تلتهب في صدر بسام الجالس في إحدى زوايا المقبرة . لقد هربَ من عُرس أُخته إلى عُرسه الخاص ، حيث يُقيم احتفالَه الخاص بالموتى. هربَ من عُرس الأحياء إلى عُرس الأموات. وحياتُه تنزلق شيئاً فشيئاً نحو الهاوية السحيقة . تقدَّم من أحد الحيطان، وأخرجَ أحدَ الأقلام الملوَّنة التي يَسْتعملها في حصة الرَّسم في المدرسة ، وكتبَ على الحائط المتداعي : (( إن ليلة الدخلة بالنسبة للرجال حين يَدْخلون على نسائهم لرؤية وجوه العرائس ، أمَّا بالنسبة إِلَيَّ فحين أُدخَل في مَوْتي لأرى وجهَ مَلَكِ الموت )) . ثم غرقَ في نوبة بكاء شرسة .
     استمر العُرسُ كالطوفان الماحي ، لا يعبأ كمشاعر الآخرين . فالنهرُ يَحفر مجراه بنفْسه ، ويَعْرف طريقَه بنفْسه ، ولا يهتم بأي شيء آخر. والناسُ يريدون أية فرصة للفرح ، حتى لو كان خادعاً كالسراب ، أو مؤقَّتاً كالنوم اللذيذ . إنهم يَقتنصون الورودَ من قلوب الأضرحة .
     امتلأت شوارعُ جبل النظيف بالناس . والمحال التجارية مفتوحة على مدار أربع وعشرين ساعة . وصوتُ الرصاص يملأ الأرجاءَ . فالكثيرون يَعتقدون أن إطلاق الرصاص في الأعراس جزءٌ أساسي من الاحتفال. وإذا ازداد إطلاقُ النار فهذا دليل على مكانة العائلة ، وأهمية العُرس .
     وعائلةُ المخلوسي لها وزنٌ كبير في جبل النظيف ، ولها اسمٌ لامع في المناطق المحيطة . وهي تَحْرص على صناعة هالة إعلامية لها بين باقي العائلات لتظل مرهوبة الجانب . والعائلاتُ الأخرى تَعْرف مكانة " آل المخلوسي "، وهذا يَجعلها حريصةً على مشاركتهم الأفراح والأحزان . فالكل يَبحث عن مصلحته . ومثل هذه المناسبات تكون وسيلة لعقد الصفقات ، وتقوية الروابط الاجتماعية، وبناء تحالفات عائلية لتوسيع مناطق السيطرة ، وتقاسمِ النفوذ .
     هكذا تصبح الحياةُ صفقةً كبيرة ، ومباراة خشنة فيها لاعبون أساسيون ولاعبو احتياط . والجميعُ يَطمح إلى تسجيل الأهداف ، وفرض كلمته على الخصم . وفي غالب الأحيان تكون الضحكاتُ ممارسةً روتينية، تتجلى على الشفاه ، ولا تصل إلى القلوب . هذا هو قانون اللعبة المتعارف عليه بين الناس ، ولا أحد يفكِّر في تغييره . فالناسُ أَسْرى ذواتهم ، ومشاعرهم ستظل سجينةً في حساباتهم .
     كلُّ تفاصيلِ العُرس سارت كما خُطِّط لها. ولكنْ حدثَ ما لم يكن بالحسبان . تقدَّم بسام بخطى مثقلة نحو أبيه المشغول باستقبال الضيوف . وظهرت على وجه الطفلُ علاماتُ الإرهاق الشديد ، وقال بصوت ذابل :
     _ لقد أُصبتُ برصاصة يا أبي .
     رَدَّ والدُه بكل برودة أعصاب :
     _ لا وقتَ للمزاح يا بسام .. اذهب والعب مع الأولاد .
     وارتمى الطفلُ على أقدام والده . لاحظَ الوالدُ آثارَ دماء على ملابس ابنه ، وركض إليه الناسُ الذين كانوا مشغولين بمتابعة الأعيرة النارية التي تَعْلو وتَهْبط . والحمدُ لله كان الجرحُ بسيطاً .. مجرد خدش طفيف ، ولا أثر لوجود رصاصة في الجسم .
     نادى أبو بسام على فايز ، وطلب منه أن يعتنيَ بابن عمِّه ، ويعالج جُرْحَه . وفايز لديه خبرة واسعة في معالجة الجروح ، فقد اشترك في مشاجراتٍ لا حصر لها . كما لديه خبرة واسعة في الأسلحة النارية والأسلحة البيضاء . (( فالولدُ شقي منذ طفولته . وعُمر الشقي بقي )) . هذا هو الشعارُ الذي ترفعه أمُّه منذ مدة طويلة .
     مزَّق فايز قميصَه ، وأخذ قطعةً منه ، ولفَّ بها جُرحَ بسام . حَمَله على يديه ، وسار به في ممالك اللهيب. وما زالت أصواتُ الرصاص تمزِّق رئةَ الصدى ، وتَحْرق الصوتَ . ولم يكن جرحُ بسام مبرِّراً كافياً لتوقف إطلاق الرصاص . فالأمورُ سائرة  كأن شيئاً لم يكن. فهذه المعركة مستمرة مهما كانت الخسائر ، والضحايا لا يمكنهم إيقاف الحروب .
     لكل بداية نهاية . كانت أُم بسام توصِي ابنتها هند بضرورة طاعة زوجها ، والحفاظ على بيتها الجديد. وفي زحمة الأفكار والوصايا ، أَخرجت أمُّ بسام من فتحة صدرها تلك الخلطة العجيبة التي أَحْضَرَتْها من عند العطار ، وقالت :
     _ اسمعي يا هند ، هذه الليلة ليلة العُمر ، كلُّ عمرك يتوقف عليها .. ليلةُ الدُّخلة أهم امتحان في العالَم .. أهم من التوجيهي والجامعة . وهذه الخلطة ضَعي منها لزوجك في طعام العَشاء لزيادة طاقته الجنسية .
     احمرَّت خدودُ هند ، واحتل قسماتِ وجهها الاضطراب ، وتسلل الارتباك إلى جوارحها ، فقالت أمُّها :
     _ أنتِ لم تَعُودِي صغيرة يا هند .. ومنذ اليوم لا مكان للخجل .
     أحسَّت هند أنها مُقْدِمة على معركة حامية الوطيس. كان الخوفُ يزرع التشنج في عروقها، وازداد جسمُها تعرُّقاً. شَعرت أنها وحيدة في غابة مجهولة مليئة بالمخاطر. الناسُ يتزوجون ببساطة ، ويُنجِبون بسهولة ، وتستمر الحياة بشكل روتيني عادي. أرحامٌ تَدْفع، وأرضٌ تَبْلع . فلماذا كل هذه الخلطات والأسرار والتعليمات العسكرية ؟! . هذه الأفكار كانت تحترق في قلبها ، والدخانُ يتجمع في شرايينها .
     تجمَّع الزَّوْجان قيس وهند في ذاكرة الأحلام . أحضرت أمُّ قيس العَشاء لابنها وزوجته ، وأُغلق عليهما باب الليل . وخرجت الأمُّ وهي تبكي بصوت خافت . في جبهتها ذبولُ الأزهار . وفي يديها تتساقط أوراق السنوات . أحسَّت أن ابنها الذي كان مُلْكاً لها تم اختطافه بكل سهولة ودون طلب فِدْية . مَن سَيتذكر تعبَها طيلة هذا العُمر الراكض في مدارات الدهشة والغربة والمعاناة ؟. كانت تجرُّ دموعَها وراءه كحصان مرهَق يجرُّ عربةَ الآلام .
     رآها زهدي فأشفق عليها ، وقال محاولاً التخفيف عنها :
     _ لا داعي للدموع يا أم قيس .. الله يعطيكِ العافية، رَبَّيْتِ الولدَ أحسن تربية، والآن هو عريس له أُسرة جديدة .. هذه سُنَّة الحياة. تعالي إلى النوم يا ابنة الحلال ، واتركيه لزوجته ، والصباح رَبَاح .
     ردَّت أم قيس وهي تحارِب شهيقَها وزفيرَها :
     _ نربِّي الأولاد صغاراً ، ونعتني بهم كِباراً ، ثم يُصبحون براويز على الحيطان .
     ودخلت مع زوجها إلى أجفان الظلام . ونام القمرُ في أسرار زيتونِ المجرات .
     أمَّا قيس وهند فكانا يتناغيان كعصفورين داخل القفص. أمسكَ يدَها المرتعشة، وعاهدها بأن يظل وفياً لها إلى الأبد . كان متأثراً بالأفلام الرومانسية التي شاهدها في أمريكا . كلامُهما سيناريو متكرر محفوظ مسبقاً . ومشاعرُهما تقاتِل الصدى لكي تَخْرج من دائرة الروتين. إنهما عاجزان عن الإبداع .. هكذا يصيرُ التقليدُ دستوراً للعشق ، والوجهان رجعَ صدى لتاريخ يُولَد من دموع الليل .
     وَضعت هند كميةً كبيرة من الخلطة في الطعام . وكان هذا اجتهاداً شخصياً منها ، فوالدتها لم توضِّح لها المقدارَ الصحيح . واعتقدت هند أن زيادة الكمية تعني زيادة طاقة زوجها . وبدأ الكابوسُ عندما تناول قيس العَشاءَ ، فأخذ يَشكو من آلامٍ شديدة في بطنه ومنطقةِ الحوْضِ. أمعاؤه تكاد تتمزق . عيناه خرجتا عن السِّكة مثل قطارَيْن ذاهبَيْن نحو الاصطدام الحتمي . وصارت ليلةُ الدُّخلة سِفْرَ الخروج الخاص به . وتمنى في قرارة نفْسه لو تنتهي هذه الليلة المرعبة بسرعة لكي يرتاح . ارتمى على السرير ، وأخذ يلتفُّ على نفْسه مثل الأفعى التي تلتف حول فريستها . ساد الرعبُ في تفاصيل هذا المشهد المخيف .
     أدركت هند أن كارثةً حقيقية حلَّت بزوجها ، وأنها السبب . لم تَعرف ماذا تفعل في تلك الساعة الرهيبة . تخلَّصت من الخلطة اللعينة التي هي سبب الشقاء . أَحضرت كوبَ ماء لزوجها الداخل في طقوس الاحتضار أو شِبه الاحتضار. لم يَقْدر على تناول الماء. قفز بحركة لاإرادية من السرير كالجن ، وذهبَ إلى المرحاض . تمنى عندئذ لو بقي في أمريكا ولم يجيء إلى هذا المكان. حاصرته الأفكارُ الفوضوية من كل الجهات . أراد أن يناديَ على أُمِّه في هذا الليل الجارح .. أن يهرب إلى حضنها كالطفل العاجز . أُصيب بإسهالٍ شديد . معدته بركان ينفث الحممَ الحارقة بلا هوادة. ولأول مرة في حياته يَشعر أن الموتَ قريب منه . إنه يعيش مع الموت في سجنٍ واحد .
     أمَّا هند فراحت تَندب حظَّها العاثرَ ، وتَلْطم خدودَها بصورة هستيرية مقزِّزة . اختلطت عروقُ كفِّها بالمكياج المتساقط كأوراق الخريف . وها هو ربيعُها يصير خريفاً ، والحلمُ أضحى رماداً في موقدة التاريخ الصاعق . وراحت تقول بنبرة كسيرة :
     _ يا فضيحتك يا هند .. يا فرحة ما تَمَّت .
     وصارت هذه الكلماتُ هي الشِّعار الرسمي لِلَيْلة الدُّخلة .
     قضى قيس ليلته الكابوسية ذاهباً إلى المرحاض عائداً منه . وزوجته تجلس على طرف السرير تضع يدها على خدِّها بعد أن تعبت من لطم خدودها . عمَّ الأرقُ في كهرمان الذاكرة المغشوش . تبخرت الأحلامُ الوردية ، ونثرت الرياحُ رمادَ القلوب في شهيق الحيطان . إنها أطول ليلة في حياتهما .. ليلة للنسيان مثل مباراة رياضية انتهت قبل البداية . نسي الحَكمُ صَفارته عند مرايا أكفانه ، واعتزل اللاعبون ، وغطَّت الثلوجُ الساخنة أرضَ الملعب، وتفرق الجمهورُ في الدروب الحزينة . ذَهبوا ولم يَعودوا .
     لم يَقدر الزوجان على النوم إلا بعد طلوع الفجر. رَمَيا تاريخهما في بئر الرعشة، واستسلما أمام أنياب الرياح التي كانت تصفع الأبوابَ ، وتَخْلع شبابيكَ العُمر . وساد الهدوءُ الصاعق بعد انتهاء حربهما مع عقارب الساعة . هدأت الأعاصيرُ ، والفيضانُ يُحصي عددَ الجثث ، والراياتُ البيضاء ترفرف على الأكتاف المثْقلة بوخز السنوات ، وصَفاراتُ الإنذار استقرت في القلوب المثقوبة .
     استيقظ زهدي وزوجته قبل الظُّهر . لقد سَهِرا حتى ساعة متأخرة من الليل . نفضا التعبَ عنهما. والحمدُ لله أن سار العُرس على ما يرام ، ولم تحصل مشكلات . فالأعراسُ في هذه البُقعة غالباً ما تعج بالصدامات بين السُّكارى والزعران، وتكسير الكراسي والطاولات . أمَّا هذا العُرس فهو يَحمل اسم " آل المخلوسي " ذات النفوذ والسطوة ، وهذا جعله متمتعاً بالحصانة والحماية . وكلُّ واحد يفكر ألف مرة قبل أن يرتكب حماقةً ما خوفاً من أن يدفع الثمنَ غالياً . ففي هذا المكان يَسود قانونُ الغاب رغم عمليات الترميم والتجميل .
     حاولت أمُّ قيس إيقاظ ابنها وزوجته لتناول طعام الإفطار ، لكن زهدي طلب منها أن تتركهما ، وقال مبتسماً :
     _ لا بد أنها ليلة طويلة .. قيس رَجل من ظَهْر رَجل ، لا يُخاف عليه . أكيد بَيَّضَ وجهَه أمام زوجته .. في هذه الليلة على الرَّجل أن يُشبِع زوجته ، وإلا فلن تَشْبع أبداً .. اتركيه نائماً لكي يرتاح .
     تغيَّر وجهُ زوجته ، وقالت بتأفف :
     _ أنتم الرجال تنظرون إلى النسوان كالنعاج .. الواحدُ منكم يَحتقر زوجته طيلة النهار ، ويَعتبرها خادمة ، ثم ينام معها في الليل مثل كيس الطحين . يَضحك عليها بكلمتَيْن ليأخذ حاجتَه ، ثم يرميها في المطبخ .
     ولَمَّا سمع زهدي هذا الكلام ضحك بملء فيه ، وقال وهو يغالب ضحكاتِه :
     _ هذه هي الحياة يا أم قيس .. الديك ديك ، والدجاجة دجاجة . وكلُّ إنسان يؤدي دورَه في الحياة ثم يَرحل .. سنواتٌ تمضي ، والذي يَذهب لا يَرجع .
     كان زهدي يُلقي الكلامَ ثم يفكِّر فيه . وفي أحيان كثيرة لا يفكر فيه أصلاً . والأشياءُ التي في قلبه تظهر على لسانه مباشرة بلا لف ولا دوران . وهو يَعرف أن كلامه قد يَجرح مشاعرَ البعض ، ويسبِّب لهم ضيقاً . لكن اللامبالاة صارت إحدى شعاراته . ليس لأنه وغد أو إنسان سيِّئ . بل لأنه مصاب بالملل من أحداث حياته . فما بَقِيَ في عُمره أقل مما مضى . ورغمَ هذا تراه في بعض الأحيان يتصرف بلباقة ، وتكون كلماته موزونة ، ويتكلم بالحِكم والمواعظ التي تُصلِح بين الناس . وبشكل عام فإن حالته المزاجية هي التي تحدِّد طبيعةَ كلامه .
     اجتمع أهلُ الدار على طعام الغَداء ، وقبل أن يأكل قيس عاجله والده بسؤال مثل الطعنة :
     _ قمحة أم شعيرة ؟ .. أُريد رؤيةَ زهدي الثاني قبل أن أموت .
     ارتبك قيس ، وبلع ريقَه ، ثم استجمع قواه مثل التلميذ الصغير الواقف أمام مدير المدرسة ، وقال بصوت مهزوز :
     _ اللهُ يُطيل عُمرَك ، وترى أحفادك يلعبون حَوْلك .
     أَظهرت هند قَدْراً من اللامبالاة ، وراحت تأكل كأنها لم تَسْمع شيئاً . تعمَّدت أن تَظهر في تلك اللحظة كالبلهاء المنقطعة عن العالَم الخارجي ، والمركِّزة في تناول الطعام . أرادت دفنَ نفْسها في الصحون كالنعامة . 
     لاحظ زهدي أن شيئاً غريباً يَحْدث ، فأعاد السؤال بلهجة صارمة :
     _ قمحة أم شعيرة ؟ .
     وبقي منتظراً الجواب كالصنم . عيناه تبرقان كالخناجر الجاهزة ، وجبهته يَقْطر منها أعوادُ الثقاب اللاهثة في أفلاك النهاية القاصمة .
     نظر قيس إلى الأرض كالقائد المهزوم المستسلم الذي رأى جيشَه يرفع الرايةَ البيضاء بكل خزي وعار ، وقال بكل انكسار :
     _ شعيرة ! .
     هَبَّ زهدي كالرمح الأعمى . حدَّق في وجه ابنه كأنه يريد أن يفترس ملامحَه حجراً حجراً . وبصورة غير متوقَّعة بصق على ابنه ، ثم ترك الجميعَ في حالة ذهول وصدمة . رَكضت خَلْفه زوجته ، وخطواتها تحترق وتَحرق الأرضَ .
     مَسحت زوجته البصاقَ بطرف كُمِّها ، وقالت :
     _ ستظل سَيد الرجال في نظري .. أنتَ تاج على رأسي .   
     وضع رأسَه على صدر زوجته ، واستسلم لأمواج الدموع التي لا نهاية لها .
     هبط الظلامُ سريعاً . سراديبُ ترتمي أمامه متاهةً . طريقٌ في نهايته ضوء خافت ، أو ضوء خافت في نهايته طريق . تصبح تعاليمُ الذباب جزءاً من صُداع الياسمين . كانت ظلالُ قيس تَسخر منه ، تَسخر من زوجته . دخلا في وهجِ البكاء . هُوَ السجين والسجن والسجان . سَتَذُوب الثلوجُ التي تَحجب عَرَقَ الشُّهب . الأرضُ سوف تموت ، وستذهب الشمسُ إلى قبرها . كلُّ الحيطان صارت في عينيه سيوفاً خشبية تمزِّق أوصالَه .
     شَعر أنه في سجنٍ : خليطٌ من الروائح الألوان . أشياء تبحث عنه في أماكن الحصار . تتجمعُ الدموعُ في مقلاةِ تاريخ الهزائم . الآنَ ، تنكمش أضلاعُه في غرفة معتمة . بينَه وبين أحلامه آلافُ الوديان ، وعواءُ الذئاب اليقظة . أجالَ بصرَه في المحيط فلم يجد غير نفْسه رغم وجود زوجته . صار كشخصٍ مصاب بالحمى تَلعب الخفافيشُ برائحة عَرَقه .
     مضى إلى غرفته وحيداً كما جاء إلى هذه الحياة وحيداً . استلقى على السرير لأن التعب هَدَمه . أحسَّ أن الزوايا تخاطبه ، وأن الوسادة الملوَّنة تبتلعه . تصمت الألوانُ تارةً ، وتَهيج تارةً أخرى . هذا عالَمه الجديد ، سجونٌ تتجمع لِتُشِعَّ سِجْناً واحداً ، وسجنٌ واحدٌ يتَّحد ليقتل كُلَّ وردةٍ تعشقُ الحقول . كأن نهراً يَحشره في بئر عميقةٍ ، ويرصده ليغتاله بعيداً عن أعين الفراشات . والليالي تَفتحُ في بُكاءِ البراري منجمَ فحمٍ . صلَّى للهِ ، وانطلقت دموعُه مع الدعاء الصاعد من أعماق قلبه ، وسَجدت أوصالُه في أرضه النازفة ، وانطلق إلى صباحات المطر الخارج من رُوحِه ، والذي يُطهِّر جوارحَه بشكلٍ صاعق .