رواية جبل النظيف / الفصل الثالث عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
..............
كان الأستاذُ رأفت يعتني بتفاصيل ملابسه . يُجري مَسحاً شاملاً لكل نقطة في
جسمه . ورائحةُ العطر تسيطر عليه من رأسه حتى أخمص قَدَمَيْه ، على غير عادته .
ولكنه اليوم ذاهب إلى منزل الدكتور لؤي عطوة لتدريس ابنه .
قَرع الجرسَ ، فجاءت الخادمة كي تَفتح
البابَ . وهنا تدخَّلت السيدة ميادة ، وأشارت للخادمة بالابتعاد، ففهمتْ أن السيدة
هي التي تريد فتح الباب . فُتح بابُ الطوفان على مصراعَيْه . وفوجئ رأفت برؤية
السيدة لأنه كان يتوقع أن تفتح له إحدى الخادمات . ارتبك للغاية ، وذابَ الكلامُ
الذي كان يُحضِّره طيلة الطريق ، ولم يَعرف كيف يخاطبها . وهي أيضاً فوجئت بمنظره
الخارجي ، حيث ظهر وكأنه قادم إلى حفلة. كما أن رائحة عِطره انتشرت بصورة جنونية
في المكان .. إنها رائحة تكاد تخلع حاسةَ الشَّم .
قَطعت عليه ارتباكَه قائلةً :
_ تفضَّل يا أستاذ رأفت .
فرح
رأفت لأن اسمَه جاء على لسانها. ومضى إلى الداخل بخطى وئيدة . وأحس بأهميته وهو
يمشي على السجاد الأحمر . إنه يتصنع الإتيكيت ، ويَحسب حركاته وسكناته . أحبَّ هذا
المكان الذي يَشعر فيه بأنه رَجل مهم ، والكلُّ يعتني به ، ويُحقِّق رغباته. أمَّا
في جبل النظيف فهو يَشعر بغربة خشنة. لا أحد يُقدِّر ما يَفعله . ماذا يعني أستاذ
لغة إنجليزية في بيئة جاهلة فقيرة بالكاد تَعرف العربية ؟! . ما معنى أن تكون
مثقفاً بين أشخاص أُمِّيين أو يفكُّون الخطَّ بصعوبة ؟! . ما فائدةُ أن توقِد
شمعةً بين القبور الخرساء ؟!. كل هذه الأسئلة احتلت وجدانَه، وتشعَّبت في عروقه .
ما ذَنْب أولئك الناس البسطاء الذي ينامون
وهُم يَحْلمون برغيف الخبز ؟! . لا يمكن للجائع أن يشتريَ كتاباً أو يَعرف الفرق
بين اللغة الإنجليزية والفرنسية . يَخرج الواحد من الصباح ويعود في منتصف الليل
لكي يُطعِم الجياعَ الذين ينتظرونه . رغيفُ الخبز هو الثقافة ، والراتبُ الشهري هو
الكتاب الوحيد الذي يطالعونه باستمرار . أفكارٌ هَجمت على ذهنه دون سابق إنذار. لكنه
نَفضها بسرعة مع قدوم السيدة ميادة ، واقتنع بأن كل إنسان في هذا العالَم عليه أن
يُدبِّر شؤونه بِنَفْسه، فلا أَحد يَسأل عن أَحد. والدنيا طاحونة عمياء ، وإذا
أراد الإنسانُ ألا يُطحَن عليه أن يكون أكبر منها. هذا هو قانون اللعبة، والكُل
يَلهث وراء السراب، ولا جديد تحت الشمس . الحاضر هو الماضي مع اختلاف أنواع
الأقنعة . وما سَيَحْدث هو ما قد حَدث، وما سَيَكون هو ما قَد كان.
قالت ميادة وهي تمط كلامَها مَطَّاً :
_ أريد أن أشكرك يا أستاذ رأفت ، فقد تحسَّن
مستوى رمزي ، وارتفعت معنوياته ، وصار يُركِّز في دروسه بشكل واضح .. تأثيركَ واضح
عليه ، وجهودكَ مشكورة . وبصراحة ، كلُّ مَن في البيت يحبونكَ .
ثم استدركتْ قائلة :
_ أقصد رمزي يحبك ، ويطبِّق نصائحك حرفاً
حرفاً .
شَعر رأفت بالزهو ، وقال مُظهِراً التواضع :
_ أنا أشكركم على إتاحة الفرصة لي .. رمزي
رَجلٌ وليس طفلاً ، وهو يَلتقط الفكرةَ من المرَّة الأولى .. إنه رَجل يُعتمَد
عليه .
قالت ميادة مُغيِّرةً بوصلة الكلام :
_ اسمحْ لي أن أسألك سؤالاً شخصياً يا أستاذ
رأفت .. هل أنتَ متزوج ؟ .
ألقتْ هذا السؤالَ بشكل مباغِت. وأرادتْ
منه كسرَ الحواجز ، وخلق مناخ دافئ بعيد عن البرود الرسمي والأداءِ الدبلوماسي .
تشظَّت المفاجأة على قسمات وجهه . وفي نفْس
الوقت أحبَّ هذا النوع من الأسئلة، واقتنع بأن الفرصة جاءته على طبق من ذَهب ، وأراد
ألا يُضيِّعها ، فقال :
_ لا .
ولم يكتفِ عند هذا الحد ، بل أراد أيضاً أن
يبدأ تنظيرَه الفلسفي في الموضوع ، فأردف قائلاً :
_ الزواج بالنسبة إلي خط أحمر ، فأنا أريد
أن أظل عصفوراً خارج القفص .. لا أريد توريط امرأة معي ، ولا أودُّ إنجابَ أطفال
في هذا العالَم . فالعالَمُ مكانٌ خطر للعيش فيه ، ولا أحبُّ أن أمتلك امرأةً ..
أُفضِّل أن أرى الزهرةَ في البستان ولا أقطفها .
_ إن فلسفتك متشائمة .. ومع هذا يمكن أن تجد
صديقةً لا زوجة .
_ لا أحب أن أدخل في هذا المجال ، فالعلاقة
مع النساء كالشُّرب من ماء البحر .. كلما شَربتَ أكثر عَطشتَ أكثر ، ولا أريد أن
أقضيَ حياتي عطشان .
قالت ميادة والابتسامة تخلع شفتيها :
_ إذن ، سأُحضِر لكَ كوبَ ماء لئلا تظل
عطشان .. وسوفَ أُحضر رمزي .
وانطلقت وهي تضحك .. ضحكاتها تملأ المكان ،
بَدت كالفراشة الملوَّنة التي تطير فوق حقول اللهب . كلُّ شيء يَسير إلى وُجهته ،
ولكنْ : هل الوُجهة هي القمة أم الهاوية ؟ . هذا السؤال سيظل مثل وخز الدبابيس في
أجفان التاريخ .
كانت الحِصةُ مفعمةً بالمتعة والفائدة . ظهر
الارتياح على وجه رمزي ، وهو يتجول في دفاتره وأوراقه . نظر إلى أستاذه قائلاً بكل
ثقة :
_ سأحلُّ أيَّ واجب تعطيني إياه .. لم أعد
أخاف من الأسئلة والأجوبة .
رَبَتَ أستاذُه على كتفه ، وقال :
_ أحسنتَ يا رمزي .. يا بطل الأبطال .
أريدكَ أن تتحدى الأسئلة ، وتصبح الأول على الصف .. اتفقنا ؟ .
_ اتفقنا .
إن نهاية الحصة هي بدايةُ الحلم . شَعر رأفت
براحة نفسية غامرة لأنه استطاع التأثير في تلميذه ، وتَرْك بصمة واضحة . وها هو
رمزي يَضع قَدَمَه على الطريق الصحيح ، ويَملك الحافزَ لكي يتقدم . وقد نجح
الأستاذُ رأفت في غرس الدافعية في تلميذه الصغير ، وتحريره من الضغط الخارجي .
وهذا ما أسعده بشكل خاص. فمن السهل أن تجبر الحصان على الذهاب إلى النبع ، ولكنْ
لا يمكنك أن تجبره على الشرب . أمَّا رمزي فصار يذهب إلى نبع العِلم بقدميه ،
ويشرب من تلقاء نفْسه .
أَخذ الأستاذ رأفت أُجرةَ الساعتين من يد
السيدة ميادة . وبينما كان يَهم بالخروج استوقفته. استدار في الحال .. نظر في
عينيها ، وعلى شفتيه ابتسامة ناعمة. ووقف منتظراً كلامها كالجندي الذي ينتظر أوامر
قائده، أو ينتظر قراراً من محكمة عسكرية .
قالت والندى المشتعلُ يَغرق في نهر أجفانها
:
_ نسيتُ أن أخبركَ.. لدينا حفلة في المنْزل
يوم الخميس القادم، الساعة العاشرة مساءً .. أرجو أن تشرِّفنا .
_ يسعدني الحضور ، وأشكركِ على الدعوة ،
وسوف أكون أول الحاضرين .
انطلقت كلماتُه بطريقة عفوية دون أن يفكِّر
فيها . كان يتحدث مثل الرَّجل الآلي الذي تمَّت برمجته، وزراعة الكلمات فيه.
انصبَّ تركيزُه على النظر في عينيها ، كأنما يريد استغلال كل لحظة في الاقتراب من
عالَمها .
قالت ميادة :
_ أريد أن أسألك .. ما هو اللون الذي تحبُّه
؟ .
_ الأزرق . ولكنْ .. لماذا هذا السؤال ؟ .
_ مجرَّد سؤال .
خرج رأفت ، والأسئلة تتكاثر في رأسه ،
وتَجرف الشوارعَ أمامه . راح يفكِّر في كل كلمة خَرجت من فم ميادة ، ويبحث في
أصلها ، والمقصود منها ، ويحلِّل أبعادَها. وكان يجيب عن الأسئلة بأسئلة أكثر
غرابةً. والحيرةُ تأكل ملامحَه بالكامل .
كانت جبال الجليد تنهار في قلبه، ومستوى الدم في
بحور الأسئلة يرتفع بشدة . هذا عالَمه الحديدي المطلي بالقضبان . حريته بحجم قبضته
. ودُنياه هي أطلال حُجرةٍ أصغر من حبل الغسيل . لم يكن حَوْله سوى عصافير
القشعريرة التي يَسكن معها في نفْس القفص . إنه بحاجة إلى الراحة لكي يستعيد
نشاطَه كمحارِب في زمن الهدنة بين السكين واللحم . أجال بصرَه في تقاطعات جسمه
الجارح ، وقال مخاطباً قلبَه الذي ينفصل عنه تدريجياً :
_ أنتَ عبقري وغبي في
نفْس الوقت . عبقري لأنكَ تعرف كيف تنتصر في معركتك ، وغبي لأن معركتكَ مع عدو
وهمي .
وانطلق في دروب اللهيب .
رحلته قصيرة تجسِّد كلَّ تاريخ الأضداد . حبُّه للحرية اختلاط نهايات الخريف
بعنفوان الشتاء في لحظة تماس لم تلاحظها الأشجارُ . صارت الأضدادُ هي المنطقَ
الرسمي للتاريخ المستحيل .
الوقتُ الذي يَفْصله عن
موعد الحفلة قرونٌ من الوهج والشكوك والحيرة ، أو سنواتُ رصاصٍ يكتبها الزمنُ بقلم
الرصاص ، ويَمحوها المدُّ القادم من بحر الدماء .