رواية جبل النظيف / الفصل العاشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
...........
إن
الأحزان تُجرَف مع الصخور والتراب والغبار . وها هُوَ أبو بسام يذوب في الوردية
المسائية . وتكسيرُ الحجارة يتم على أضواء الكشَّافات . ورائحةُ المتفجرات
المنبعثة من باطن الأرض تشقُّ الجيوبَ الأنفية للعُمَّال الذين يُضحُّون بصحتهم من
أجل إطعام عائلاتهم التي تنتظرهم في نهاية يوم شاق .
كان منظرُ العمَّال يبعث على الأسى .
وجوهُهم مملكةُ الغبار والتجاعيد ، وأيديهم المشقَّقة لم يعد فيها مكان للأعصاب أو
الإحساس . لقد فَقدوا إحساسَهم بالعناصر المحيطة بهم ، وصاروا رجالاً آليين
يتنفسون البارودَ ويأكلون الحصى . وقد حاول أبو بسام تنظيم شؤون العمَّال ،
والاعتناء بسلامتهم العامة ، وقادَ أحد الإضرابات ، لكن صاحب الكسَّارة اتَّهمه
بأنه شيوعي كافر يرفع شعار " يا عُمَّال العالَم اتَّحدوا " ، فتفرق
العمَّالُ مستغفرين الله ، وعادوا إلى أعمالهم ، وصاروا يَنظرون إلى أبي بسام نظرة
شَك رغم أنه يَؤمُّهم في الصلاة ! . وكاد صاحبُ الكسارة أن يَطرده من العمل، لكنه
آثر الإبقاء عليه بسبب أمانته وخبرته الطويلة .
عاد أبو بسام إلى بيته كالجثة الهامدة
المحمولة على عربة عسكرية تجرُّها العصافيرُ النحيلة . انعكس ضوءُ القمر على
الأزقة المعتمة ، وظَهرت الشروخُ في حيطان البيوت مثل ملامح المومياوات القديمة . والهدوءُ
المخيف يلتهم الذكرياتِ الأسمنتية . والشبابيكُ الجريحة صارت أزهاراً مسمومة .
كلُّ العناصر تنام على فوهة بركان خامد ، ونزيفُ الطرقاتِ اللانهائي يحتفل بالهدوء
الذي يَسْبق العاصفةَ.
_ لماذا لم تنامي يا أم بسام ؟ .
قال زوجُها القادم من عالَم الصخور والقتلى
.
_ لن أترككَ تنام بدون عَشاء .
_ صَدِّقيني .. من شدة التعب أتمنى أن أرميَ
نَفْسي على الفِراش ، وأغطس في نومٍ عميق لا أخرج منه أبداً .
_ لا فائدة من هذا الكلام .. اذهب واغسل
وجهك ، وسوف تجد الطعام على الطاولة ، وتصبح مثل الحصان .
مضى الرَّجلُ المذبوح إلى المغسلة أو
المقصلة ، ووضع رأسَه تحت صنبور المياه ، ثم انهمر الماء مثل الرصاص الحي . شَعر
أنه يُولَد من جديد ، ويستعيد طفولته التي لم يَعِشْها . وكان الماءُ في تلك
اللحظة ذاكرةً متجسدة في نشوة الزمن ، وشريطاً سينمائياً يَعرض أحداث العُمر
الراكض في الفراغ . هذا العُمر الذي يتدفق في مداراتٍ مجهولة لا هوية لها غير
الابتسامات المقهورة ، والأحلامِ المكبوتة .
جلسَ أمام طاولة الطعام كالطفل الخائف من
عقاب أُمِّه . لكنه سُرعان ما تحرَّر من كل قيوده ، وأزاح كلَّ الخواطر عن باله .
تحرَّر من جاذبية الحزن والألمِ . ذكرَ اسمَ الله ، وقفز إلى الطعام كسبَّاح يسعى
إلى انتشال جثةَ غريقٍ غامضة .
كانت أمواجُ الخبز تتكسر على صخرة لُعابه ،
والمرقُ يَسيل على حوافِّ فمه . هكذا يصبح الإنسانُ رهينةً عند الطعام. تصبح
عناصرُ الكائن البشري تابعةً لصوت المعدة واضطرابها . المشي في الطريق الذي
تحدِّده الصحونُ . تحتل أشكالُ الصحون أشكالَ البشر . إنه الحلم الغائب في أقاصي
الارتعاش الخفي . أضحت الرعشةُ حُلماً وكابوساً في آنٍ معاً .
أحسَّ أنه في حلبة
مصارعة الثيران، وأن الموت قادم في أية لحظة، ومن أية جهة. وها هو الجمهور يستمتع
بموت أي كائن ، سواءٌ كان المصارِع أم الثور . المهم أن يموت أحدهما أو كلاهما لكي
تصبح متعة الجماهير في أَوْجِها. إنهم يدفعون من أجل مشاهدة الموت القادم ، أو
بالأحرى الاستمتاع بالموت .
انتهى من تناول الطعام .
غسلَ يديه بالماء والصابون ، وعاد إلى زوجته وهو يَشعر بنارٍ تتأجج في أعصابه .
ازدادت عيناه لمعاناً ، وصار قلبُه بركاناً يضخ البارود في شرايينه المفتوحة على
ضوء القمر . نظر إلى زوجته بكل حواسِّه ، وقال بصوتٍ صلب :
_ لم أنتبه إلى قميص
النوم الذي ترتدينه .
ردَّت زوجته ، وهي تمط
كلامَها مَطاً ، وتتعمد الغنجَ :
_ عقلُك في الطعام ..
وليس معي .
_ يا لَيْت أيام السعادة
تعود ، وترجع الذكريات الجميلة .
_ ضَع يدكَ في يدي لترجع
تلك الأيام .. حرام أن نقتل عُمرنا .. نحن سنعيش مرة واحدة فقط .
ضحك أبو بسام بملء فمه ،
وقال :
_ صرتِ فيلسوفة ! .
وأردف قائلاً :
_ هل نام الأولاد ؟ .
_ ناموا ! .
ومضى الاثنان إلى فوهة اللهب . كان جسداهما
يحترقان في مجرةٍ شديدة الغموض. والدُّخانُ يتصاعد من الأعصاب المتفحمة . وجغرافيا
الجسد الواحد المندمجة مع شموع الروح تقضم بقايا الضوءِ الهارب .
وفي تلك الزاوية المعتمة
.. قُرب نهايات الحريق، لَمعت الظلالُ المجروحة . إنهما عَيْنا بسام كانتا تشعان
تحت اللحاف. لقد رأى والدَيْه وهما يمارسان الجنسَ. تجمَّدت أطرافُه ، ووقف شَعرُ
رأسه . كان يُحدِّق في المشهد متظاهراً بالنوم . رأى اللقطاتِ كلها بالصوت والصورة
. أخذ يبكي بحُرقة ، وها هُوَ يصارع نفْسه لكي يخنق دموعَه، ويَدفنها تحت اللحاف.
قد سَقطت آخرُ الرايات، وخسرَ آخرَ معاقله.