رواية جبل النظيف / الفصل الحادي عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
هذا الصراخ في بيت زُهدي يَخلع النوافذ . إن أسلوب الحوار بينه وبين زوجته ينبثق من الضجيج . هُما دِيكان يتنافسان في قفصٍ واحد . وكلُّ واحدٍ يَرفع صوتَه إلى درجة الهلوسة لكي يُثبِت وجوده . فالسُّلطة في هذا البيت تعتمد على درجة الصراخ ، وقوةِ الأوتار الصوتية . أمَّا ابنهما قيس فضائعٌ بينهما ، وقد باءت محاولته التوفيق بينهما بالفشل . وبعد أن تعب الثلاثة ألقَوا أنفسهم على الأثاث البالي ، وعندئذ قال زهدي :
_ يا جماعة ، دعونا نحل الموضوع بهدوء ! .
كانت القضية التي أثارت هذه العاصفة هي زواج قيس من ابنة عمِّه هند . فالأمُّ تريد تزويجه سريعاً ، والأبُ يريد الانتظارَ بعضَ الشيء من أجل الاستعداد. وقد أكَّد لهما أن الزواج ليس لُعبة ، وهو بحاجة إلى تحضير . فالعُرس يجب أن يكون لائقاً بعائلة المخلوسي ذات التاريخ العريق في هذا الجبل .
وفي نهاية المفاوضات الشاقة اتفق الجميع على تعجيل العُرس ، ولم يَصْمد رأي زهدي أمام إصرار زوجته ، ورغبةِ ابنه . والغريبُ أنهم كانوا يتحدثون عن العُرس قبل التقدم لطلب يد هند . فقد كانوا على ثقة بأن الأمر تحصيل حاصل ، وأن خميس لا يمكن أن يَرفض رغبةَ أخيه الكبير زهدي . (( والبنت مِنَّا وفِينا ، وابن العَم يُنْزِل ابنةَ عمِّه عن ظَهْر الفَرس )) .
وفي اليوم التالي ذهبوا لزيارة بيت أبي بسام ، وَطلبوا يَد البنت رسمياً . وكانت هند وحورية تقفان وراء الباب تسترقان السَّمعَ . ظَهر على وجه أم بسام علاماتُ
الرضا ، وأبدى أبو بسام سعادته وموافقته ، لكنه استدرك قائلاً :
_ لكنَّ البنت ما زالت في التوجيهي .
وهنا تدخَّلت أم قيس ، وقالت وعيناها تلمعان بشدة :
_ البنت ليس لها إلا السِّتر .. وبدون مؤاخذة ، لا فائدة من تعليم البنات ، فالبنت _ طَلعت أو نَزلت _ ستصبح خادمةً لزوجها ، ومكانها في المطبخ .
وضحكَ الجميعُ باستثناء هِند . ولم يكن موضوع الدراسة يَشغل بالَها . بل موضوع ابن عمها الآخَر رأفت . فقد كانت تحبه وتَنظر إليه كقُدوة ، فقد كان يُدرِّسها اللغة الإنجليزية ، ولكنه لم يجيء . ويبدو أنه نظر إليها كتلميذة صغيرة على الحب ، أو مراهِقة لا تَصلح أن تكون زوجةً . وعلى أية حال ، " عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة ". هذا ما توصَّلت إليه هند في زحمة أفكارها. وقد أدركت متأخرة أن هذا الجبل لا مكان فيه للحُب أو الذكريات ، وأن الأحاسيس لا تُطعِم خبزاً . فحياةُ البنت طريقٌ يبدأ من منزل أبيها ، ويمر بمنزل زوجها ، ثم تكون النهاية هي المقبرة ( بيت العائلة الكبير ) .
توصَّلت إلى قناعة جديدة .. فابنُ عمها قيس شاب غني ، وعاش في أمريكا مع الأجانب . صحيحٌ أنه كان متسكعاً ومنحرفاً وسُمعته في الوحل، لكنه الآن يملك أموالاً كثيرة، والناس يَحترمون الأغنياءَ ، ولا أحد يهتم بماضيهم . والذي فات مات . ونحن أبناء اليوم .