قصيدة/ أغنيات للطوفان القادم من وراء التل
للشاعر/ إبراهيم أبو عواد .
صَاحِ ! ، لأنَّ المسافةَ من بيت صديقي إلى خيمتي مليئةٌ بالجثث وسيارات الإسعاف تختبئ النَّوارسُ في جيوبي . لأن الغابةَ منطقةٌ عسكرية مغلقة تأتي الكلاب المسعورة إلى مقر وزارات الحرب. لأن قفصي الصدري أعلى من البرق أَملأ أكياسَ الطحين الفارغة بالصهيل المقتول .
هبوبُ الرِّياح على شَعْر خُنصري يهمس في أُذُنِ القمر: (( لا سَنَامُ الْجَمل احتياطيٌّ نفطي، ولا جِيفةُ القِرْش بُقعةُ زيت )). إنني أُؤَدِّي التحية العسكرية لذكريات الشفق .
يا نبتةً تُغَنِّي في هذا المساءِ القريب من الرعود ، دمي أم دمكِ ذلك الأحمرُ اللامع على الأغصان ؟ . إن ملامحي المفتَّتة قنديل غامض . كلما حَطَّمت الصَّواعقُ المذياعَ التابع للهلوسةِ بخناجر الثوار، سمعتُ صوت محرِّكات الشاحنات العسكرية الراكبة في أنين الذباب المستورَد !.
وداعاً عمودي الفقري !. كان بودي أن تظل معي ، ولكنَّ الغُزاةَ سَرَقوه ليحشوه بالماريجوانا. ولكني سأنسفُ ما تبقى من ذكريات الشعير مُخَزِّناً البرتقالَ في بقايا عظامي .
مشت السكاكينُ على الجسر الواصل بين رِئَتَي الخريف بينما كنتُ أَعُدُّ جروحي التي تصطدم بثوب الثلج. إذا رأيتَ ذُبابةً تَحوم على النفايات ثم رأيتَها تحوم حول العسل ، فلا تصفها بأنها حمقاء .
في إحدى الأمسيات التي يحاصرها الغياب ، كان الصيف جالساً على كرسي يقرأ أشعاري أمام المدفأة . وفي الخارج كانت الثلوجُ على مرتفعات البكاء . لا أَملكُ الموتَ ولا الموتُ يملكني . كلانا مملوك ، واللهُ سَيِّدُنا. لا أُحاصِر خطواتي ولا خطواتي تحاصرني . كلانا محاصَر بسيوف التتار .
تبحث حبةُ أناناس عن ابنها في صراخ الحراب . ماتت الذُّبابةُ بعد أن أكلت بثديها . كنتُ أحرس أعراسَ الطيور من حديد الأقفاص .
أذكر ليلةً كان القمحُ والضباب يقتتلان على اقتسام شَفَتِي. نَسِيَ القمحُ أَنَّا كنا في قفص واحد في بلادٍ مسجَّلة باسم الإمبراطورة . نتناول الهواءَ البارد ونحتسي أكواباً من القش . هذا السَّرابُ يزرع القمحَ في لحمي . صَوْتي يَعُجُّ بالغابات . فكن وفياً أيها القش إن غدر مجلسُ الأمن بنا. إن تاريخَ أحزاني يُولد من لمعان الموج الصحراوي. والحقول أقربُ من ذاكرتي . أيها الجالسون في ضوء القمر ، لا تقتلوا القمرَ بعد أن تمتصُّوا ضَوْءَه .
أُصيبت بسرطان الثدي شجرةٌ لا تملك ثمنَ العلاج لكنَّ الأدغالَ تُقاتِل . تزوَّج التتارُ هزيمتهم في مياه مختلطة بالحِبر لكنَّ النارَ أَحرقت الرايةَ البيضاء . استراحتْ قوافلُ مُحمَّلةٌ بالموتى في جمجمة زهرة برية لكنَّ الصحراءَ فَرَشَتْ عَرَقَها استراحةً لسائقي الشاحنات . اكْتَشَفْنا آثارَ أقدام على جناح صقر مرميٍّ في قارب يستخدمه القُرْصانُ للإبحار في دموع الدلافين لكنَّ البحرَ لم يبكِ . رَسَبَت شُرفتي في امتحان الفيزياء لكنَّ نيوتن أحدُ تلاميذي .
يا أسماكَ الجوع المهاجرة في نبضاتي . ليكن الحوارُ بَيْننا دافئاً كالأمطار في الزنزانة الانفرادية غير المسقوفة ، شفافاً كالعواصف ، سريعاً كدموع الصبايا الخائفات من العنوسة ، هادئاً كبقايا القرى بعد الإعصار .
دمعي واقفٌ على درج بيتي ينتظر سيارةَ الأجرة . كلما اجتاح الفيضانُ خاصرةَ الشَّوْك كَبَّرَ قلبي ووجهي . سقط السقوطُ على سقوط الشَّعر المستعار للملكات ، وعلا صوتُ الأذان . رياحٌ تخدش العَرَقَ على جبيني . دماءٌ على وجوه شقائق النُّعمان تمسحها الفيضانات .
إلى حَبَّات التراب جسدانا أيها البلوط . فرض تاجُ الحصى الزجاجيِّ عُقوباتٍ على وجنتي حين رفضت قصائدي أن تُوَقِّعَ اتفاقيةَ سلام مع الشيطان . اشتاق الضبابُ إلى معانقة ضوء القمر عند التلة المقابلة لنظرات الصقر . حريقٌ أصاب حقولَ النفط في فم الشَّعير . لا تَرُشُّوا عليه بكاءَ الأطفال كي ينطفئ . لا ترشُّوا عليه حليبَ الأبقار التي ورثها الإسفلتُ عن أبيه .
الدُّروبُ التي تُفضِي إِلى رُمْحٍ منسيٍّ في ظهر الميناء مُغْبَرَّة . تاريخي صاعدٌ في حنجرة الغيم. هناك ، في أطرافِ غابةٍ يعلوها غيمٌ وقوسُ قُزَحَ، كوخٌ حَوَّلَتْه السُّلطاتُ إلى حَطَبٍ كانت تسكنه عائلة تحتفل بالعيد منتظرة قدوم أبنائها المنفيين .
أعيادُ الطوفان هُوِيَّةُ الحقول فوق طيران السنديان في موسم هجرته . عِشْنا مع دمنا المشاع في بيادرنا ، ولكنَّ الطغاةَ عند حضورهم أَحْضَروا كلابَهم البوليسية ليتأكدوا أنهم غُزاة .
تنطفئ أنوارُ الشوارع ، وتصبح خالية إلا من الريح . يحشد الظلامُ رمادَ الجرائم الرومانسية . الأذانُ ينزع الظلامَ الجاثم على هواء يتنفس زَيْتوني . وذكرياتُ الأعداء تحمل مِعْولاً وبندقيةً وتمضي إلى قتالهم . أرفض أن يحدد لي سَجَّاني موعدَ إفطاري . مِعْصمي غير واقع تحت الانتداب البريطاني . تَخَلَّتْ عني وِسادتي ، وحين قرأتُ ما كَتَبَتْهُ في سيرتها الذاتية دُهشتُ عندما لم أجد اسمي ! .
عَبَرَتْ تفاحةٌ نارية على جثة أرسطو إلى ذروة المواجهة بين الشرق والغرب . انتظرتُ قدومَ الصباح لأراها تحت شكل الصاعقة واضحةً كأي شيء سوى الوضوح. وَقَعَتْ جبهةُ الإمبراطور في ظلالها المالحة شمال الانهيار . عَلِقَ الصَّليلُ على أسلاك الكهرباء في أَنف عصفور ممنوع من الدخول إلى عشه ! . لم يُقاتِل ظمأُ الصحاري لأنه كان عريساً جديداً !. وتجارُ الحروب يُنظِّمون بازاراً خيرياً لمساعدة ضحايا الحروب !. ثَمَّةَ فرقٌ بين السَّجَّانين والرمال . فالرمالُ تُقلِّم أظافري ولكن السجانين يخلعونها . اتخذ المرفأُ أصدقاءَ من شموع يُسَخِّن عليها خَفرُ السَّواحل القهوةَ في فترة الحراسة الليلية .
عزيزتي الأمطار ، إِنْ مررتُ في بالكِ ذات مساء فاقتحمي قَيْدي وحديدَ القضبان . ظلالُ الهديل على خاتمي الفضة . قد تطير القُرحةُ في معدة نَسْر، ولستُ أدري هل يذهب النسر إلى المستشفى أم يبقى في قمم الصمت الواثق ؟ . سُنبلةٌ رَفَضَتْ سَيَّافي الأرض وأَبَتْ أن تَنتميَ إلى قصور مختبئة في حبات الندى .
نقش الهزيمة على حطب الضياع . القتلةُ يعودون إلى زوجاتهم في نهاية الدوام الرسمي في المجزرة. يعانقون أطفالهم ويحثونهم على الاجتهاد في المدرسة وعدم الكذب. وأطفالنا يأخذون حجارتهم من فراغات جنازير الدبابات .
أحزانُ الرصيف محطةُ قطارات لتحميل القتلى الإيطاليين في بنغازي . أبناؤنا يتباحثون حول مفهوم الرومانسية عند الممثلات الهنديات. أيتها الأميرةُ المزيَّنة بالحطب والزَّبدِ الفاخر، ليس بوسعك أن تشتريني، لأنني بعتُ نفسي قبل ولادتكِ . بِعْتها للخالق .
إنه الرَّحيلُ القادم عن هذه الأرض التي تخنق أجواءَها أجراسُ النزيف . أغنامي المتفرقةَ كالجلادين المتقاعدين ، لنكنْ أصدقاء ، اشْتَرَكْنا معاً في السَّفر في جبال الأشعة الشمسية . لي خطاي على ظهر كوكبنا ولك خطاكِ. اسْتَرَحْنا في فُوَّهة العشب. مَشَيْنا جَنْباً إلى جَنْب ، واقْتَسَمْنا دموعَ البراري. وسوف أسافر وَحْدي ، ورِحْلتي القادمةُ ذهابٌ بلا إياب . نِعاجَ المأساة ، لا تساعديني في إعداد كفني . سَأُعِدُّه بِنَفْسي. جَدِّي وآثار يديه على جذوع الزيتونات فوق التراب . وهو الآن أسفل التراب . فلا تَبِع دراجتك الهوائية أيها اليَنبوعُ لتشتريَ أكفاناً لي . لقد كان طموحي أن أكون مُؤَذِّناً على كوكب الزُّهرة.
أيها المطرُ الذي يَعبر الضبابَ البنفسجي ، أراكَ من وراء نافذتي . غُرفتي سِراجها مُطفئ ولكنْ تَوَهَّجَ نزيفي تحت جسور سراييفو . للنِّسيان وردةٌ صفراءُ، وللنَّحل مملكةٌ لا يخمشها ابتزازُ المنافي . وتِلْكَ الآبارُ في أطراف الهديل قريةٌ . أَتوكَّأُ على أفعى ، وبراميلُ البارود تتوكَّأ على عمودي الفقري . وفي كُرياتِ دمي حربُ شوارع ، إنني القاتِلُ والضَّحية .