أدلة القائلين بعدالة الصحابة فرداً فرداً
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
[ أ] قال الله تعالى : (( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً )) [ الفتح: 18] .
قال الطبري في تفسيره ( 26/ 85 ) : (( يقول تعالى ذكره : لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفروا ، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة ، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة )) اهـ .
وقال الصابوني في صفوة التفاسير (16/ 37) : (( لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك يا محمد ( بيعة الرضوان) تحت ظل الشجرة بالحديبية )) اهـ .
قلتُ : إن الآية الشريفة تتحدث عن رضا عمومي متعلق بموقف محدد ، فالله تعالى لم يقل لقد رضي الله عن المؤمنين الذين يبايعونك تحت الشجرة ، أو الذين بايعوك . بل ربط الرضا بموقف البيعة (( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ )) ، وهذا يدل على أن الرضا على المؤمنين خاص في موقف البيعة تحت الشجرة ( بيعة الرضوان 6هـ ) ، وليس كلياً عاماً في كل المواقف دون استثناء . فقد يغضب اللهُ تعالى على صحابي في موقف آخر . فمدح الصحابة نابع من موقفهم المشرِّف من البيعة، وليس رضا عاماً شاملاً لكل صحابي فرداً فرداً مدى الحياة إلا من ثبت واستقام حتى مماته . وقد نعطي مثالاً لغوياً فنقول : (( لقد رضيتُ على أبنائي إذ يدرسون في الغرفة )) ، ولاحظ هنا أن الرضا مرتبط بموقف الدراسة ، فقد لا أكون راضياً عنهم عندما يضربون بعضهم البعض في الشارع مثلاً .
وقد يحتج فريقٌ بحديث أم مبشر_رضي الله عنها_ أنها سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها ))[ رواه مسلم ( 4/ 1942 ) برقم ( 2496 )] .ويذهب إلى أن الرضا عام كلي شامل لمن بايع تحت الشجرة فرداً فرداً مدى الحياة دون الحاجة للبحث في أفعال الصحابة من حيث موافقتها للشريعة أو مخالفتها، وبالتالي لن تلمس النارُ أياً منهم بشكل قطعي، وهذا فيه نظر . فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب على الإطلاق ، وقد جُمِعَ له الكلام ، ولكي نفهم الحديثَ الشريف السابق يجب أن نقارنه بحديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم لنفهم دلالاتِ الألفاظ بدقة ، دون التعجل والحكم من خلال ظاهر الكلام ، فاللغة العربية ظاهرٌ وباطن ( مُضْمَر ) ، وحقيقة ومجاز ، والمعاني تدل على المعاني ، والألفاظ الظاهرية قد تخفي معنى داخلياً . ففي الحديث الصحيح ، عن عبد الله ابن مسعود _ رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ))[ رواه مسلم ( 1/ 93) برقم ( 91)] .
فلو أردنا أن نأخذ هذا الحديث على ظاهره لقلنا إن كل المسلمين على الإطلاق لن تلمسهم النارُ قطعاً لأن كل مسلم بالضرورة في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وإن كل من في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء هو كافر خالد في جهنم لأنه لا يدخل الجنة حسب ظاهر الحديث . ومن خلال هذا المنظور سيكون المسلمون الذين في قلوبهم حبة خردل من كبرياء خالدين في النار . ولكن هذا الكلام الناتج من ظاهر الحديث مرفوض قطعاً ، ولا يقول به أحد بتاتاً ، لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن الذي يموت مسلماً مصيره الجنة _ بشكل فوري أو غير فوري _ ، ولا يخلد في النار بأية حال ، وأن الكافر لا يدخل الجنة مطلقاً، وهذا يقودنا إلى فهم مراد الحديث الشريف فهماً دقيقاً بالغوص في معانيه دون الوقوف عند ظاهره .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 91) : (( لا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فالمراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود )) اهـ .
وهذا هو المعنى المقبول والمنطقي لكل أولئك الذين يفهمون لغة العرب ، وبالتالي فإننا نخلص إلى أن الحديث الشريف : (( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها )) يعني أنهم لا يدخلون النار دخول الكفار الخالدين فيها ، وبعبارة أخرى فهذه بشارة لهم بالموت على الإسلام فلا يخلدون في النار . أما الذهاب إلى أن النار لا تمسهم قطعياً وفق هذا الحديث، فهذا القول لا نُسَلِّم به بالمرة اعتماداً على تضافر الأدلة ، وفهمِ السياقات اللغوية للنصوص. فالسُّنة تفسر السُّنةَ ، مما أدى إلى فهم للسياق اللغوي البلاغي . ومن أصحاب الشجرة من حُرِّم على النار قطعياً وهم الصحابة الذين جاءت النصوص صريحة بتحريمهم على النار قطعياً ، ومنهم من قد يتعرض للعذاب في النار لأنه ارتكب ذنوباً بعد بيعة الرضوان ، وخلط عمل صالحاً بآخر سيئ ، ولكنه لا يخلد فيها، لأن البشارة شاملة بالموت على الإسلام وعدم الخلود في النار بالنسبة لأصحاب الشجرة .
فمثلاً المغيرة بن شعبة شهد بيعة الرضوان لكنه كان ينال من سيدنا علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _، واتخذ المغيرة بن شعبة من سب سيدنا علي منهجاً في حياته، فلو كان الرضا شاملاً لكل أصحاب الشجرة مدى الحياة وفي كل الأحوال، لكان اللهُ تعالى راضياً عن المغيرة وهو يشتم علياً. وهذا لا يقول به عاقل. فالله تعالى كان راضياً على المغيرة بن شعبة حينما شهد بيعة الرضوان ، وكان غاضباً عليه حينما كان يشتم سيدنا علياً _ رضي الله عنه _ . وسوف يأتي تفصيل هذا الموضوع لاحقاً بالأدلة الواضحة من مصادرها الموثوقة .
وفي قصة الإفك سقط بعض الصحابة في الخطيئة . ففي الحديث المتفق عليه . البخاري ( 4/ 1523) ومسلم ( 4/ 1934) : عن مسروق قال: دخلنا على عائشة_رضي الله عنها _ وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له ، وقال :
وحسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدافع عنه دفاعاً قوياً ثابتاً ، والذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ( 4/ 1935) : (( إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله ))، قد تورَّط في حادثة الإفك ، والطعن في أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _، وقد توعَّده اللهُ تعالى بعذاب عظيم كما في الآية القرآنية السابقة ، فكيف نوفِّق بين الموقفين ؟ .
من الواضح أن مدح النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت مرتبط بموقف محدد وهو الدفاع عن اللهِ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما إن خالف الأوامرَ الشرعية فهو مستحق للعقاب. وهذا الحديث يعكس لنا ضرورة الانتباه إلى مبدأ مديح الصحابة _ رضي الله عنهم _ ، وتحديد صيغة المدح من حيث إنها شاملة عامة أم أنها مخصوصة ضمن إطار محدَّد .
وفي صحيح البخاري ( 4/ 1529 ) : عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيتُ البراء ابن عازب _ رضي الله عنهما _فقلتُ : طوبى لك ، صحبتَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي ، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده .
قلتُ : وهذا على سبيل التواضع من قبل سيدنا البراء بن عازب_رضي الله عنهما_، فحسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فقد كانت سيرة البراء مستقيمة حتى وفاته . لكن هناك من أحدث بالفعل بعد البيعة تحت الشجرة ، فالمغيرة بن شعبة لا ننكر أن رضوان الله نزل عليه أثناء بيعة الشجرة، لكنه كان ناصبياً يشتم علياً، وقد وردت أحاديث تدين من يشتم علياً ، ووردت أحاديث كذلك تدين شتم الصحابة عموماً . فينبغي أن تؤخذ الأدلة الشرعية كاملةً في الكتاب والسنة الصحيحة وليس بطريقة انتقائية اجتزائية .
وعن جابر أن عبداً لحاطب جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال : يا نبي الله ، ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كذبتَ لا يدخلنها أبداً وقد شهد بدراً والحديبية ))[ رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 340 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي] .
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 57 ) : (( فيه فضيلة أهل بدر والحديبية ، وفضيلة حاطب لكونه منهم. وفيه أن لفظة الكذب هي الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً ، سواءٌ كان الإخبار عن ماض أو مستقبل )) اهـ .
وقصة حاطب بن أبي بلتعة مشهورة ففي الحديث المتفق عليه ، البخاري ( 4/ 1855) ومسلم ( 4/ 1941 ): أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( لعل الله _ عز وجل _ اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم )).وفي رواية عند البخاري (5/ 2309 ): (( فقد وجبت لكم الجنة )) .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 56و57) : (( قال العلماء : معناه الغفران لهم في الآخرة ، وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أُقيم عليه في الدنيا . ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد ، وأقامه عمر على بعضهم . قال : وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً )) اهـ .
وفي فتح الباري ( 7/ 305 و306 ) : (( وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم ، ووقع الخبر بألفاظ منها : فقد غفرتُ لكم ، ومنها : فقد وجبت لكم الجنة ، ومنها : لعل الله اطلع . لكن قال العلماء : إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله الموقوع ، وعند أحمد وأبي داود وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة بالجزم ولفظه : إن الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم من حديث جابر مرفوعاً : (( لن يدخل النار أحد شهد بدراً )). وقد استشكل قوله: اعملوا ما شئتم ، فإن ظاهره أنه للإباحة ، وهو خلاف عقد الشرع. وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أي كل عمل كان لكم فهو مغفور ، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ، ولقال : فسأغفره لكم . وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكراً عليه ما قال في أمر حاطب . وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين ، فدل على أن المراد ما سيأتي . وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ، وقيل إن صيغة الأمر في قوله : اعملوا ، للتشريف والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة ، وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت،أي كل ما عملتموه بعد هذه الواقعة من أي عمل كان فهو مغفور. وقيل إن المراد ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة ، وقيل هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم، وفيه نظر ظاهر لما سيأتي في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في أيام عمر وحدَّه عمر، فهاجر بسبب ذلك ، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته وكان قدامة بدرياً )) .
وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 120 ) : (( وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً ولا هجره لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشاً خشية على أهله وولده،وأراد أن يتخذ له عندهم يداً فعذره )) اهـ.
وفي عمدة القاري ( 14/ 257 ) : (( وفيه دلالة على أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل ، قاله ابن الجوزي . وفيه أن من أتى محظوراً، وادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك ، وإن كان غالب الظن خلافه )) اهـ .
وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 635 ): (( وقال ابن الجوزي: ليس هذا على الاستقبال وإنما هو على الماضي تقديره : اعملوا ما شئتم أي عمل كان لكم فقد غفر ، قال : لأنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر لكم ، ولو كان كذلك لكان إطلاقاً في الذنوب ولا يصح ، ويبطله أن القوم خافوا بعد حتى كان عمر يقول : يا حذيفة بالله هل أنا منهم )) اهـ .
وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة _ رضي الله عنها _ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه )) ، فجاء عمر يسألها ويستحلفها بالله تعالى إذا كان منهم أم لا .
قلتُ : أقوى دليل قدَّمه ابن الجوزي قصةَ عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه_ وهو ممن شهد بَدْراً، وكان حاضراً في قصة حاطب بن أبي بلتعة. وانظر كذلك إلى عمر _ رضي الله عنه_ كيف استحلف أم سلمة _ رضي الله عنها _ هل هو ممن لا يرون النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراقه ، ولو فهم عمر ابن الخطاب أن شهود بدر يعني أنه من أهل الجنة قطعاً لما احتاج أن يأتيَ ويتعب نفسه بالسؤال ويستحلف أم سلمة ، ولما احتاج أن يترك قول النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم ليسأل صحابياً أو صحابية ويستحلفها ، فهذا يعني أنه لم يعتمد قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصدقه فعدل إلى الآخرين يسألهم ، وحاشى عمر أن يفعل هذا . ولا يقال إنه من باب التواضع أو التقوى ، لأن التقوى أن تأخذ كلامَ النبي صلى الله عليه وسلم نَصَّاً معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتُسلِّم له، ولا تعدل عنه نهائياً ، لأن في العدول عنه عدم تصديق للنبي صلى الله عليه وسلم فيما قال ، وعدم إيمان بعصمته في تبليغ الأحكام الشرعية ، وهذا كفرٌ بالإجماع .
وهذه وجهة نظر قوية جداً . لكن الرأي الراجح عندي في قصة عمر هو أن عمر كان يعرف أنه مشهود له بالجنة لأنه شهد بدراً، وسمع ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بدر . حتى لو ارتكب ذنباً ، فإنه يلجأ إلى التوبة حتى مماته. لكنه فعل ما فعل من باب أن يطمئن قلبُه،ويتأكد أن فهمه لكلام النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لئلا يكون قد فهم شيئاً آخر لم يقصده النبي صلى الله عليه وسلم . فعمر ليس ساذجاً ، فلو كان منافقاً لعرف ذلك من نفسه دون الحاجة إلى سؤال الآخرين . وإنما أراد أن يزداد يقيناً وإيماناً. قال تعالى : (( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )) [ البقرة: 260] . قال الحافظ في الفتح ( 1/ 47): (( فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال : قوله : ليطمئن قلبي ، أي يزداد يقيني ، وعن مجاهد قال : لأزداد إيماناً إلى إيماني )) اهـ .
وقال القرطبي كما في فتح الباري ( 8/ 635 ) : (( وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه، وقد أظهر الله صدق رسوله في كل ما أخبر عنه بشيء من ذلك ، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قُدِّر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة ، ولازم الطريق المثلى ، ويعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم )) اهـ .
قلتُ : دعونا نترك السُّنة تفسر السُّنةَ . ففي الحديث الصحيح المرفوع : (( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء )) ، وفي الحديث المتفق عليه عند البخاري ( 1/ 164 ) ومسلم ( 1/ 455) : (( فإن الله قد حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله )). وهذان الحديثان يكشفان لنا السياق اللغوي النبوي لهذا المبحث . فالحديث الأول قد سبق شرحه، وفي الحديث الثاني وضَّح أن من قال لا إله إلا الله قد حُرِّم على النار ، فهل معنى هذا أن النار لن تمسه أبداً ؟! . بالطبع : لا ، فالمعنى الصحيح هو أنه لن يخلد في النار ، وأن مصيره إلى الجنة قطعاً . فكل الأمة المحمدية تقول لا إله إلا الله ، فهل يجرؤ قائل أن يقول إنه لن يدخل النارَ أيُّ واحدٍ منها ؟ ، بالطبع لا . فهناك مسلمون سيذهبون إلى النار لا محالة للعذاب ثم يخرجون ، وهذا متواتر لا مجال لإنكاره مطلقاً .
لذلك فإننا نخلص إلى أن أهل بدر جاءتهم شهادة نبوية معصومة بأنهم سيموتون على الإسلام قطعاً، وأنه وجبت لهم الجنة. أما أن النار لن تمس أي واحد منهم مطلقاً ، فهذا بحاجة إلى دليل آخر يجزم بهذه المسألة . أما قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لعل الله _ عز وجل_ اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، فلا يعني أنه سماح بارتكاب الذنوب صغيرها وكبيرها بلا حسيب أو رقيب، بل معناه أن الله تعالى علم في الأزل أنهم سيموتون على الإسلام، وهذه هي البشارة الكبرى لأنها غير متوفرة لكل الناس، وغير متوفرة لكل المسلمين ، فكم من مسلمٍ مات مرتداً . أما احتمال وقوعهم في الصغائر أو الكبائر فوارد ، لكن الله تعالى يتوب عليهم ليتوبوا . فإذا ظهرت منهم معصية تابوا ورجعوا ، وهكذا حتى وفاتهم .
والرأي الآخر أن المغفرة مضمونة لمن توفرت فيه شرط المغفرة، وكان أهلاً للمغفرة والاستقامة حتى الممات . وهذا الرأي إنما جاء من فهمنا لما رواه البخاري ( 3/ 1069 ): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر _ يعني القسطنطينية _ مغفور لهم )) . فالظاهر أن هناك مغفرة عامة شاملة لكل فرد من الجيش ، لكن الحافظ في الفتح ( 6/ 102) أورد كلاماً لابن التين وابن المنير مفاده : (( أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص ، إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( مغفور لهم )) مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة ، حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتفاقاً ، فدل على أن المراد : مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم )) اهـ .
وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يقتل حاطباً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عذره لأنه متأوِّل ، واستدلاله صلى الله عليه وسلم (( لعل الله _عز وجل_ اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) معناه أن كل ذنب يرتكبونه سيوفقهم اللهُ تعالى للتوبة منه، وبالتالي فإن حاطباً مشهود له بالإسلام، وأن الجنة واجبة له ، فقد نفى صلى الله عليه وسلم عنه الرِّدة ، أما ما فعله فهو ذنب مغفور لاعتماده على التأويل ، وقد قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك كان أهلاً أن يُغفَر له بحسن نيته وتأويله الشخصي للمسألة بعيداً عن الردة . وإذا ارتكب ذنباً سيهتدي إلى التوبة منه. أما أن النار لن تلمسه أبداً ، فهذا يحتاج إلى دليل آخر اعتماداً على مقارنة الصياغة اللغوية النبوية في الأحاديث ، والله أعلم .
[ب] قال الله تعالى : (( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمَاً )) [ الفتح: 29] .
إن الآية الشريفة السابقة فيها مدحٌ للصحابة _ رضي الله عنهم _ بالعموم ، أي إن الخطاب خاص بمجموع الصحابة كوحدة جمعية كلية ، ولا تحمل أي تخصيص للصحابة فرداً فرداً . كما أن المدح مرتبط بمواقف محددة مثل الشدة على الكفار ، والرحمة فيما بينهم ، والركوع والسجود ، وابتغاء فضل الله ورضوانه، فمن التزم بهذه الأمور حتى مماته ، واستقام وثبت حتى لاقى وجهَ الله تعالى فهو مرضيٌّ عنه بالقطع . أما من خلط عملاً صالحاً بآخر سيئ ، وبدَّل المواقف وأساء ، فهذا له وضع آخر بالتأكيد .
[ج] قال الله تعالى : (( لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )) [ الحشر: 8] .
قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 18/ 23) : (( كأنه يقول : الفيء والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إلى الهجرة من أوطانهم ، فتركوا الديار والأموال ابتغاء مرضاة الله ورضوانه .. قاصدين بالهجرة إعلاء كلمة الله ونصرة دينه .. وهؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إيمانهم )) اهـ .
إننا نرى أن المدح في هذه الآية مرتبط بسبب الهجرة والتضحية في سبيل الله ، أي إن المدح متعلق بهذا الموقف المشرِّف الذي وقفه الصحابة _ رضي الله عنهم _ . وما ذكرُ الله تعالى لهذه الصفات وهذه المواقف في الآيات القرآنية الكريمة إلا توضيح لنا أن المدح مرتبط بأسبابه ، وأن الفضل المستحق مقترن بأحداث معينة . وهذا المدح مستمر بشرط أن يثبت الصحابي على المواقف النبيلة حتى مماته. وإذا لم يثبت ففي ذلك كلامٌ آخر.
[د] قال الله تعالى : (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [ الحشر:9] .
قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 18/ 23و24 ) : (( أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثير من المهاجرين وهم الأنصار .. يحبون إخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم.. ولا يجد الأنصار حزازة وغيظاً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم .. ويفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة والفاقة إليه .. ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح )) اهـ .
قلتُ : وهذا المدح للأنصار هو مدحٌ لمواقفهم النبيلة ، فجاءهم رضا الله تعالى على تلك المواقف الشريفة التي تعكس إيماناً راسخاً ، وبالطبع فالأمور مرتبطة بالأسباب والحوادث التاريخية ، وقد يكون اللهُ تعالى غير راضٍ عن مهاجري أو أنصاري في حادثة معينة أو لحظة محددة. وليس أدل على مدح مواقف الصحابة لا مدح ذواتهم على الإطلاق من توضيح الآية الشريفة لمجريات الأمور والحوادث التاريخية بدقة ، فالمدح والفضل جاء خاصاً بأحداث محددة مثل اتخاذ المدينة منزلاً ، والإيمان ، وحب المهاجرين ، وعدم الحسد ، والإيثار . ولم يأت ذكر هذه الصفات عبثاً ، بل هي الدواعي الحقيقية لمدح اللهِ تعالى لهم ، فإن استمروا حتى وفاتهم ثابتين عليها فالمدح مستمر لهم ، والرضوان ثابت بحقهم ، أما من غيَّر وبدَّل وخالف هذه الصفات الحميدة التي يحبها الله تعالى ، فقطعاً سوف يخرج من نطاق المقصودين بالآية الشريفة .
[هـ] قال الله تعالى: (( لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى )) [ الحديد: 10] .
إن الآية الشريفة تمدح موقف الإنفاق الذي قام به الصحابة _ رضوان الله عليهم _، ومدحهم لأنهم قاموا بالإنفاق ، أي إن مدح الذوات البشرية مرتبطة بالحدث التاريخي والموقف . ونحن عندما نطلق على الصحابة عبارة _ رضي الله عنهم _ ، فنحن لا نقصد بها الصحابة الذي نكثوا وبدَّلوا وتنكَّبوا الطريقَ، فهؤلاء من النادر، والنادر لا حكم له. وبعض الأفراد من الصحابة الذي أساؤوا، وخلطوا الحابلَ بالنابل ، وجاءت نصوصٌ شرعية ضدهم، فهؤلاء مُسْتَثْنَوْن من عبارة_ رضي الله عنهم _، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً .
[و] قال الله تعالى : (( لَّقَد تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ )) [ التوبة : 117] .
قال الطبري في تفسيره ( 11/ 54) : (( يقول تعالى ذكره : لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصارَ رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة )) اهـ .
وهكذا نجد أن التوبةَ من الله تعالى نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، أما المهاجرون والأنصار فذُكِروا بالعموم ولم يتم ذكر أي فردٍ بعينه ، فهذه توبة عامة مُوَجَّهة للمهاجرين والأنصار كوحدة مجتمعية كلية ، وغير مُوَجَّهة لهم فرداً فرداً بعينه . ويمكن أن تكون التوبة لكل فرد بعينه ولكن هذه التوبة مرتبطة بحدث معيَّن ومحدَّد زماناً ومكاناً ( الاتباع في ساعة العسرة ) ، وليست شاملة لكل الأحداث ، لأن الآية تتحدث عن حادثة تاريخية بعينها ، أي إن الآية مخصَّصة . وقد يقول أحدهم إن العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فنقول إن كلامك صحيحٌ في حال لم يتم تقييد الحدث التاريخي في الآية ، وبما أن الموقف المحدَّد ( الاتباع في ساعة العسرة ) قد ذُكِر ، فالآية خاصة بالسبب ، ولا تُحمَل على عموم اللفظ ، لأن اللفظ أصلاً غير عام .
[ز] قال الله تعالى : (( كُنتُم خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَت للنَّاسِ تأمرون بالمعروفِ وَتَنْهَوْنَ عن المنكر وتؤمنونَ باللهِ )) [ آل عمران: 110] .
هذه الآية مختلفٌ في تأويلها وفق طرق عدة ، فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال في تفسيرها : (( هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ))[ رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 2/ 323 ) برقم ( 3160 ) ، ووافقه الذهبي] .
قلتُ : إن الخيرية شاملة للأمة كوحدة كلية جمعية ، وغير مختصة بكل فردٍ على حدة ، لكن الخيرية الجمعية أو الفردية متحققة إذا تم تحقيق شروط الأفضلية الثلاثة التي وضَّحتها الآيةُ الشريفة: الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإيمان بالله . فمن التزم بهذه المنهجيات الثلاث تحقَّقت له الأفضلية سواءٌ كان صحابياً أو غير صحابي ، ومن لم يلتزم بها لم يدخل في نطاق الأفضلية سواءٌ كان صحابياً أو غير صحابي . وهكذا نستنتج أن الأفضلية مشروطة بمسائل محددة ، وغير معنية بالذوات الإنسانية من حيث إنها ذوات بشرية سواءٌ كانت ذوات صحابة أو غير ذلك . فالعِلَّة والمعلول متلازمان وجوداً وعدماً ، وإثباتاً ونفياً .
[ح] قال الله تعالى : (( وَالسَّابقونَ الأوَّلون من المهاجِرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان رضي اللهُ عنهم ورَضُوا عنه )) [ التوبة : 100].
قال الطبري في تفسيره ( 11 / 6 ) : (( يقول تعالى ذكره : والذين سبقوا الناسَ أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم ، وفارقوا منازلهم وأوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله ، والذين اتبعوهم بإحسان ، يقول : والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله ، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلب رضا الله رضي الله عنهم ورضوا عنه )) اهـ .
إذاً ، جاء مدحُ الصحابة على المواقف النبيلة التي وقفوها ، وليس لأنهم صحابة ، فمن ثبت حتى مماته فقد رضي الله عنه ورضي عن اللهِ ، ومن لم يثبت فهو خارجٌ من سياق الآية قطعاً .
وكل الأحاديث النبوية التي وردت في هذا الباب جاءت مدحاً للصحابة بشكل عمومي كلي ، أي إن المدح لمجتمع الصحابة ، إلا في حالات خاصة جاء المدح لصحابي بعينه ، ومثل هذه النوعية من الأحاديث تُسمَّى فضائل الصحابي . ونخلص إلى قاعدة هامة بمثابة التلخيص ، وهي أن المدح للصحابة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إنما جاء مرتبطاً بأحداث ووقائع محدَّدة ، فمن ثبت حتى وفاته فقد تحقق له الفضلُ ورضوان الله ، ومن زلَّت به القدم أو بدَّل وغيَّر ، فله وضعٌ خاص به. وأيضاً فالمدح والرضوان جاء عمومياً لمجتمع الصحابة الكلي ، فالصحابة الذين كانت سيرتهم سيئة نادرون وقلة قليلة، والنادر لا حكم له . وقد يأتي الفضلُ مختصاً بصحابي بعينه ، وهذه شهادة من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك الصحابي بالرضوان مدى الحياة ، وهذه هي أعلى مرتبة من الفضل والرضوان .
ونحن نحب الصحابة _ رضوان الله عليهم _ الذين ثبتوا على الصراط المستقيم ، ونتبرأ من أفعال الصحابة الذين أساؤوا وارتكبوا الآثام ، مع العلم بأن الصحابي يجوز عليه ارتكاب الكبيرة ، ولكن عليه التوبة منها ، وسواءٌ تاب أم لم يتب فنحن نترضى عليه ، ولا نقوم بخلعه . والأصل في الصحابي أنه عَدْلٌ حتى يثبت العكس. فالصحابي المشهود له بملازمة النبي صلى الله عليه وسلم وبالفضل والرضوان في نصوص شرعية نطلق عليه عبارة _ رضي الله عنه _ تحقيقاً بكل ما تحمله العبارة من معنى ، وهذا هو الصحابي بالمعنى العُرْفي ، أما إن كان الصحابي بالمعنى اللغوي، أو أنه خلط الحق بالباطل في حياته وارتكب الكبائر فنطلق عبارة_رضي الله عنه_ من باب الدعاء له والتبرك بهذه الكلمة ، لعل الله أن يعفوَ عنه . فهناك صحابة سيذهبون إلى النار لا محالة ، وسينالون عقابهم بالعذاب ، ومع هذا نترضى عليهم بمعنى أن يرضى الله عنهم ويرحمهم في خاتمة الأمر ، ويدخلهم الجنة بعد أن ينالوا العذابَ المستحق لهم . فالصحابي لا يُخلَع إلا إذا مات كافراً . ونحن نترضى على الصحابي سواءٌ كان زانياً ( مثل ماعز بن مالك والغامدية ) ، أو شاربَ خمر ( مثل الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقدامة بن مظعون ) ، أو قاتلاً ( مثل سمرة بن جندب ) ، أو كان فيه نفاق ( مثل النواصب من الصحابة كمعاوية والمغيرة بن شعبة )، بمعنى الدعاء لهم بالرحمة ونيل رضا الله تعالى، لا أننا نضعهم مع سادات الصحابة الأتقياء الأنقياء في نفس المرتبة، وإنما هو الدعاء لهم ، مع إيماننا بأن الصحابة طبقات ودرجات ، فكل المسلمين يدخلون الجنة ، لكن المسلم الذي قضى حياته في الخمَّارة ليس كالمسلم الذي قضى حياته في المسجد . كلٌّ له منزلة ، ولن يجعل اللهُ التقيَّ كالفاسق .
فعلى سبيل المثال، معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ( رأسا الفتنة ) والمغيرة بن شعبة كلهم صحابة،ولكنهم في نفس الوقت نواصب أعداء لسيدنا علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه_ كما سيأتي معنا لاحقاً بإذن الله ، والنَّصب يُسقِط العدالةَ في الوضع الطبيعي ، فكيف سنفعل بالأحاديث التي رواها هؤلاء الصحابة مثلاً . والأمر أجاب عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 8/ 410) : (( فأكثر من يوصف بالنَّصب يكون مشهوراً بصدق اللهجة ، والتمسكِ بأمور الديانة ، بخلاف من يوصف بالرفض،فإن غالبهم كاذب ولا يتورع في الأخبار. والأصل فيه أن الناصبة اعتقدوا أن علياً_ رضي الله عنه_ قتل عثمانَ ، أو كان أعان عليه ، فكان بغضهم له ديانة بزعمهم ثم انضاف إلى ذلك أن منهم من قتلت أقاربه في حروب علي )) اهـ .
وانظر إلى هذه الأوصاف بحق بعض الرواة التي ذكرها ابن حجر في عدة مواضع من كتابه تقريب التهذيب ( 1/ 95) : (( ثقة حافظ رُمي بالنَّصب ))، وفي ( 1/ 156): (( ثقة ثبت رُمي بالنصب )) ، وفي ( 1/ 252 ) : (( صدوق رُمي بالنصب )) .
والنَّصب بدعة كارثية إلا أنها لا تُخرِج الإنسانَ من الملة إلا إذا استحلَّها . قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 1/ 60 ) : (( قال العلماء من المحدِّثين والفقهاء وأصحاب الأصول : المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق ، وأما الذي لا يكفر بها فاختلفوا في روايته ، فمنهم من ردها مطلقاً لفسقه ولا ينفعه التأويل . ومنهم من قبلها مطلقاً إذا لم يكن ممن يستحل الكذبَ في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه ... ومنهم من قال تُقبَل إذا لم يكن داعية إلى بدعته ولا تُقبَل إذا كان داعية ، وهذا مذهب كثيرين أو الأكثر من العلماء وهو الأعدل الصحيح )) اهـ .
وقال ابن حجر في نخبة الفكر ( ص 230 ) : (( فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أثراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة ، وكذا من اعتقد عكسه ، والثاني يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته في الأصح ، أي إن روى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ )) اهـ .
والأمر غير خاص بالنواصب فحسب ، بل يتعداه ليشمل الشيعة . قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 8/ 58 ):(( وقال أبو إسحاق الجوزجاني: كان قوم من أهل الكوفة لا تُحمَد مذاهبهم، يعني التشيع، رؤوس محدثي الكوفة مثل أبي إسحاق والأعمش ومنصور وزبيد وغيرهم من أقرانه ، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث )) اهـ .
فهناك صحابة لم يكونوا يعتقدون بعدالة الصحابة فرداً فرداً ، بدليل أن معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة صحابيان مشهوران ، ومع هذا كانا يشتمان علياً وفق نظرتهما له على أنه ظالم ومتجاوز يستحق الشتم واللعن ، يعني أنهما لا يعتقدان بعدالته . فإذا كانت عدالة الصحابة فرداً فرداً حقيقةً واقعة ، فقل لي لماذا جعل معاوية شتمَ علي بن أبي طالب على المنابر ؟ .