سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/03‏/2012

نقد أفعال معاوية بن أبي سفيان ومن دار في فلكه

نقد أفعال معاوية بن أبي سفيان ومن دار في فلكه

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

لقد وضَّحنا أن الصحابة ليسوا معصومين ، ولا يملكون أية حصانة إلا حصانة الكتاب والسنة الصحيحة لمن التزم بهما ، أما الذين لم يلتزموا بهما ، فنحن نحذر الناسَ من أفعالهم الشريرة لئلا يحدث الاغترار باسم الصحابي المرتبط بهم . مع التنبيه إلى أن وجود قلة نادرة من الصحابة ذات السلوك السيئ لا يطعن في باقي الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ، لأن وجود ابن كافر لسيدنا نوح صلى الله عليه وسلم لا يعني بأية حال من الأحوال أن نوحاً لا يتقن تربيةَ الأبناء ، ووجود يهوذا الإسخريوطي لا يعني أن سيدنا المسيح صلى الله عليه وسلم لا يعرف اختيارَ أصحابه . كما أن بروز صحابي ذي سيرة سيئة هنا أو هناك لا يعني أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم لا يعرف تمييزَ أصحابه، فليس كلُّ الصحابة هم العشرة المبشَّرين بالجنة . فالصحابة الذين قام على أكتافهم الإسلامُ هؤلاء من اختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، ووردت نصوص شرعية في تعديلهم وتزكيتهم وفضلهم وأنهم من أهل الجنة ، وهؤلاء هم الصحابة من الطبقات المتقدمة في التمسك بالإسلام ، ولكن من المحال أن يكون كل الصحابة على وتيرة واحدة من الالتزام الشرعي، فنحن نتحدث عن مجتمع الصحابة الذين يتجاوزون مئة ألف صحابي،ومن الجنون اعتقاد أنهم كلهم ملتزمون بالشرع التزاماً حقيقياً . ومن هؤلاء الذين ارتكبوا الموبقات والكبائر ، ولم يتوبوا منها معاوية بن أبي سفيان الذي تضافرت الأدلة الشرعية ضده بشكل واضح وحاسم . ونحن في هذا المقام نستعرض الأدلة التي جاءت ضده مُرَقَّمة ، ومعتمدة على مصادرها الموثوقة :

[1] ينبغي أن ندرك أن معاوية قد جعل شتم سيدنا علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه_ على المنابر يوم الجمعة ، وهذا متواترٌ لا مجال لإنكاره أبداً، فمن غير المعقول أن كل الولاة الذين وضعهم معاوية يشتمون علياً ، ولا يكون الأمر صادراً منه أو أنه لا يعلم بالموضوع . ولو افترضنا جدلاً أن معاوية لم يأمر بسب علي مع وجود كل ولاته يشتمون علياً، فهذا لا يعفيه من المسؤولية، بل هو شريكٌ في الشتم ، بل هو الذي أسَّس هذا المنهج الفاسد، وجعله أمراً مفروضاً على العباد .

فعن سهل بن سعد _ رضي الله عنه_ قال : اسْتُعْمِلَ على المدينة رجلٌ من آل مروان ، قال: فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يشتم علياً ، قال : فأبى سهل ، فقال له : أما إذا أبيت فقل : لعن الله أبا التراب ، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب ، وإن كان ليفرح إذا دُعِيَ بها .[رواه مسلم ( 4/ 1874 ) برقم ( 2409 )] .

[2] عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً ، فقال : ما منعك أن تسب أبا التراب ؟!، فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم [رواه مسلم ( 4/ 1871 ) برقم ( 2404 )] .

وقد ذهب بعض الشراح إلى أن معاوية يتساءل فقط عن السبب الذي منع سعداً أن يشتم علياً ولم يطلب منه الشتمَ. وهذا تحايلٌ واضح، فما معنى عبارة" أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً" ؟، وبالطبع فقد أمره أن يسب علياً ، لكن سيدنا سعداً _رضي الله عنه _ رفض هذا العارَ .

[3] عن زياد بن علاقة عن عمه أن المغيرة بن شعبة سَبَّ علي بن أبي طالب ، فقام إليه زيد ابن أرقم، فقال : يا مغيرة ، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الأموات ، فَلِمَ تسب علياً وقد مات ؟! .[ رواه الحاكم وصحَّحه على شرط مسلم ( 1/ 541 ) برقم ( 1419 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 8/ 76) : (( رواه الطبراني بإسنادين ، ورجال أحد أسانيد الطبراني ثقات )) اهـ ] .

[4] وروى الطبري بإسناده ( 3/ 218 ) : إن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة إحدى وأربعين دعاه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : ... وقد أردتُ بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتماداً على بصرك بما يرضيني ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي ، ولست تاركاً بخصلة لا عن شتم علي وذمه ، والترحم على عثمان ، والاستغفار له ، والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم وترك الاستماع منهم .

[5] وروى البخاري في صحيحه ( 3/ 1358 )برقم( 3500) أن رجلاً جاء إلى سهل بن سعد ، فقال : هذا فلان لأمير المدينة يدعو علياً عند المنبر .

وقال ابن حجر في مقدمة فتح الباري ( ص 301) : (( وأمير المدينة هو مروان بن الحكم فيما أظن )) اهـ .

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 5/ 147) ناقلاً عن ابن سعد بإسناده : (( كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو أمسك عن ذلك . فقال كثير عزة الخزاعي:

وَليتَ فلم تَشْتِـــم علياً ولم تخف بريَّاً ولم تَتْــــــبع مقالةَ مجرمِ

تكلمـــــتَ بالحق المبين وإنما تبين آيات الهـــــدى بالتكلم فصدقتَ معروف الذي قلتَ بالذي فعلتَ فأضــحى راضياً كل مسلم )) اهـ.

30‏/03‏/2012

أدلة القائلين بعدالة الصحابة فرداً فرداً

أدلة القائلين بعدالة الصحابة فرداً فرداً

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

[ أ] قال الله تعالى : (( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً )) [ الفتح: 18] .

قال الطبري في تفسيره ( 26/ 85 ) : (( يقول تعالى ذكره : لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفروا ، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة ، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة )) اهـ .

وقال الصابوني في صفوة التفاسير (16/ 37) : (( لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك يا محمد ( بيعة الرضوان) تحت ظل الشجرة بالحديبية )) اهـ .

قلتُ : إن الآية الشريفة تتحدث عن رضا عمومي متعلق بموقف محدد ، فالله تعالى لم يقل لقد رضي الله عن المؤمنين الذين يبايعونك تحت الشجرة ، أو الذين بايعوك . بل ربط الرضا بموقف البيعة (( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ )) ، وهذا يدل على أن الرضا على المؤمنين خاص في موقف البيعة تحت الشجرة ( بيعة الرضوان 6هـ ) ، وليس كلياً عاماً في كل المواقف دون استثناء . فقد يغضب اللهُ تعالى على صحابي في موقف آخر . فمدح الصحابة نابع من موقفهم المشرِّف من البيعة، وليس رضا عاماً شاملاً لكل صحابي فرداً فرداً مدى الحياة إلا من ثبت واستقام حتى مماته . وقد نعطي مثالاً لغوياً فنقول : (( لقد رضيتُ على أبنائي إذ يدرسون في الغرفة )) ، ولاحظ هنا أن الرضا مرتبط بموقف الدراسة ، فقد لا أكون راضياً عنهم عندما يضربون بعضهم البعض في الشارع مثلاً .

وقد يحتج فريقٌ بحديث أم مبشر_رضي الله عنها_ أنها سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها ))[ رواه مسلم ( 4/ 1942 ) برقم ( 2496 )] .ويذهب إلى أن الرضا عام كلي شامل لمن بايع تحت الشجرة فرداً فرداً مدى الحياة دون الحاجة للبحث في أفعال الصحابة من حيث موافقتها للشريعة أو مخالفتها، وبالتالي لن تلمس النارُ أياً منهم بشكل قطعي، وهذا فيه نظر . فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب على الإطلاق ، وقد جُمِعَ له الكلام ، ولكي نفهم الحديثَ الشريف السابق يجب أن نقارنه بحديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم لنفهم دلالاتِ الألفاظ بدقة ، دون التعجل والحكم من خلال ظاهر الكلام ، فاللغة العربية ظاهرٌ وباطن ( مُضْمَر ) ، وحقيقة ومجاز ، والمعاني تدل على المعاني ، والألفاظ الظاهرية قد تخفي معنى داخلياً . ففي الحديث الصحيح ، عن عبد الله ابن مسعود _ رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ))[ رواه مسلم ( 1/ 93) برقم ( 91)] .

فلو أردنا أن نأخذ هذا الحديث على ظاهره لقلنا إن كل المسلمين على الإطلاق لن تلمسهم النارُ قطعاً لأن كل مسلم بالضرورة في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وإن كل من في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء هو كافر خالد في جهنم لأنه لا يدخل الجنة حسب ظاهر الحديث . ومن خلال هذا المنظور سيكون المسلمون الذين في قلوبهم حبة خردل من كبرياء خالدين في النار . ولكن هذا الكلام الناتج من ظاهر الحديث مرفوض قطعاً ، ولا يقول به أحد بتاتاً ، لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن الذي يموت مسلماً مصيره الجنة _ بشكل فوري أو غير فوري _ ، ولا يخلد في النار بأية حال ، وأن الكافر لا يدخل الجنة مطلقاً، وهذا يقودنا إلى فهم مراد الحديث الشريف فهماً دقيقاً بالغوص في معانيه دون الوقوف عند ظاهره .

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 91) : (( لا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فالمراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود )) اهـ .

وهذا هو المعنى المقبول والمنطقي لكل أولئك الذين يفهمون لغة العرب ، وبالتالي فإننا نخلص إلى أن الحديث الشريف : (( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها )) يعني أنهم لا يدخلون النار دخول الكفار الخالدين فيها ، وبعبارة أخرى فهذه بشارة لهم بالموت على الإسلام فلا يخلدون في النار . أما الذهاب إلى أن النار لا تمسهم قطعياً وفق هذا الحديث، فهذا القول لا نُسَلِّم به بالمرة اعتماداً على تضافر الأدلة ، وفهمِ السياقات اللغوية للنصوص. فالسُّنة تفسر السُّنةَ ، مما أدى إلى فهم للسياق اللغوي البلاغي . ومن أصحاب الشجرة من حُرِّم على النار قطعياً وهم الصحابة الذين جاءت النصوص صريحة بتحريمهم على النار قطعياً ، ومنهم من قد يتعرض للعذاب في النار لأنه ارتكب ذنوباً بعد بيعة الرضوان ، وخلط عمل صالحاً بآخر سيئ ، ولكنه لا يخلد فيها، لأن البشارة شاملة بالموت على الإسلام وعدم الخلود في النار بالنسبة لأصحاب الشجرة .

فمثلاً المغيرة بن شعبة شهد بيعة الرضوان لكنه كان ينال من سيدنا علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _، واتخذ المغيرة بن شعبة من سب سيدنا علي منهجاً في حياته، فلو كان الرضا شاملاً لكل أصحاب الشجرة مدى الحياة وفي كل الأحوال، لكان اللهُ تعالى راضياً عن المغيرة وهو يشتم علياً. وهذا لا يقول به عاقل. فالله تعالى كان راضياً على المغيرة بن شعبة حينما شهد بيعة الرضوان ، وكان غاضباً عليه حينما كان يشتم سيدنا علياً _ رضي الله عنه _ . وسوف يأتي تفصيل هذا الموضوع لاحقاً بالأدلة الواضحة من مصادرها الموثوقة .

وفي قصة الإفك سقط بعض الصحابة في الخطيئة . ففي الحديث المتفق عليه . البخاري ( 4/ 1523) ومسلم ( 4/ 1934) : عن مسروق قال: دخلنا على عائشة_رضي الله عنها _ وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له ، وقال :

حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ

_ [المعنى العام : محصنة عفيفة ثابتة كاملة العقل لا تُتَّهم بشيء، تصبح وتمسي جائعة من لحوم الناس فلا تغتاب أحداً ولا تذمه . وكان حسان ممن تكلم في عِرض عائشة في حادثة الإفك، لذلك قالت له : لكنكَ لستَ كذلك . ] _. فقالت له عائشة:(( لكنكَ لستَ كذلك ))، قال مسروق : فقلتُ لها : لِمَ تأذنين له أن يدخل عليك، وقد قال الله تعالى : (( والذي تَوَلَّى كِبْرَه منهم له عذاب عظيم )) [ النور : 11]؟، فقالت: وأي عذاب أشد من العمى ؟ ، قالت له إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وحسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدافع عنه دفاعاً قوياً ثابتاً ، والذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ( 4/ 1935) : (( إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله ))، قد تورَّط في حادثة الإفك ، والطعن في أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _، وقد توعَّده اللهُ تعالى بعذاب عظيم كما في الآية القرآنية السابقة ، فكيف نوفِّق بين الموقفين ؟ .

من الواضح أن مدح النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت مرتبط بموقف محدد وهو الدفاع عن اللهِ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما إن خالف الأوامرَ الشرعية فهو مستحق للعقاب. وهذا الحديث يعكس لنا ضرورة الانتباه إلى مبدأ مديح الصحابة _ رضي الله عنهم _ ، وتحديد صيغة المدح من حيث إنها شاملة عامة أم أنها مخصوصة ضمن إطار محدَّد .

وفي صحيح البخاري ( 4/ 1529 ) : عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيتُ البراء ابن عازب _ رضي الله عنهما _فقلتُ : طوبى لك ، صحبتَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي ، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده .

قلتُ : وهذا على سبيل التواضع من قبل سيدنا البراء بن عازب_رضي الله عنهما_، فحسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فقد كانت سيرة البراء مستقيمة حتى وفاته . لكن هناك من أحدث بالفعل بعد البيعة تحت الشجرة ، فالمغيرة بن شعبة لا ننكر أن رضوان الله نزل عليه أثناء بيعة الشجرة، لكنه كان ناصبياً يشتم علياً، وقد وردت أحاديث تدين من يشتم علياً ، ووردت أحاديث كذلك تدين شتم الصحابة عموماً . فينبغي أن تؤخذ الأدلة الشرعية كاملةً في الكتاب والسنة الصحيحة وليس بطريقة انتقائية اجتزائية .

وعن جابر أن عبداً لحاطب جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال : يا نبي الله ، ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كذبتَ لا يدخلنها أبداً وقد شهد بدراً والحديبية ))[ رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 340 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي] .

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 57 ) : (( فيه فضيلة أهل بدر والحديبية ، وفضيلة حاطب لكونه منهم. وفيه أن لفظة الكذب هي الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً ، سواءٌ كان الإخبار عن ماض أو مستقبل )) اهـ .

وقصة حاطب بن أبي بلتعة مشهورة ففي الحديث المتفق عليه ، البخاري ( 4/ 1855) ومسلم ( 4/ 1941 ): أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( لعل الله _ عز وجل _ اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم )).وفي رواية عند البخاري (5/ 2309 ): (( فقد وجبت لكم الجنة )) .

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 56و57) : (( قال العلماء : معناه الغفران لهم في الآخرة ، وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أُقيم عليه في الدنيا . ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد ، وأقامه عمر على بعضهم . قال : وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً )) اهـ .

وفي فتح الباري ( 7/ 305 و306 ) : (( وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم ، ووقع الخبر بألفاظ منها : فقد غفرتُ لكم ، ومنها : فقد وجبت لكم الجنة ، ومنها : لعل الله اطلع . لكن قال العلماء : إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله الموقوع ، وعند أحمد وأبي داود وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة بالجزم ولفظه : إن الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم من حديث جابر مرفوعاً : (( لن يدخل النار أحد شهد بدراً )). وقد استشكل قوله: اعملوا ما شئتم ، فإن ظاهره أنه للإباحة ، وهو خلاف عقد الشرع. وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أي كل عمل كان لكم فهو مغفور ، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ، ولقال : فسأغفره لكم . وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكراً عليه ما قال في أمر حاطب . وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين ، فدل على أن المراد ما سيأتي . وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ، وقيل إن صيغة الأمر في قوله : اعملوا ، للتشريف والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة ، وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت،أي كل ما عملتموه بعد هذه الواقعة من أي عمل كان فهو مغفور. وقيل إن المراد ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة ، وقيل هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم، وفيه نظر ظاهر لما سيأتي في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في أيام عمر وحدَّه عمر، فهاجر بسبب ذلك ، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته وكان قدامة بدرياً )) .

وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 120 ) : (( وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً ولا هجره لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشاً خشية على أهله وولده،وأراد أن يتخذ له عندهم يداً فعذره )) اهـ.

وفي عمدة القاري ( 14/ 257 ) : (( وفيه دلالة على أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل ، قاله ابن الجوزي . وفيه أن من أتى محظوراً، وادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك ، وإن كان غالب الظن خلافه )) اهـ .

وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 635 ): (( وقال ابن الجوزي: ليس هذا على الاستقبال وإنما هو على الماضي تقديره : اعملوا ما شئتم أي عمل كان لكم فقد غفر ، قال : لأنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر لكم ، ولو كان كذلك لكان إطلاقاً في الذنوب ولا يصح ، ويبطله أن القوم خافوا بعد حتى كان عمر يقول : يا حذيفة بالله هل أنا منهم )) اهـ .

وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة _ رضي الله عنها _ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه )) ، فجاء عمر يسألها ويستحلفها بالله تعالى إذا كان منهم أم لا .

قلتُ : أقوى دليل قدَّمه ابن الجوزي قصةَ عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه_ وهو ممن شهد بَدْراً، وكان حاضراً في قصة حاطب بن أبي بلتعة. وانظر كذلك إلى عمر _ رضي الله عنه_ كيف استحلف أم سلمة _ رضي الله عنها _ هل هو ممن لا يرون النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراقه ، ولو فهم عمر ابن الخطاب أن شهود بدر يعني أنه من أهل الجنة قطعاً لما احتاج أن يأتيَ ويتعب نفسه بالسؤال ويستحلف أم سلمة ، ولما احتاج أن يترك قول النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم ليسأل صحابياً أو صحابية ويستحلفها ، فهذا يعني أنه لم يعتمد قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصدقه فعدل إلى الآخرين يسألهم ، وحاشى عمر أن يفعل هذا . ولا يقال إنه من باب التواضع أو التقوى ، لأن التقوى أن تأخذ كلامَ النبي صلى الله عليه وسلم نَصَّاً معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتُسلِّم له، ولا تعدل عنه نهائياً ، لأن في العدول عنه عدم تصديق للنبي صلى الله عليه وسلم فيما قال ، وعدم إيمان بعصمته في تبليغ الأحكام الشرعية ، وهذا كفرٌ بالإجماع .

وهذه وجهة نظر قوية جداً . لكن الرأي الراجح عندي في قصة عمر هو أن عمر كان يعرف أنه مشهود له بالجنة لأنه شهد بدراً، وسمع ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بدر . حتى لو ارتكب ذنباً ، فإنه يلجأ إلى التوبة حتى مماته. لكنه فعل ما فعل من باب أن يطمئن قلبُه،ويتأكد أن فهمه لكلام النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لئلا يكون قد فهم شيئاً آخر لم يقصده النبي صلى الله عليه وسلم . فعمر ليس ساذجاً ، فلو كان منافقاً لعرف ذلك من نفسه دون الحاجة إلى سؤال الآخرين . وإنما أراد أن يزداد يقيناً وإيماناً. قال تعالى : (( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )) [ البقرة: 260] . قال الحافظ في الفتح ( 1/ 47): (( فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال : قوله : ليطمئن قلبي ، أي يزداد يقيني ، وعن مجاهد قال : لأزداد إيماناً إلى إيماني )) اهـ .

وقال القرطبي كما في فتح الباري ( 8/ 635 ) : (( وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه، وقد أظهر الله صدق رسوله في كل ما أخبر عنه بشيء من ذلك ، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قُدِّر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة ، ولازم الطريق المثلى ، ويعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم )) اهـ .

قلتُ : دعونا نترك السُّنة تفسر السُّنةَ . ففي الحديث الصحيح المرفوع : (( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء )) ، وفي الحديث المتفق عليه عند البخاري ( 1/ 164 ) ومسلم ( 1/ 455) : (( فإن الله قد حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله )). وهذان الحديثان يكشفان لنا السياق اللغوي النبوي لهذا المبحث . فالحديث الأول قد سبق شرحه، وفي الحديث الثاني وضَّح أن من قال لا إله إلا الله قد حُرِّم على النار ، فهل معنى هذا أن النار لن تمسه أبداً ؟! . بالطبع : لا ، فالمعنى الصحيح هو أنه لن يخلد في النار ، وأن مصيره إلى الجنة قطعاً . فكل الأمة المحمدية تقول لا إله إلا الله ، فهل يجرؤ قائل أن يقول إنه لن يدخل النارَ أيُّ واحدٍ منها ؟ ، بالطبع لا . فهناك مسلمون سيذهبون إلى النار لا محالة للعذاب ثم يخرجون ، وهذا متواتر لا مجال لإنكاره مطلقاً .

لذلك فإننا نخلص إلى أن أهل بدر جاءتهم شهادة نبوية معصومة بأنهم سيموتون على الإسلام قطعاً، وأنه وجبت لهم الجنة. أما أن النار لن تمس أي واحد منهم مطلقاً ، فهذا بحاجة إلى دليل آخر يجزم بهذه المسألة . أما قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لعل الله _ عز وجل_ اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، فلا يعني أنه سماح بارتكاب الذنوب صغيرها وكبيرها بلا حسيب أو رقيب، بل معناه أن الله تعالى علم في الأزل أنهم سيموتون على الإسلام، وهذه هي البشارة الكبرى لأنها غير متوفرة لكل الناس، وغير متوفرة لكل المسلمين ، فكم من مسلمٍ مات مرتداً . أما احتمال وقوعهم في الصغائر أو الكبائر فوارد ، لكن الله تعالى يتوب عليهم ليتوبوا . فإذا ظهرت منهم معصية تابوا ورجعوا ، وهكذا حتى وفاتهم .

والرأي الآخر أن المغفرة مضمونة لمن توفرت فيه شرط المغفرة، وكان أهلاً للمغفرة والاستقامة حتى الممات . وهذا الرأي إنما جاء من فهمنا لما رواه البخاري ( 3/ 1069 ): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر _ يعني القسطنطينية _ مغفور لهم )) . فالظاهر أن هناك مغفرة عامة شاملة لكل فرد من الجيش ، لكن الحافظ في الفتح ( 6/ 102) أورد كلاماً لابن التين وابن المنير مفاده : (( أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص ، إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( مغفور لهم )) مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة ، حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتفاقاً ، فدل على أن المراد : مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم )) اهـ .

وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يقتل حاطباً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عذره لأنه متأوِّل ، واستدلاله صلى الله عليه وسلم (( لعل الله _عز وجل_ اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) معناه أن كل ذنب يرتكبونه سيوفقهم اللهُ تعالى للتوبة منه، وبالتالي فإن حاطباً مشهود له بالإسلام، وأن الجنة واجبة له ، فقد نفى صلى الله عليه وسلم عنه الرِّدة ، أما ما فعله فهو ذنب مغفور لاعتماده على التأويل ، وقد قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك كان أهلاً أن يُغفَر له بحسن نيته وتأويله الشخصي للمسألة بعيداً عن الردة . وإذا ارتكب ذنباً سيهتدي إلى التوبة منه. أما أن النار لن تلمسه أبداً ، فهذا يحتاج إلى دليل آخر اعتماداً على مقارنة الصياغة اللغوية النبوية في الأحاديث ، والله أعلم .

[ب] قال الله تعالى : (( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمَاً )) [ الفتح: 29] .

إن الآية الشريفة السابقة فيها مدحٌ للصحابة _ رضي الله عنهم _ بالعموم ، أي إن الخطاب خاص بمجموع الصحابة كوحدة جمعية كلية ، ولا تحمل أي تخصيص للصحابة فرداً فرداً . كما أن المدح مرتبط بمواقف محددة مثل الشدة على الكفار ، والرحمة فيما بينهم ، والركوع والسجود ، وابتغاء فضل الله ورضوانه، فمن التزم بهذه الأمور حتى مماته ، واستقام وثبت حتى لاقى وجهَ الله تعالى فهو مرضيٌّ عنه بالقطع . أما من خلط عملاً صالحاً بآخر سيئ ، وبدَّل المواقف وأساء ، فهذا له وضع آخر بالتأكيد .

[ج] قال الله تعالى : (( لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )) [ الحشر: 8] .

قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 18/ 23) : (( كأنه يقول : الفيء والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إلى الهجرة من أوطانهم ، فتركوا الديار والأموال ابتغاء مرضاة الله ورضوانه .. قاصدين بالهجرة إعلاء كلمة الله ونصرة دينه .. وهؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إيمانهم )) اهـ .

إننا نرى أن المدح في هذه الآية مرتبط بسبب الهجرة والتضحية في سبيل الله ، أي إن المدح متعلق بهذا الموقف المشرِّف الذي وقفه الصحابة _ رضي الله عنهم _ . وما ذكرُ الله تعالى لهذه الصفات وهذه المواقف في الآيات القرآنية الكريمة إلا توضيح لنا أن المدح مرتبط بأسبابه ، وأن الفضل المستحق مقترن بأحداث معينة . وهذا المدح مستمر بشرط أن يثبت الصحابي على المواقف النبيلة حتى مماته. وإذا لم يثبت ففي ذلك كلامٌ آخر.

[د] قال الله تعالى : (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [ الحشر:9] .

قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 18/ 23و24 ) : (( أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثير من المهاجرين وهم الأنصار .. يحبون إخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم.. ولا يجد الأنصار حزازة وغيظاً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم .. ويفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة والفاقة إليه .. ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح )) اهـ .

قلتُ : وهذا المدح للأنصار هو مدحٌ لمواقفهم النبيلة ، فجاءهم رضا الله تعالى على تلك المواقف الشريفة التي تعكس إيماناً راسخاً ، وبالطبع فالأمور مرتبطة بالأسباب والحوادث التاريخية ، وقد يكون اللهُ تعالى غير راضٍ عن مهاجري أو أنصاري في حادثة معينة أو لحظة محددة. وليس أدل على مدح مواقف الصحابة لا مدح ذواتهم على الإطلاق من توضيح الآية الشريفة لمجريات الأمور والحوادث التاريخية بدقة ، فالمدح والفضل جاء خاصاً بأحداث محددة مثل اتخاذ المدينة منزلاً ، والإيمان ، وحب المهاجرين ، وعدم الحسد ، والإيثار . ولم يأت ذكر هذه الصفات عبثاً ، بل هي الدواعي الحقيقية لمدح اللهِ تعالى لهم ، فإن استمروا حتى وفاتهم ثابتين عليها فالمدح مستمر لهم ، والرضوان ثابت بحقهم ، أما من غيَّر وبدَّل وخالف هذه الصفات الحميدة التي يحبها الله تعالى ، فقطعاً سوف يخرج من نطاق المقصودين بالآية الشريفة .

[هـ] قال الله تعالى: (( لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى )) [ الحديد: 10] .

إن الآية الشريفة تمدح موقف الإنفاق الذي قام به الصحابة _ رضوان الله عليهم _، ومدحهم لأنهم قاموا بالإنفاق ، أي إن مدح الذوات البشرية مرتبطة بالحدث التاريخي والموقف . ونحن عندما نطلق على الصحابة عبارة _ رضي الله عنهم _ ، فنحن لا نقصد بها الصحابة الذي نكثوا وبدَّلوا وتنكَّبوا الطريقَ، فهؤلاء من النادر، والنادر لا حكم له. وبعض الأفراد من الصحابة الذي أساؤوا، وخلطوا الحابلَ بالنابل ، وجاءت نصوصٌ شرعية ضدهم، فهؤلاء مُسْتَثْنَوْن من عبارة_ رضي الله عنهم _، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً .

[و] قال الله تعالى : (( لَّقَد تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ )) [ التوبة : 117] .

قال الطبري في تفسيره ( 11/ 54) : (( يقول تعالى ذكره : لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصارَ رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة )) اهـ .

وهكذا نجد أن التوبةَ من الله تعالى نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، أما المهاجرون والأنصار فذُكِروا بالعموم ولم يتم ذكر أي فردٍ بعينه ، فهذه توبة عامة مُوَجَّهة للمهاجرين والأنصار كوحدة مجتمعية كلية ، وغير مُوَجَّهة لهم فرداً فرداً بعينه . ويمكن أن تكون التوبة لكل فرد بعينه ولكن هذه التوبة مرتبطة بحدث معيَّن ومحدَّد زماناً ومكاناً ( الاتباع في ساعة العسرة ) ، وليست شاملة لكل الأحداث ، لأن الآية تتحدث عن حادثة تاريخية بعينها ، أي إن الآية مخصَّصة . وقد يقول أحدهم إن العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فنقول إن كلامك صحيحٌ في حال لم يتم تقييد الحدث التاريخي في الآية ، وبما أن الموقف المحدَّد ( الاتباع في ساعة العسرة ) قد ذُكِر ، فالآية خاصة بالسبب ، ولا تُحمَل على عموم اللفظ ، لأن اللفظ أصلاً غير عام .

[ز] قال الله تعالى : (( كُنتُم خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَت للنَّاسِ تأمرون بالمعروفِ وَتَنْهَوْنَ عن المنكر وتؤمنونَ باللهِ )) [ آل عمران: 110] .

هذه الآية مختلفٌ في تأويلها وفق طرق عدة ، فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال في تفسيرها : (( هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ))[ رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 2/ 323 ) برقم ( 3160 ) ، ووافقه الذهبي] .

وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنكم تتمون سبعين أُمَّة أنتم خيرها وأكرمها على الله ))[ رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 4/ 94) برقم ( 6987) ، والترمذي في سننه وحسَّنه ( 5/ 226 ) برقم ( 3001 ) ، وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 225) : (( وهو حديث حسن صحيح، أخرجه الترمذي وحسَّنه وابن ماجة والحاكم وصحَّحه وله شاهد مرسل عن قتادة عند الطبري رجاله ثقات )) اهـ . ] .

قلتُ : إن الخيرية شاملة للأمة كوحدة كلية جمعية ، وغير مختصة بكل فردٍ على حدة ، لكن الخيرية الجمعية أو الفردية متحققة إذا تم تحقيق شروط الأفضلية الثلاثة التي وضَّحتها الآيةُ الشريفة: الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإيمان بالله . فمن التزم بهذه المنهجيات الثلاث تحقَّقت له الأفضلية سواءٌ كان صحابياً أو غير صحابي ، ومن لم يلتزم بها لم يدخل في نطاق الأفضلية سواءٌ كان صحابياً أو غير صحابي . وهكذا نستنتج أن الأفضلية مشروطة بمسائل محددة ، وغير معنية بالذوات الإنسانية من حيث إنها ذوات بشرية سواءٌ كانت ذوات صحابة أو غير ذلك . فالعِلَّة والمعلول متلازمان وجوداً وعدماً ، وإثباتاً ونفياً .

[ح] قال الله تعالى : (( وَالسَّابقونَ الأوَّلون من المهاجِرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان رضي اللهُ عنهم ورَضُوا عنه )) [ التوبة : 100].

قال الطبري في تفسيره ( 11 / 6 ) : (( يقول تعالى ذكره : والذين سبقوا الناسَ أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم ، وفارقوا منازلهم وأوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله ، والذين اتبعوهم بإحسان ، يقول : والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله ، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلب رضا الله رضي الله عنهم ورضوا عنه )) اهـ .

إذاً ، جاء مدحُ الصحابة على المواقف النبيلة التي وقفوها ، وليس لأنهم صحابة ، فمن ثبت حتى مماته فقد رضي الله عنه ورضي عن اللهِ ، ومن لم يثبت فهو خارجٌ من سياق الآية قطعاً .

وكل الأحاديث النبوية التي وردت في هذا الباب جاءت مدحاً للصحابة بشكل عمومي كلي ، أي إن المدح لمجتمع الصحابة ، إلا في حالات خاصة جاء المدح لصحابي بعينه ، ومثل هذه النوعية من الأحاديث تُسمَّى فضائل الصحابي . ونخلص إلى قاعدة هامة بمثابة التلخيص ، وهي أن المدح للصحابة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إنما جاء مرتبطاً بأحداث ووقائع محدَّدة ، فمن ثبت حتى وفاته فقد تحقق له الفضلُ ورضوان الله ، ومن زلَّت به القدم أو بدَّل وغيَّر ، فله وضعٌ خاص به. وأيضاً فالمدح والرضوان جاء عمومياً لمجتمع الصحابة الكلي ، فالصحابة الذين كانت سيرتهم سيئة نادرون وقلة قليلة، والنادر لا حكم له . وقد يأتي الفضلُ مختصاً بصحابي بعينه ، وهذه شهادة من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك الصحابي بالرضوان مدى الحياة ، وهذه هي أعلى مرتبة من الفضل والرضوان .

ونحن نحب الصحابة _ رضوان الله عليهم _ الذين ثبتوا على الصراط المستقيم ، ونتبرأ من أفعال الصحابة الذين أساؤوا وارتكبوا الآثام ، مع العلم بأن الصحابي يجوز عليه ارتكاب الكبيرة ، ولكن عليه التوبة منها ، وسواءٌ تاب أم لم يتب فنحن نترضى عليه ، ولا نقوم بخلعه . والأصل في الصحابي أنه عَدْلٌ حتى يثبت العكس. فالصحابي المشهود له بملازمة النبي صلى الله عليه وسلم وبالفضل والرضوان في نصوص شرعية نطلق عليه عبارة _ رضي الله عنه _ تحقيقاً بكل ما تحمله العبارة من معنى ، وهذا هو الصحابي بالمعنى العُرْفي ، أما إن كان الصحابي بالمعنى اللغوي، أو أنه خلط الحق بالباطل في حياته وارتكب الكبائر فنطلق عبارة_رضي الله عنه_ من باب الدعاء له والتبرك بهذه الكلمة ، لعل الله أن يعفوَ عنه . فهناك صحابة سيذهبون إلى النار لا محالة ، وسينالون عقابهم بالعذاب ، ومع هذا نترضى عليهم بمعنى أن يرضى الله عنهم ويرحمهم في خاتمة الأمر ، ويدخلهم الجنة بعد أن ينالوا العذابَ المستحق لهم . فالصحابي لا يُخلَع إلا إذا مات كافراً . ونحن نترضى على الصحابي سواءٌ كان زانياً ( مثل ماعز بن مالك والغامدية ) ، أو شاربَ خمر ( مثل الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقدامة بن مظعون ) ، أو قاتلاً ( مثل سمرة بن جندب ) ، أو كان فيه نفاق ( مثل النواصب من الصحابة كمعاوية والمغيرة بن شعبة )، بمعنى الدعاء لهم بالرحمة ونيل رضا الله تعالى، لا أننا نضعهم مع سادات الصحابة الأتقياء الأنقياء في نفس المرتبة، وإنما هو الدعاء لهم ، مع إيماننا بأن الصحابة طبقات ودرجات ، فكل المسلمين يدخلون الجنة ، لكن المسلم الذي قضى حياته في الخمَّارة ليس كالمسلم الذي قضى حياته في المسجد . كلٌّ له منزلة ، ولن يجعل اللهُ التقيَّ كالفاسق .

فعلى سبيل المثال، معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ( رأسا الفتنة ) والمغيرة بن شعبة كلهم صحابة،ولكنهم في نفس الوقت نواصب أعداء لسيدنا علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه_ كما سيأتي معنا لاحقاً بإذن الله ، والنَّصب يُسقِط العدالةَ في الوضع الطبيعي ، فكيف سنفعل بالأحاديث التي رواها هؤلاء الصحابة مثلاً . والأمر أجاب عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 8/ 410) : (( فأكثر من يوصف بالنَّصب يكون مشهوراً بصدق اللهجة ، والتمسكِ بأمور الديانة ، بخلاف من يوصف بالرفض،فإن غالبهم كاذب ولا يتورع في الأخبار. والأصل فيه أن الناصبة اعتقدوا أن علياً_ رضي الله عنه_ قتل عثمانَ ، أو كان أعان عليه ، فكان بغضهم له ديانة بزعمهم ثم انضاف إلى ذلك أن منهم من قتلت أقاربه في حروب علي )) اهـ .

وانظر إلى هذه الأوصاف بحق بعض الرواة التي ذكرها ابن حجر في عدة مواضع من كتابه تقريب التهذيب ( 1/ 95) : (( ثقة حافظ رُمي بالنَّصب ))، وفي ( 1/ 156): (( ثقة ثبت رُمي بالنصب )) ، وفي ( 1/ 252 ) : (( صدوق رُمي بالنصب )) .

والنَّصب بدعة كارثية إلا أنها لا تُخرِج الإنسانَ من الملة إلا إذا استحلَّها . قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 1/ 60 ) : (( قال العلماء من المحدِّثين والفقهاء وأصحاب الأصول : المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق ، وأما الذي لا يكفر بها فاختلفوا في روايته ، فمنهم من ردها مطلقاً لفسقه ولا ينفعه التأويل . ومنهم من قبلها مطلقاً إذا لم يكن ممن يستحل الكذبَ في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه ... ومنهم من قال تُقبَل إذا لم يكن داعية إلى بدعته ولا تُقبَل إذا كان داعية ، وهذا مذهب كثيرين أو الأكثر من العلماء وهو الأعدل الصحيح )) اهـ .

وقال ابن حجر في نخبة الفكر ( ص 230 ) : (( فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أثراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة ، وكذا من اعتقد عكسه ، والثاني يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته في الأصح ، أي إن روى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ )) اهـ .

والأمر غير خاص بالنواصب فحسب ، بل يتعداه ليشمل الشيعة . قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 8/ 58 ):(( وقال أبو إسحاق الجوزجاني: كان قوم من أهل الكوفة لا تُحمَد مذاهبهم، يعني التشيع، رؤوس محدثي الكوفة مثل أبي إسحاق والأعمش ومنصور وزبيد وغيرهم من أقرانه ، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث )) اهـ .

فهناك صحابة لم يكونوا يعتقدون بعدالة الصحابة فرداً فرداً ، بدليل أن معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة صحابيان مشهوران ، ومع هذا كانا يشتمان علياً وفق نظرتهما له على أنه ظالم ومتجاوز يستحق الشتم واللعن ، يعني أنهما لا يعتقدان بعدالته . فإذا كانت عدالة الصحابة فرداً فرداً حقيقةً واقعة ، فقل لي لماذا جعل معاوية شتمَ علي بن أبي طالب على المنابر ؟ .

29‏/03‏/2012

إمكانية تفوق بعض المتأخرين على بعض الصحابة

إمكانية تفوق بعض المتأخرين على بعض الصحابة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

يجب أن ندرك أن الصحابة ليسوا كلهم الخلفاءَ الراشدين ، أو العشرة المبشرين بالجنة. بل إنهم يتفاوتون في الدرجات والمراتب بصورة متباينة جداً ، وبينهم فروق شاسعة للغاية في كل شيء من الإيمان حتى الكفر . وما أدين اللهَ تعالى به هو إمكانية أن يتفوق بعض المتأخرين على بعض الصحابة في المنزلة عند الله تعالى . لكن معظم العلماء متفقون على أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده ، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل . وقد استندوا على تفضيل أول الأمة على من بعدهم إلى الحديث المتفق عليه : (( خيركم قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )). لكن الذي نُرَجِّحه في هذا السياق هو إمكانية أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة. وقد أكد ابن عبد البر المعنى السابق ، وأكَّد كذلك على أن حديث " خير القرون " ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول ، وقد جمع قرنُه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان ، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود ، وقال لهم ما تقولون في السارق والشارب والزاني [انظر التمهيد لابن عبد البر ( 20/ 250و251 ) ، وتفسير القرطبي ( 4/ 171 ) ].

وإليك بعض الأدلة التي استفدناها من ابن عبد البر في تأييد إمكانية أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة ، مع تخريجنا للأحاديث والشروحات عليها من قبلنا :

أ) عن أبي سعيد الخدري_ رضي الله عنه_ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا أصحابي )) [ متفق عليه. البخاري ( 3/ 1343 )برقم ( 3470 )، ومسلم ( 4/ 1967) برقم( 2540)]. وهذا الخطاب قيل مواجهة لمن هو في قرنه. وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخطاب للصحابة متضمناً عدم سب الصحابة .

ب) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا خالد ، لا تسب عماراً ، فإنه من يسب عماراً يسبه اللهُ ، ومن يبغض عماراً يبغضه اللهُ ، ومن يسفه عماراً يسفهه اللهُ )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 439 )برقم ( 5670 ) وصحَّحه، ووافقه الذهبي] .

إذاً ، قد يظهر بعض السلوكيات السيئة من بعض الصحابة ، فيحدث سب بينهم ، أو يتطاول بعضهم على بعض ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذه الأمور بما يراه مناسباً ، ويضع الأمور في نصابها الصحيح ، وهذا لا يطعن في فضائل الصحابة ، فمجتمع الصحابة _ رضي الله عنهم _ مجتمع بشري تجوز عليه ما يجوز على باقي المجتمعات ، ولكن الصحابي المستقيم هو الذي يعود إلى الحق ، ويلتزم بأوامر الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز حدوده، وإذا فعل منكراً ، فإنه يعترف بذنبه ، ويتوب ، ويرجع إلى جادة الطريق ، ولا تأخذه العزة بالإثم .

ج) عن أبي أمامة _ رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( طوبى لمن رآني ثم آمن بي وطوبى سبع مرات لمن آمن بي ولم يرني )) [صحَّحه ابن حبان( 16/ 216)برقم ( 7233 ) وفي سنده ضعف ، وله شواهد عديدة تنقله إلى درجة الحسن لغيره ، إذ رُوِيَ عن ثلاثة صحابة : أبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وأبو أمامة ، ورواه أحمد ( 3/ 71) برقم ( 11691)، وأبو يعلى ( 6/ 119 ) برقم ( 3391 ) . وقد حسَّن الهيثمي إسناد أبي يعلى في المجمع (10/67) اهـ ، ورواه الطبراني ( 8/ 259 )برقم ( 8009 ). وقال الهيثمي في المجمع ( 10/ 67 ) : (( "طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات". رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الأشعري وهو ثقة )) اهـ ].

وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 450 ) : (( وطوبى في الأصل شجرة في الجنة ...وتطلق ويراد بها الخير أو الجنة أو أقصى الأمنية وقيل هي من الطيب أي طاب عيشكم )) اهـ .

د) عن عمر _ رضي الله عنه _ قال : كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيماناً ؟ )) ، قالوا : يا رسول الله الملائكة، قال: (( هم كذلك ويحق ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم )) ، قالوا : يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة ، قال : (( هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم ))، قال : قلنا : فمن هم يا رسول الله ؟، قال : (( أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني ، ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً ))[ رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 96) برقم ( 6993 ) وصحَّحه ، وقال الذهبي : (( بل محمد بن أبي حميد ضعَّفوه )) . وقال الهيثمي في المجمع (10/ 65) : (( رواه أبو يعلى ورواه البزار ... وقال الصواب أنه مرسل عن زيد بن أسلم ، وأحد إسنادي البزار المرفوع حسن )) اهـ . ] .

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 138و139 ) ناقلاً كلام القاضي عياض عن ابن عبد البر : (( وأن قوله صلى الله عليه وسلم : (( خيركم قرني )) على الخصوص ، معناه خير الناس قرني أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ومن سلك مسلكهم ، فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث . وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه وصحبه أو لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار . قال القاضي : وقد ذهب إلى هذا أيضاً غيره من المتكلمين على المعاني . قال : وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا ، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورآه مرة من عمره ، وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد فإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل )) اهـ .

وعن عمار بن ياسر _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أو آخره ))[ رواه ابن حبان ( 16/ 210) ، والترمذي ( 5/ 152) برقم ( 2869 ) ، وأحمد ( 3/ 130) برقم ( 12349) ، والطبراني في الأوسط ( 4/ 231) برقم ( 4058 ) ، وأبو يعلى ( 6/ 380 ) برقم ( 3717) . قال الحافظ في الفتح ( 7/ 6) : (( وهو حديث حسن ، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة. وأغرب النووي فعزاه في فتاويه إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه في حديث أنس ، وصححه ابن حبان من حديث عمار )) اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 10/ 68 ) : (( رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وفي إسناد البزار حسن ، وقال لا يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أحسن من هذا )) اهـ ] .

وينبغي أن ندرك أن الآيات القرآنية التي مدحت الصحابة _ رضوان الله عليهم _ إنما مدحتهم في مواقف محددة ، وضمن أسباب معينة . وهذا الفضلُ والمديح من الله تعالى لأسيادنا الصحابة _ رضوان الله عليهم _ مرتبط بأسباب وحوادث معينة ، وهذه المواقف الشريفة التي وقفها الصحابة الكرام هي سبب مدحهم، وهذه المواقف النبيلة هي لوازم المدح، وإذا ثبت الشيءُ ثبتت لوازمه.ولم يكن المدحُ خاصاً بكل صحابي مدى الحياة بغض النظر عما فعل بعد ذلك . بل إن رضوان الله تعالى ورضاه شامل لكل صحابي التزم بالكتاب والسنة الصحيحة حتى مماته ، فلقي اللهُ تعالى على ذلك غير مُبَدِّل ولا مُغَيِّر، أما الصحابة الذين خلطوا العمل الصالح بالطالح فلهم وضعية خاصة بهم. كما أن رضوان الله تعالى هابط على الصحابة كوحدة جمعية كلية ، وليست فرداً فرداً، لأن تخصيص أحد الصحابة بعينه بالرضوان ورضا الله بحاجة إلى دليل ثابت متعلق بذلك الصحابة بعينه .

27‏/03‏/2012

مسألة عدالة الصحابة

قضية عدالة الصحابة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

إن عقيدة " عدالة الصحابة " وُضِعت لرسم هالة من العصمة والقداسة حول الصحابة بحيث لا يمكن نقدهم أو انتقاص من فرَّط فيهم ، وقد تعزَّزت في بدايات الدولة الأموية التي أسَّسها معاوية بن أبي سفيان على دماء المسلمين الطاهرة ، فمثل هذه العقيدة ستضمن له ولجماعته حصانة ضد النقد وغربلة أفعالهم ، وهذا هو المطلوب . إذ إن الأمر صار مثل الحصانة الدبلوماسية التي تكفل للفرد أن يخلط الحابل بالنابل دون مساءلة ، وتحت حماية القانون الواضح للعيان . وللأسف الشديد فإن ردة الفعل عند الشيعة الروافض قد تكرَّست على شكل " عصمة الأئمة " من أجل إعطاء حصانة للأكاذيب المنسوبة إلى أئمة آل البيت ، وبالتالي تتكرس القداسة حول المذهب الرافضي ليضمن أن يشق طريقه دون معارِضين أو حركة نقدية تميز الغث من السمين . لكننا نقول إذا كان المراد بعدالة الصحابة هي عدالة الصحابة كوحدة جمعية كلية فهذا صحيحٌ ، مثل أن نقول إن المسلمين معصومون من الوقوع في الضلال ، أي إن المسلمين كوحدة جمعية لا تجتمع على ضلالة ، والأمر بهذا المعنى مقبول ، أما أن نقصد أن كل صحابي معصوم بعينه ، أو كل صحابي عَدْلٌ بعينه، فهذا مرفوض بشكل قطعي ، وإليك الأدلة :

أ) قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) [ الحجرات : 6] .

قال القرطبي في تفسيره ( 16/ 311) : (( قيل إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم . في رواية لإحنة كانت بينه وبينهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية )) اهـ .

وقال الطبري( 26/ 123): (( وذُكِرَ أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ... عن أم سلمة قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون )) .

والوليد بن عقبة بن أبي معيط صحابي بالمفهوم اللغوي المتداول والمنتشر ، وهو أخو سيدنا عثمان بن عفان _ رضي الله عنه _ من أمه ، وكان الوليد بن عقبة شارباً للخمر في الأدلة الصحيحة الثابتة ، والصحابة اتفقوا على جَلْده [ كما في شرح النووي على صحيح مسلم ( 11/ 219) ]. وقد وصفه الله تعالى بالفاسق في آية مُحْكَمَة مُوَجَّهة إلى شخص بعينه . فهذا الصحابي فاسقٌ بنص القرآن الكريم ، ومن أنكر هذا فهو كافرٌ لتكذيبه القرآن . ومن سمَّاه اللهُ تعالى فاسقاً ، فلا بد أن تسقط عدالته . لكن مفهوم العدالة يقودنا إلى البحث بالتفاصيل في بعض التعريفات والملابسات حول هذا الموضوع ، فكلمة العدالة التي نجدها هنا وهناك لا بد لها من ضوابط تعريفية وسلوكية، وإليك هذا التلخيص السريع لهذه المسألة الذي يضع النقاط على الحروف بشكل غير مخل ، فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد ( 2/ 346) : { أما العدالة فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى : (( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ )) [ البقرة : 282]ولقوله تعالى : (( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ )) [ الطلاق : 2]. واختلفوا فيما هي العدالة فقال الجمهور : هي صفة زائدة على الإسلام هو أن يكون ملتزماً لواجبات الشرع ومستحباته مجتنباً للمحرمات والمكروهات. وقال أبو حنيفة : يكفي في العدالة ظاهر الإسلام وأن لا تعلم منه جرحة . وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق ، وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ ))[ الحجرات : 6] . ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عُرِفت توبته إلا من كان فسقه من قبل القذف ، فإن أبا حنيفة يقول : لا تقبل شهادته وإن تاب ، والجمهور يقولون تقبل } اهـ .

ب) الحديث الشريف : (( في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )) [رواه مسلم ( 4/ 2143 ) برقم ( 2779 )] .

ج) الحديث الشريف :(( ... ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك )) [متفق عليه. البخاري ( 4/ 1766 ) برقم (4463)، ومسلم ( 4/ 2194 ) برقم ( 2860 )] .

د) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار )) [رواه البخاري ( 1/ 172 ) برقم ( 436)] .

وهذا الحديث الشريف يوضح أن هناك صحابة دعاة على أبواب جهنم ، يدعون إلى النار ، فكيف تجتمع العدالة مع من يدعو إلى النار ؟! . وأيضاً فإن الصحابة أعملوا سيوفهم في رقاب بعضهم البعض ، فلا بد أن تكون طائفة على الحق ، وأخرى على الباطل ، فمحال أن يكون الطرفان على حق ، لأن الحق واحد فقط لا يتعدد .

وهذه الأدلة التي سُقْتها على عجالة تنسف بشكل نهائي حاسم خرافة " عدالة الصحابة " بمعنى عدالة كل صحابي بعَيْنه ، مع إيماني بأن الصحابة عدول ومعصومون عدالةً عامة ، وعصمة عامة .

26‏/03‏/2012

تعريف الصحابي

تعريف الصحابي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

إن مبحث الصحبة والصحابة يمتاز بحساسية بالغة ، ذلك أن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ يُنظَر إليهم نظرة تقديسية لا تجيز النقد أو الاستدراك على أفعالهم، فكل أفعالهم مُبرَّرة دون مناقشة، وكلهم عدول من أولهم إلى آخرهم ، وهذه الخرافات التي يعتنقها الكثيرون كانت هي الفعل ، وجاءت ردة الفعل من قبل الروافض الذين اقتبسوا خرافة " عدالة الصحابة فرداً فرداً " ، وأسقطوها على أئمة آل البيت ، فصار أئمة آل البيت معصومين لا يتم الاستدراك على أفعالهم . وهاتان الخرافتان من كلا الجانبين وُضِعَتا لترسيخ الحصانة ضد النقد، وتجذير نوع من العصمة على الأفعال البشرية . ونحن لا نناقش في حب الآل والأصحاب ، ولكن ينبغي وضع الأمور في نصابها الصحيح ، وعدم إعطاء العصمة ضد النقد ، أو إعلاء الأشخاص فوق قدرهم ، ووضعهم في مكانة الذين لا يُسْأَلون عما يفعلون . فالآل والأصحاب هم بشرٌ أولاً وأخيراً ، وتجري عليهم الأحكام البشرية بدءاً من الإيمان وحتى الكفر ، مروراً بكل الدرجات بين هذين المفهومين .

وقد أخذت بعض الأفعال ذات الصبغة الدينية منحى الفعل ورد الفعل ، فمثلاً عقيدة " عدالة الصحابة " قابلتها عقيدة " عصمة الأئمة " ، ولقب " شيخ الإسلام" قابله لقب " آية الله العظمى"، وسب سيدنا علي _ رضي الله عنه_ على منابر بني أمية قابله سب سَيِّدَيْنا أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ ، وهكذا دخلت كثير من الأمور المصبوغة بالدِّين في حيز الفعل ورد الفعل .

ونحن هنا ملتزمون بالكتاب والسُّنة الصحيحة ، والجميع خاضعٌ لهما بإرادته ورغم أنفه سواءٌ كان النبي صلى الله عليه وسلم أو آل بيته الأطهار أو صحابته الأبرار . وينبغي أن نُنبِّه إلى أن المقصود بآل البيت في المعنى المتداول المشهور هم الثقل الأكبر الساحق الملتزمون بالكتاب والسُّنة الصحيحة ، إذ إن هناك أفراداً من آل البيت سلوكهم بالغ السوء وهم فسقة أو منافقون وأفعالهم في الحضيض . وأيضاً الصحابة فيهم أفراد معدودون أفعالهم سيئة للغاية وهم فاسقون أو منافقون . لذا فإن آل البيت والصحابة المقصود بهما الثقل الأكبر الساحق الذي اتبع خطواتِ النبي صلى الله عليه وسلم بدقة دون أن يتنكب الطريقَ .

وإنني في هذا المقام أود طرح مجموعة من الخواطر السريعة ، والومضاتِ الفكرية التي لمعت في ذهني وفق أدلة مُعتبَرة ، ولستُ أهدف في هذه العجالة إلى تأليف كتاب مستقل جامع لكل جوانب هذه المسألة يكون مرجعاً تفصيلياً لا يُضاهى . فما أرمي إليه من وراء هذه الكلمات وضع النقاط على الحروف ، وإضاءة بعض الجوانب على الطريق لا أكثر ولا أقل، تاركاً التفاصيل الدقيقة للباحثين المتخصصين في هذه السياقات الفكرية. فهذه الكتابات هي مجموعة أفكار وفق نقاط محددة، الهدف منها نشر بعض التساؤلات التي تضطر العقلَ إلى التحرك بعيداً عن المعطيات الجاهزة التي يتم تحفيظها للناس من خلال الوسائل التلقينية ، أو الدروس التي تعتمد على التقليد الأعمى دون إعمال العقل وفق الكتاب والسُّنة الصحيحة .

ومما لا شك فيه أن تعريف "الصحابي" يُعتبَر تحدياً حقيقياً ، فالعلماء اختلفوا في تعريف الصحابي اختلافاً واضحاً . قال القرطبي في تفسيره ( 8/ 237 ) : (( والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه . قال البخاري في صحيحه : من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وَرُوِيَ عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين )) اهـ .

وقال البخاري في صحيحه ( 3/ 1335 ) : (( ومن صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه )) اهـ .

وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 3و4 ) : (( إن اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه ، أقل ما يُطلَق عليه اسم صحبة لغةً ، وإن كان العُرف يخص ذلك ببعض الملازمة ، ويُطلَق أيضاً على من رآه رؤية ولو على بعد ، وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح ، إلا أنه هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه، أو يكتفى بمجرد حصول الرؤية محل النظر ؟.وعمل من صنف في الصحابة يدل على الثاني ... . وكذا رُوِيَ عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعداً أو غزا معه غزوة فصاعداً . والعمل على خلاف هذا القول لأنهم اتفقوا على جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع ، ومن اشترط الصحبة العُرْفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارقه عن قرب ، كما جاء عن أنس أنه قيل له هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك ؟، قال: لا ، مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب. ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغاً وهو مردود أيضاً لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة )) اهـ .

إذاً نخلص إلى القول بأن الصحبة تنقسم إلى قسمين : صحبة لغوية وصحبة عُرْفية . وهذا التقسيم مهم جداً في بحثنا هذا . فلو جئنا إلى الواقع المعاش ، فإن الحاكم قد يراه الكثيرون من أفراد شعبه سواءٌ في زياراته للأماكن المختلفة أو في خطبه أو موكبه ، ولكن هل كل من رآه صار صاحباً له ؟ ، بالطبع لا . إذ إن هناك فرقاً واضحاً بين رعية الحاكم وبين أصحابه . وهذا المعنى تنبَّه إليه الحافظ ابن حجر في كلامه السابق خصوصاً عندما قال : (( وإن كان العُرف يخص ذلك ببعض الملازمة ))، إذ لا بد من الملازمة حتى نطلق لقب صحابي بالمعنى الشرعي الاصطلاحي ، ولكننا على أية حال نطلق لقب صحابي على كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم فترة من الوقت أو صحبه حتى لو كانت مدة الصحبة دقيقة واحدة ، ولكننا نعني بهذه الصحبة معنى لغوياً لا شرعياً يستلزم أن يصير الصحابي عدلاً أو من المقطوع لهم بالجنة . فيجوز لغةً أن نقول مثلاً لقد صحبتُ رئيس الدولة دقيقتين ، وهذا لا يعني أنني صرتُ من رجال الدولة أوعِلْيةِ القوم أو المستشارين المقرَّبين أو المخلِصين الأطهار الشرفاء المحافظين على النظام . ووفق هذا الأساس قد يكون الصحابي سيء السُّمعة أو فاسقاً أو منافقاً أو كافراً ... إلخ ، وعندما نطلق لقب الصحابي على أحد ما فلا يعني بالضرورة أن يكون عدلاً تقياً طاهراً شريفاً ، لذا فلقب " صحابي " بحد ذاته ليس شرفاً أو منزلة سامية ، مثلما وجود شخص من آل البيت فهذا لا يُعَدُّ شرفاً أو فضلاً بحد ذاته ، وقد سبق أن وضَّحنا هذه المسألة . فعن حذيفة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ))[رواه مسلم ( 4/ 2143 ) برقم ( 2779 )] .

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 17/ 125 ) : (( في أصحابي ، فمعناه الذين يُنْسَبون إلى صحبتي )) اهـ .

وعن شقيق قال : دخل عبد الرحمن بن عوف على أم سلمة ، فقال : يا أم المؤمنين، إني أخشى أن أكون قد هلكتُ، إني من أكثر قريش مالاً نظير أرض لي بأربعين ألف دينار ، فقالت : أَنْفِقْ يا بني ، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه )) ، فأتيتُ بيت عمر فأخبرتُه ، فأتاها فقال : بالله أنا منهم ، قالت : اللهم لا ، ولن أبرئ أحداً بعدك . [حديث صحيحٌ . رواه أحمد ( 6/ 317 ) برقم ( 26736 ) ، وأبو يعلى ( 12/ 436 ) برقم ( 7003 )، والطبراني في الكبير ( 23/ 317 ) برقم ( 719 ). وسكت عنه ابن حجر في النهاية في غريب الأثر ( 1/ 156 ). وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 72): (( رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح )) اهـ .] .

وهكذا يتبين لنا أن كلمة " الصحابي " لا تُشكِّل أية قيمة لوحدها مجرَّدة . بل إن الحديث النبوي الشريف حكم بنفاق اثني عشر صحابياً وبكفر ثمانية صحابة ، ولو عدنا للحقب التاريخية الماضية وجدنا كيف أن سيدنا المسيح صلى الله عليه وسلم قد خانه واحد من صحابته المقرَّبين(يهوذا الإسخريوطي): (( ويهوذا الإسخريوطي الذي خانه )) [ متَّى 10: 4] .

وأيضاً قام ابن سيدنا نوح صلى الله عليه وسلم بخيانة والده الخيانة العظمى بأن اعتنق الكفرَ رافضاً الإسلام . وهذا الابن يُعتبَر من النظرة الزمنية صحابياً ملازِماً لوالده مدة طويلة ، ومع هذا قال اللهُ تعالى : (( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )) [ هود : 46] .

وأيضاً قال الله تعالى : (( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً للذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا )) [ التحريم : 10]. وكما هو معلوم فالزوجة هي الصاحبة الملازِمة لزوجها لمدة طويلة جداً ، ومع هذا فهاتان الزوجتان تحت اثنين من الأنبياء قامتا بالخيانة ، وليست الخيانة هنا بمعنى الخيانة الزوجية، بل بمعنى خيانة الكفر، لأن الكفر هي الخيانة العظمى التي ما بعدها خيانة .

واعتماداً على هذه الأدلة الساطعة نخلص إلى أن إطلاق لفظ " الصحابي " على شخص ما لا يعني تعديله، ولا تعني سوى معنى له علاقة بصحبة زمنية ، وقد يكون صحابياً تقياً وقد يكون عكس ذلك،بل إن الصحابي تجري عليه كل الحالات، فقد يدخل في الكفر ويكون خالداً في جهنم، فلا تنفعه الصحبة بأية شيء ، وهذا واضح في الحديث النبوي الشريف السابق الذي حكم بكفر ثمانية من الصحابة .

والصحابي ليس معصوماً فهناك صحابة من أهل الردة ، فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( ... ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال لا تدري ما أَحدثوا بعدك )) [متفق عليه. البخاري ( 4/ 1766 ) برقم (4463)، ومسلم ( 4/ 2194 ) برقم ( 2860 )] .

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 136 ) : (( قوله : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ، وفي الرواية الأخرى: قد بدلوا بعدك فأقول : سحقاً سحقاً . هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال ، أحدها أن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم فيقال ليس هؤلاء مما وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك ، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم، والثاني أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما رأى صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم فيقال: ارتدوا بعدك . والثالث أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام ، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار بل يجوز أن يزادوا عقوبة لهم ، ثم يرحمهم الله _سبحانه وتعالى_ فيدخلهم الجنة بغير عذاب ، قال أصحاب هذا القول : ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده لكن عرفهم بالسيما )) اهـ .

وذكر الحافظ في الفتح ( 7/ 5) عن علي بن المديني قوله : (( من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم )) اهـ .

وقال الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية ( 1/ 50و51 ) بإسناده : (( كان سعيد ابن المسيب يقول : الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين . اهـ . قال ابن عمرو : رأيتُ أهل العلم يقولون كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أدرك الحلم وأسلم وعقل أمر الدِّين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام )) اهـ .

هذا المعنى مهم للغاية ، فلا توجد مشكلة في إسباغ لقب " صحابي " ، لأن التدقيق هو طبقات الصحابة وتقدمهم وإنجازاتهم وفضائلهم ، هذا هو المحك الحقيقي لفرز الصحابة وتمييزهم . فمثلاً أنتَ تجد آلاف الخريجين من الجامعة، وكلهم حاصلون على شهادة جامعية ذات اسم واحد ، وكل واحد منهم اسمه خريج ، ولكن التمييز بينهم يعتمد على المعدل والإبداع والمهارات والإنجازات والقدرات . وهذا المعنى مشابه تماماً لمعنى الصحابي .

وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ( 1/ 38 ) : (( إن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ومات على الردة كابن خطل لا يُطلَق عليه اسم الصحابي ، وأما من ارتد بعده ثم أسلم ومات مسلماً كالأشعث بن قيس ، فقال الحافظ أبو الفضل العراقي في دخوله في الصحابة نظر فقد نص الشافعي وأبو حنيفة على أن الردة محبطة للعمل، قال والظاهر أنها محبطة للصحبة السابقة. قال أما من رجع إلى الإسلام في حياته كعبد الله بن أبي سرح فلا مانع من دخوله في الصحبة )) اهـ .

وذكر الحافظ في الفتح ( 7/4) : (( من صحبه أو رآه مؤمناً به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فإنه ليس صحابياً اتفاقاً ، فينبغي أن يزاد فيه ومات على ذلك . وقد وقع في مسند أحمد حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي ، وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وحدَّث عنه بعد موته ، ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصَّر بسبب شيء أغضبه . وإخراج حديث مثل هذا مشكل، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده، والله أعلم. فلو ارتد ثم عاد الى الإسلام لكن لم يره ثانياً بعد عوده فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدِّثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك وإخراجهم أحاديث في المسانيد )) اهـ.

ومسألة العدالة يمكن أن نُلخِّصها في بيتين من الشِّعر :

أما الصحابي فقيل عَدْل وقيل مثل غيره والفصل

بأنه عدل إلى حين الفتن وبعدها كغيره فَلْيُمْتَحَن

وهذان البيتان يوضحان أن الصحابة حينما كانوا متواجدين أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ملتزِمين بالمنهجية الإسلامية المستقيمة ، وإذا ظهر منهم أي خطأ أو ذنب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بما له من قوة الشخصية النبوية المؤيَّدة بالوحي المعصوم ، والحضور الإنساني النبيل ، يقوم بتوجيههم وإرشادهم إلى الجادة دون أن يعترض عليه أحد، أما بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ومع ظهور أمواج الفتن المتلاطمة تعرَّض الصحابة إلى فرز دقيق وتمييز حقيقي ، فظهر أصحاب الميول الدنيوية مثل معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، وبعض الصحابة ساءت سيرته بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وكل فريق صار يعتقد أنه على الحق المطلق ولا يوجد بينهم من يفصل بينهم بكلام قاطع نهائي وحاسم ، لأن الذي كان يقوم بهذا الأمر هو النبي صلى الله عليه وسلم مُؤيَّداً من الله تعالى بالوحي ، أما الصحابة فصاروا يجتهدون في مواقفهم المتضاربة من الفتن دون وجود وحي فاصل يميز الصحيح من غير الصحيح . وأيضاً ينبغي أن نعرف أن حجة الوداع قد حضرها مئة ألف صحابي أو أكثر ، ومن المحال أن يكونوا كلهم عدولاً أتقياء سائرين وفق الكتاب والسنة الصحيحة بلا زيغ ، وهذا يجب أن يكون مفهوماً ، فمجتمع الصحابة ليس مجتمعاً من الملائكة المعصومين،بل هو مجتمع بشري متفاوت في درجة الإيمان له ما له، وعليه ما عليه. هناك صحابة مشهود لهم بالجنة ، وهناك صحابة مشهود لهم بالنار، وهناك صحابة خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً .

25‏/03‏/2012

لماذا تخاف دول الخليج من الإخوان المسلمين ؟

لماذا تخاف دول الخليج من الإخوان المسلمين ؟

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي اللندنية 22/3/2012

إن المجتمعات الخليجية لا زالت محصورة في دائرة الخوف، الخوف من الخارج والداخل على حَدٍّ سواء . وعقدةُ الشعور بالنقص المسيطرة على مراكز صنع القرار الخليجية لا تزال تتحكم في رسم السياسات . فصانعُ القرار يُدرك ضعفه الشخصي وهشاشة مجتمعه على كافة الأصعدة . وحينما ينظر إلى الخارج فإنه يرى إيران كوحش مفترس قادم لابتلاع المنطقة ، لذا يحتمي بأمريكا ويستقطب قواعدها العسكرية من أجل توفير الحماية . كما أنه _ في الوقت ذاته _ يخشى تخلي الأمريكان عنه وقطع الحبل به ، أو توصل أمريكا وإيران إلى صيغة توافقية تكون فيها الضحية هي دول الخليج . وحينما ينظر إلى الداخل فإنه يخشى تحركات الشارع أو ثورة الشعب لأي سبب كان . وهذا الرعبُ المتواصل _ خارجياً وداخلياً_ يُقحم دوائر صنع القرار بأكملها في حسابات كابوسية ، خصوصاً أن المجتمعات الخليجية لا تتمتع بأنظمة سياسية متجذرة ، ولا تملك مؤسساتٍ عسكرية أو مدنية قوية ، أو قواعد عمل سياسي منظَّم ، أو بنية اجتماعية متماسكة . فهي مجتمعات في مهب العاصفة على الدوام بسبب ضعفها الذاتي ، وسيطرة الخوف عليها ، والذي يمنعها من التحرك بثقة نحو المستقبل . كما أن منطقة الخليج بأسرها قد وقعت منذ زمن بعيد ضحيةً لما يُمكن تسميته " لعنة النفط " . فالنفط _ هذه النعمة العظيمة _ قد صارت نقمةً بسبب سوء التصرف الذي أدى إلى تكالب القوى الكبرى على المنطقة ، حيث تصول وتجول دون رادع .

والإشكالية الكبرى في النسق السياسي الخليجي تتجلى في التعامل مع المشكلات عبر إغداق المال وشراء ولاء الآخرين ، وليس حل هذه المشكلات جذرياً ، وصناعة الإنسان القادر على الإبداع ، والوقوف على قدميه دون مساعدة أحد ، واكتشاف مصادر دخل غير النفط . فهذا التقدمُ الملحوظ في منطقة الخليج هو تقدم وهمي لأنه يعتمد بالكلية على عقول غربية وسواعد أجنبية وليس قدرات أبناء البلد . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، نجد أن برج خليفة في إمارة دبي ( أعلى بُرج في العالم ) قد تم تصميمه وبناؤه حسب العقول والطاقات الأجنبية . والإماراتيون والعرب ليس لهم علاقة بالأمر ، لا من قريب ولا بعيد . ومتحف الفن الإسلامي في الدوحة قد صَمَّمه المعماري إيو مينغ بي ( أمريكي من أصل صيني ). حتى إن الساعة العملاقة في مكة المكرمة قد تم صنعها في ألمانيا . إذن، نحن أمام معضلة حقيقية ، ونهضة براقة لكنها مخادِعة . لذلك أَطلق الروائي الراحل عبد الرحمن منيف على المدن التي أنشأها النفطُ لا العقلُ العربي اسم " مدن الملح" في إشارة إلى التبخر والتلاشي .

وهذا الضعف المتجذر في المجتمعات الخليجية _ فوقياً وتحتياً _ جعل حكامَها مقتنعين بأن عروشهم غير راسخة ، ويمكن أن تزول بسهولة بسبب غياب المناعة الداخلية وعدم التمتع بالحصانة الرادعة . ومن هنا بدأ البحث عن العدو الذي يمكنه تهديد وجود الأنظمة السياسية في الخليج عدا إيران وأمريكا . وبالطبع كان هذا العدو هو جماعة الإخوان المسلمين لأسباب كثيرة من أبرزها : _

[1] إن " الإخوان " هي الجماعة السياسية الأولى في العالَم الإسلامي برمته ، وأذرعها ممتدة في دول كثيرة . وهي تملك رصيداً في ممارسة العمل السياسي لا تملكه جميع دول الخليج مجتمعةً . فالإخوان المسلمون يمارسون السياسة قبل ظهور النفط . وبعبارة أخرى ، إن " الجماعة " كانت منخرطة في التنظير السياسي والعمل الحزبي والمشاركة الاجتماعية عندما كان أهلُ الخليج يمارسون مهنة صيد اللؤلؤ ، ومزاولة الحرف اليدوية البسيطة. وهذا بحد ذاته يشكل ضغطاً على النظام السياسي الخليجي الذي ما زال يحبو . فالذي لا يملك تاريخاً سياسياً سيشعر بالخوف من الذي يملكه .

[2] إن دوائر صنع القرار الخليجية محصورة في فكرة شيخ القبيلة الذي يُكرِم أتباعه بالمال مقابل الالتفاف حول زعامته، وتقديم الولاء له، والتعهد بحمايته والحفاظ على منصبه . وهذا المنظومة لا تناسب عصرنا الحالي . وفي المقابل نجد أن "الإخوان "_ بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معهم _ يبذلون جهوداً حثيثة للتوفيق بين الشريعة والديمقراطية ، وبين الأصالة والمعاصرة ، آخذين بعين الاعتبار قضايا حساسة مثل حقوق الإنسان ، وحقوق المرأة ، وحرية التعبير ، ومسألة الأقليات ، وقبول الآخر ... إلخ . وهذا الخطاب يُشكِّل تهديداً مباشراً للأنظمة الخليجية المعتمدة على الانغلاق الفكري تحت ذريعة الحفاظ على الهوية والخصوصية . وما يثير العجب أن الأنظمة السياسية في البيئة الخليجية _ رغم تحجرها الفكري _ نجدها تفتح البلادَ أمام طوفان العمالة الوافدة من ثقافات مضادة للقيم العربية . وهذا أدى إلى اختلال كارثي في القضية الديمغرافية شديدة الحساسية . حتى إن دولة كالإمارات صار فيها الوافدون أكثر عدداً من الإماراتيين ( السكان الأصليين ) .

[3] إن وصول "الإخوان " إلى سدة الحكم في أكبر دولة عربية ( مصر ) سيجعلهم على اتصال مباشر مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وباقي القوى العالمية والإقليمية. ودول الخليج تخشى من تعزيز العلاقات الإخوانية _ الأمريكية ، أو الإخوانية _ الإيرانية ، فيكون الخاسر الأكبر هو الخليج . فالمخاوفُ المسيطرة على صانع القرار الخليجي تجعله يخترع الكوابيس ، ويبتكر المؤامرات الافتراضية ، ويشك في كل شيء ، وفق قاعدة " كاد المريب أن يقول خذوني " ! .

[4] إن دول الخليج حريصة على تفسير الإسلام وفق رؤيتها الشخصية ، أي السمع والطاعة العمياء للحاكم ( ولي الأمر ) لأنه القائم بأمور البلاد والعباد ، فالاعتراض عليه أو محاولة نصحه أو نقد أفعاله أو محاسبته ، كل هذه الأمور تُعتبر خروجاً على الحاكم ، وتُسبِّب فتنةً كبرى . فينبغي التطبيل والتزمير للحاكم بغض النظر عن عدله أو ظلمه . وهكذا انتشر علماء البلاط الذين ترتبط مصالحهم مباشرة بالنخبة الحاكمة . كما ظهر مبدأ التزاوج بين السُّلطة الدينية والسُّلطة السياسية . وهذا تجلى في العلاقة المتشابكة بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من جهة وبين آل سعود ( العائلة الحاكمة في أغلب الجزيرة العربية ) عبر مراحل التاريخ المختلفة . كما أن الحكام قد حرصوا على نيل شرعية دينية من أجل الحصول على قبول الناس وولائهم . فنجد أن الملك الراحل فهد بن عبد العزيز ( 1920م _ 2005م ) قد اتخذ لقب "خادم الحرمين الشريفين " عام 1986م . وقد سبقه إلى هذا اللقب المماليك المصريون ثم السلطان العثماني سليم الأول . وبروزُ " الإخوان " كقوة دينية وسياسية تحمل تفسيرها الخاص للإسلام سيسحب البساطَ من تحت أقدام حكام الخليج ، ويُهدِّد منظومتهم الفكرية المعتمدة على تفسير منغلق للإسلام . ولَيْتَ الحاكم الخليجي قد سار على قاعدة معاوية بن أبي سفيان _ على أقل تقدير _ حينما قال : (( إني لا أَحول بين الناس وألسنتهم ما لم يَحولوا بيننا وبين مُلكنا )) .

[5] إن أهم دولتين خليجيتين ( السعودية وقطر ) تريدان زعامةَ العالَم العربي بعد الثورات التي أطاحت بأنظمة الاستبداد. فمصر بحاجة إلى وقت كي تقف على قدميها وتعود إلى قيادة الأمة العربية، وسوريا غارقة في الدماء. لذا فالجو مناسب لاضطلاع هاتين الدولتين أو واحدة منهما بمركز القيادة . وفي واقع الأمر فهما اللتان تديران الجامعة العربية في الوقت الراهن ، وترميان بكامل ثقلهما خلف الثورة السورية. فهما تناديان _علانيةً _ بضرورة تسليح المعارضة السورية ، كما أن ملك السعودية قد انتقد مجلس الأمن الدولي في فترة سابقة . وهذه اللهجة غير معهودة في الدبلوماسية الخليجية ، مما يدل على السعي الدؤوب لقيادة الأمة العربية . ولا توجد قوة يمكن أن تنازعهما على القيادة غير " الإخوان " أصحاب الامتداد التاريخي والجغرافي ، لذلك يُنظَر إليهم على أنهم تهديد لطموح دول الخليج في بسط نفوذها عربياً وإقليمياً .