إن هذه المقالة الموجزة تحاول تسليط الضوء على رَجُل ثار حوله الكثير من الجدل فالطائفة السلفية التَّيمية النجدية المتطرفة تسميه شيخ الإسلام تعصباً للباطل . [عبارة " شيخ الإسلام" مرفوضة جملةً وتفصيلاً ، ولا يصح إطلاقها على أي إنسان كائناً من كان، ولا يجوز إطلاقها على النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بإطلاقها على شخص مثل ابن تيمية متهم في عقيدته. فهذه العبارة البدعية ضد الإسلام تماماً ، فالإسلام لا شيخ له ، لأنه السَّيد على الناس والحاكم عليهم ، وكلهم خاضعون له . وحتى الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام_ هم خَدَمٌ للإسلام بإرادتهم ورغماً عنهم، والإسلام فَوْقهم وسَيِّدهم ، وهم الذين يحتاجونه وهو لا يحتاجهم ] . وبعض المسلمين يُكَفِّرون ابنَ تيمية وأدلتهم قوية ومعتمَدة ، لكنَّ السواد الأعظم من المسلمين تقف فيه موقفاً وسطياً ، فهم يترحمون عليه باعتباره مسلماً مع تحذير الناس من عقائده الباطلة وضلالاته ، مع رجائهم أنه أخطأ في مسائل وتجاوزها في مؤلفاته اللاحقة، إذ إن أفكاره في مؤلفاته شديدة التناقض، فما يُثبِته في موقف ينقضه في موقف آخر .
وإنني في هذا المقام لستُ معنياً بالرد على ابن تيمية بشكل تفصيلي شامل لأن علماء كثر من القدماء والمحدَثين ألَّفوا كتباً كثيرة في الرد على ضلالاته وعقائده الزائغة بالأدلة التفصيلية العميقة ، وهذه الكتب موجودة في الأسواق ، وعلى مواقع الإنترنت ، ومعروفة للجميع. وأيضاً المآخذ على ابن تيمية صارت في متناول القارئ . ولن أكون أكثر علماً من كل هؤلاء العلماء في هذا الموضوع بأية حال من الأحوال ، وهم قد قاموا بعمل جليل في صد هذه الحملة التَّيمية التي تؤدي إلى زلزلة عقائد الناس وتضليلهم .
لكني أردتُ في مقامي هذا تحليل منهجية ابن تيمية بشكل موجز سريع ، والخلفيةِ الفكرية التي يستند إليها في بثه لهذه العقائد الزائغة ، وكيف انحرف بهذا الشكل الفاضح . ومن أراد الاستزادة فعليه مراجعة المجلدات الضخمة لكثير من العلماء في كل الأزمنة الذين يفوقوني علماً وإخلاصاً وعمقاً وتمكناً في العلوم والمعارف ، وبالطبع فإن إنتاجاتهم منتشرة في كل مكان من أجل تفنيد شبهات ابن تيمية ، ودحض عقائده الباطلة، وهي متوفرة ولا تحتاج إلى كثير بحث وعناء خصوصاً مع وجود الإنترنت، ودور النشر النشطة، والعلماء المخلِصين .
قال الحافظ في الفتح ( 7/ 271) : (( وأَنكرَ ابنُ تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين ، وخصوصاً مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي. قال : " لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً ولتأليف قلوب بعضهم على بعض ، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم ، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري ". وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر . وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيداً مولاهم فقد ثبت أُخوتهما ، وهما من المهاجرين )) اهـ .
قلتُ :
1) إن الخطيئة الجوهرية التي يواصل ابنُ تيمية الوقوع فيها عمداً هي التقليل من شأن سَيِّدنا علي بن أبي طالب _ عليه السلام_ والحط من قَدْره الشريف عندما يرد ابنُ تيمية على الروافض ، وهذا معروفٌ عنه وواضح كالشمس . فكتابه " منهاج السُّنة " مليء بالطعن في سَيِّدنا علي ، والطعن في فضائله الثابتة ظناً منه أنه بذلك يرد على الروافض ، ويفحمهم . وهذا خطأ منهجي كارثي ارتكبه ابن تيمية الذي لم يتمتع بالمنهج العلمي في البحث المنصِف ، لذا جاءت أفكاره مشوَّشة،مما أدَّى إلى هجوم العلماء عليه ورميهم له بالنَّصْبِ، ومعاداة آل البيت_ عليهم السلام_، وهم محقون في هذه التهمة التي ثبَّتها على نفسه .
2) إن إنكار ابن تيمية للمؤاخاة ، خصوصاً مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه علي بن أبي طالب _ كرَّم الله وجهه _ يعكس مدى التطرف الذي وقع فيه ابنُ تيمية من أجل الرد على الروافض عن طريق انتهاج أسلوب سيء ، وهو سلخ سيدنا علي من الفضائل ، وأيضاً قاده كرهه للروافض إلى إنكار المؤاخاة أصلاً ، وما هكذا يكون الرد على الروافض .
3) والكارثة الحادة في الموضوع أن ابن تيمية ردَّ النص معتمداً على القياس ، وهو الذي يزعم طوال حياته بأنه سلفيٌّ متَّبع للكتاب والسُّنة ، فنحن نجد كيف ردَّ النص عندما خالف هواه ، واعتمد على القياس في وجود النص . والوقت لا يتسع لاستعراض كل أدلة المؤاخاة الشرعية لأنها أكبر من أن تُنكَر، وقد وردت المؤاخاة في أدلة صحيحة لا تُنكَر ، وهي مبسوطة في كتب الحديث. وهذا يدل على جرأة سلبية في رد الأحاديث الصحيحة إذا خالفت هواه ، أو ضعفه في تحديد مستوى صحة الأحاديث .
4) بعض أدلة المؤاخاة الصحيحة التي ردَّها ابن تيمية :
عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : (( آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء )) [ رواه البخاري ( 2/ 694 ) برقم ( 1867 ) ] .
عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال : ((آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزُّبير ابن العوام وعبد الله بن مسعود ))[رواه الحاكم في المستدرك( 3/ 355 )وصحَّحه ، ووافقه الذهبي] .
قال الحافظ في الفتح ( 7/ 271 ) : (( وهما من المهاجرين. قلتُ: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني ، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك )) اهـ .
عن ابن عمر_ رضي الله عنهما_ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه ، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فقال علي : يا رسول الله : إنك قد آخيتَ بين أصحابك ، فمن أخي ؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أما ترضى يا علي أن أكون أخاك ؟ )) { رواه الحاكم( 3/ 16)برقم ( 4289 ) ، والترمذي في سننه مع اختلاف في الألفاظ ( 5/ 636) برقم ( 3720 ) وقال : (( هذا حديث حسن غريب )) اهـ. قلتُ : [ طعن الذهبي في سند الحاكم لكن الحافظ قال في الفتح ( 7/ 271 ) معلِّقاً : (( وإذا انضم هذا إلى ما تقدَّم تقوَّى به )) ] } .
وقال عبد الرحمن بن عوف_ رضي الله عنه _: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع )) [رواه البخاري( 2/ 722 )برقم ( 1943 )] .
ولنذهب إلى عقيدة ابن تيمية"حوادث لا أول لها"، فقد قال الحافظ في الفتح ( 13/ 410 ) : (( "كان الله ولم يكن شيء قبله" [رواه البخاري ( 6/ 2699 ) ] ، تقدم في بدء الخلق بلفظ : "ولم يكن شيء غيره" [رواه البخاري ( 3/ 1166)]. وفي رواية أبي معاوية "كان الله قبل كل شيء" { رواه أبو نُعيم في الحلية ( 2/ 216 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 1/ 35) : [ عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال الناس يقولون : كان الله قبل كل شيء ، فما كان قبله ؟! )) . رواه البزار ، وله في الصحيح حديث غير هذا ، ورجال مُوَثَّقون ] اهـ .} ، وهو بمعنى كان الله ولا شيء معه ، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب ، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية ، ووقفتُ في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس والجمع يُقَدَّم على الترجيح بالاتفاق)) اهـ .
قلتُ :
1) هذه العقيدة الكفرية " حوادث لا أول لها " تعني وجود مخلوقات لا بداية لها تشترك في القِدَم مع الذات الإلهية ، وهذه العبارة تحمل تناقضاً غريباً في داخلها . فكل حادثٍ مخلوق ، وكل مخلوق له بداية ، وكل مخلوق يعتمد على الذي أوجده وخَلَقَه ، فمحالٌ وجود مخلوق خلقَ نفسَه لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ولحظة الخلق يحدِّدها الخالق الذي أوجده ، فكيف تكون هذه الحوادث المخلوقة لا بداية لها ؟! . وهذه العقيدة تفترض أن هذه الحوادث هي قديمة بالنوع أي إنها واجبة الوجود ، وبالتالي فهي غير خاضعة لأية خالق مُوجِد ، بل كانت معه نداً بند ، وخارجة عن نفوذ قدرة الله تعالى على الخلق . وهذا كفرٌ بواح . فكل ما سوى الله تعالى مخلوق ، وكل مخلوق لا بد أن جاء إلى هذا الوجود في لحظة زمنية معينة أي إن له بداية . وقد كان الله ولا شيء معه ، أي إنه أوجد العناصر من العدم ، فالله تعالى وحده مختص بالقِدَم ، وما سواه حادث وُجِد بعد إذ لم يكن .
وللأسف فهذه العبارة الكفرية ملتصقة بابن تيمية بصورة يصعب الفكاك منها وهو يدافع عنها بشراسة ، والعجيب أنه عاد ونقضها بكل حماس في مجموع الفتاوى ( 9/ 281 ): (( فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله مُحدَث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ، ليس مع الله شيء قديم بقدمه )) اهـ . وهذا يدل على شراسة الصراع في عقلية ابن تيمية ، فما يثبته ويدافع عنه في موضع بكل إصرار، ينقضه في موضع آخر بكل إصرار .
2) سوء نية ابن تيمية حينما عمد إلى الترجيح قافزاً فوق الجمع والتوفيق ، وهذا يدل على أنه يريد الوصول إلى هدفه المرسوم في رأسه مهما كلفه الثمن، إذ إنه كان يحمل فكرة مسبقة في ذهنه، ويريد تطويع الأدلة لإثباتها قافزاً على المنهج العلمي الذي يتشدق بأنه من أتباعه ، ونحن لا نعلم الغيبَ ، ولكن المظهر يدل على الجوهر ، ومنهجية المسار الخارجي تنبئ عما في الصدور .
وهناك مسألة عَقَدية أخطأ فيها ابن تيمية تتعلق بطبيعة التحريف في الإنجيل والتوراة ، فقد قال الحافظ في الفتح ( 13/ 524 ) عن مسألة التحريف في الإنجيل والتوراة هل هي في المعاني أم الألفاظ : (( سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجرداً ، فأجاب في فتاويه إن للعلماء في ذلك قولين: واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها قوله تعالى : (( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ )) [ الأنعام: 34] . وهو معارض بقوله تعالى : (( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ )) [ البقرة: 181].
ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي ، وعلى المعنى في الإثبات ، لجواز الحمل في النفي على الحكم ، وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ والمعنى )) اهـ .
قلتُ :
تتمركز عقيدة ابن تيمية الشاذة في هذا الموضوع حول تحريف معاني الإنجيل والتوراة دون الألفاظ . أي إن الألفاظ _ من وجهة نظر ابن تيمية _ هي التي أنزلها الله تعالى دون تغيير . وهذا رأي فاسد ، فالتحريف شامل للألفاظ والمعاني . أما استدلال ابن تيمية فهو استدلال منقوص ، ومعارَض بآية قرآنية . فينبغي علينا فهم الآية القرآنية بشكل كامل ، وأسباب نزولها ، والحوادث التاريخية التي عالجتها قبل أن نتصور أفكاراً عن الآيات القرآنية لا تكمن إلا في أذهاننا القاصرة .
قال ابن حجر في لسان الميزان ( 6/ 319 ) : (( في ما يعاب به ابن تيمية من العقيدة، طالعتُ الرد المذكور فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء ، لكن وجدته كثيرَ التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر _ الرافضي_، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد في رده كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره ، والإنسان عامد للنسيان، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدَّته أحياناً إلى تنقيص علي _ رضي الله عنه_ وهذه الترجمة لا تحتمل إيضاح ذلك وإيراد أمثلته )) اهـ .
لقد علقنا على هذه النقطة سابقاً ، وقلنا إن ابن تيمية في فورة حماسته في الرد على الرافضي ابن المطهر في كتابه " منهاج السنة" ردَّ كثيراً من الأحاديث الجياد التي عجز عن استحضار مظانها، وهذا نقصٌ فيه وغرور ، فهو يتكل على ما يحفظه في صدره ، والإنسان ناقص ومحدود القدرات ، وكان عليه أن يراجع المسائل من مظانها ، لا أن يعتقد أنه يحفظ كل شيء ، وأنه مستغنٍ بذاكرته عن المراجع والكتب والتدوين ، فآفة العلم النِّسيان ، أما أن يظن الإنسان نفسه أعلم أهل الأرض، وأنه ليس بحاجة إلى مراجعة الكتب ، فهذا هو الغرور القاتل . وقاده ذلك إلى التطاول على سيدنا علي _ رضي الله عنه_، وهذا مشهور عنه ، مما جعل كثيراً من العلماء يضعونه في خانة النواصب.
قال ابن حجر في الدرر الكامنة ( 1/ 179و180 و181و182 ) تلخيصاً لأهم العقائد التي أخطأ فيها ابن تيمية : (( وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية : بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخر وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان. قال الطوفي: سمعتُه يقول : من سألني مستفيداً حققتُ له ، ومن سألني متعنتاً ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته . وذكر تصانيفه . وقال في كتابه إبطال الحيل : عظيم النفع وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسُّنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه فأخذ منها ما يشاء ويذر ، ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قويهم وحديثهم ، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء ، فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر ، وقال في حق علي أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب ، منها : اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين ، وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة ، حتى إنه سب الغزالي فقام عليه قوم ... فذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال كنزولي هذا ، فنُسِب إلى التجسيم ، ورد على من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو استغاث ...، وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله إن اليد والقدم ... والساق والوجه صفات حقيقية لله، وأنه مستو على العرش بذاته ، فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام ، فقال أنا لا أُسلِّم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فأُلزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله ، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغاث به، وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ... ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدَّم، ولقوله إنه كان مخذولاً حيث ما توجَّه، وإنه حاول الخلافةَ مراراً فلم ينلها ، وإنما قاتل للرئاسة لا للديانة ، ولقوله إنه كان يحب الرئاسة، وإن عثمان كان يحب المال ، ولقوله أبو بكر أسلم شيخاً يدري ما يقول وعلي أسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه على قول، وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل...وقصة أبي العاص بن الربيع ، وما يؤخذ من مفهومها فإنه شَنَّع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم : (( ولا يبغضك إلا منافق )) [ رواه مسلم ( 1/ 86 ) برقم ( 78 )] ، ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكداً لطول سجنه ، وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وأُلزم يقول لم أرد هذا إنما أردتُ كذا فيذكر احتمالاً بعيداً )) اهـ .
قلتُ :
هذا الكلام الموجز العميق يُلخِّص حال ابن تيمية بدقة متناهية ، وأهم ضلالاته التي يعتنقها ويدافع عنها بالباطل، ونحن نعترف بسعة علمه واطلاعه وتبحره، ولكن هذا لا يكفي إذا لم يصاحبه عملٌ صالح ، فكثيرٌ من المنحرفين عَقَدياً يملكون عقولاً مطلعة وثقافة موسوعية ، ولكن العلم والعمل ينبغي أن يكونا وفق الكتاب والسُّنة الصحيحة . ونحن نوجز انحرافات ابن تيمية _ حسب ما ورد سابقاًً _ :
1) الغرور والخيلاء والاستعلاء بالباطل مدعوماً من قبل أتباع جهال يركضون وراء كل ضوء زائف ، فقد غرَّ ابنَ تيمية علمُه الواسع ، فظن أنه صار عالِماً مجتهداً لا يُستَدرَك على كلامه ، ولا يملك أحدٌ أن يناقشه ، فكلامه لا يُرَد ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا الغرور القاتل مقبرة العلماء .
2) تطاوله على الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ، وتخطئتهم اعتماداً على تفكيره الشخصي ، لكي يبرز كعقلية قادرة على إحصاء أخطاء الرعيل الأول ممن حملوا الإسلام على ظهورهم . ونحن نؤمن أن الصحابة يخطئون لأنهم غير معصومين ، حتى الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام_ يخطئون فيما لا وحي فيه بمعنى أنهم قد يرتكبون خلاف الأولى . ولكن نقد بعض أفعال الصحابة بحاجة إلى عالِم رباني لا يقوم بتحطيم صورة العلماء في نفوس الرعية، وهذا لا يتوفر في ابن تيمية الساعي إلى الشهرة والبروز وزيادة أتباعه .
3) توغله في مذهب النَّصب ومعاداة آل البيت _ عليهم السلام _ عبر التطاول على سيدنا علي _ رضي الله عنه _ في أكثر من عشرة مواضع بكلمات جارحة ، وشتائم لا يجرؤ أبو جهل على التلفظ بها، وهذا موجود بكثرة في كتابه " منهاج السنة " .
4) التعصب الأعمى للمذهب الحنبلي ، أو بشكل أدق التعصب لمجسِّمة الحنابلة ، إذ إن الإمام أحمد_ رحمه الله _ في نعيم التقوى والعقائد المستقيمة، وابن تيمية في هذيان غروره وعقائده الزائغة. ولا يغرنك انتساب ابن تيمية لمذهب الإمام أحمد _ رحمه الله _ ، فهي مجرَّد دعوى فارغة لا أكثر ولا أقل ، مثلما ينسب " الشيعة " أنفسهم إلى آل البيت _ عليهم السلام_ ، وهم أعداء آل البيت، وكما ينسب اليهود أنفسهم إلى موسى صلى الله عليه وسلم وهم أعداء موسى، وكما ينسب النصارى أنفسهم إلى المسيح صلى الله عليه وسلم وهم أعداء المسيح .
5) التطاول على أهل السُّنة والجماعة ( الأشاعرة والماتريدية ) بالباطل لأنهم يعتنقون عقائدَ التنزيه ، ويقفون شوكةً في حلوق المجسِّمة .
6) سب العلماء الكبار مثل الإمام الغزالي _ رحمه الله _ ، وليست هذه من أخلاق المسلم ، ولكن الغيرة القاتلة من العلماء أدَّت إلى الشتائم . والذي يشتم علياً ليس غريباً أن يشتم الغزالي .
7) حمل النصوص على ظاهرها ، وإنكار المجاز ، مما أوقعه في فخ التجسيم ، وإسناد صفات الحوادث إلى الذات الإلهية _تعالت_، وهو بذلك تداخل مع عقائد اليهود والنصارى في التجسيم.
8) إنكاره للتوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهما ثابتان بالنصوص الشرعية، وقد وضَّحتُ هذه المسألة في بداية هذا الكتاب بالأدلة التفصيلية الدقيقة .
9) تأرجحه بين النفاق والزندقة من جهة ، وحب الدنيا من جهة أخرى عبر مدح الحكام لكسب مناصب دنيوية زائلة ، مثل إطرائه لابن تومرت . فيا للعجب ! ، يُطري ابن تومرت ، ويتهجم على رابع الخلفاء الراشدين .