قضية عدالة الصحابة
إن عقيدة " عدالة الصحابة " وُضِعت لرسم هالة من العصمة والقداسة حول الصحابة بحيث لا يمكن نقدهم أو انتقاص من فرَّط فيهم ، وقد تعزَّزت في بدايات الدولة الأموية التي أسَّسها معاوية بن أبي سفيان على دماء المسلمين الطاهرة ، فمثل هذه العقيدة ستضمن له ولجماعته حصانة ضد النقد وغربلة أفعالهم ، وهذا هو المطلوب . إذ إن الأمر صار مثل الحصانة الدبلوماسية التي تكفل للفرد أن يخلط الحابل بالنابل دون مساءلة ، وتحت حماية القانون الواضح للعيان . وللأسف الشديد فإن ردة الفعل عند الشيعة الروافض قد تكرَّست على شكل " عصمة الأئمة " من أجل إعطاء حصانة للأكاذيب المنسوبة إلى أئمة آل البيت ، وبالتالي تتكرس القداسة حول المذهب الرافضي ليضمن أن يشق طريقه دون معارِضين أو حركة نقدية تميز الغث من السمين . لكننا نقول إذا كان المراد بعدالة الصحابة هي عدالة الصحابة كوحدة جمعية كلية فهذا صحيحٌ ، مثل أن نقول إن المسلمين معصومون من الوقوع في الضلال ، أي إن المسلمين كوحدة جمعية لا تجتمع على ضلالة ، والأمر بهذا المعنى مقبول ، أما أن نقصد أن كل صحابي معصوم بعينه ، أو كل صحابي عَدْلٌ بعينه، فهذا مرفوض بشكل قطعي ، وإليك الأدلة :
أ) قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) [ الحجرات : 6] .
قال القرطبي في تفسيره ( 16/ 311) : (( قيل إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم . في رواية لإحنة كانت بينه وبينهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية )) اهـ .
وقال الطبري( 26/ 123): (( وذُكِرَ أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ... عن أم سلمة قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون )) .
والوليد بن عقبة بن أبي معيط صحابي بالمفهوم اللغوي المتداول والمنتشر ، وهو أخو سيدنا عثمان بن عفان _ رضي الله عنه _ من أمه ، وكان الوليد بن عقبة شارباً للخمر في الأدلة الصحيحة الثابتة ، والصحابة اتفقوا على جَلْده [ كما في شرح النووي على صحيح مسلم ( 11/ 219) ]. وقد وصفه الله تعالى بالفاسق في آية مُحْكَمَة مُوَجَّهة إلى شخص بعينه . فهذا الصحابي فاسقٌ بنص القرآن الكريم ، ومن أنكر هذا فهو كافرٌ لتكذيبه القرآن . ومن سمَّاه اللهُ تعالى فاسقاً ، فلا بد أن تسقط عدالته . لكن مفهوم العدالة يقودنا إلى البحث بالتفاصيل في بعض التعريفات والملابسات حول هذا الموضوع ، فكلمة العدالة التي نجدها هنا وهناك لا بد لها من ضوابط تعريفية وسلوكية، وإليك هذا التلخيص السريع لهذه المسألة الذي يضع النقاط على الحروف بشكل غير مخل ، فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد ( 2/ 346) : { أما العدالة فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى : (( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ )) [ البقرة : 282]ولقوله تعالى : (( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ )) [ الطلاق : 2]. واختلفوا فيما هي العدالة فقال الجمهور : هي صفة زائدة على الإسلام هو أن يكون ملتزماً لواجبات الشرع ومستحباته مجتنباً للمحرمات والمكروهات. وقال أبو حنيفة : يكفي في العدالة ظاهر الإسلام وأن لا تعلم منه جرحة . وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق ، وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ ))[ الحجرات : 6] . ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عُرِفت توبته إلا من كان فسقه من قبل القذف ، فإن أبا حنيفة يقول : لا تقبل شهادته وإن تاب ، والجمهور يقولون تقبل } اهـ .
ب) الحديث الشريف : (( في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )) [رواه مسلم ( 4/ 2143 ) برقم ( 2779 )] .
ج) الحديث الشريف :(( ... ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك )) [متفق عليه. البخاري ( 4/ 1766 ) برقم (4463)، ومسلم ( 4/ 2194 ) برقم ( 2860 )] .
د) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار )) [رواه البخاري ( 1/ 172 ) برقم ( 436)] .
وهذا الحديث الشريف يوضح أن هناك صحابة دعاة على أبواب جهنم ، يدعون إلى النار ، فكيف تجتمع العدالة مع من يدعو إلى النار ؟! . وأيضاً فإن الصحابة أعملوا سيوفهم في رقاب بعضهم البعض ، فلا بد أن تكون طائفة على الحق ، وأخرى على الباطل ، فمحال أن يكون الطرفان على حق ، لأن الحق واحد فقط لا يتعدد .
وهذه الأدلة التي سُقْتها على عجالة تنسف بشكل نهائي حاسم خرافة " عدالة الصحابة " بمعنى عدالة كل صحابي بعَيْنه ، مع إيماني بأن الصحابة عدول ومعصومون عدالةً عامة ، وعصمة عامة .