سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

12‏/03‏/2012

آيات القتال والقتل في القرآن الكريم

آيات القتال والقتل في القرآن الكريم
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

يجيء هذا الموضوع الحيوي ليلقيَ الضوء على اتجاه غاية في الأهمية ، وهو القتل ومشتقاته من وجهة نظرٍ قرآنية . وكما هو معلوم فإن أعداء الحق في شتى العصور اتخذوا هذا الموضوع ذريعةً للطعن في القرآن الكريم ، وتصويره على أنه كتاب إرهابي يأمر أتباعَه بقتل الناس بالطول والعَرض، دون احترام لحقوق الإنسان أو مشاعر البشر . وهذه التهمة المفتقدة إلى أدنى نصيب من المنهج العلمي الدقيق صارت موضة قديمة من كثرة ما تم ترديدها من قبل المستشرقين، وصبيانهم من أبناء جلدتنا. وبالتأكيد فهي لم تعد تنطلي إلا على بعض العوام الذين لا يملكون ثقافةً تؤهلهم لفهم الضوابط العامة للأحداث .

ونحن لا ننكر وجود آيات قرآنية كثيرة تدعو إلى القتل ، لكن السؤال هو : ما نوعية القتل الذي تدعو إليه الآيات ؟ ، وما هو المسار التاريخي لها ؟ ، وما هي الضوابط العامة التي تحدد هذه العملية ؟. فالقتل نوعان: قتلٌ محمود، وهو الذي يستهدف المستحقين للقتل ، وهذا الهدف مسيطر عليه من قبل الكتاب والسنة الصحيحة ، وقتلٌ مذموم ، وهو الذي يستهدف معصومي الدم .

والفرق بين القرآن الكريم من جهة ، والإنجيل والتوراة من جهة أخرى ، هو أن آيات القرآن الكريم لها أسباب نزول محدَّدة، ووقائع تاريخية معيَّنة. ويجب أن تُفهَم الآيات من خلالها، أما الإنجيل والتوراة فلا يوجد فيهما أسباب نزول تحدد سبب وجود هذه الآيات ، كما أن الوقائع التاريخية فيهما مشوَّشة إلى أبعد حد ومتضاربة. لذا فالآيات التي تدعو إلى القتل في الإنجيل والتوراة متضاربة وغير منضبطة، مما يجعل القتل بحد ذاته هدفاً إقصائياً للآخر قائماً على الاستعلاء في الأرض بغير الحق ، والاستكبارِ اعتماداً على غطرسة القوة المادية الواهمة ، وإبادةً جماعية تتجلى في أكثر أشكالها عنفاً وترويعاً للأبرياء والنساء والأطفال، وتطهيراً عِرقياً عنيفاً [للتوسع في دراسة مفهوم العنف العبثي، والقتلِ الفوضوي،والإرهاب المذموم في الإنجيل والتوراة، راجع كتابَيْنا " صورة اليهود في القرآن والسنة والأناجيل " ، و" التناقض في التوراة والأناجيل " ].

أما القتل في القرآن الكريم فمنضبِط تماماً بالنصوص الشرعية الثابتة، ولا مجال للخطأ في النص أبداً ، ولكن الخطأ قد يظهر في التطبيق البشري لهذه الآيات القرآنية ، وهذه ليست مشكلة القرآن الكريم، وإنما مشكلة الأفراد الذين أساؤوا فهم بعض الآيات، وأوَّلوها لخدمة مصالحهم، وانتزاعِ الشرعية الوهمية لأفعالهم الطائشة .

وليكن معلوماً أن الإسلام حُجَّة على الناس، والناس ليسوا حجةً على الإسلام. فلو رأيتَ إمام مسجد ذا سلوك سيء، فهذه مشكلته الشخصية، وليست مشكلة الإسلام . إذ إن النَّص معصوم، والذين يُطبِّقونه غير معصومين ، ولا يمكن لغير المعصوم أن يتفوق على المعصوم . لذلك إن رأيتَ من يقومون بتفجيرات عبثية هنا أو هناك ، ويقومون بقتل معصومي الدم ، فاعلم أنهم مخالِفون للقرآن الكريم ، حتى لو رأيتهم يتلون بعض الآيات التي توهَّموا أنها تدعو إلى ما يدعون إليه . فليس كلُّ من هبَّ ودبَّ صار قادراً على تفسير القرآن الكريم ، وليس كل من يرتدي ثوباً أو يطلق لحيته أو يُصلِّي في الصف الأول صار مجتهداً قادراً على الاستنباط من كتاب الله تعالى . فالتفسير بحاجة إلى عالِم متمكن في كثير من العلوم ، ومن أهمها اللغة العربية، حتى يقدر على وضع الآيات القرآنية في موضعها اللائق . وقد قال الله تعالى: (( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )) [ النِّساء : 83] .

إذاً ، الاستنباط ليس أمراً عابراً متاحاً للجميع ، بل يختص به المؤهَّلون علمياً ، فيقومون به وفق قواعد منهجية معتمدة ، وضوابط فكرية واضحة المعالم . أمَّا أن يظن كل واحد منا أنه صار الإمام الشافعي لأنه يحفظ بعض النصوص ، فهذا غير مقبول البتة . فالإنسان الطاهر الذي يخشى الله تعالى لا يتجرأ على الخوض في تفسير كلام الله تعالى دون علم راسخ ، فالمسألة لا تحتمل أن يدليَ كل واحد برأيه مجرَّداً من التأصيل الشرعي المعتمَد ، فالدِّين لا يؤخذ بالرأي والخيالات والأهواء ، وإنما يؤخذ من النصوص الثابتة وفق فهم العلماء الأثبات المشهود لهم بالعلم والورع . فهذا الدِّين منقول بشكل متواتر من طبقة لا طبقة ، لا يمكن أن يطرأ عليها الكذب. ومن هنا تظل المسألة مسألة تأويل الآيات القرآنية وتفسيرها ، إذ إن النص القرآني معصوم ، أمَّا فهمنا للنص فغير معصوم .

وقد قامت جهاتٌ مغرِضة بمحاولات حثيثة لتشكيك المسلمين بكتابهم المحفوظ عبر ترويج خرافة أن القرآن يدعو إلى القتل والإرهاب بعد أن فصلوا الآياتِ عن سياقها التاريخي ، وضوابطِها الشرعية ، وهذه الأفكار المنحرفة غير مؤسَّسة على منهجية علمية معتمَدة ، إذ إن الغالبية الساحقة من المستشرقين ضعاف في اللغة العربية ، ولا يملكون أهلية الاستنباط والاجتهاد والتحليل . فهم لا يقرأون القرآنَ بلغته العربية ، بل يقرأون ترجماته باللغات الأخرى ، ويبنون على أوهامهم الذهنية المسبقة الصورةَ التي يريدون أن يُسقطوها على العقيدة الإسلامية وواقع الإسلام.

وقد استغلوا بعض التصرفات المتطرفة التي تورط بها مسلمون ليصبغوا الإسلامَ بالإرهاب ، ومن ثم انتقلوا إلى الطعن في القرآن الكريم لعلمهم أنه الكتاب الوحيد المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذه الميزة لا تتوفر لأي كتاب آخر على سطح كوكب الأرض .

والذين يسعون لترويج أن القرآن يدعو إلى القتل العبثي والإرهاب ينقسمون إلى قسمين : علماء ظهرت لهم حقيقة القرآن الناصعة لكنهم أعرضوا، واتخذوا آياتِ الله وراءهم ظِهرياً، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم أنه الحق ، وجهالٌ ليس لديهم عِلْمٌ بالموضوع ، لكنهم يرددون ما يسمعونه من الآخرين دون التثبت بأنفسهم ، وهم أصلاً غير قادرين على التثبت بأنفسهم لأنهم يفتقدون إلى أدوات الباحث المتمكن المنصف . وفي كلا الحالتين علينا أن نعرض الإسلامَ عرضاً يفنِّد كل شبهات الخصوم ، ويزيل ما علق في أذهان البعض من وساوس وخيالات ، فالقلوب ضعيفة ، والشُّبَه خطَّافة. فمسألة الطعن في القرآن الكريم قديمة جداً ، وكل واحد ينسخ أفكارَ من سبقه ظناً منه أن يحقق فتوحات عظيمة في مجال العلم والإبداع والتحليل ! . لكن العالِم العامل بعلمه لا يرى بواسطة أعين الناس ، بل عليه أن يرى بواسطة عينيه ليكون الحُكْمُ منصفاً وعادلاً ، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره ، كما أن الناس أعداء ما يجهلون . فبعض الغربيين الذين يقرأون التوراة والإنجيل( العهد القديم والعهد الجديد)، ويعتنقون كل ما فيهما طوال هذه المدة الزمنية الطويلة قد تشرَّبوا العقائدَ الباطلة مثل عقائد التثليث والصليب والإبادة الجماعية وزنا الأنبياء وزنا المحارم ... إلخ . فهؤلاء يستيقظون على هذه العقائد وينامون عليها طوال هذه المدة الزمنية الطويلة ، وحولهم الكثيرون ممن يغذونها . وهؤلاء عندما يقول لهم القرآن إن الله واحد أحد والمسيح عبدُ الله ورسوله وليس إلهاً ولم يُصْلَبْ ، فسوف يستغربون هذا الكلام ، ويعرضون عنه ظناً منهم أنه أوهام ، وكما قال الشاعر :

قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمس مِن رَمَدٍ

ويُنْكِرُ الفمُ طَعْمَ الماء مِن سَقَـــمِ

ولتجاوز هذه الإشكالية ينبغي تأصيل منهجية عمل واضحة المعالم لشرح عقائد الإسلام بالأسلوب الطيب الواضح ، وتفنيد شبهاتِ الخصوم ، ضمن منهجية علمية شرعية تعتمد على النَّقل والعقل. وهذه مهمة ليست سهلة البتة لأنها تهدف إلى انتشال غريق ظل يغرق طوال حياته، ويعشق غرقَه ، ويعتقد أن غرقه هو النجاة التي لا محيص عنها . وبالتالي فلا بد من منهجية شاملة ومتكاملة ودقيقة لتوضيح عقائد الإسلام في ظل هذه الهجمة الشعواء المنظَّمة عليه ، لأنه الوحيد القادر على إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وهذه النقطة الجوهرية تُشكِّل خطراً على الطواغيت الذين ألَّهوا أنفسهم ، وحقَّقوا مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية على حساب استغلال الإنسان وحقنه بالخرافات . وعِلْيةُ القوم هؤلاء سيخافون من فقدان مناصبهم وامتيازاتهم الدنيوية لذلك سيحاربون الشمسَ بكل ما فيه عروقهم من خفافيش ، ولكن الله غالبٌ على أمره شاء من شاء ، وأبى من أبى . وصدق الله إذ يقول (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبيِلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )) [ الأنقال : 36 ] .

إن احترام النفس الإنسانية مقدَّس في الشريعة الإسلامية، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ، فقد قال الله تعالى : (( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )) [ البقرة : 30] . وعليه فقد تكفَّل الإسلام بالدفاع عن المنظور الإنساني العالمي ، وحمى هذا الكيان من كل ما قد يمس به من سوء ، لذا فمن مقاصد الشريعة الرئيسية حفظ النَّفْس ، لأن الإنسان إذا انتهى فلن يقوم أحدٌ بتحقيق مفهوم الخلافة الإلهية في الأرض .

وهذا يعكس أهمية الإنسان بوصفه الكائن المكرَّم عند الله تعالى ، وبالتالي فأي مساس به يُعتبَر عملاً مرفوضاً ومذموماً في الشريعة . قال الله تعالى : (( مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعَاً ))[ المائدة : 32] . وهذه الآية توضح مكانة النَّفْسِ البشرية واحترامِها بشكل عام دون تخصيصها بمسلم أو بكافر ، والعِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . كما أن النَّفْس الإنسانية داخلة في ذمة الله وحفظه ، إذ إنه سبحانه حرَّم قتلَها دون وجه ، وهذا التحريم يهدف إلى منح هذه اللطيفة الرحمانية وهي النَّفْس حرية الانطلاق والإبداع وعمارة الأرض دون ضغوطات خارجية، أو تهديدات من أي طرف تعيق النمو الوجداني والواقعي لهذا الكيان الإنساني النبيل ، فقال تعالى : (( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ))[الأنعام: 151] .

إذاً ، فإن الحياة الشمولية للفرد إنما تسير في ظل حمايةٍ إلهية واضحة في النصوص المقدَّسة ، وهذا يؤدي إلى أن يسير في طريقه بكل أمان عالماً بأنه محميٌّ ، فالخوف إذا سيطر على الفرد أدى إلى سقوطه في فخ الشلل المعنوي ، فلا يعود قادراً على الإبداع والتفكير وعمارة الأرض . ومن الأهمية بمكان أن يحصل الإنسان على شرعية وجوده معتمداً على احترام الآخرين له ولحياته وكل ما يتعلق به . لذلك جاء الإرشاد الإلهي للإنسان بأن يكف عن ممارسة حماقاته ، خصوصاً عمليات القتل غير المشروع التي كانت تُمارَس من قبل أهل الجاهلية ، والمتمثلة في وأد البنات . وهنا تدخل الله تعالى ليضع الأمور في نصابها الصحيح لكي يتم تعديل مسار الإنسان الذي استمرأ القتلَ العبثي المنهجي،فقال تعالى: (( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ )) [ الأنعام : 140] . وقد نعى الله تعالى على أولئك الذين يمارسون هذا القتل السفيه العبثي ، فهل يُعْقَل أن يأمر القرآن الكريم الذي هو كلامُ اللهِ بالقتل العبثي الذي ذمَّه في أكثر من موضع ؟! .

ويقودنا الحديث إلى مسألة رحمة الله بعباده ، وكل ما سوى الله هو عبدٌ لله ، فالله أرحم بالطفل من أُمِّه ، وأرحم بالإنسان من نفسه . إذ إن الإنسان استمرأ القتلَ الفوضوي حتى بحق نفسه، وكأن هذا المخلوق يسير ضد مصلحته الشخصية ، وضد مسار شرعية وجوده . فقال الله تعالى : (( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) [ النِّساء : 29] . فالذي اتخذ القتلَ وسيلةً للابتزاز والترويع هو الإنسان بسبب سلوكه الطائش ، وعدوانيةِ أنظمة تواجده في هذا العالَم المسخَّر له ، لكن الأنانيةَ المعرفية تظل حجر عثرة في طريقه ، لا سيما أن طمعه وعشقه للسيطرة على كل شيء أدَّى به إلى الاستمتاع بالقتل لكي يزيل كل الذين يهدِّدون شرعيةَ وجوده_ حسب ظنه_ من طريقه . فالإنسان هو الذي يتحمل مسؤولية أفعاله ، وتبعات القتل العبثي الذي يقوم به هنا وهناك ، وهذه المشكلة ليست مشكلةَ القرآن لأنه حدَّد الضوابط الشرعية للتعامل مع الذات الإنسانية ، وحمى الوجودَ الإنساني ، وأمر بعدم الإساءة إلى هذا الكيان ، ورتَّب على كل إساءة خطيئةً كبرى لكي يرتدع من يرتدع ، أما من أعرض عن هذا المنهج فهو الحامل لوِزْر هذه الخطيئة أمام الله ، وأمام الناس. وعلى الناس أن تفصل بين السلوك البشري غير المعصوم المنعكس عن شخصية صاحبه،وبين النص القرآني المعصوم الذي لا يتحمل مسؤوليةَ سوء تطبيقه من قبل الأفراد غير المؤهَّلين لتطبيقه .

والإشكالية الحقيقية التي يكرسها البعضُ بصورة مغرضة هي تعمد اتخاذ السلوك السيئ لبعض الأفراد حجةً على القرآن الكريم ، ومن شأن هذا الخلط غير المنطقي أن نطبِّق تصرفات غير المعصوم على المعصوم ، فتختلط الفهوم القاصرة في الأذهان ، مما يؤدي إلى فوضى في منهجية التعامل مع الدِّين الإسلامي، ووصفه بأوصاف بعض الذين يعتنقونه، ولا يحسنون فهمه أو عرضه. وللأسف فهذه الحفنة المحصورة تقوم بنقله إلى منحى آخر بفضل سوء فهمهم، وفوضى تأويلاتهم، وتداخل مصالحهم الذاتية وأهوائهم المتضاربة التي يحاولون فرضها على مسار النص ، ووضعية سياقه المعرفي التاريخي. وقد يكونون مخلصين وأصحاب عبادة متواصلة لكن الوجهة التي اختاروها خاطئة ، وهم لا يسعون إلى طلب العلم والنصيحة ظناً منهم أنهم على الحق المطْلَق، وغيرهم على الباطل المطْلَق . أو أنهم العلماء الذين لم يأتِ مثلهم ، أما الآخرون فمجموعة من الجهال وعلماء السلاطين . وهم بذلك يشذون عن الأمة، ويتحملون كامل المسؤولية أمام الله تعالى ، ولن تنفعهم نيتهم الصالحة على فرض التسليم بصلاحها، لأن النية الصالحة لا تصلح العملَ الفاسد .

وعدم امتلاكهم لأدوات منهجية الاجتهاد والاستنباط جعل منهم خوارج أو قريبين من الفكر الخارجي ، وقد ورد التحذير من هؤلاء ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم )) [رواه البخاري ( 3/ 1321 )] .

وقد يظن البعض أن القرآن الكريم وضَّح أهميةَ المسلم فحسب، وحمى وجودَه الشرعي من كل سوء ، أما الكافر فهو حلال الدم في كل الأحوال . وهذه النظرة قاصرة تماماً ، وتخلو من المنطق الفكري ، والبحثِ الدقيق المنصِف . فالقرآن كتاب الله ذو النزعة العالمية الشمولية، فهو لم يأت لفئة دون أخرى، بل جاء للإنس والجن ، مسلمهم وكافرهم. فقد أوجد حلولاً للبشرية جمعاء ، ولم ينصف المسلمين على حساب الكافرين أو العكس ، بل أنصف الإنسان كإنسان ، فمدح المسلمَ ، وذمَّ الكافرَ ، مع منح حرية الاختيار للإنسان كي يمشيَ في الطريق الذي يناسبه ، طريقِ الإيمان ومن خلفه رضا الله والجنَّة،وطريق الكفر ومن خلفه غضب الله والنَّار، دون إكراه أو قمع أو إجبار تحت أي نوع من التهديد . والدليل العملي الملموس وجود أهل الكتاب الذين يعيشون في العالم العربي والإسلامي حتى اليوم الحالي . فلو كان الإسلام يدعو لقتل المخالِف في العقيدة فلماذا لم نقم بقتلهم وجعل العالَم الإسلامي من فئة واحدة فقط وهي المسلمون ؟ ، مع أنه كان بمقدرونا قتلهم في زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وسيادتها على العالَم روحياً ومادياً، وما كان أحد يستطيع أن يردعنا في تلك المرحلة التي كنَّا فيها الأمة الأولى عالمياً في كل المجالات ، ولا يقدر أحد أن يناقشنا فيما نفعل في تلك المرحلة . ومع هذا فالإسلام لم يستغل ضعفَ الآخرين ليبتزهم ويجهز عليهم ويبنيَ مجده على جماجمهم ، فقد قال تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))[ الممتحنَة : 8و9]. فهاتان الآيتان الشريفتان دستورٌ متكامل قبل أن يخترعوا ما يسمى بالأمم المتحدة . فينبغي التمييز بين صنفين : الكافر المحارِب ، وهذا مهدور الدم أينما وُجِد في هذا العالَم ، والكافر غير المحارِب ، وهذ الصنف نَبَرُّه ونقسط إليه ونحسن إليه ونقيم معه علاقات طبيعية جداً بحكم الأخوة البشرية . وهذه هي العدالة المطْلَقة في القرآن في هذا المجال .

وهذه المقالة العلمية تلقي الضوءَ على واحدة من المسائل الهامة التي يتخذها البعض مطعناً في القرآن الكريم ، وقد حاولتُ قدر المستطاع وضع الآياتِ القرآنية الشريفة في سياقها التاريخي الدقيق ، وتوضيح معناها وضوابطها وشروط تطبيقها لإزالة أي لبس قد يعلق في الأذهان ، ومحو أي فكرة سيئة علقت في البال جراء هذه الحملة الشعواء من كل الجهات .

وقد حدَّدتُ الآيات التي تتحدث عن موضوع القتل ومشتقاته، وقمتُ بالإسهام بتفسيرها اعتماداً على أمهات الكتب المعتمدة في التفسير وغيره ، مع إسهاماتي الشخصية البسيطة في الموضوع ، وما توصلتُ إليه واخترتُه .

.........

(( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ )) [ البقرة : 54 ]

هذه الآية الشريفة وردت على لسان سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم مخاطباً بني إسرائيل ، إذ إنهم ارتدوا فعبدوا العجلَ ، فكان الأمر الإلهي بأن يقوموا بقتل بعضهم البعض . وقد تنشأ إشكالية في أذهان البعض كيف يأمر الله بأن يقتلوا بعضهم بعضاً ؟ ، وهل الله تعالى يدعو إلى قتل الناس والإبادة الجماعية ؟ ، حاشى وكلا. إن المرتد خائن خيانة عظمى ، وبالتالي يجب أن يتم تطهير المجتمع الصالح منه حتى يستقيم حال البقية ، فلو كان أحد أعضاء الإنسان مصاباً بمرض سوف يسري إلى باقي الجسم ، فإنه يتم قطعه لكي تستمر حياة الإنسان ، فهل الطبيب الذي قام بقطعه مجرماً لأنه تخلَّص من عضو إنسان ؟ ، بالطبع لا . وفي بعض الحالات ومنها حالة الردة يجب أن يُقتَل المرتد لئلا تتسرب ردته إلى جسد المجتمع فيضيع المجتمع بأسره، لذلك أمر الله تعالى بأن يقتلوا بعضهم البعض، وبالتالي فقد كانت توبةً للجميع للمقتول والقاتل ، لأن هذا أمرٌ إلهي تطهيري للمجتمع من العناصر الفاسدة كي يحافظ مجتمع بني إسرائيل على تماسكه في تلك المرحلة، ويترسخ الإيمان أكثر فأكثر بعد زوال الشكوك المتمثلة في الانحرافات العَقدية البشرية . كما أن هذا الفعل اختبار إلهي عظيم لأناس ارتكبوا أسوأ خطيئة على الإطلاق وهي الكفر ، لذا جاءت عملية التطهير شديدة ، مثل الذَّهب الذي لا نحصل عليه إلا بالنار واللهب .

قال الطبري في تفسيره ( 1/ 285) : (( ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابةِ إلى الله من ردتهم بالتوبة إليه والتسليم لطاعته فيما أمرهم به وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم )) اهـ . وروى الطبري بإسناده ( 1/ 287 ) عن الزهري وقتادة : (( قاموا صفين فقتل بعضهم بعضاً حتى قيل لهم كُفوا . وقال قتادة كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي )) اهـ .

(( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ))[ البقرة : 190]

أما عن سبب نزول هذه الآية فقد روى السيوطي بإسناده في لباب النقول ( 1/ 36) عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال : (( نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صُد عن البيت ، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفيَ قريش بذلك ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله ذلك )) اهـ .

وقال الطبري ( 2/ 189 ) : (( اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك ، وقالوا أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين والكف عمن كف عنهم ثم نُسخت ببراءة )) اهـ .

وروى الطبري بإسناده ( 2/ 189 ) : [ قال ابن زيد في قوله (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )) . قال: قد نُسخ هذا، وقرأ قول الله: (( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ))[ التوبة: 36].وهذه الناسخة وقرأ : (( بَرَآءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ )) [ التَّوبة: 1] حتى بلغ (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ... )) [ التَّوبة: 5] . وقال آخرون بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار لم ينسخ وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية ] اهـ .

وفي كتاب الأم للإمام الشافعي ( 4/ 160و161 ) : [ فقال عز وجل : (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ))[ البقرة :190] ثم (( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ )) [ البقرة : 191] ... قال الشافعي رحمه الله تعالى : يُقال : نزل هذا في أهل مكة وهم كانوا أشد العدو على المسلمين، وفرض عليهم في قتالهم ما ذكر الله عز وجل ثم يقال نسخ هذا كله والنهي عن القتال حتى يقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول الله عز وجل : (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ )) الآية [ البقرة: 193] ، ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد وهي موضوعة في موضعها ] اهـ .

من الواضح من سياق الآية الشريفة (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )) [ البقرة : 190] أن القتال في هذه الآية مقيَّد ضمن ثلاث نقاط مركزية ومحورية ، الأولى : أن القتال يجب أن يكون في سبيل الله تعالى، وليس في سبيل مصالحنا وأهدافنا الذاتية الآنية ، وليس من أجل استعباد الآخرين وسحقهم وابتزازهم وسرقتهم ، والثانية : أن القتال مُوَجَّه للذين يقاتلونا فقط ، ونحن لا نبدأهم القتالَ ، بل نكون في هذه الحالة رد فعلٍ وليس فعلاً ابتدائياً ، والثالثة : عدم الاعتداء والتمادي والتجاوز ، فالهدف هو رد العدوان فقط .

ونحن لا نعتقد بأن الآية منسوخة ، لأنها آية محكمة وقاعدة عامة تأصيلية شاملة لا يُمكِن أن تُنسَخ مطلقاً ، أما الذين يعتقدون بنسخها معتمدين على آيات أخرى في القتال ، فكل حالة لها وضعها الخاص بها ، وكل الآيات تُجمَع معاً دون تعارض يقتضي اعتقادَ النسخ . إذ إن كل آية تتحدث عن حالة خاصة بعينها لا تتعدى إلى حالة أخرى . ومن غير المنطقي أن نخلط بين أحكام الآيات ، لأن كل حُكْم قادم لعلاج وضعية معينة ، واستئصالِ كل القيم السالبية فيها عبر الوسيلة الأكثر نجاعة في هذه النقطة المحددة والمسيطر عليها من قبل الحكم الرَّباني الشرعي ، أما باقي الآيات القرآنية فسيأتي الحديث عنها مفصلاً إن شاء الله تعالى. ولا يخفى أن القاعدة الشرعية هي تقديم الجمع والتوفيق بين النصوص الشرعية قبل الذهاب إلى النسخ أو الترجيح.

(( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ))

[ البقرة : 191]

قال الطبري ( 2/ 191 ) : [ يعني تعالى ذكره واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مقاتلهم، وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله (( حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ )) ومعنى الثقفة بالأمر الحذق به والبصر، يقال إنه لثقف إذا كان جيد الحذر في القتال ، بصيراً بمواقع القتل. وأما التثقيف هذا وهو التقويم فمعنى (( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ )) اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم . وأما قوله (( وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ )) فإنه يعني بذلك المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة ، فقال لهم تعالى ذكره : أَخْرِجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم _وقد أخرجوكم من دياركم_ من مساكنكم وديارهم كما أخرجوكم منها...يعني تعالى ذكره بقوله (( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ))، والشرك بالله أشد من القتل . وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار فتأويل الكلام وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكاً عليه محقاً فيه ] اهـ .

وقال ابن كثير ( 1/ 227 ) : [ ولهذا قال في هذه الآية (( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ )) ، أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً . وقوله (( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ))، أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم ] اهـ .

من الواضح أن الآية الشريفة (( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )) تتحدث عن المشركين الذين عذَّبوا المسلمين ، وقد أمر بالله تعالى بقتلهم لأنهم كفار محارِبون لم يتخلصوا من حرب الإسلام والمسلمين ، لذلك فهؤلاء فقدوا عصمةَ الدم لأنهم لم يلتزموا بالقواعد التي تحفظ لهم دماءهم ، فجاء الأمر صريحاً بقتلهم ، وأيضاً القيام بإخراجهم من منازل المسلمين في مكة التي وقعت تحت احتلال المشركين ، لذلك فقتل المشركين هو ضمن سياسة المقاومة المشروعة للاحتلال ، والمكفولة في كل الدساتير السماوية والوضعية . وهذه الحالة موجودة في زماننا المعاصر ، وهي احتلال فلسطين وبعض بلاد المسلمين ، والواجب وفق هذه الآية قتل الأعداء ، وإخراج المحتلين من الأماكن التي طردونا منها ، وهذا حق شرعي مكفول لا يملك أحد الاعتراض عليه .

وهؤلاء المشركون الذين أهدر اللهُ تعالى دماءهم لأنهم أعداء محارِبون وليسوا مدنيين أبرياء . وقد تسببوا بإحداث فتنة كبرى وهي الابتلاء الشديد ( ما وقع للمسلمين بمكة من تعذيب الكفار لهم وإخراجهم ) ، وهذه الفتنة التي تستهدف إخراج المسلمين من دينهم أشد من القتل ، لأن المرتد عن الإسلام هو ميت روحياً ، لذلك فالذي يُقتَل وهو ثابتٌ على دينه أفضل من الذي يعيش مرتداً . وبما أن المشركين يقومون بفتنة الناس عن دينهم، ومحاربةِ الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل، كان لزاماً على المسلمين أن يتخذوا موقفاً للحفاظ على كيانهم المعنوي والمادي ، لذلك جاء أمر قتل المشركين وهم الأعداء المحارِبون الذين لم يلتزموا بالقواعد المرعية في طرق تعامل الكفار مع المسلمين حتى يستحق الكفار الحياةَ الكريمة في ظل دولة الإسلام دون مساس بهم ، وهكذا أُلغيت عصمة دمائهم جزاءً بما كانوا يعملون من أعمال حربية معادية للإسلام والمسلمين ترفض قيمةَ التسامح الإسلامي ، وترفض العيش في كنف الدول الإسلامية ، وبالتالي فهؤلاء يُعتبَرون خارجين على الحاكم الشرعي العادل ، وهم بذلك يتلبسون بذنب الخيانة العظمى التي جزاؤها القتل . وهذا أصلاً ما تفعله دول كثيرة التي تحكم على بعض أفرادها بالخيانة العظمى التي جزاؤها الموت . فلماذا عندما يقوم الإسلام بحماية نظامه المتكامل من الأخطار يُعتبَر فعله إرهاباً وضد حقوق الإنسان ، أم عندما يقوم العالَم الذي يزعم أنه متحضر بحماية أنظمته يُعتبَر ذلك مدنيةً وديمقراطية وحريةً ؟! .

وانظر إلى هذا الدستور النبوي الشريف في فقه التعامل الحربي المنضبط بالأصول الشرعية بلا إفراط أو تفريط ، فعن بُرَيْدة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال : (( اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تُمَثِّلوا ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيتَ عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . وإذا حاصرتَ أهلَ حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله ، وإذا حاصرتَ أهلَ حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أَنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا )) [رواه مسلم ( 3/ 1357 ) برقم ( 1731 )] .

وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 37 ) : (( وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول ، وتحريم إذا لم يقاتلوا ، وكراهة المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق باتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم ، وما يحل لهم وما يحرم عليهم ، وما يكره وما يُستحب )) اهـ .

وتابع الإمام النووي ( 12/ 38 ) : (( معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك، وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو، فتجرى عليهم أحكام الإسلام ، ولا حق لهم في الغنيمة والفئ وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها )) اهـ .

وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن امرأة وُجِدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولةً فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان [متفق عليه. البخاري ( 3/ 1098 ) برقم ( 2851 )، ومسلم ( 3/ 1364 )برقم ( 1744)] .

ولو كان الإسلام دينَ إبادةٍ لما منع قتل النساء والصبيان ، بل قام بالتطهير العِرقي كما في التوراة والإنجيل، ومثلما فعل الكاثوليك بحق مسلمي الأندلس، وكما فعل الأرثوذكس بحق مسلمي البوسنة والشيشان ، وكما فعل البروتستنت بحق مسلمي العراق ، وكما فعل اليهود بحق مسلمي فلسطين . لكن المنهج الإسلامي واضحٌ في عدم استهداف النساء والصبيان لأنهم ليسوا أهلَ حرب وقتال ، أما إن دخلوا في مصطلح " المحارِب " فإنهم يُقتَلون فوراً .

وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشَه قال : (( اخرجوا بسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع )) [رواه أحمد ( 1/ 300 ) برقم ( 2728 ) وهو حسنٌ لغيره ، وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 316و317 ) : (( رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال فيه : (( ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً )) وفي رجال البزار إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، وثَّقه أحمد ، وضعفه الجمهور ، وبقية رجال البزار رجال الصحيح )) اهـ . قلتُ : إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة . وثَّقه أحمد ، وقال عنه يحيى بن معين : (( صالح )) [ انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 83)] ، وقال ابن عدي : (( هو صالح في باب الرواية ))[ انظر تهذيب الكمال ( 2/ 43)]، وصحَّح حديثه الحاكم في المستدرك ( 2/ 116 ) برقم ( 2510)، وصحَّح حديثه ابنُ خزيمة في صحيحه ( 1/ 336) برقم ( 676) )) اهـ. قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 4/ 103 ) : (( رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تقتلوا النساء ولا أصحاب الصوامع. أحمد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال : اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله، الحديث. وفيه: ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع ، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف. وروى البيهقي من حديث علي نحوه وفيه : ولا تقتلوا وليداً ولا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً، وفي إسناده ضعف وإرسال . ورواه من وجه آخر منقطعاً وفيه : ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً )) اهـ . قلتُ : وفي أضعف الحالات فهو حسنٌ لغيره ] .

وهكذا تتضح الأخلاق الإسلامية في موضوع الحرب . فالمسلمون يقاتلون باسم الله لا باسمهم، وقد ابتعثهم ليُطَبِّقوا تعاليمَه_ سبحانه _ ، وهذا يعكس مسألة سيادة الإسلام على الأرض ، فالكل يجب أن يخضع للإسلام لأنه الحاضن الفاعل لمشاعر الإنسان ، والمتكفِّل بحمايتهم والدفاع عنهم. وهذا عائد إلى كون المسلم يؤمن بمحمد وموسى وعيسى _ عليهم الصلاة والسلام_، وبالقرآن الكريم والإنجيل الأصلي والتوراة الأصلية. وقد أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج كتابية ( نصرانية أو يهودية) ، مع منع زواج الكافر من المسلمة ، وهذه ليست عنصرية أو استعلاء بالباطل، فذلك عائدة إلى أنه سيحترمها لأن يؤمن بموسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام_ ، وبالتالي لن يتجرأ على الاعتداء عليهما أو المساس بهما ، ويؤمن بالإنجيل والتوراة الأصلِيَّيْن ، فلن يقوم مثلاً بشتمهما أو الطعن فيهما . أما الكافر لو تزوج مسلمة فهو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يؤمن بالقرآن الكريم ، وبالتالي سيرفضهما ويتعدى عليهما، وهذه يجعل الحياة مستحيلة وقائمة على الاعتداء على العقيدة، وجرح الطرف الآخر في أعز ما عنده .

ولنتذكر ما قام به الصرب في البوسنة الذين يمثلون الإرهابَ الأرثوذكسي في أبشع صوره ، حيث قاموا بقتل المسلمين، وتهجير من بقي على قيد الحياة، واغتصاب المسلمات، وحرق المساجد، وما فعله الروس في الشيشان، وما فعلته قوى الاستخراب العالمي ( أمريكا ، بريطانيا ، فرنسا ، إيطاليا ، إسبانيا ، البرتغال ، إلخ ) عبر انتهاج نفس الأساليب القذرة ، في حين أن دور عبادة اليهود والنصارى كانت تحت حمايتنا ، ولم نمسها بسوء . وحينما فتحنا بيت المقدس والأندلسَ والقسطنطينية وباقي البلاد ، لم نلمس امرأة واحدة، ولم نقم بالاغتصاب ، أو القتل ، أو الإبادة الجماعية ، أو حرق دور العبادة، مع أن هذا كان بمتناول أيدينا ، ونحن قادرون على فعله بكل سهولة ، ولا يملك أحد إيقافنا في تلك الفترة الزمنية التي كنا فيها الأمة الأولى على الأرض في كل المجالات . ومع هذا لم نقم بفعله لأن الفرق الجوهري بين الفتوحات الإسلامية ، والاستخراب العالمي الذي يُسمى زوراً بالاستعمار، هو أن الفتوحات الإسلامية قادمة لنقل العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، فنحن لم نجبر الآخرين على تقديسنا أو عبادتنا، بل دعونا أنفسنا ودعوناهم لعبادة الله تعالى وحده، ولو كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم نبياً مُزَيَّفاً لدعا الناس إلى عبادته وتقديسه من أجل استغلالهم ، والسيطرةِ عليهم ، وبسط نفوذه ونفوذ عائلته ونفوذ حاشيته على الناس من أجل تدعيم سلطته وسلطانه مثلما يفعل القادة الذين اتخذوا أنفسهم آلهة على جثث شعوبهم ، ولكنه لم يفعل ذلك لأنه رسول من عند الله تعالى ينفِّذ الأوامرَ لا أكثر ولا أقل . كما أن الإبادة والإرهاب والفوضى الجنسية التي تُنتِج الاغتصابَ موجودٌ في نصوص دينية يقدِّسها اليهود والنصارى على السواء ، وهي نصوص التوراة ( العهد القديم ) والإنجيل ( العهد الجديد ) ، وهذه هي فلسفة الإرهابيين من اليهود والصليبيين في كل العصور . كما أن الاستخراب قادم لاستعباد الآخرين ، واستغلال ثرواتهم، وترسيخ عبادة العباد للعباد . وانظر ماذا تركنا في الأندلس من حضارة ومعالم ، وانظر إلى الاستخراب ماذا ترك في بلادنا من تخلف وتبعية . وهذا يعكس الفرق بين الفتوحات الإسلامية الهادفة لتحرير الإنسان ، وإعادته إلى جادة الصواب ، وبين الاستخراب الكافر القادم لإعادة عصور العبودية ، واستغلالِ الإنسان لأخيه الإنسان عبر استخدام الإرهاب بشتى أشكاله، وتسميةِ الجرائم بأسماء عصرية مخادِعة .

(( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ))

[ البقرة : 191]

قال القرطبي في تفسيره ( 2/ 351) : [ للعلماء في هذه الآية قولان أحدهما أنها منسوخة والثاني أنها مُحْكَمَة . قال مجاهد : الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يُقاتِل، وبه قال طاوس. وهو الذي يقتضيه نص الآية وهو الصحيح من القولين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : (( إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة )) [متفق عليه. البخاري ( 3/ 1164 ) برقم ( 3017 )، ومسلم ( 2/ 986 ) برقم ( 1353 )] . وقال قتادة الآية منسوخة بقوله تعالى : (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتموهُمْ )) [ التوبة : 5]. وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: (( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ )) [ النساء : 91] ، ثم نسخ هذا قوله : (( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتموهُمْ ))[ التوبة : 5]، فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم ] اهـ .

إذاً ، يتضح أن الآية محكمة وليست منسوخة ، وأن المذهب الأقوى في تفسيرها هو الاعتماد على أنها ثابتة غير منسوخة . وهي مقيَّدة بشرط أن يبدأ الأعداء القتال في الحرم ، فيكون دور المسلمين في هذه الحالة رد فعلٍ لا أكثر ولا أقل . وهذا واضح تماماً من سياق الآية الشريفة ، ولا يحتاج إلى كثير بحث ، فقوله تعالى : (( فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ )) أبرز القاعدةَ الأساسية في التعامل مع هكذا حالة، فيجب أن يبدأوا بالقتال بأنفسهم ، وبعدها نقوم برد العدوان وقتلهم ، ولا نبدأهم القتل ابتداءً .

وقال الكاساني في بدائع الصنائع ( 7/ 114 ) : (( أما إذا دخل مكابِراً أو مُقاتِلاً يُقتَل لقوله تعالى: (( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ))، ولأنه لما دخل مُقاتِلاً فقد هتك حرمةَ الحرم فيُقتَل تلافياً للهتك زجراً لغيره عن الهتك. وكذلك لو دخل قوم من أهل الحرب للقتال فإنهم يُقتَلون ، ولو انهزموا من المسلمين فلا شيء على المسلمين في قتلهم وأسرهم )) اهـ .

وهدف القتل هو الحماية والردع ، والحفاظ على حرمة الحرم لئلا يصبح ملعباً لكل من تُسَوِّل له نفسه أن يتعدى على هذه البقعة المقدَّسة ، فالذي دخل مُقاتِلاً هتك حرمةَ الحرم ولم يحترمها ، فالواجب قتله لمنع هذا الهتك، وردع كل من يُفكِّر أن يصنع صنيعه . فلو تُرِك الحبل على الغارب، ولم نقم بقتل هاتك حرمة الحرم ، لصار الحرم حلبة مصارعة ، ولعبة من الألعاب ، وهذا يضاد قدسيةَ هذا المكان الشريف .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 7/ 195 ) : (( الجاني في الحرم هاتك لحرمته بخلاف الملتجىء إليه ، وأيضاً لو ترك الحد والقصاص على من فعل ما يوجبه في الحرم لعظم الفساد في الحرم . وظاهر أحاديث الباب المنع مطلقاً ، فرق بين اللاجىء إلى الحرم والمرتكب لما يوجب حداً أو قصاصاً في داخله وبين قتل النفس أو قطع العضو. والآية التي فيها الإذن بمقاتلة من قاتل عند المسجد الحرام لا تدل إلا على جواز المدافعة لمن قاتل حال المقاتلة كما يدل على ذلك التقييد بالشرط )) اهـ .

(( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ))

[ البقرة : 193]

قال الطبري ( 2/ 194 ) : (( حتى لا تكون فتنة يعني حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يُعبَد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان الآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان )) اهـ .

وقال ابن كثير ( 1/ 228 ) : (( فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتالِ المؤمنين ، فكفوا عنهم ، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين )) اهـ .

إن الأمر بالقتال في هذه الآية الشريفة [ البقرة : 193] محدَّد بأن لا تكون فتنةٌ وهي الشِّرك، ويكون الدِّين لله تعالى خالصاً دون شركاء وانحرافات عَقَدية ، وهذا منتهى التسامح والحزم تجاه الذين يحاولون فتنة الناس عن دينهم ، وإعادتهم للكفر والغواية ، وإذا قاموا بالامتناع عن شِركهم، وأفعالهم الحربية ، فيتم الكف عن قتالهم ، ولا نقاتل إلا المعتدين الذين رفضوا إنهاء أفعال الحربية ، وجرائمهم بحق المسلمين بكافة أشكالها .

(( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ))

[ البقرة : 216]

قال الطبري ( 2/ 344 و345 ) : [ فُرِض عليكم القتال ، يعني قتال المشركين ، وهو كُره لكم . واختلف أهل العلم في الذين عنوا بفرض القتال، فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم ... قال آخرون : هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية فيسقط فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم ، وعلى هذا عامة علماء المسلمين، وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك ولقول الله عز وجل : (( فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى ))[النساء: 95] ، فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للمجاهدين وأن لهم وللقاعدين الحسنى ولو كان القاعدون مضيعين فرضاً لكان لهم السوأى لا الحسنى] اهـ .

وهذه الآية الشريفة تدل على أن طبيعة المسلم هي نفسها طبيعة الإنسان،فالمسلم ليس متعطشاً للقتل وسفك الدماء وقتال الناس ، وأكل لحوم البشر كما يتم تصويره من قبل الجهات المغرِضة ، فالقتال مكروهٌ بالنسبة للنفس البشرية ، ومن باب أولى بالنسبة لنفسية المسلم ، لكن الأمر الذي فُرِض عليك يجب أن تحمل مسؤوليته بكل أمانة وإخلاص تحقيقاً للعدل والسعادة على كوكب الأرض ، وتطهيرِه من العناصر السامة المتمثلة في بعض البشر الذين يسعون في الأرض فساداً ، ويريدون تدمير العالَم وإفساده . فالكلب المسعور لا يمكن أن نتعامل معه إلا بإطلاق النار عليه لكي يعم السلام والأمن على سطح البسيطة ، ويسود العدل والإخاء . وبالطبع فبعض البشر أسوأ حالاً من الحيوانات . قال الله تعالى : (( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )) [الفُرقان: 44] .

وقال الشيرازي في المهذَّب ( 2/ 227 ) : [ وهو فرض على الكفاية ، إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل : (( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى )) [ النساء: 95] ، ولو كان فرضاً على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك،ولأنه وعد الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع ] اهـ .

وتظل مسألة القتال ( الجهاد ) في الوضع الطبيعي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، إلا في حالة النفير العام ، حيث يتواجد عدو لا يمكن لفئة من المسلمين أن تدحره ، وعندها تنتقل فرضية الجهاد على شكل دوائر ، فأولاً : يجاهد أهل المنطقة ، فإن لم يقدروا فليجاهد أهل الدولة، فإن لم يقدروا فلتجاهد الدول المحيطة،وهكذا حتى تشمل كل أرجاء العالَم الإسلامي في معركة تحرير هذا الكوكب من إرهاب الكفار.

(( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ))

[ آل عمران : 121]

قال القرطبي ( 4/ 184 ) : (( والجمهور على أنها غزوة أُحُد )) اهـ .

وهذه الآية الشريفة متعلقة بمعركة بين المسلمين والكفار ، أي حرب ضد الكفار المحارِبين المسلَّحين ، فهم ليسوا أبرياء أو مدنيين . فغزوة أُحُد هي كفاح مسلح ضد إرهاب الكفار الذين يريدون استئصال دولة الإسلام مستخدمين كل الوسائل المدنية والعسكرية، وإبادة أتباعها، وبالتالي قام النظام الإسلامي بحماية نفسه من هذه الهجمة ، فكان القتال . وكلمة مقاعد تدل على التثبيت والرسوخ كأنهم قاعدون على كراسي أو مقاعد لا يتزحزحون . وقال الزركشي في البرهان في علوم القرآن (4/ 84) : (( فإن الثبات هو المقصود )) اهـ.

وقال ابن كثير(1/ 401 ) : (( أي تُبَيِّن لهم منازلهم ، وتجعلهم ميمنة وميسرة،وحيث أمرتهم )).

وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 347 ) : (( وقوله: غدوت، أي خرجت أول النهار، والعامل في إِذْ مضمر تقديره واذكر إذ غدوت ، وقوله : تُبوئ المؤمنين ، أي تنزلهم ، وأصله من المآب وهو المرجع ، والمقاعد جمع مقعد والمراد به مكان القعود )) اهـ .

(( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ))

[ آل عمران : 146] .

قد يتوهم البعض من خلال سياق الآية السابقة أن الأنبياء قادمون للقتال العبثي ، واستخدامِ العنف ضد الآخرين دون وجه حق بشكل يخالف حقوق الإنسان ! . وهذه الفِرْية التي يرددها أصحاب التفكير المنقوص ليست مستغربة في ظل سقوط المنهج العلمي المنصِف بالنسبة لبعض المغرِضين في كل زمان ومكان .

فالنَّبي _ أي نَبي _ هو القائد الأعلى لأمته ، وعليه أن يتخذ إجراءات بالدفاع عنها بوسائل عنيفة في بعض الحالات . والعنفُ بمفهومه الفكري ليس مذموماً على الإطلاق ، بل هو واجب التطبيق في حالات خاصة لكي يتعدل مسار الآخرين ، ولئلا تحدث فتنة في المجتمع تأكل اليابسَ والأخضر . فلا بد من العنف في موضعه الصحيح لكي تستمر الحياةُ مستقيمةً خالية من كل المعوِّقات ، ولكي يتسنى للناس العيش بسلام وطمأنينة ، وتترسخ استمرارية العيش بعد تطهير الوضع الإنساني من العناصر الشاذة عن المسار الحضاري للبشرية ، وهو عنف محمودٌ إذا طُبِّق بشروطه الشرعية .

وبالنسبة للآية الشريفة معناها: كَمْ من نَبِيٍّ قاتل معه جموعٌ كثيرة وأتباع مخلِصين ، فما ضعفوا أو استسلموا للمصاعب والآلام التي واجهوها . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 411) : (( قال قتادة والربيع بن أنس : وما ضعفوا بقتل نبيهم ، وما استكانوا ، يقول : فما ارتدوا عن نصرتهم ، ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله )) اهـ .

(( وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ ))

[ آل عمران : 157]

إن هذه الآية دعوة للقتال في سبيل الله تعالى ضمن الضوابط الشرعية ، ولا تتضمن حَضَّاً على الإبادة أو تشجيع قتل الآخرين لأنهم مخالِفون في العقيدة . بل هي قاعدة عامة لوضع السيف في موضعه اللائق الصحيح، وتأصيل قاعدة الجهاد الماضي إلى يوم القيامة ، والمبني وفق الكتاب والسنة الصحيحة .

وقال الطبري ( 4/ 149 ) : (( لا تكونوا أيها المؤمنون في شك من أن الأمور كلها بيد الله وأن إليه الإحياء والإماتة كما شك المنافقون في ذلك ، ولكن جاهدوا في سبيل الله ، وقاتلوا أعداء الله على يقين منكم بأنه لا يُقتَل في حرب، ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمة )) اهـ .

(( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ))

[ آل عمران : 195]

قال القرطبي ( 4/ 319 ): (( أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة ، وأُخرجوا من ديارهم في طاعة الله عز وجل وقاتلوا ، أي وقاتلوا أعدائي ، وقُتِلوا أي في سبيلي )) اهـ .

وقال الطبري ( 4/ 216) : (( فالذين هاجروا قومَهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله والتصديق برسوله ، وأُخرِجوا من ديارهم وهم المهاجرون الذين أَخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة ، وأُوذوا في سبيلي ، يعني وأُوذوا في طاعتهم ربهم ، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين، وذلك هو سبيل الله التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها ، وقُتلوا يعني وقُتلوا في سبيل الله وقاتلوا فيها. لأكفرن عنهم سيئاتهم ، يعني لأمحونها عنهم ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي )) اهـ .

لاحظ الظلمَ الواقع على المسلمين كما وضَّحته هذه الآيةُ ، فهم هاجروا أوطانهم ، وتركوا كل ما يملكون بعد أشد أنواع التنكيل والمعاناة على يد الكفار ، وتم إخراجهم من ديارهم قسراً وظلماً ، وتم إيذاؤهم بكل وحشية ، لذا فمن الطبيعي جداً أن يُقاتِلوا دفاعاً عن وجودهم الإنساني وما يتعلق به ، بل يجب عليهم أن يُقاتِلوا ، وحتى لو قُتِلوا ، فعند الله تعالى الجائزة الكبرى لأنهم قاموا بتنفيذ أوامر الله العدلِ الذي يمقت الظلمَ ، فرد الظلم كان بالسيف الذي وُضِع في موضعه الصحيح النهائي والحاسم .

(( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا بِالآخِرَةِ ))

[ النساء : 74]

قال الطبري ( 5/ 167 ) : (( وهذا حض من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على أحايينهم غالبين كانوا أو مغلوبين )) اهـ .

وفي تفسير الجلالين ( 1/ 113) : (( فليقاتل في سبيل الله لإعلاء دينه الذين يشرون ، يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة )) اهـ .

وهذه قاعدة عامة للجهاد في سبيل الله تعالى ضمن الضوابط ، وضمن التعريف الشرعي الدقيق لمفهوم الجهاد المحدَّد في نصوص الكتاب والسنة الصحيحة . وبالتأكيد فهي ليست دعوةً للقتل الفوضوي ، أو الإبادة الجماعية ، أو ممارسة ترويع الأبرياء وإرهابهم . بل دعوة صريحة لتوضيح شرعية استخدام السيف في الحالات المختصة بذلك الاستخدام .

(( فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ))

[ النساء : 89]

قال القرطبي ( 5/ 308 ) : (( إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم عام في الأماكن من حِل وحَرَمٍ )) اهـ .

وقال الصابوني في صفوة التفاسير ( 2/ 116) : (( أي إن أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله فخذوهم أيها المؤمنون واقتلوهم حيث وجدتموهم في حلٍّ أو حرم )) اهـ .

إن هذه الآية تتحدث عن المنافقين من خلال سياق الآيات التي تسبقها [ النِّساء : 88و89]، وقد رُفِع عنهم الأمان ، وتم إهدار دمائهم ، لأنهم طابور خامس ينخر في جسد الأمة الداخلي ، فكان لزاماً على المسلمين أن يتصدوا لهؤلاء الكفار المحارِبين الذين يمارسون لعبتهم السرية في نخر أساسات الدولة الإسلامية ، وبالتالي فهم ليسوا أبرياء أو مدنيين ، بل هم أشد إرهاباً من الكافر الحامل للسلاح . وقتلهم مُوَجَّه نحو أعداء يمارسون هدماً حقيقياً في أساسات الدولة ، لذلك فهم محكومون بتهمة الخيانة العظمى التي عقوبتها القتل . وهذه هي العدالة التامة .

(( فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ))

[ النساء : 91]

قال ابن كثير ( 1/ 535 ) : (( فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السَّلمَ المهادنةَ والصلحَ ، ويكفوا أيديهم أي عن القتال ، فخذوهم أُسراء ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي أين لقيتموهم ، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً أي بيناً واضحاً )) اهـ .

نلاحظ من سياق الآية الشريفة أن أهلَ الكفر هم المعتدون عبر قيامهم بإجراءات حربية تستهدف استئصالَ الوجود الإسلامي ، وقد حدَّد الله تعالى مسألة الأخذ والقتل في حالة عدم اعتزالهم القتال ، ورفض الصلح ، ومواصلتهم للقتال. ومع أُناس مثل هؤلاء هل يُفترَض بالمسلمين أن يقدموا لهم باقات الورود شكراً على إرهابهم وجرائمهم ؟! . بالطبع لا ، فتلك حماقة وتخاذل . فيجب أخذهم وقتلهم أينما وُجِدوا لأن الكافر المحارِب يُقتَل أينما وُجِد في هذا العالَم تحقيقاً لمفهوم جدوى الحياة، واستمرارية التواجد البشري دون منغِّصات ، فالذي يرفض أن يكون إنساناً ، ويصر أن يكون وحشاً مفترِساً ضد الأبرياء يجب أن يُقتَل لكي يتواصل الآخرون مع إنسانيتهم دون عوائق ، وهذا ما فعلناه ونفعله ، فساحة المعركة ضد الأعداء هي كل الكون . فنحن نسعى إلى عالَم طاهر نقي من الأوبئة الفكرية والعقائد الإرهابية التي يعتنقها الذين يقتلون الإنسانَ ، ويتشدقون بحقوق الإنسان . فلن يُسمَح لأي منحرف أن يلوِّث هذه الأرض بحجة أنه حر في اختياره ، فلو كان الأمر كذلك لكان تاجر المخدَّرات حراً في اختياره ، ولكان اللص حراً في تنفيذ سرقاته ، وهذا لا يقول به أحدٌ عاقل .

(( إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا ... ))

[ المائدة : 33]

لقد اتخذ البعض هذه الآية الشريفة لِبَث ما يعتقده إجراء قاسياً ومخالفاً لحقوق الإنسان ، فالقتل أو الصلب أو قطع الأطراف من خلاف أو النَّفي للذين يحارِبون اللهَ تعالى ورسولَه صلى الله عليه وسلم من وجهة نظره القاصرة تُعتبَر اعتداءً على حقوق الإنسان ، وهذا مردود من أوجه : الأول_ أن هذه العقوبات عقوبات رادعة وفعالة ، وهي أصلاً موجودة لإثارة الخوف والرعب في قلوب أولئك الذين يمارسون أفعالهم الشريرة الإرهابية أكثر من تطبيقها . فالردع ينبغي أن يكون حازماً لأننا نتحدث عن مجتمع عالمي بأسره، أما أن يقوم الإنسان بقتل الأبرياء ثم يجلس في السجن بضعة سنين ويخرج ، فهذا المجتمع سوف يضيع لا محالة لأنه يُكرِّم المجرمين ، ويمنحهم إجراء مخففاً مكافأة على أفعالهم الإجرامية ، فلا بد من الحزم ، فالذي يرتكب جُرْماً لا بد أن يدفع ثمنَ استهتاره بأرواح الآخرين، وكأنها مُلْكٌ شخصي له. ومن هنا كانت الحدود رادعة وفاعلة، ومن بينها القتل. وتطبيق هذه الحدود ليس بهذه السهولة،فلا بد أن تتحقق شروط صارمة جداً ونادرة جداً حتى يتم التطبيق. لذلك في كل تاريخ الدولة الإسلامية كانت الحدود المقامة محصورة جداً تجاه أُناس فرَّطوا عن سبق الإصرار والترصد . الثاني_ أن السياق التاريخي للآية المنضوي تحت سبب النزول يحدِّد طبيعةَ فهمنا لهذه الآية . الثالث_ أن الذين يحتجون بهذه الآية لِبَث أفكارهم المنحرفة بأن الإسلام يأمر بقتل كل ما هو غير مسلم لا يعرفون أن هذه الآية تشمل المسلمين والكفار على السواء،وهو قول الجمهور. وسيأتي البيان تفصيلاً .

أما عن سبب النزول فقد قال السيوطي في لباب النقول ( 1/ 91) : [ أخرج ابنُ جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية (( إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ )) فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في العرنيين ارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل ، الحديث . ثم أخرج ابن جرير مثله ، وأخرج عبد الرزاق نحوه عن أبي هريرة ] اهـ .

وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 274 ) : (( وفسره الجمهور هنا بالذي يقطع الطريق على الناس مسلماً أو كافراً )) اهـ .

(( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ))

[ الأنفال :17]

قال القرطبي ( 7/ 384 ) : (( أي يوم بدر . روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذَكَرَ كل واحد منهم ما فعل ، قتلتُ كذا، فعلتُ كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك ، فنزلت الآية إعلاماً بأن الله تعالى هو المميت والمقدِّر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده )) اهـ .

قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن ( 2/ 59 ) : (( أُضيف القتلُ إليهم على جهة الكسب والمباشرة ، ونفاه عنهم باعتبار التأثير )) اهـ .

والسياق التاريخي للآية الشريفة يتضح في غزوة بدر ، لذلك فهذه الآية تتحدث عن معركة حقيقية ضد أعداء مُسلَّحين لا أبرياء أو عُزَّل ، وهم يستهدفون قتلَ المسلمين ، والله تعالى قام بقتلهم ، أي إنه سهَّل على المسلمين قتلَهم ، ومكَّنهم من الكافرين ، وقادهم إلى مصارعهم . وهذا لا يتعارض مع كون الله تعالى الرحمن الرحيم ، فالله تعالى هو الإله المتصرف وحده في الكون يرحم من يشاء ، ويعذِّب من يشاء ، ومن عادى اللهَ تعالى فعليه أن يتحمل المسؤولية ، وينتظر انتقام الله وعذابه ، فمن غير المنطقي أن تقوم بتكريم عدوك ، إذاً ، فالله تعالى قتلَ أعداءه جزاء محاربتهم له ، وقرَّب أولياءه، فمن عمل خيراً وجد خيراً، ومن عمل غيرَ ذلك وجد غيرَ ذلك.وكل شيء بحساب واضح دقيق .

(( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ))

[ الأنفال : 65]

قد يظن بعض المغرِضين أو العوام في الشرق أو الغرب بأن الآية الشريفة تدل على أن الله تعالى يأمر النبي بالكراهية والعنصرية تجاه الآخرين، وبث الحقد والقتال في النفوس دون وجه حق . وهذا الوهم ليس له أدنى نصيب من الحقيقة . وهو استنتاج مغلوط لأنه مبني على فرضية مغلوطة تغفل السياقَ التاريخي للنَّص . واعلم أن الأعداء كانوا يحيطون بالدولة الإسلامية من كل الجهات ، فقد قضى المسلمون جزءاً كبيراً جداً من أعمارهم ، وهم في حالة حرب . فلا يجوز إخراج الآيات التي تتحدث عن حالات الحرب ، ومحاولة إسقاطها على أوضاع السَّلم ، والأوضاع الطبيعية . فالحرب حالة طوارئ خاصة تستدعي شحذاً للهمم ، وتحريضاً على القتال بكل الوسائل المعنوية والمادية . فلا يمكن أن أستقبل عدوي الذي يريد قتلي بالورود وعباراتِ الترحيب والاستقبال. إذاً، هي حالة حرب ، ولا بد من التعبئة المعنوية والعسكرية لقتال أعداء الحق من أجل إرساء دعائم الحق والعدل والأمان حتى تستقيم الحياة للناس ، فلا يعقل أن نترك كل مجرمٍ يعيث في الأرض فساداً ، ثم نمنحه وسام الشجاعة والأخوة الإنسانية . يجب قتل الأعداء المحارِبين الذين هم أعداء البراءة والأخوة الإنسانية والاحترام المتبادل .

وقال الطبري ( 10/ 38 ) : (( حث متبعيك ومصدقيك على ما جئتهم به من الحق على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين )) اهـ .

(( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ))

[ التوبة : 5]

قال الطبري ( 2/ 192 ) : (( فأمر الله نبيه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحل والحرم ، وعند البيت حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )) اهـ .

إذاً ، مع رفع الأمان عن المشركين الذين لم يرتدعوا عن أفعالهم المعادية توجَّب قتلهم لكي تأخذ الحياةُ دورتها الطبيعية ، والقتال حتى اعتناقهم الإسلام . لكن أحدهم قد يقول إن الله تعالى يقول : (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))[ البقرة: 256] ، فكيف نقاتلهم حتى اعتناقهم للإسلام ؟! . فنقول يجب التمييز بين الكتابيين والمشركين،فالإسلام خصَّص مكانة معتبَرة لأهل الكتب باعتبارهم شركاء معنا في أرضية مشتركة بعض الشيء بعكس المشركين ، فالمشرك لا يستند إلى أي كتاب سماوي ، بل هو يعبد أحجاراً من صنع يديه ، وبالتالي تم تصنيفهم كخونة خيانة عظمى عليهم السيف حتى يرتدعوا ويعتنقوا الإسلامَ ، ورُفِع عنهم شرعية الغطاء الإنسان لأنهم شواذ عَقَدياً وثنياً ضد الإنسانية . وليس في ذلك إجباراً أو إكراهاً ، أَرأيتَ المجرمين والقتلة وتجار المخدَّرات الذين يبيدون شعوباً بأسرها ، لا خيار أمامهم إلا أن يصبحوا مواطنين صالحين ، أو يلاقوا مصيرهم المحتوم وعقوبتهم الرادعة ، فمن غير المعقول أن نترك تاجرَ المخدَّرات حراً في تصرفاته بحجة أن أفعاله حرية شخصية وقناعة ذاتية . والمشرك يريد فرضَ عبادة الأوثان في أرض الله ، فلا يعقل أن يجزيه الله خيراً على هذا الفعل . فكان لا بد من وضع حد لهم ، وإيقافهم عن طريق قتلهم واستئصالهم، لأن كل وسائل الحوار لم تنفع معهم، وفوق كل هذا فهم يحملون السلاحَ في وجوه المسلمين ، فكان لزاماً على نظام الدولة الإسلامية أن يضع حداً لهذه المهزلة ، لئلا يحدث تسيُّب أو انفلات يقضي على كل المجتمع، ويعيد الناس إلى الوثنية التي هي ضد الله في أرض الله. أَرأيتَ لو أن شخصاً يشتم الحاكمَ في قصره ويرفع في وجهه السلاح ، أو يشتم الحكومةَ في المقرات الحكومية، ويقتل موظفي الدولة.ماذا ستكون رد فعل الأجهزة الأمنية؟!. ولله المثل الأعلى، فالأرض أرضه، ولا يقبل لأحد أن يشاركه فيها من أوثان المشركين وآلهتهم الوهمية،فكان القتل الحل الوحيد والأكثر نجاعةً للتعامل مع هؤلاء الذين لا يُرسِلون ولا يَستقبلون، ولا يفهمون إلا لغة السيف .

(( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ))

[ التوبة : 12]

يظهر من سياق الآية الشريفة أن هؤلاء القوم ليس أبرياء أو مُسالِمين ، بل إنهم خانوا الأمانةَ بنكثهم أيمانهم من بعد عهودهم ، وأضف إلى هذا طعنهم في الإسلام بغير وجه حق ، وهذا نقلهم إلى دائرة الكافرِ المحارِب الذي يُقتَل أينما وُجِد في العالَم في كل زمان ومكان . فهذه الآية تتعامل مع أعداء فاعلين في عداوتهم لا مدنيين أبرياء لا ناقة لهم ولا جَمَل في الموضوع . والبعض يظن واهماً أن الكافر المحارِب هو الذي يُوَجِّه نحو المسلمين السلاح فحسب ، وهذا جزء من الحقيقة ، وليس كل الحقيقة ، فكل من حارب الإسلامَ الدِّينَ السماوي الوحيد بأي شكل من الأشكال يجب قتله ، سواءٌ كانت حربه بالكلمة أو بالسيف أو بأي شكل آخر .

قال القرطبي ( 10/ 87 ) : (( فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش عهودهم من بعد ما عاقدوكم أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم ، وطعنوا في دينكم، يقول: وقدحوا في دينكم الإسلام فثلموه وعابوه، فقاتِلوا أئمةَ الكفر، يقول: فقاتِلوا رؤساءَ الكفر بالله ، إنهم لا أيمان لهم ، يقول : إن رؤساء الكفر لا عهد لهم ، لعلهم ينتهون ، لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم )) اهـ .

(( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ))

[ التوبة : 13]

قال القرطبي ( 8/ 86 ) : (( توبيخ ، وفيه معنى التحضيض . نزلتْ في كفار مكة كما ذكرنا آنفاً ، وهموا بإخراج الرسول ، أي كان منهم سبب الخروج ، فأُضيف الإخراج إليهم . وقيل أَخْرَجُوا الرَّسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم . عن الحسن : وهم بدءوكم بالقتال أول مرة ، أي نقضوا العهدَ وأعانوا بنو بكر على خزاعة ، وقيل بدءوكم بالقتال يوم بدر )) اهـ .

وقال الطبري ( 10/ 89 ) : (( يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله حاضاً لهم على جهاد أعدائهم من المشركين ، ألا تقاتلون أيها المؤمنون هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهدَ الذي بينكم وبينهم ، وطعنوا في دينكم ، وظاهروا عليكم أعداءكم ، وهموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم ، فَأَخْرَجُوه ، وهم بدءوكم أول مرة بالقتال يعني فعلهم ذلك يوم بدر ، وقيل قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خُزاعة )) اهـ .

إن الآية السابقة توضح بلا أدنى لَبْس عِلَّة القتال ضد هؤلاء الشاذين عن المسار الإنساني الحضاري ، فهم قومٌ نكثوا أيمانهم وعهودهم والشروطَ التي أعلنوا التزامهم بتطبيقها ، وعملوا جاهدين لإخراج النبي صلى الله عليه وسلم عبر التضييق عليه ومحاصرته بكل السُّبل ، فكانوا سببَ خروجه ، وهم الذين اعتدوا على المؤمنين أول مرة ، فكان بدء القتال منهم ، وكل هذه الأفعال العدائية يجب أن يتم التصدي لها بشكل حازم ، لذا جاء تحريض المؤمنين على القتال ( ردة الفعل ) لكف عدوان المشركين (الفعل) وتحجيمهم ، وتثبيت دعائم الوجود الإسلامي الذي ينشر الرحمة والعدل والتسامح بعد أن يتم استئصال العناصر المسعورة التي لا تُرسِل ولا تَستقبِل . فلا بد للعقيدة من قوة تحميها ، ولا بد للقوة من عقيدة توجهها ، لذا فإن الإسلام مصحف وسيف ، لا يُقبَل أحدهما بدون الآخر . ولكل مقامٍ مقال ، ففي بعض الأحيان يكون الكلامُ هو وسيلة الحوار ، وفي أحيان أخرى يكون السيف وسيلة الحوار مع بشر صاروا حيواناتٍ همجية، وأضل من الحيوانات . فهؤلاء لا يفهمون إلا لغة السيف ، مثلما تتعامل أية دولة في العالَم مع أعدائها، ومع الخونةِ من شعبها، ومع تجار المخدَّرات ، والقتلة ، والذين يريدون الدمارَ للعالَم .

(( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ))

[ التوبة : 14]

قال السيوطي في لباب النقول ( 1/ 115 ) عن سبب نزول الآية : (( أخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خُزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة ، وأَخرج عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في خُزاعة )) اهـ .

قال الطبري ( 10/ 90 ) : (( يقول تعالى ذِكْرُه : قاتلوا أيها المؤمنون بالله ورسوله هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم ، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم ، وأَخْرَجُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم يعذبهم الله بأيديكم ، يقول : يقتلهم الله بأيديكم ويخزهم ، يقول : ويذلهم بالأسر والقهر وينصركم عليهم فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة )) اهـ .

نلاحظ من خلال السياق التاريخي للآية الشريفة أنها تتحدث عن المشركين الذين نقضوا عهودهم ، وتلبَّسوا بالخيانة العظمى ، وأَعملوا سيوفَهم في رقاب الأبرياء ، وبالتأكيد فإن جزاء القتلِ القتلُ . لذا جاء الأمر الإلهي بوجوب قتال هؤلاء المجرمين وقتلهم لكي يُلاقوا جزاء أفعالهم . وكما قلنا في أكثر من موطن، فهذا الأمر الإلهي بالقتل ليس مُوَجَّهاً ضد أبرياء أو مدنيين ، وإنما مُوَجَّه ضد قتلة محترفين مُسلَّحين لم يضعوا أَسلحتهم . ولا أظن أن هناك عاقلاً يتعاطف مع إرهاب المشركين بحق المؤمنين إلا أن يكون صاحب هوى ، أو غرض مُبَيَّت في رأسه للطعن بغير حق في القرآن الكريم، وهذا ديدن المستشرقين أصحاب المستوى الضحل علمياً، وصبيانهم من أبناء جِلْدتنا الذين يحفظون كلمتين أو ثلاث بالإنجليزية أو الفرنسية ، ويظنون أنفسهم شيوخاً للشافعي أو البخاري .

(( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ))

[ التوبة : 29]

قال الطبري ( 1/ 490 ) : (( فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم على المؤمنين حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة أو يؤدوا الجزية عن يد صغاراً )) اهـ .

قال ابن كثير ( 1/ 154 ) : (( فنسخ هذا عفوه عن المشركين )) اهـ .

قال الإمام الشَّافعي ( 1/ 257 ) : (( فمن لم يزل على الشرك مقيماً لم يحول عنه إلى الإسلام فالقتل على الرجال دون النساء منهم )) اهـ .

لقد سبق القول إن علينا التمييز بين المشركين الذين رُفِع الأمان عنهم لأنهم وصلوا إلى الدرك الأسفل من الحيوانية فلم يعد هناك فائدة منهم ، وبين الكتابيين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وبالتالي فالآية لا تشملهم . إذاً ، الآية مختصة بالمشركين ، وقد سبق الحديث عن سبب رفع الأمان عنهم ، ووجوب قتلهم في تلك المرحلة ، أو أن يُعطوا الجزيةَ وهم أذلة لقاء حمايتهم في ظل الدولة الإسلامية ، وخضوعاً لقوانين الشريعة الإسلامية ، وهذا ما تفعله كل الدول التي تضع قوانين وضرائب، وتجبر الشعبَ على التقيد بها للصالح العام من وجهة نظرها، وكونهم أَذِلَّة بسبب إقامتهم على الكفر ، فالكفر ذُل في الدَّارين ، ومن اعتنقه سيظل ذليلاً في كل حالاته وإنساناً درجةً عاشرة عَقَدياً ، والعقائدة لا مجاملة فيها ، ولا حياد فيها ، فالمؤمن مؤمن ، والكافر كافر ، وكل واحد منهما يتحمل المسؤولية أمام الله تعالى عن اختياره . لكن الفرق بين النظام الإسلامي السماوي، والأنظمة الوضعية، هو أن النظام الإسلامي لم يأتِ لاستغلال الناس وسرقتهم، وإجبار الناسِ على عبادة الحكام ، بل جاء لينشر الخيرَ في المجتمع ، ويحافظ على الأمن والأمان في شتى المناحي . والجزية هي الخراج المقدَّر على رؤوسهم ، وذلك مقابل تكفل الدولة بحماية نفس الذمي وماله وعرضه ودينه ، ولا يُكلَّف حرباً ولا يدفع للدولة زكاة . فدافع الجِزية يُمنَح الأمان على نفسه وأسرته وممتلكاته، وينطلق في أرجاء الدولة الإسلامية بكل أريحية ليقوم بالمشاريع التي يراها . والجزية ليست إجراءً استكبارياً أو استغلالياً ، لأن المسلم يدفع الزكاة بإرادته ورغم أنفه ، والذمي معفي من دفع الزكاة ، فمسألة الدفع المادي ليست مُوَجَّهة للذميين خاصة ، بل هي عامة للجميع ، لأننا نتحدث عن دولة ذات أركان ، وبحاجة إلى أموال لكي تقوم بواجباتها تجاه المنضوين تحت لوائها ، ولكي تستمر ، ولا تسقط .

(( قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))

[ التوبة : 30]

قال القرطبي( 8/119):(( أي لعنهم الله يعني اليهود والنصارى لأن الملعون كالمقتول ))اهـ.

وهذا اللعن والطرد من رحمة الله تعالى عادلٌ ومنطقي ، لأن الكافر يجب أن يعلم أنه اختار الكفر ، أي محاربة الله تعالى ، ولكن سعة رحمة الله تعالى سمحت له بالعيش بكرامة في هذه الدنيا ، لكي تُقام عليه الحُجَّة يوم القيامة ، ويلقى مصيره العادل. وهذا لا يناقض التسامح الدِّيني ، فالمسلم يجب أن يعلم أنه مسلم ، والكافر يجب أن يعلم أنه كافر ، والمومس يجب أن تعلم أنها مومس ، واللص يجب أن يعلم أنه لص ، وهكذا . فالتسامح لا يقتضي إبطال عقائدنا من أجل سواد عيون الآخرين ، وكما أن شتم الله تعالى موجود في الإنجيل عبر استخدام عبارات التثليث ، وأن لله تعالى ولداً ، وأن المسيح الذي هو عبد الله ورسوله إلهٌ بُصِق عليه وصُلِبَ ، وأن زنا المحارم المنسوب للأنبياء ، ووصف أثداء الزانيات كما في سِفْر حزقيال[ "الأصحاح" الثالث والعشرون] في التوراة التي يقدسها اليهود والنصارى ، تُعتبَر من عقائد أهل الكتاب ، فيجب أن يحترموا عقائدَنا ، وأن لا يتدخلوا في مسارها، لأننا تركنا لهم حريةَ عباداتهم الباطلة رغم كل ما في الإنجيل والتوراة من أشياء لا تليق . فالمسلم يعتقد أن غير المسلم كافرٌ خالدٌ في النار ، واليهودي يعتبر كل ما سوى اليهودي كافراً، والنصراني يعتبر كل ما سوى النصراني كافراً لا يدخل الجنَّة ، وهذه عقائد. والله تعالى يحكم بيننا فيما كنا فيه نختلف.ولكن علينا التنبه إلى أن الأستاذ لا يمنح الترقيةَ لطالب مشاغب،والحكومة ترفض المعارِضين، ومدير العمل يطرد الموظف الكسول. ولله تعالى المثل الأعلى، فمن المحال أن يمنح اللهُ الجنةَ لأعدائه الذين يسبونه ليلَ نهار ، بل إنه تعالى طردهم ووعدهم جهنم جزاءَ أفعالهم ، ومع هذا أعطاهم فرصة العيش بسلام في الدنيا لئلا يكون لهم حظ في الآخرة .

(( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ))

[ التوبة : 36]

هذه الآية الشريفة تهدف إلى الأمر برد العدوان الذي يتعرض له المسلمون ، فالأمر بقتال المشركين كافة إنما جاء لأنهم يقاتلونا كافة كما يتضح من السياق اللغوي للآية . وبالتالي كان هذا القتال في خانة رد الفعل المنطقي على الجرائم التي يرتكبها المشركون كافة مستخدمين عقلهم الجمعي، وإمكانياتهم الكلية ، وكل طاقتهم مجتمعةً ، ومن أجل رد هذا العدوان الجماعي كان لا بد من القتال الجماعي حتى تنكسر شوكة المشركين .

وقال ابن كثير ( 2/ 356 ): (( فيحتمل أنه منقطع عما قبله، وأنه مُستأنَف، ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم وقاتلتموهم بنظير ما يفعلون )) اهـ .

(( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ))

[ التوبة : 111]

إن هذه الآية التي مدحت الذين يُقاتِلون في سبيل الله فَيَقْتُلون أو يُقْتَلُون ليس دافعاً للإرهاب والحقد والكراهية ، وإنما هي تأصيل شرعي تحدثنا عنه كثيراً عند شروحاتنا للآيات السابقة ، فالله تعالى حدَّد القتال بأن يكون في سبيله، أي وفق ضوابط شرعية،وليس من أجل الاستعلاء في الأرض بغير الحق ، أو ابتزاز الآخرين ، ووأد إنسانيتهم . فنحن للأسف نتعامل مع بعض البشر الذين لا يفهمون إلا لغة السيف ، وإذا لم نقم بتطهير المجتمع العالمي منهم ، فسيصبح العالَم مكاناً موبوءاً فاسداً لا يصلح للحياة . وهكذا فنحن نبتر العضوَ الفاسد لكي نحافظ على استمرارية الحياة في الجسد كاملاً .

قال ابن كثير ( 2/ 392 ) : (( أي سواء قَتَلُوا أو قُتِلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة )) اهـ .

والجنة مكافأة لهم لعملهم الدؤوب في نشر السلام على الأرض عبر تصفية المحارِبين جسدياً الذين يريدون لكوكب الأرض الفساد والدمار ، ومما لا شك فيه أن التخلص من العناصر السامة في أي مجتمع أمرٌ محمود ، يُقابَل بالترحاب من الآخرين لأن فيه استمرارية الحياة بصورة معتادة لأولئك الذين يريدون الحياةَ ويحترمون الحياةَ ، أما أولئك الذين يريدون سلب الحياةَ من الإنسان ، فيجب أن نسلب الحياةَ منهم .

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ))

[ التوبة : 123]

قال القرطبي ( 2/ 350 ) : (( وذلك أن المقصود أولاً كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم ، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة ، وتبلغ الكلمة جميع الآفاق، ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة )) اهـ .

وقال الطبري ( 11/71 ): (( ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً دون الأبعد فالأبعد، وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق . فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام ، فإن اضطروا إليهم لزم عونهم ونصرهم لأن المسلمين يد على من سواهم )) اهـ .

مما لا شك فيه أن المقصود في الآية هم الكفار المحارِبون الذين ينبغي قتلهم فوراً لتطهير المجتمع منهم ، وكما في التفسير السابق للطبري والقرطبي فالآية ذات سياق تاريخي محدَّد ، وهي أيضاً عامة لمواجهة الأعداء المحارِبين في كل زمان ومكان ، وهذا هو العدل المطْلَق . ففي هذه الآية لا يوجد دعوة للقتل العبثي ، أو إبادة الآخرين ، أو ممارسة العنف الهمجي ، بل هي مُوَجَّهةٌ ضد من تسول له نفسه أن يحارِب الإسلامَ والمسلمين ، وكل الدول في العالَم تقوم بحماية شعبها من الأعداء ، وقتلهم للحفاظ على حياة شعبها . والدولة الإسلامية هي التي تُطَبِّق تعاليمَ الله تعالى لا التعاليمَ الوضعية ، وهي تقوم بواجبها لحماية الناس من أولئك الذين رموا القيمة الإنسانية للحياة وراء لمعان سيوفهم المرفوعة في وجوه الأبرياء ، وبالتالي كان لزاماً التدخل لوأد هذا الفساد في الأرض .

(( فَرِيقَاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقَاً ))

[ الأحزاب : 26]

قال القرطبي ( 14/ 161 ): (( فريقاً تَقْتلون وهم الرِّجال ، وتأسرون فريقاً وهم النساء والذرية )) اهـ.

من الواضح مبدأ الإسلام وقواعده الشرعية في الحرب ، فالرِّجال الذين يُقاتِلون يجب قتلهم بلا تردد ، أما النساء والأطفال فهؤلاء يتم أسرُهم ولا يُقتَلون . وهذا تفريق عظيم يراعي حالة الإنسان ووضعه . أما فهم الآية الشريفة فهو محدَّد تماماً في سياق تاريخي واضح المعالم ، فقد قال الطبري ( 21/ 150 ) : (( وأَنزل اللهُ الذين أَعانوا الأحزابَ من قريش وغطفان على رسول الله وأصحابه ، وذلك هو مظاهرتهم إياه ، وعنى بذلك بني قريظة ، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله )) اهـ .

إذاً ، ندرك أن الذين تتحدث عنهم الآيةُ هم أُناس مُتلبِّسون بالخيانة العظمى ( قريش ، وغطفان ، وبنو قريظة )، والتواطؤ مع جهات معادية تحمل السلاحَ ( الأحزاب ) . وهكذا صار كل هؤلاء القوم في سلة واحدة ، فَرُفِع عنهم الأمان ، ووُضِع عليهم السيف ، لأن تعاونوا في قتال المسلمين ، والسعي الحثيث لتقويض دعائم الدولة الإسلامية . وهم بذلك يكونون كفاراً محارِبين ، وهؤلاء لا يتمتعون بعصمة الدَّم . فمن غير المنطقي أن تحضنَ الذي يرفع السلاحَ في وجهك بحجة حقوق الإنسان والتسامح بين الشعوب ، لأن التسامح لا يعني أن يسجد القتيل للقاتل في ذلة وصغار . فالإسلام متسامح مع المتسامِحين ، أما مع المحارِبين فاللغة التي يفهمونها ويتحدثونها هي السيف ، وعلينا أن نتعامل معهم بهذه اللغة حتى يستقيم مسار البشرية دون أي تهديد أو تقويض . وهذا منتهى احترام كينونة الإنسان ضد الجهات التي تريد تمزيقه . فالتكريم الإلهي للإنسان يتضمن تشريع وسائل دفاعية ضد كل من يعمل على هدم هذا الكيان الإنساني الرَّاقي ، لأن الجسد الكلي لا يمكن أن يستمر في حالة وجود عضو ملوَّث فيه ، فينبغي تطهير هذا العضو ، فإن تعذر ذلك ، فيجب التخلص منه لضمان استمرارية الجسد الكلي ليؤديَ وظائفه المحدَّدة .

(( مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ))

[ الأحزاب : 61]

قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 12/ 73) : (( أي مبعدين عن رحمته تعالى .. أينما وُجِدوا وأُدركوا أُخذوا على وجه الغلبة والقهر ثم قُتِّلوا لكفرهم بالله تقتيلاً )) اهـ .

علينا إدراك أن الآية الشريفة تتحدث عن المنافقين الذين يُظهِرون الإيمانَ ، ويكتمون الكفرَ ، وهؤلاء هم طابور خامس ينخر في جسد الأمة من الداخل . فهم كالجواسيس الذين يزرعهم الأعداءُ بين ظهرانينا ليحققوا له مصالحه . وهذه الفئة بالغة الخطورة لأنها عدو داخلي غير مرئي مطلع على كافة مجريات الحياة الداخلية للجماعة، لذلك طردهم اللهُ تعالى من رحمته ، وأَهدر دمهم لأنهم كفار محارِبون أشد خطورة من العدو المكشوف . وهذا ما تفعله كل الدول تجاه الخونة والعملاء، فمن غير المنطقي صبغ الإسلام بالإرهاب لأنه يدافع عن نظامه بالطرق المشروعة في الدساتير السماوية والوضعية.فالقتل لا يأتي ضد بريء أو مدني أو أعزل ، بل ضد أُناس يحترفون كرهَ الإنسان، ويحتقرون حريته في اختياراته، والتخلص من المفسِد ليس فساداً أو إرهاباً، بل هو التسامح الحقيقي الذي يجسده الإسلام في أروع الصور دون هرطقات الدول التي تبني على جثث البشر دستوراً لحقوق البشر .

(( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ))

[ الفتح : 16]

وفي تفسير الجلالين ( 1/ 681 ) : (( سَتُدْعون إلى قوم أولي أصحاب بأس شديد، قيل هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة وقيل فارس والروم ، تقاتلونهم حال مقدرة هي المدعو إليها في المعنى أو هم يسلمون ))اهـ .

وقال الصابوني ( 16/ 36) : (( أي قل لهؤلاء الذين تخلَّفوا عن الحديبية _ كرَّر وصفهم بهذا الاسم إظهاراً لشناعته ومبالغة في ذمهم _ ستُدعون إلى حرب قوم أشداء ، هم بنو حنيفة _ قوم مسيلمة الكذاب_ أصحاب الردة .. إما أن تقتلوهم أو يدخلوا في دينكم بلا قتال )) اهـ .

هذه الآية تتحدث عن قتال المحارِبين سواءٌ كانوا بني حنيفة _ قوم مسيلمة الكذاب المرتدين عن الإسلام _ أي إنهم تلبَّسوا بالخيانة العظمى، وعليهم أن يلاقوا مصيرهم المحتوم، أو فارس والروم ، فالقتال شرعي لأنه ضد أعداء محارِبين يرفعون السلاح في وجه المسلمين، وليسوا مدنيين أو غير مسلَّحين. أما الخيار بين القتال ( القتل ) أو اعتناقهم للإسلام ، فقد يظن البعض أن الإسلام قام بإكراههم على اعتناقه تحت تهديد السيف ، وهذا مجانب للصواب ، وضد المسار التاريخي للأحداث . فقوم مسيلمة الكذاب هم مرتدون عن الإسلام ، أي كانوا مسلمين ثم رموه وراء ظهورهم، والمرتد خائن خيانة عظمى لذا وجب قتلُه أو رجوعه للإسلام مثل المنشقين في كل الدول حيث تقوم الدولة بتصفية أبنائها المنشقين عنها أو أن يعودوا لإعلان الولاء لها ، مع الفارق العظيم بين النظام الإسلامي المعصوم الذي يريد الخيرَ للناس ، وبين الأنظمة الحاكمة التي تريد تكميمَ الأفواه وسحق المعارِضين . فالمعارِض للإسلام هو معارِض للإيمان بالله تعالى والفطرةِ السليمة ، والخير، والعدالة، وقيم الجمال، لذا فهو إنسان فاقد لإنسانيته . أما المعارِض للأنظمة الحاكمة الوضعية القمعية لأنها ظالمة فهو على حق . ولا يجوز قياس معارضة الأنظمة الطاغوتية على معارِضة النظام الإسلامي الحاكم الذي أسَّسه النبي صلى الله عليه وسلم بصورة تضمن له العصمة الكاملة .

وأيضاً لو أخذنا حالة فارس والروم ، فهم أيضاً كفار محارِبون كان بإمكانهم أن يحفظوا ماءَ وجههم لو لم يعتدوا على المسلمين ويقفوا سداً أمام نشر النور الإلهي ( الإسلام) ، وبما أن الأمور وصلت إلى مرحلة الحرب ، فعليهم أن يتحملوا مسؤوليةَ هذا التكبر ، واستعبادِ الناس ، والعيش كآلهة على جثث المسحوقين الذين منعوهم قسراً من الاطلاع على الإسلام ، ومنعوا المسلمين الذين هم رسل الله تعالى إلى هداية الناس من نشر الدعوة . وإذا وصلت الأمور إلى السيف ، فعلى الكفار المحارِبين أعداء الخالق أن يتحملوا هذه المسؤولية. وكما أن حكومات الدول تجبر المتواجِدين داخل حدودها على الالتزام بقوانينها ، فاللهُ تعالى وله المثل الأعلى مالك كل شيء ، ومن رَفَضَ دِينَ الله ( الإسلام) فالله تعالى يتصرف في مُلْكه كما يشاء ، ومع هذا تظل رحمة الله واسعة إذ إنه تعالى وضع ثلاثة خيارات أمام الكافر ، وعليه أن يختار : الإسلام ، فإن أبى فالجزية ، وإن أبى فالقتل ، لأنه بذلك صار فرداً غير صالح على وجه الأرض ، وصار أقل رتبة من الحيوانات ، وعندها يجب التخلص منه مثلما يُقتَل كل المجرمين ومهربي المخدَّرات والأعداء . وقد وضَّحنا فيما سبق الموضوع بشكل تفصيلي خصوصاً الحكمة من الجِزية،فكل الآيات إنما جاءت من منبع واحد، وكلها تؤخذ معاً ضمن دستور متكامل لسعادة الإنسان الذي يحترم إنسانيته ، أما الإنسان الذي يعيث فساداً في الأرض ، فهو يتحمل كامل المسؤولية عن أفعاله الشريرة التي ينبغي التصدي لها بالحزم حتى الوصول إلى كوكب أرضي نقيٍّ من المجرمين وأعداء اللهِ تعالى،وأعداء الإنسانية والحياة.

(( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِئَ إِلَى أَمْرِ اللهِ ))

[ الحجرات : 9]

هذه الآية الشريفة تدحض المزاعمَ القائلة بأن الإسلام وضع السيف على رقاب غير المسلمين عبر قتالهم ، في حين أنه حمى المسلمين من السيف. فهذه الآية تتحدث عن البغاة من المسلمين الذين يجب قتالهم كمرحلة أخيرة إذا تعذَّر الإصلاح بين الفئتين المتنازعتَيْن. إذاً، التشريع الإسلامي شامل للمسلمين وغيرهم ، والقتال غير مُوَجَّه للكفار فقط . فكل من يتورط في مشاكل عليه أن يتحمل المسؤوليةَ سواءٌ كان مسلماً أو كافراً . فالمسلم ليس فوق القانون الإلهي والدستور القرآني، وفي بعض الأحيان يجب قتاله ضمن ضوابط وحالات خاصة ، وهذا يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن القتال ليس مُوَجَّهاً للكفار فحسب ، بل مُوَجَّهاً ضد كل أولئك الذين يستحقونه ومن ضمنهم المسلمون . فآخر الدواء الكي ، وإذا تعذَّرت كل الحلول فلا مناص من المواجهة المسلَّحة لكي تعود الأمور إلى نصابها الصحيح ، فقتل شخص أو ألف شخص أو مئة ألف شخص من البغاةِ الذين رفضوا الرجوعَ أفضل من ضياع الأمة وتفرق كلمتها وانتهاء وجودها .

قال الطبري ( 26/ 127 ) : (( وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل فإن بغت إحداهما على الأخرى ، يقول : فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له وعليه وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه وأجابت الأخرى منهما، فقاتلوا التي تبغي، يقول: فقاتلوا التي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تفيء إلى أمر الله، يقول : حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه )) اهـ .

(( لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ))

[ الحديد : 10]

قال الصابوني ( 17/ 77) : (( أي لا يستوي في الفضل من أَنفق مالَه وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة ، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة )) اهـ .

والسبب في ذلك راجع إلى أنه قبل فتح مكة كان الإسلام محاصَراً بضراوة ، والمسلمون يتعرضون لأشد أنواع التعذيب والمضايقة ، فكان الجهاد ضرورياً للغاية ضد الأعداء المسلَّحين من المشركين، أما بعد فتح مكة فدخل الناس في دِين الله أفواجاً، وتحسنت حال المسلمين كثيراً . وهذه المفاضلة ليست للقتال العبثي ، أو القتل الفوضوي تجاه الأبرياء ، أو التطرف والإرهاب . بل هي مكافأة للذين أَنفقوا وقاتلوا الأعداءَ المسلَّحين ، لذا فالقتال كان ضرورياً ومشروعاً ومُوَجَّهاً ضد أعداء يرفعون السلاحَ ، فالأمر هو منتهى العدالة ، ونشر التسامح والسلام عن طريق التخلص من المحارِبين الذين يرفضون إنسانيةَ الإنسان .

(( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفَّاً ))

[ الصف : 4]

إن هذه الآية الشريفة توضِّح حب الله تعالى للمقاتِلين على شكل صفوف ثابتة متراصة ضد الأعداء المسلَّحين ، وبالطبع فالحديث عن المعارك الحربية فلا يمكن حدوث صفوف إلا في المعارك ، ومن المعلوم أن أرض المعركة لا تحوي إلا مقاتِلين ، فلا وجود للعُزَّل أو المدنيين فيها من كلا الطرفين. إذاً ، هي مواجهة مسلَّحة ضد الأعداء لنشر الإيمان دونما إكراه ، ونشر السلام في المجتمع عن طريق استئصال العناصر الفاسدة .

وهكذا نرى أن القتال والقتل في الإسلام منضبط بالحدود الشرعية ولا يؤخذ بشكل عبثي أو فوضوي ، فالقتال إنما يحدث ضد أعداء محارِبين لا أبرياء مدنيين مساكين لا ناقة لهم ولا جمل . ومن حق الإسلام بوصفه الدِّين السماوي الوحيد أن يحمي عقيدته وأتباعه من الأعداء المجرمين الذين يتربصون به مستخدمين أكثر الأسلحة تطوراً وفتكاً . لذا فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ضد الكفار المحارِبين في كل زمان ومكان وفق الضوابط الشرعية ، واحترام حقوق الإنسان ، ونشر العدالة والسلام والخير عبر انتهاج أساليب استئصال العناصر المتطرفة ، والبشرِ الذين يريدون أن يظلوا كالأنعام يعبثون بمصير الآخرين ، وتدميرِ مستقبل الأرض .