تنبثق شرعية الولادة القصائدية من كَوْن الفعل الشعري مغامرة دائمة ، وتنقيباً متواصلاً في منجم اللغة . وهذه المغامرة المدهشة تؤسس مبدأ الدافعية المعنوية في النص ، حيث تتأجج منظومة الألفاظ والمعاني وتنطلق اعتماداً على القدرات الذاتية ضمن تيار تثويري يهدف إلى بناء دولة القصيدة. ومن هنا تبرز تطبيقات لغوية متجانسة تساهم بشكل فعال في صياغة مجتمع الكلمات ، وتحويل الذاكرة الشعرية إلى ثقافة عمومية ذات تماس مباشر مع حياة الفرد والجماعة ، واحتضان الجنين الشعري الذي يُمثِّل امتداداً للأبجدية الاجتماعية والأبجديةِ اللغوية .
ومن خلال هذه المنظومة المتكاملة يتمكن الفعلُ اللغوي من اكتشاف أقاصي الوجدان المجتمعي الذي تندلع فيه الأحاسيس ، وتسيل منه القيم الكلماتية . وهذا الأمر شديد الأهمية لأن الكلمة هي العنصر الأكثر فاعلية في تشكيل الوعي الجمعي. وكلُّ المعاني الاجتماعية المؤسَّسة على أبعاد الكلمة رمزياً وواقعياً ، إنما تُشكِّل القاعدة الأساسية للحِراك الإنساني . لذلك ليس من الغريب أن تضطلع المنظومة اللغوية الثورية بمهمة إيصال توهج الأبجدية الشِّعرية إلى عناصر المجتمع.
وهذه الحركة الإبداعية الدؤوبة من شأنها تكريسُ القصيدة كقَوْمية قائمة بحد ذاتها، والحيلولةُ دون تحول القصيدة إلى نزعة عاطفية مُجرَّدة أو خطاب شعاراتي جامد ، وتنقيةُ الرمز الشعري من أضداد الذاكرة المجتمعية . فالرمزُ ينبغي أن يحافظ على حضوره الصادم وبهائه الصافي ، إذ إن تعرية القصيدة من الرمز سيُحيلها إلى جثة هامدة، لأن الكلمات عندئذ ستفقد سُلطتها وسطوتها وشرعية وجودها وامتدادَ تواجدها . كما أن صلابة الرمز الشعري عامل مهم للحفاظ على تماسك القصيدة في معاركها المصيرية. وهذا الالتحام الثقافي ضروري لفهم طبيعة التكثيف اللغوي في عقل النَّص ، واستيعابِ الأساس الاجتماعي للفكر الشعري .
وفي هذا الازدحام اللغوي والزخمِ الإبداعي ينبغي تذكُّر أن القصيدة تحارب على جبهتين : الأولى _ العلاقة السُّلطوية الملتبسة بين الذات الفردية والذات الجماعية ، والثانية_ تشابكات العقل الجمعي الوظيفي الذي يتعامل مع اللغة على أنها أداة توصيل فقط وليس كائناً حياً متكاملاً.