إمكانية تفوق بعض المتأخرين على بعض الصحابة
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
يجب أن ندرك أن الصحابة ليسوا كلهم الخلفاءَ الراشدين ، أو العشرة المبشرين بالجنة. بل إنهم يتفاوتون في الدرجات والمراتب بصورة متباينة جداً ، وبينهم فروق شاسعة للغاية في كل شيء من الإيمان حتى الكفر . وما أدين اللهَ تعالى به هو إمكانية أن يتفوق بعض المتأخرين على بعض الصحابة في المنزلة عند الله تعالى . لكن معظم العلماء متفقون على أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده ، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل . وقد استندوا على تفضيل أول الأمة على من بعدهم إلى الحديث المتفق عليه : (( خيركم قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )). لكن الذي نُرَجِّحه في هذا السياق هو إمكانية أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة. وقد أكد ابن عبد البر المعنى السابق ، وأكَّد كذلك على أن حديث " خير القرون " ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول ، وقد جمع قرنُه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان ، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود ، وقال لهم ما تقولون في السارق والشارب والزاني [انظر التمهيد لابن عبد البر ( 20/ 250و251 ) ، وتفسير القرطبي ( 4/ 171 ) ].
وإليك بعض الأدلة التي استفدناها من ابن عبد البر في تأييد إمكانية أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة ، مع تخريجنا للأحاديث والشروحات عليها من قبلنا :
أ) عن أبي سعيد الخدري_ رضي الله عنه_ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا أصحابي )) [ متفق عليه. البخاري ( 3/ 1343 )برقم ( 3470 )، ومسلم ( 4/ 1967) برقم( 2540)]. وهذا الخطاب قيل مواجهة لمن هو في قرنه. وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخطاب للصحابة متضمناً عدم سب الصحابة .
ب) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا خالد ، لا تسب عماراً ، فإنه من يسب عماراً يسبه اللهُ ، ومن يبغض عماراً يبغضه اللهُ ، ومن يسفه عماراً يسفهه اللهُ )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 3/ 439 )برقم ( 5670 ) وصحَّحه، ووافقه الذهبي] .
إذاً ، قد يظهر بعض السلوكيات السيئة من بعض الصحابة ، فيحدث سب بينهم ، أو يتطاول بعضهم على بعض ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذه الأمور بما يراه مناسباً ، ويضع الأمور في نصابها الصحيح ، وهذا لا يطعن في فضائل الصحابة ، فمجتمع الصحابة _ رضي الله عنهم _ مجتمع بشري تجوز عليه ما يجوز على باقي المجتمعات ، ولكن الصحابي المستقيم هو الذي يعود إلى الحق ، ويلتزم بأوامر الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز حدوده، وإذا فعل منكراً ، فإنه يعترف بذنبه ، ويتوب ، ويرجع إلى جادة الطريق ، ولا تأخذه العزة بالإثم .
ج) عن أبي أمامة _ رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( طوبى لمن رآني ثم آمن بي وطوبى سبع مرات لمن آمن بي ولم يرني )) [صحَّحه ابن حبان( 16/ 216)برقم ( 7233 ) وفي سنده ضعف ، وله شواهد عديدة تنقله إلى درجة الحسن لغيره ، إذ رُوِيَ عن ثلاثة صحابة : أبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وأبو أمامة ، ورواه أحمد ( 3/ 71) برقم ( 11691)، وأبو يعلى ( 6/ 119 ) برقم ( 3391 ) . وقد حسَّن الهيثمي إسناد أبي يعلى في المجمع (10/67) اهـ ، ورواه الطبراني ( 8/ 259 )برقم ( 8009 ). وقال الهيثمي في المجمع ( 10/ 67 ) : (( "طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات". رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الأشعري وهو ثقة )) اهـ ].
وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 450 ) : (( وطوبى في الأصل شجرة في الجنة ...وتطلق ويراد بها الخير أو الجنة أو أقصى الأمنية وقيل هي من الطيب أي طاب عيشكم )) اهـ .
د) عن عمر _ رضي الله عنه _ قال : كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيماناً ؟ )) ، قالوا : يا رسول الله الملائكة، قال: (( هم كذلك ويحق ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم )) ، قالوا : يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة ، قال : (( هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم ))، قال : قلنا : فمن هم يا رسول الله ؟، قال : (( أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني ، ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً ))[ رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 96) برقم ( 6993 ) وصحَّحه ، وقال الذهبي : (( بل محمد بن أبي حميد ضعَّفوه )) . وقال الهيثمي في المجمع (10/ 65) : (( رواه أبو يعلى ورواه البزار ... وقال الصواب أنه مرسل عن زيد بن أسلم ، وأحد إسنادي البزار المرفوع حسن )) اهـ . ] .
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 138و139 ) ناقلاً كلام القاضي عياض عن ابن عبد البر : (( وأن قوله صلى الله عليه وسلم : (( خيركم قرني )) على الخصوص ، معناه خير الناس قرني أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ومن سلك مسلكهم ، فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث . وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه وصحبه أو لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار . قال القاضي : وقد ذهب إلى هذا أيضاً غيره من المتكلمين على المعاني . قال : وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا ، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورآه مرة من عمره ، وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد فإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل )) اهـ .
وعن عمار بن ياسر _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أو آخره ))[ رواه ابن حبان ( 16/ 210) ، والترمذي ( 5/ 152) برقم ( 2869 ) ، وأحمد ( 3/ 130) برقم ( 12349) ، والطبراني في الأوسط ( 4/ 231) برقم ( 4058 ) ، وأبو يعلى ( 6/ 380 ) برقم ( 3717) . قال الحافظ في الفتح ( 7/ 6) : (( وهو حديث حسن ، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة. وأغرب النووي فعزاه في فتاويه إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه في حديث أنس ، وصححه ابن حبان من حديث عمار )) اهـ . وقال الهيثمي في المجمع ( 10/ 68 ) : (( رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وفي إسناد البزار حسن ، وقال لا يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أحسن من هذا )) اهـ ] .
وينبغي أن ندرك أن الآيات القرآنية التي مدحت الصحابة _ رضوان الله عليهم _ إنما مدحتهم في مواقف محددة ، وضمن أسباب معينة . وهذا الفضلُ والمديح من الله تعالى لأسيادنا الصحابة _ رضوان الله عليهم _ مرتبط بأسباب وحوادث معينة ، وهذه المواقف الشريفة التي وقفها الصحابة الكرام هي سبب مدحهم، وهذه المواقف النبيلة هي لوازم المدح، وإذا ثبت الشيءُ ثبتت لوازمه.ولم يكن المدحُ خاصاً بكل صحابي مدى الحياة بغض النظر عما فعل بعد ذلك . بل إن رضوان الله تعالى ورضاه شامل لكل صحابي التزم بالكتاب والسنة الصحيحة حتى مماته ، فلقي اللهُ تعالى على ذلك غير مُبَدِّل ولا مُغَيِّر، أما الصحابة الذين خلطوا العمل الصالح بالطالح فلهم وضعية خاصة بهم. كما أن رضوان الله تعالى هابط على الصحابة كوحدة جمعية كلية ، وليست فرداً فرداً، لأن تخصيص أحد الصحابة بعينه بالرضوان ورضا الله بحاجة إلى دليل ثابت متعلق بذلك الصحابة بعينه .