سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

05‏/03‏/2012

نقد بدعة السلفية التيمية النجدية

نقد بدعة السلفية التيمية النجدية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد .
بدايةً ينبغي أن نحدِّد المصطلحات بدقة بالغة الخصوصية . فمصطلح " السلفية " باعتبارها مرحلة زمنية مباركة لأعظم رجالات الإسلام على الإطلاق وهم السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الأولى المشهود لهم بالخيرية مصطلح زمني يحدِّد مرحلة طيبة ناصعة البياض ولا يحدِّد مذهباً إسلامياً ذا قواعد أصولية وفروع منبثقة عن تلك القواعد . والخيرية ثابتة ليست موضوع نقاش ، فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( خيركم قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) [متفق عليه. البخاري ( 2/ 938 ) برقم ( 2508 ) ، ومسلم ( 4/ 1964 ) برقم ( 2535)] . وينبغي أن نُقَيِّد لفظة " السلف" بلفظة " الصالح " ، لأن كثيراً من الطوائف والفئات المنحرفة ظهرت أيضاً في القرون الثلاثة الأولى ، وبالطبع فإن الحديث يستثنيهم ضميناً . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 138 ) ناقلاً عن ابن عبد البر : (( إن قوله صلى الله عليه وسلم : (( خيركم قرني )) على الخصوص معناه خير الناس قرني أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه وصحبه أو لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار )) اهـ . وهذا كلام نفيس للغاية رغم أن الغالبية الساحقة من العلماء على خلافه ، فهالة القداسة التي تحيط بالصحابة وأنهم لا يُنْقَدُون هالة وهمية ، فالصحابي تشرَّف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهذه مزية جليلة ومنحة ربانية عظيمة ، ولكن يجب أن تكون أفعاله موافقة للشرع ، فالصحابي الذي أسرف على نفسه بالمعاصي والآثام علينا أن ننقده نقداً علمياً مُنْصِفاً ونبين حاله للناس . فنحن لا نعطي حصانة دبلوماسية للصحابي تجعله فوق مستوى النقد ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتمتع بالحصانة فقط ، وكل الذين هم دونه مُعَرَّضون للنقد والجرح والتعديل حسب الحالة. لذا فتقديس الصحابة كلهم فرداً فرداً رغم الآثام الكارثية للبعض مرفوض جملة وتفصيلاً ، وهذا سيأتي بحثه معنا في هذا الكتاب فيما بعد. والرأي الذي نقف عليه أن هناك أناساً من القرون المتأخرة يفوقون بعض الصحابة الذين خلطوا الأمور وارتكبوا المحرَّمات منزلةً ورتبةً عند الله تعالى. وهذا لا يطعن في أسيادنا الصحابة رضوان الله عليهم حملة هذا الدِّين ، لأن الله تعالى قيَّض لحمل الرسالة صحابة أثباتاً عدولاً ينشرون تعاليم الإسلام الدين السماوي الأوحد ، وبعض الصحابة لم يكن لهم دور في نشر الإسلام ولا سابقة ولا أثر في الدِّين ، والبعض لم يكونوا عدولاً ، وهذا الأمر المعلوم لا ينتقص من قدر الصحابة الأثبات الذين حملوا الدِّين على أكتافهم كمرجعية كلية ومدرسة فكرية مخلِصة ، ونحن لسنا من الرافضة الذين أسقطوا السواد الأعظم من الصحابة ، ولسنا ممن يرددون خرافة أن كل الصحابة عدول فرداً فرداً بلا استثناء . وسيأتي تفصيل هذا الكلام واضحاً في موضع آخر من هذا الكتاب. ولنأتِ إلى مصطلح آخر وهو " السلفية التَّيميَّة النجدية " ، ويجب أن نُمَيِّز بينه وبين مصطلح السلفية المراد بها مرحلة السلف الصالح الزمنية . فبدعة السلفية التَّيميَّة النجدية هي إسهامات مبنية على اجتهادات في غير محلها ، وأخطاء منهجية واضحة ، وحمل النصوص على ظواهرها دون معرفة قواعد اللغة العربية . وهي إعادة بلورة لأفكار صغار العقول من الحنابلة الذين دخلوا في التجسيم الواضح، وأعرضوا عن منهجية الإمام أحمد بن حنبل _ رضي الله عنه _ ، ولم يلتزموا بالقواعد الحنبلية الأساسية للمذهب التي وضعها علماء المذهب الأثبات من أصحاب العقيدة الراسخة مثل الإمام أحمد وابن الجوزي ( المتوفى سنة 597 هـ ) الذي رد على مجسمة الحنابلة الذين شَوَّهوا المذهب ، مثل القاضي أبي يعلى المجسِّم الذي كان إذا ذُكِر الله سبحانه قال : (( ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة ))كما نقل ابن العربي في العواصم ( 2/ 283)، ومثل هذا الكفر البواح استهزاء واضح بالذات الإلهية وهذا راجع إلى حمل النصوص على ظواهرها الحسية المادية . وقد قال العلامة أبو محمد التميمي في الكامل لابن الأثير ( 10/ 52 ) : (( لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار )) اهـ، ومن مجسِّمة الحنابلة ابن الزاغوني ( المتوفى سنة 527هـ ) ، وأيضاً أبو عبد الله بن حامد ( المتوفى سنة 403هـ ) . والسلفية التَّيمية النجدية في ثوبها المعاصر وضعها محمد بن عبد الوهاب [وُلد في العيينة سنة 1115 هـ ، ورحل في طلب العلم إلى الحجاز والشام والبصرة ، وكانت دعوته بدعية بعيدة عن منهج الفهم الصحيح للكتاب والسنة الصحيحة ، أعاد استلهام انحرافات ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ، وقد رمى الناس بالشِّرك والبدعة دون وجه حق . غطَّت بدعته على المذهب الحنبلي في بلاد الحرمين الشريفين ، ورد عليه علماء كثيرون بسبب انحرافه وجهله الفظيعين . أسس بدعة " النجدية " ولا أقول الوهابية، لأن الوهابية مشتقة من اسم الله الوهاب، وهذا المذهب البدعي لا يجوز أن يُسمَّى باسم ذي اشتقاق من اسم الله تعالى . كما أسس منهج التكفير دون وجه حق ، واستحلال المحارم ، وقتل المخالفين . ولهذه البدعة الجديدة خمسة أصول رئيسة : 1) اتخاذ ابن تيمية مُقَدَّساً وأقواله حجة قطعية 2) تشبيه الله تعالى بالخلق 3) التثليث في العقيدة إذ يُقسِّمون التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو تقسيم باطل لا دليل عليه ، وإنما انتشر بعد القرن السابع الهجري ، وهو غير معروف عند السلف الصالح مطلقاً 4) عدم توقير سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم 5)تكفير الناس دون وجه حق ، فمن توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو عندهم كافر حلال الدم ، ومن استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك، وهناك مسائل كثيرة لا يتسع المجال لذكرها كاملةً.مات سنة 1206هـ . وفي صحيح البخاري( 6/ 2598) : عن سيدنا ابن عمر _ رضي الله عنهما _ قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : (( اللهم بارك لنا في شأمنا اللهم بارك لنا في يمننا )) ، قالوا : يا رسول الله وفي نجدنا ، قال : (( اللهم بارك لنا في شأمنا اللهم بارك لنا في يمننا )) ، قالوا : يارسول الله وفي نجدنا ، فأظنه قال في الثالثة : (( هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان )) .] . وقد استمد ابن عبد الوهاب عقائده من عقائد ابن تيمية الحراني( 661هـ _ 728هـ) وأفكار ابن القيم ( 691هـ _ 751 هـ) لا السلف الصالح . وهذا السلفية التَّيمية النجدية هي فلسفة الفقه البدوي الأعرابي البدائي. فمن بدا جفا ، لأن الأعراب الذين يعيشون في البادية بعيداً عن التجمعات المدنية المتحضرة يمتازون بغلظة الطبع لقلة مخالطة الناس ، فيصعب التعامل معهم ، ويغلب فيهم الجهل والجفاء والقسوة . وبسبب قسوة قلوبهم وجهلهم حوَّلوا الدِّينَ وكأنه أوامر عسكرية ميكانيكية مُفرَغة من الروحانية ، وعذوبةِ الرُّوح ، وهذا ديدنهم . وإنني أجزم أن نية محمد بن عبد الوهاب كانت صالحة وأفكاره فيها خير كثير، وفيها انحرافات كثيرة أيضاً ، لكن النية الصالحة لا تُصْلِح العمل الفاسد. وإن الكارثة الحقيقية هو الغرق في أفكار ابن تيمية المنحرِفة دون بصيرة، فكانت النتيجة مأساوية ، لا سيما وأن المصالح السياسية تدخَّلت لأدلجة السلفية النجدية من أجل ترسيخ الحكم السياسي عن طريق قتل المخالِفين والمعارِضين لهذه البدعة . وَلْيُعْلَم أنه لا يوجد في الإسلام شيء اسمه " السلفية " كمذهب إسلامي. فالصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة والقرآن الكريم يَنزل عليهم . كما لا يوجد في الإسلام شيء اسمه عقيدة السلف أو مذهب السلف . هناك العقيدة الإسلامية المستقاة من النصوص قطعية الورود ( الكتاب والسنة المتواترة) وقطعية الدلالة . فهذه المصطلحات البدعية المنحرِفة ( عقيدة السلف، مذهب السلف ... إلخ ) مرفوضة لأنه لا دليلَ شرعياً عليه . وإذا كان الأمر هكذا فسيأتي من ينادي بعقيدة الأشاعرة ومذهب الأشاعرة ، وآخر بعقيدة الماتريدية ومذهب الماتريدية ، ويختفي مصطلح "العقيدة الإسلامية " من الوجود . قال الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )) [ الأنعام: 159] . مع العلم أن سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم سَمَّانا المسلمين ولم يُسَمِّنا السلفيين ولا الأشاعرة ، قال الله تعالى: (( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ )) [ الحج : 78] . ويحاول البعض إحلال ما يسمى بعقيدة السلف مكان العقيدة الإسلامية ، وهذا إرهاب فكري يضاد الإسلام ويتجاهل وجوده. وأخشى من يوم يستخدم فيه هؤلاء القوم عبارة" الديانة السلفية" لتحل مكان الديانة الإسلامية. وتراهم يُنافِحون بكل ما أُوتوا من قوة لتسويق مصطلحاتهم البدعية، وهذا يدل على انتصارهم لأفكارهم وفهمهم لا انتصارهم للإسلام . فهم لم يسعهم ما وسع الأمة الإسلامية ( أهل السنة والجماعة ) ، فتراهم يشذون عنها أكثر فأكثر . وقد أجار اللهُ تعالى الأمة أن تجتمع على ضلالة ، إذ إن الأمة معصومة عصمة عامة ، فإن وجدتَ اختلافاً فعليك بالسواد الأعظم أي بالحق وأهله ، لأن الذي على الحق أغلبية ولو كان لوحده . ولنرد على مصطلح " عقيدة السلف " رداً علمياً فنقول إن هذا المصطلح يفترض أن الصحابة والتابعين وباقي السلف الصالح_ رضوان الله عليهم _ متحدون في كل مسائل العقيدة ، دون اختلافات فيما بينهم ، وأنهم يملكون مذهباً مُوَحَّداً في الأصول والفروع جاهزاً لمن يريد الأخذ به ، وهذا غير صحيح البتة ، فقد تباينت اجتهاداتهم في فهم أمور عَقَدية هامة مثل مسألة رؤية الله تعالى ومسألة تأويل الصفات ، وإليك بيان ذلك تفصيلاً : مسألة رؤية الله ليلة الإسراء : عن عطاء عن ابن عباس قال : (( رآه بقلبه )) [رواه مسلم ( 1/ 158 ) برقم ( 176)] . قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 6) : (( قال الإمام أبو الحسن الواحدي : قال المفسرون : هذا إخبار عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة المعراج . قال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمي : رآه بقلبه. قال : وعلى هذا رأى بقلبه ربه رؤية صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصراً حتى رأى ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين . قال : وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس وعكرمة والحسن والربيع )) اهـ. وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 608 ) : (( وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها ، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمداً رأى ربه . وأخرج بن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة وبه قال سائر أصحاب ابن عباس )) اهـ . وردَّت السيدة عائشة _ عليها السلام_ كلام القائلين بالرؤية رداً حاسماً ، فعن مسروق قال : قلتُ لعائشة _ رضي الله عنها _ : يا أُمَّتاه ، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فقالت : (( لقد قَفَّ شَعْري مما قلتَ . أين أنتَ من ثلاث من حدثكهن فقد كذب ، من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، ثم قرأتْ : (( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ )) [ الأنعام : 103] ... )) [رواه البخاري ( 4/ 1840 ) برقم ( 4574 ) واللفظ له، ومسلم ( 1/ 160) برقم ( 177)] . قال الحافظ في الفتح ( 8/ 608) : (( وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب )) . لاحظ كيف أن السلف الصالح اختلفوا في مسألة عقدية هامة ، فهؤلاء الذين يتشدقون بعبارة " عقيدة السلف " هلا أخبرونا ما هي العقيدة الصحيحة في هذه المسألة رغم أن القولين صادران عن السلف الصالح . مسألة تأويل الصفات : تباينت آراء السلف الصالح في هذه المسألة ، فطائفة تُفَوِّض ، وطائفة تقوم بالتأويل ، والبعض يُؤَوِّل في موقف ويُفَوِّض في موقف آخر . وهذا يدل على سعة هذا الدِّين وعظمته ، ويدل كذلك على علم السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ الذين اختلفت فهومهم واجتهاداتهم حسب الحصيلة العلمية الذاتية لكل واحد منهم. وكل الاجتهادات المستقيمة المبنية على الكتاب والسنة الصحيحة اجتهادات مقبولة ، وأصحابها مأجورون _ إن شاء الله تعالى _ رغم الاختلافات في الفهم تبعاً لاختلاف المنهج وتباين العقول وتفاوت المستويات العلمية . وهذا لا يطعن في السلف الصالح ، وهم لم يطعنوا في بعضهم البعض ، ولم يُبَدِّعوا أو يُفَسِّقوا أو يُكَفِّروا بعضهم البعض مثلما يفعل الكثيرون من الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين الذين يرمون الناس بالبدعة والشِّرك والفسق لأقل مسألة اجتهادية . فسيدنا ابن عباس_رضي الله عنهما_ الذين يعتبر من علماء الصحابة نُقِلت عنه تأويلات كثيرة بمسألة الصفات ، فعلى سبيل المثال المختصَر لا الحصر : 1) عن سيدنا ابن عباس_ رضي الله عنهما _ أنه سئل عن قوله عز وجل : (( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ))[ القلم: 42]. قال : إذا خُفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشِّعر، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر : أصبر عناق إنه شر باق، قد سن قومك ضرب الأعناق، وقامت الحرب بنا عن ساق . قال ابن عباس : هذا يوم كرب وشدة [رواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ( 2/ 542) برقم ( 3845 )، ووافقه الذهبي .] . قال الطبري في تفسيره ( 29/ 38 ) : (( قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد )) اهـ . ونقل الطبري تأويل الساق بالشدة عن مجاهد وقتادة اللذين هما من علماء السلف ، انظر تفسير الطبري ( 29/ 39 ) . وهذا يدل على أن التأويل كان عند السلف الصالح ، فالذي يرمي الذين يتأولون بالجهل والضلال فهو يتهجم ضمنياً على جماعة من علماء الصحابة والتابعين. والتأويل ثابت عنهم ومنتشر في كتب الحديث والتفسير ومبسوط باستفاضة مُدَعَّماً بالأسانيد الصحيحة والحسنة ، ونحن هنا لن نستعرض كل ما ورد ، لكن يهمنا إيصال الفكرة بأن التأويل كان عند السلف الصالح ، ولم يأت به الخلف من بنات أفكارهم، لذا مَنْ أَوَّلَ ضمن الضوابط الشرعية هو على خير كثير ومأجور على عمله المتوافق مع الكتاب والسنة الصحيحة وهو أبعد ما يكون عن الضلال والزيغ . قال الحافظ في الفتح ( 13/ 428 ) : (( وقال الخطابي : تَهَيَّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن )) اهـ . 2) وأيضاً الإمام أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي الذي يقول الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين إنهم ينتسبون إليه يؤول أيضاً ، وله تأويلات كثيرة جداً خصوصاً في فتنة خلق القرآن وتصديه للمعتزلة الذين احتجوا ببعض الآيات القرآنية ، فما كان منه إلا أن تأوَّلها . قال ابن كثير في البداية والنهاية ( 10/ 327 ) : (( روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمر ابن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: (( وَجَآءَ رَبُّكَ )) [ الفجر: 22] أنه: جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي : وهذا إسناد لا غبار عليه )) اهـ . وأيضاً التفويض كان منهجاً معتمَداً عند السلف الصالح مثله مثل التأويل ، وإليك كلام أهل العلم في هذا الصدد : 1) قال الترمذي في سننه ( 4/ 691) : (( والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عُيَيْنَة ووكيع وغيرهم أنهم رَوَوْا هذه الأشياء ثم قالوا تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ، ولا يقال كيف . وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تُفَسَّر ولا تُتَوَهَّم ، ولا يقال كيف ، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه )) اهـ . قال الحافظ في الفتح ( 13/ 383 ) : (( والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله ، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال ، وبالله التوفيق . ولو لم يمكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازماً بتأويله بخلاف صاحب التفويض )) اهـ . ونقل الحافظ في الفتح ( 13/ 383) عن ابن دقيق العيد قوله : (( في العقيدة نقول في الصفات الْمُشْكِلَة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله ، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه ، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه )) اهـ . إذن ، يتضح لنا ثبوت التأويل والتفويض عن السلف الصالح ، وهذه مسألة عقدية لم يتفقوا عليها بل ذهب كل منهم إلى الرأي الذي يطمئن إليه ، ولا تثريب على الفريقين . وهكذا تسقط عبارة " عقيدة السلف" ويتبين عدم صحتها وفق هذه الأدلة التي وضَّحت اختلاف السلف في أمور عقدية ، وعدم اتفاقهم المطْلَق عليها . لذا نخرج من هذا التحزب لما يسمى بعقيدة السلف لنلتزم بالعقيدة الإسلامية التي تُوَحِّد ولا تُفَرِّق ، فهي الوعاء الجامع لنا كلنا ، والأصول الثابتة متفق عليها بين جميع المسلمين سلفاً وخلفاً . فلا مُسمَّيات لا وزن لها من قبيل " عقيدة السلف " و " عقيدة الخلف " التي تعمل على تفريق الصف الإسلامي وتقسيم الأمة تقسيمات ما أنزل اللهُ بها من سلطان من شأنها إثارة النعرات الحزبية . ومنهجنا هو الاعتراف بالسلف الصالح أسياداً لهذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وأعلم الأمة ، والاعتراف بالخلف الصالح من أهل العلم المشهود لهم بالتقوى والصلاح والعلم والتمسك بالكتاب والسنة الصحيحة شُرَّاحاً لآراء السلف المجْمَلة المعتمِدة على التسليم المطْلَق المبصِر دون الخوض في التفاصيل ، أما أن نشطب علماءنا سَلَفاً كانوا أم خَلَفاً فهذا لا يقوم به إلا أحمق. فجناحا الأمة السلف الصالح والخلف الصالح ولا تقدر الأمة على التحليق بجناح واحد أو بدون أجنحة . والمسألة ليست كما يتصورها البعض بأنها معركة بين السلف والخلف ، وكأننا في حلبة مصارعة ، فيذهب كل طرف ليعتديَ على فريق الطرف الآخر، فهذا العبث يجب أن ينتهيَ عاجلاً لأنه ليس له أدنى صلة بالسلف الصالح ، ولا بالخلف الصالح . وبعد أن سقط مصطلح " عقيدة السلف " لعدم توافر شروط الصحة فيه ، دعونا نذهبْ إلى مصطلح بدعي آخر وهو مصطلح " مذهب السلف "، والمقصود به في هذا السياق هو الفقه وليس العقيدة، فبالتأكيد لا يوجد مذهب فقهي واحد للسلف الصالح ، واختلافاتهم أكثر من أن نحصيها. فالصحابة كانوا يختلفون في المسائل الفقهية والقرآن ينزل بينهم . وأيضاً ظهور المذاهب الفقهية الأربعة والاختلافات المنهجية والتفريعية بينها التي صارت معروفة عند شريحة واسعة . فلو كان هناك مذهب فقهي واحد للسلف لما تعب الأئمة الأربعة في البحث والدراسة والتمحيص والتفكير ووضع القواعد والفروع ، ولما ظهرت هذه الاختلافات الواضحة ، ولما ظهرت المذاهب الأربعة ، ولما ظهر أي مجتهد نهائياً ، لأن افتراض وجود مذهب للسلف يعني أن السلف اتفقوا على كلمة واحدة وضعوها في مذهب واحد لا يتعدد ، وهذا غير موجود من الناحية الواقعية . ومن يطالع كتب الفقه سوف يقف على آراء متعددة للصحابة في مسائل فقهية لا حصر لها ، ومن المعلوم أن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ سادة السلف الصالح والمقدِّمة . وهذا الاختلاف المحمود لم يجعلهم متعصبين لآرائهم المبنية على اجتهاداتهم المختلفة ، ولم يرمِ بعضهم بعضاً بالجهل والبدعة كما يفعل البعض في زماننا . وهكذا يتبين لنا أنه لا يوجد مذهب خاص للسلف الصالح لا في العقيدة ولا في الفقه أو الفروع . واختراع مُسَمَّيات خاصة بالسلف الصالح لا دليل عليها وإعطاؤها هالة القداسة والعصمة ليس من الإسلام في شيء . فمصادر التشريع الأربعة معروفة ذكرناها سابقاً ليس فيها أقوال السلف . وهذا الأمر يقودنا إلى مسألة حجية مذهب الصحابي الذي هو رأس السلف الصالح ، وفي ذلك تفصيل كبير جداً ، لكننا سنختصر المسألة اختصاراً غير مخل . فإذا كان مذهب الصحابي بين أخذ ورد عند العلماء ، فما بالك بمن يتخذ قول أحد السلف حجةً لازمةً ، ويحيطه بالعصمة والقداسة لا لشيء سوى أنه من السلف الصالح . والذي يفعل هذا بعيد كل البعد عن منهج علماء العقائد والأصوليين الذين قَعَّدوا المسائل ، ووضعوا له ضوابط وتفريعات ، وأصَّلوها وفق الكتاب والسنة الصحيحة . فينبغي أن نبتعد عن التعصب لأقوال الرجال ، فالحق أحق أن يُتَّبع . وإذا كنتَ على الحق فأنتَ أغلبية حتى لو كنتَ وحدك . حجية مذهب الصحابي : قال الآمدي في الإحكام ( 4/ 155) : (( اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً ، واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين ، فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحجة . وذهب مالك بن يروي والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد بن حنبل في رواية له إلى أنه حجة مقدمة على القياس. وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا . وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما ، والمختار أنه ليس بحجة مطلقاً )) اهـ . وقال الغزالي في المستصفى ( 1/ 168 ) : [ من الأصول الموهومة قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقاً ، وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس، وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم : (( اقتدوا باللذين من بعدي )) [ رواه الحاكم ( 3/ 80 ) برقم ( 4455) وصححه] ، وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا ، والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ ؟،وكيف تدعى عصمتهم حجة متواترة ؟، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ؟ ، وكيف يختلف المعصومان كيف ؟، وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ] اهـ. والرأي الذي نختاره أن قول الصحابي ليس بحجة إذا انفرد ، وهذا ما قرَّره الشوكاني في نيل الأوطار ( 5/ 176) ، إلا أنه يجب الانتباه إلى حالة انتشار قول الصحابي بلا مخالفة ، وفي هذه الحالة يكون قوله حجة، انظر شرح النووي على صحيح مسلم ( 8/ 220). فانتشار قول الصحابي بلا مخالِف دليل اتفاق الصحابة على الحكم ، وما كان ليتم ذلك لولا استنادهم إلى دليل قاطع . مع الانتباه إلى أن الصحابة إذا اختلفوا فللمجتهِد أن يأخذ ما شاء من أقوالهم ويترك ما شاء ، ولا يجوز الخروج عن أقوالهم جميعاً لأن هذا خروج على الإجماع . فإذا انتشر في أوساط الصحابة قولان كان القولان إجماعاً لا نخرج إلى ثالث ، وإذا انتشر بينهم ثلاثة أقوال كان الثلاثة إجماعاً ولا نخرج إلى رابع ، وهكذا . وتذكر قاعدة هامة أن قول الصحابي لا يَنسخ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم . ولنرجع إلى كلمة " السلف " ومعناها اللغوي . ( سَلَفَ ) _ سُلُوفاً ، وسَلَفاً : تَقَدَّم وسبق ومضى وانقضى ، فهو سالف [انظر المعجم الوجيز ،مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ص 318 ] . ولنقم الآن باستعراض الجذر " سلف " ومشتقاته في الكتاب والسنة الصحيحة لنُكوِّن فهماً دقيقاً عن الأساس الفكري لبدعة السلفية النجدية البعيد عن الكتاب والسنة الصحيحة . 1) قال الله تعالى : (( فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ )) [ البقرة: 275] . قال الطبري ( 3/ 104 ) عن معنى (( فَلَهُ مَا سَلَفَ )) : (( ما أكل وأخذ فمضى )) اهـ . وقال ابن كثير ( 1/ 328 ) : (( قال سعيد بن جبير والسدي : (( فَلَهُ مَا سَلَفَ )) فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم )) اهـ . 2) قال الله تعالى : (( وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ )) [ النِّساء : 22] . قال الطبري ( 4/ 318 ) : (( وعفا لهم عما سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك )) اهـ . 3) قال الله تعالى : (( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ))[ النِّساء : 23] . قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 2/ 90 ) : (( أي وحُرِّم عليكم الجمع بين الأختين معاً في النكاح إلا ما كان منكم في الجاهلية فقد عفا الله عنه )) اهـ . 4) قال الله تعالى : (( عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ )) [ المائدة : 95] . والمعنى : عفا اللهُ عما مضى وانقضى فلا يؤاخذكم به . 5) قال الله تعالى: (( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ )) [ الأنفال : 38]. والمعنى : أن الكافرين إذا انتهوا عن كفرهم وضلالهم وأسلموا ، فإن الله يغفر لهم ما مضى أيام كفرهم ، ويتجاوز عنهم ، فالإسلام يَجُبُّ ما قبله . 6) قال الله تعالى : (( هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ))[ يُونُس : 30] . قال القرطبي ( 8/ 334 ): (( تختبر كل نفس ما أسلفت أي جزاء ما عملت وقَدَّمتْ ))اهـ. وقال ابن كثير ( 2/ 417 ) : (( في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر )) اهـ . 7) قال الله تعالى : (( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )) [ الحاقة : 24] . قال القرطبي ( 18/ 271 ) : (( [ بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ] ، أي قدمتم في أيام الدنيا )) اهـ . 8) قال الله تعالى : (( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلأَخِرِينَ )) [ الزخرف : 56] . قال ابن كثير ( 4/ 131 ) : (( قال أبو مجلز : سلفاً لمثل من عمل بعملهم، وقال هو ومجاهد: ومثلاً أي عِبرة لمن بعدهم )) اهـ . هذه الآيات القرآنية الشريفة هي التي وردت في كل القرآن عن كلمة " سلف " وما يتفرع عنها ، وهي واضحة لمن له أدنى معرفة باللغة العربية ، ومعناها واضحٌ في تحديد الفترة الزمنية السابقة الماضية لا تحديد مذهب إسلامي أو منهجية عَقَدية أصولية فقهية . فمعناها لا يخرج عن الإطار اللغوي المعروف . وعبثاً حاول البعض إخراج المعنى إلى المجال الديني ، فهذا مضاد لسياق الآيات الكريمة ، وقواعد اللغة العربية . لذا أولئك الذين ينادون بما يسمونه السلفية ليس لهم أي حجة أو بَيِّنة من القرآن الكريم لتثبيت مصطلحهم البدعي وانتزاع الشرعية الدينية له ، فالقرآن الكريم أورد لفظة " سلف " وما يتفرع عنها ليُظهِر المعنى الزمني لهذه اللفظة وما يتفرع عنها ، فالمعنى القرآني حصر هذه اللفظة في المجال اللغوي فقط لا الدِّيني أو التَّعبدي . فمن ينادون بهذه البدعة لا دليل لهم من القرآن الكريم ، والله تعالى أجل وأعلم . وأولئك الذين كوَّنوا مذهباً بدعياً وأسموه السلفية مرجعهم في ذلك إلى أهوائهم ، فالسلف الصالح لم يكن لهم مذهب محدَّد لهم ، فالصحابة _ رضوان الله عليهم _ اختلفت اجتهاداتهم ومذاهبهم ، والتابعون كذلك ، ومن تبعهم بإحسان كذلك ، والإسلام يتسع لاجتهادات مختلفة ويعترف بها ما دامت ضمن المنهج الإسلامي المبني على الكتاب والسنة الصحيحة . أما المعاني الواردة في السنة النبوية الشريفة حول لفظة السلف فمختصة بالمعنى اللغوي فحسب، وهو معنى التقدم والسبق دون وجود أية إشارة لمعنى ديني أو مذهب إسلامي . والذين لم يجدوا في القرآن الكريم ما يؤيد بدعتهم المذهبية انطقلوا إلى السنة النبوية فلم يجدوا سوى المعنى اللغوي المعروف في لغة العرب ، لكنهم احتجوا بهذا الحديث النبوي الذي يُعتبَر عمدتهم في هذا السياق بعد أن فهموه فهماً خاطئاً ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة فاطمة الزهراء _ عليها السلام_ : (( فإني نِعْمَ السَّلف أنا لك )) [متفق عليه . البخاري ( 5/ 2317 ) برقم ( 5928 ) ، ومسلم ( 4/ 1904 ) برقم (2450) ] . ومن العجيب أن يُحمَل هذا الحديث الشريف على شرعنة بدعة السلفية استناداً إلى فهم مغلوط لمعنى كلمة " السلف "، ولنعد إلى تفسير الحديث فقد قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 7 ) : (( والسَّلف المتقدِّم ، ومعناه أنا متقدِّم قُدَّامك فَتَرِدين عليَّ )) . وقد تبيَّن لك عدم وجود مرجعية من القرآن أو السنة لما يسمى بالسلفية ، فليست هي بأكثر من مذهب بدعي حزبي غير منقَّح فلا أصول قاعدية معتمَدة له ولا فروع ، يستند إلى كثير من الأفكار المنحرِفة لابن تيمية قديماً ومحمد بن عبد الوهاب حديثاً ، ومن هنا كانت التسمية الحقيقية لهذه الفئة السلفية التَّيمية النجدية ، فابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب هم سلف من يقول بهذه البدعة، والأمر لا علاقة له بالسلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ في كثير من الأمور التي يعتنقها من يسمون أنفسهم بالسلفية . وفي هذا الصدد سنحاول فهم أهم العقائد والأفكار التي يعتنقها محمد بن عبد الوهاب ، وذلك من خلال نقد كتابه المسمى بالتوحيد، علماً بأننا سننقد عقائد ابن تيمية بشكل تفصيلي في هذا الكتاب لاحقاً ، وبعض العقائد التي روَّجها مجسمة الحنابلة الذين أساؤوا إلى الإمام أحمد وشَوَّهوا مذهبه ، وصار _ للأسف _ لا يُقال حنبلي إلا قيل عنه مُجَسِّم ، بعد أن أداروا ظهورهم لعقائد الإمام أحمد المستقيمة المبنية وفق الأصول الشرعية ، وأكثر من يتحمل المسؤولية هو ابن تيمية الحراني لما له من الشهرة وسعة العلم، حيث نشر عقائد التجسيم وكثير من العقائد المنحرِفة ونسبها إلى السلف الصالح وهم منها براء.وقد نقل الزمخشري في الكشَّاف ( 2/ 573 ) طبع مصر عام 1307 ما يؤيد تلوث الحنابلة بالتجسيم وانتشار ذلك بين العلماء فقال : إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به أكتمه ، كتمانه لي أَسْلــمُ وإن حنبلياً قلتُ قالوا بأنـني ثَقيلٌ حُلُولِيٌّ بغيضٌ مُجَسِّمُ نقد كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب : هذا الكتاب يُعتبَر من عمدة الكتب عند الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ، وهو من تأليف شيخهم محمد بن عبد الوهاب ، وقد قام الكثيرون بشرحه ، وهذا الكتاب فيه الحق وفيه الباطل ، والباطل ليس نابعاً من النصوص الشرعية ، والعياذ بالله تعالى ، بل هو نابع من سوء الفهم والاستنتاج والاجتهاد المغلوط المفتقِد إلى المنهجية العلمية الإسلامية ، وهذا غير مستغرَب على محمد بن عبد الوهاب الذي كان ناقلاً لا أكثر لأفكار ابن تيمية وابن القيم ، فهو ناسخ فقط لا إمامٌ ولا عالِم ، ولم يُؤَصِّل علماً ذاتياً مبنياً على منهجية علمية مُحْكَمة مثلما فعل الأئمة الأعلام المجتهدون طوال العصور . مع التنبيه إلى أنني أنقد بعض الأفكار التي رسَّخها الكتابُ مع شروحاته واختصاراته ، فربما أنقد شيئاً من الشرح لا من الكتاب الأصلي،ولستُ معنياً بنقد شخصي لمحمد ابن عبد الوهاب بقدر ما أنا معنيٌّ بنقد بعض الأفكار المنحرِفة سواءٌ كانت في الكتاب الأصلي أو في بعض الشروحات والاختصارات، والنسخة التي بين يديَّ التي أنقدها هي " مع عقيدة السلف ، تبسيط كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " للشيخ مصطفى العالم ( 1392هـ ، 1972م )، كما أنني سأُرَكِّز على بعض المسائل بشكل خاص دون الخوض في نقد الكتاب كاملاً، وهذه المسائل التي تعرضتُ لها تكشف عن الجذور الفكرية للسلفية التَّيمية النجدية بشكل عام وحاسم ، وتكشف عن المستوى الفكري لمحمد بن عبد الوهاب خاصةً ، علماً بأن الكتاب فيه كثير من الأخطاء ربما أنقدها كاملةً في المستقبل مع تخريج تفصيلي للأحاديث وتمييزها_ إن شاء الله_، وإليك بعض الانتقادات العلمية الإجمالية الموجَّهة للفكر السلفي التَّيمي النَّجدي الذي رسَّخه الشيخ محمد بن عبد الوهاب : أولاً : مسألة التبرك بالشجر أو الحجر ونحوهما ، فالسلفية التيمية النجدية تعتبر كل من تبرَّك بهذه الأشياء مُشْرِكاً خالداً في نار جهنم ، وهذا الكلام غير صحيح وفيه تفصيل واسع : [ أ ] جواز التبرُّك بما مس جسد النبي صلى الله عليه وسلم من وضوء وعَرَق أو شَعْر : وهذا معروف عند الصحابة_ رضوان الله عليهم _ ولا خلاف فيه البتة . فعن سيدنا أبي موسى رضي الله عنه قال : كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ، ومعه بلال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : ألا تنجز لي ما وعدتني ، فقال له : (( أَبْشِرْ ))، فقال: قد أكثرتَ عليَّ من أبشر ، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال : (( رَدَّ البشرى فاقبلا أنتما )) ، قالا : قبلنا ، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال : (( اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا ))، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما ، فأفضلا لها منه طائفة[متفق عليه . البخاري ( 4/ 1573 ) برقم ( 4073 ) ، ومسلم ( 4/ 1943 ) برقم ( 2497 ) ]. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم(15/82) وقد أفرد باباً خاصاً عن التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره الشريفة : (( باب قربه صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به وتواضعه لهم . قوله : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها ، وفي الرواية الأخرى رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل )) اهـ . وفي صحيح البخاري ( 2/ 976 ) : إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه ، قال : (( فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجِلْده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له )) . وعن ابن سيرين قال : قلتُ لعبيدة : عندنا من شَعْر النبي صلى الله عليه وسلم ، أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس ، فقال : لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها[رواه البخاري ( 1/ 75 ) برقم ( 168 ) ] . إذاً ، التبرك بما مس جسد النبي صلى الله عليه وسلم من وضوء أو عَرَق أو نحو ذلك جائز بلا خلاف ، فقد تكاثرت الأدلة الصحيحة وتلاحقت على ثبوت ذلك ، ولا أعلم في ذلك خلافاً مطلقاً . والقصد من التبرك هو نيل البركة والطهارة والشرف بعد ملامسة الأشياء التي مسَّت جسد أشرف مخلوقات الله تعالى على الإطلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد بأن هذه الأشياء لا تنفع ولا تضر استقلالاً ، وإنما تنفع وتضر بشكل خاطع كلياً لمشيئة الله تعالى . [ب] جواز التبرك بالحجر الأسود، وتقبيله، واستلام الركن اليماني : فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فَقَبَّله فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلك ما قَبَّلْتك [رواه البخاري(2/ 579)برقم( 1520 ) ومسلم ( 2/ 925 ) برقم ( 1270 ) ] . قال الحافظ في الفتح ( 3/ 462و463 ) : (( قال الطبري : إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية ، فأراد عمر أن يُعلِّم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان )) اهـ . قلتُ : أما الحجر فهو ينفع ويضر بإذن الله تعالى . ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق )) [رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 627 ) برقم ( 1680 ) وصحَّحه ، وصححه ابن خزيمة ( 4/ 221) برقم ( 2736 ) ، وصححه ابن حبان ( 9/ 25) برقم ( 3711 ) ] . وقال الحافظ في الفتح ( 3/ 475 ) : (( في البيت أربعة أركان : الأول له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه ، وكونه على قواعد إبراهيم ، وللثاني الثانية فقط وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط ، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان هذا على رأي الجمهور . واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضاً . فائدة أخرى : استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب،وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأساً، واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك ، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين )) اهـ . قلتُ : والمقصود من كلام سيدنا عمر رضي الله عنه أن الحجر ليس له نفع أو ضر بشكل استقلالي خارج عن إرادة الله تعالى . والتبرك بالحجر الأسود يأتي من باب نيل الشرف والرفعة والبركة ، وليس من باب أن الحجر يضر وينفع استقلالاً كما كان يعتقد أهل الجاهلية في أحجارهم . ونخلص إلى قاعدة جليلة عامة وليست مخصَّصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أن تقبيل الأشياء المبارَكة والتمسح بها والتبرك بها مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفاعل والمؤثِّر الحقيقي أمر طيب رائع لا إشكال فيه البتة ، فليست مسألة شركية ولا تقود إلى الشرك . فليس لقائل أن يقول بمنعها سداً للذريعة ، فهذا الأمر غير مقبول نهائياً ، فنحن لا نستطيع أن نمنع زراعة العنب خوفاً من تحويله إلى خمر . إنها حجة العاجز ولا حجة أصلاً . وبما أننا نُقَبِّل الحجر الأسود اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا شركاً ، فكيف يكون التبرك بحجر آخر أو التمسح بأشياء طيبة شركاً مع اعتقاد أن الفاعل والمؤثِّر هو الله تعالى وحده ؟ . وقد أخطأ الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين في هذه المسألة خطأً واضحاً وجانبهم الصواب ، بل ودخلوا في الضلال بعد أن رموا من يفعل ذلك بالشِّرك والخروج من الإسلام ، وما هو إلا أمر مباح لا شيء فيه . [ج]ومن المعلوم تبرك سيدنا ابن عمر _رضي الله عنهما_ بالأماكن التي تواجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وشدة اتباعه لآثاره الشريفة صلى الله عليه وسلم . قال الحافظ في الفتح ( 1/ 569 ): (( إن ابن عمر كان يتبرك بتلك الأماكن ، وتشدده في الاتباع مشهور ، ولا يعارض ذلك ما ثبت عن أبيه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا قد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض ، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً لأن ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجباً وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر ، وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصَلِّيَ في بيته ليتخذه مُصَلَّى وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين )) اهـ . قلتُ: كما أن اجتهاد ابن عمر لا ينقضه اجتهاد والده،فقول المجتهِد لا ينقض قولَ مجتهِد آخر. وحديث عتبان حجةٌ في التبرك بآثار الصالحين ، وهو متفق عليه . البخاري ( 1/ 164) ومسلم ( 1/ 455 ) : أن عتبان بن مالك ، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً من الأنصار أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قد أنكرت بصري وأنا أُصلِّي لقومي ، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ، ووددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( سأفعل إن شاء الله ))، قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: (( أين تحب أن أُصليَ من بيتك )) ، قال : فأشرتُ له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبَّر ، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلَّم )) . ولا ينبغي التعلق بالشبهات دون معرفة العلة الحقيقية التي تقف وراء الأحداث والأقوال ، والحكمة المرجوة من وراء الفعل ، فاحذر أن تتعلق بالظاهر دون فهم كافة التفاصيل والأحداث وملابسات الأمور ، وللأسف فإن الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين تعلَّقوا بالظاهر دون الغوص في الحكم والأحداث المرافقة لمجريات الأمور ، وهذا أوقعهم في تناقضات شديدة ، وأخطاء كارثية سوف يأتي ذكرها تفصيلاً _ إن شاء الله تعالى _ . وبقيت شبهتان استحوذت على تفكير الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ، فلم يعودوا قادرين على النظر وراء الأمور ، وسوف نُفَنِّد هاتين الشبهتين بشكل علمي مدروس وفق منهجية البحث العلمي النابع من الكتاب والسنة الصحيحة : [ أ]عن أبي واقد الليثي قال: وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح رسولُ الله مكة خرج بنا معه قبل هوازن حتى مررنا على سدرة الكفار ، سدرة يعكفون حولها ويدعونها ذات أنواط ، قلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( الله أكبر،إنها السنن،هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:[ اجْعَل لَّنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ] ( الأعراف: 138 ) )) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنكم لَتَرْكَبُنَّ سنن من قبلكم )) [رواه ابن حبان في صحيحه ( 15/ 94 ) برقم ( 6702 ) . وأحمد ( 5/ 218) برقم ( 21947) ، والنَّسائي في سننه الكبرى ( 6/ 346 ) برقم ( 11185 )، والترمذي ( 4/ 475 ) برقم ( 2180) وصححه . والحديث له طرق عديدة تقوِّيه لخصها ابن كثير في البداية والنهاية ( 1/ 277 ) ] . قال الحافظ ابن حجر في النهاية في غريب الأثر ( 5/127) : (( اجعل لنا ذات أنواط ، وهي اسم شجرة بعينها ، كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم ، أي يعلقونه بها ، ويعكفون حولها ، فسألوه أن يجعل لهم مثلها،فنهاهم عن ذلك.وأنواط جمع نُوط، وهي مصدر سُمي به المنوط)) اهـ. قلتُ : تعلَّق الذين يُسمون بالسلفيين بهذا الحديث فمنعوا التبرك بالحجر والشجر ونحوهما . وهذا الاستدلال فيه نظر ، فالحديث السابق يتحدث عن الكفار الذين اتخذوا الأشجار والأحجار جزءاً مقسوماً من آلهتهم ، ونوعاً من العبادة لغير الله تعالى . ومن الواضح أن الحديث الشريف يتحدث عن الكفار ، فلا يجوز تطبيقه على المسلمين الموحِّدين الذين إن تبرَّكوا بالشجر أو الحجر الذي فيه خاصية دينية عامة أو خاصة فهم لا يعبدون هذه الأشياء من دون الله تعالى كما هو واضح ، بل إنهم يقصدون نيل البركة والشرف . فمن تمسَّح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو بقبر أحد الصحابة _ رضوان الله عليهم _ أو بقبر رجل صالح ، أو قبَّله ، أو مسَّه مُتَبَرِّكاً فلا شيء عليه البتة، ومن قال بالكراهة حمل الأمر على قلة الأدب ، إذ إن علة الكراهة نفي الأدب ، أما من كان مُؤَدَّباً وذا يقين بالله تعالى النافع الضار وحده ، فلا يُكْرَه ذلك . وهذا القول الذي أدين الله تعالى به طبقاً لما مر معنا من أدلة شرعية . [ب] وهناك شبهة تعلَّق بها إخواننا الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ، وهي قضية شجرة بيعة الرضوان . وفي هذه القصة كلام طويل ، نوجزه على النحو التالي : قال الحافظ في الفتح ( 7/ 448 ): (( وجدتُ عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقُطعت )) اهـ . قلتُ : هذا سند صحيح حتى نافع ، لكنه منقطع بين نافع وعمر ، فنافع لم يلق سيدنا عمر ولم يرو عنه ، فقد قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 10/ 369 ) : (( وقال أحمد بن حنبل : نافع عن عمر منقطع )) اهـ . وفي عمدة القاري ( 17/ 54 ) : (( وقال الكرماني : أما نافع عن عمر فهو مرسل، لأن نافعاً لم يدرك عمر )) اهـ . وقال الترمذي في سننه ( 1/ 395 ) : (( وهذا لا يصح أيضاً ، لأنه عن نافع عن عمر منقطع )) اهـ . ثانياً : قال الشيخ إن الاستعاذة بغير الله تعالى من الشِّرك ، وهذا الكلام فيه تفصيل ولا يؤخذ على إطلاقه . فالاستعاذة لغةً : هي الالتجاء والاحتماء وطلب الحفظ من الشرور والأشرار . فالمسلم يستعيذ بالله تعالى ، هذا لا خلاف فيه . ولكن يجوز له أن يستعيذ بغير الله تعالى في الأمور التي في متناول المخلوق . فمثلاً لو أن شخصاً هارباً من اللصوص ودخل مركزاً للشرطة ، وقال للضابط : أعوذ بك من هؤلاء اللصوص ، أي أحتمي وألتجئ إليك من أجل حمايتي من هؤلاء ، ففي هذه الحالة لا شيء عليه مطلقاً ، وقِسْ عليها باقي الحالات. ولو قال شخص : أعوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يردني خائباً ، فلا شيء عليه البتة ، لأن معنى هذا الكلام : أحتمي وألتجئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضني ، وهذا الكلام صحيحٌ شرعاً ولغةً . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يعوذ عائذ بالبيت )) [رواه مسلم ( 4/ 2208 )]. ولو كانت الاستعاذة بغير الله تعالى شِرْكاً لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العائذ ، لكن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم تشريع وموافقة على الفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الباطل . ثالثاً : زعم الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن الاستغاثة بغير الله تعالى شِرْك ، وقد وضَّحنا بطلان هذا القول باستفاضة تفصيلية بالأدلة الشرعية في موضوع " التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين " الذي سبق عرضه في هذا الكتاب . رابعاً : رفض تسويد النبي صلى الله عليه وسلم ( أي منع إطلاق لفظة سَيِّدنا على النبي صلى الله عليه وسلم ) . وهذه نقطة كارثية تُعتبَر من أساسات بدعة السلفية التيمية النجدية ، وهي تنطوي على عدم توقير النبي صلى الله عليه وسلم . واعلم أخي المسلم أن الذي يحجب السيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إنه ليس سَيِّداً أو ليس سَيِّدنا فهذا مرتد عن الإسلام يُستتاب ، فإن تاب تاب وإلا قُتِل حَدَّاً . وسبب الردة في هذا الموضوع تكذيبه لقول الله تعالى عن سيدنا يحيى صلى الله عليه وسلم : (( وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيَّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ))[ آل عمران: 39]. فالله تعالى أثبت السيادة لسيدنا يحيى صلى الله عليه وسلم ، وبإجماع المسلمين من كل الطوائف أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمخلوقات ، فيكون أولى بالسيادة ، كما أن السيادة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم في النصوص الشرعية المتضافرة . والله تعالى يقول : (( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [ الأعراف : 157] . ومعنى (( عَزَّرُوهُ )) هو وقَّروه وعظَّموه وحموه من الناس . انظر تفسير الطبري ( 9/ 85 ) . وقال سَيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سَيِّدُ الناس يوم القيامة )) [متفق عليه . البخاري ( 4/ 1745 ) برقم ( 4435 ) ، ومسلم ( 1/ 184 ) برقم ( 194 )] . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 66 ) : (( إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم تحدثاً بنعمة الله تعالى ، وقد أمره الله تعالى بهذا ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صلى الله عليه وسلم . قال القاضي عياض : قيل السَّيِّد الذي يفوق قومه والذي يفزع إليه في الشدائد والنبي صلى الله عليه وسلم سَيِّدهم في الدنيا والآخرة، وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها وتسليم جميعهم له )) اهـ . قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مخاطباً سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه : (( فأنتَ سَيِّدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ))[رواه البخاري( 3/ 1341 )]. وكان يقول سَيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( أبو بكر سَيِّدُنا، وأعتق سَيِّدَنا( يعني بلالاً ) ))[ رواه البخاري ( 3/ 1371 ) برقم ( 3544 )] . وقال سَيِّدنا سهل بن حنيف رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : (( يا سَيِّدي ، والرُّقى صالحة ؟ ))[ رواه الحاكم ( 4/ 458 ) برقم ( 8270 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ] . وقال سَيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سيدنا الحسن رضي الله عنه : (( إن ابني هذا سَيِّد ))[ رواه البخاري ( 2/ 962 ) برقم ( 2557 ) ] . وقال سَيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار عن سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه : (( قوموا إلى سَيِّدكم ))[ متفق عليه. البخاري ( 4/ 1511 )برقم ( 3895 )، ومسلم ( 3/ 1388) برقم ( 1768 )] . ولنرد الآن على الشبهات التي تعلَّق بها أتباع بدعة السلفية التيمية النَّجدية : [ أ] عن سَيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله ))[ رواه البخاري ( 3/ 1271 ) برقم ( 3261 )]. استدلوا بهذا الحديث على تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من السيادة لأنه إطراء مذموم من وجهة نظرهم القاصرة، وهذا استدلال لا نصيب له من الصحة ، لأن الإطراء المقصود في الحديث الشريف مُقَيَّد بإطراء النصارى لسيدنا المسيح صلى الله عليه وسلم ، ومعروف أن إطراء النصارى هو تأليه سيدنا المسيح صلى الله عليه وسلم واتخاذه إلهاً وابناً لله تعالى، أما نحن فنمدح سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وباقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما فيهم، وليس فيهم إلا الحق والخير والشرف والسيادة بوصفهم عباداً لله تعالى وأنبياء طاهرين ، والقياس مع الفارق باطل ، فلا ينبغي بناء استدلال خاطئ على سوء فهم للحديث الشريف . قال الحافظ في الفتح ( 6/ 490 ): (( قوله : لا تطروني، بضم أوله، والإطراء المدح بالباطل، تقول : أطريت فلاناً مدحته فأفرطت في مدحه. قوله:كما أطرت النصارى ابن مريم أي في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك )) اهـ . واستناداً إلى هذا المعنى قال الإمام البوصيري في البردة : دَعْ ما ادَّعته النصارى في نَبِيِّهــم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكمِ وانسُب إلى ذاته ما شئتَ من شَرَفٍ وانسُبْ إلى قَدْره ما شئتَ من عِظَمِ [ب] عن مطرف قال : قال أبي : انطلقتُ في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أنتَ سَيِّدُنا، فقال : (( السَّيِّد الله تبارك وتعالى ))، قلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال : (( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان ))[ رواه أبو داود ( 4/ 254 ) برقم ( 4806 ) واللفظ له ، والنَّسائي في سننه الكبرى ( 6/ 70) برقم ( 10076 ) وعمل اليوم والليلة ( 1/ 249 ) برقم ( 247 ) . وقال المقدسي في الفروع ( 3/ 414 ) : (( رواه أحمد ، ورواه النسائي في اليوم والليلة من طرق ، ورُوِيَ أيضاً في اليوم والليلة بإسناد جيد )) اهـ ] . وهذا الحديث الشريف يعكس مدى تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ينفي عنه السيادة أو الأفضلية على الإطلاق سواءٌ قلتها في وجهه أو في غيابه لما تقدَّم من الأدلة الشرعية السابقة ، فلا دليل البتة لمن نفى السيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل خاب وخسر من تجرَّأ على ذلك . قال المقدسي في الفروع ( 3/ 415 ) : (( قال ابن الأثير : في قوله : السَّيِّد الله ، أي الذي تحق له السيادة كأنه كره أن يُحمَد في وجهه وأحب التواضع )) اهـ . خامساً: نشر عقائد التجسيم استناداً إلى أحاديث آحاد ، مع العلم أن خبر الواحد أو حديث الآحاد مقبول غير مردود يفيد العمل في جميع الأبواب الفقهية وفي فروع الاعتقاد إلا إذا عارض نَصَّاً قطعي الورود وقطعي الدلالة ( آية قرآنية أو حديث متواتر ) ، وفي هذه الحالة يُضْرَب به عرض الحائط. ودلالة حديث الآحاد ظنية وليست قطعية ، وبذلك يفارق القرآن والحديث المتواتر والإجماع . وإليك شبهاتهم التي بنوها على آحاديث الآحاد ، وتفنيدها : _ قال عبد الله: إن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، إن الله يمسك السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قرأ : (( [ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ] )) ( الزُّمَر: 67 ) . [رواه البخاري ( 6/ 2712 ) برقم ( 7013 ) واللفظ له ، ومسلم ( 4/ 2147 ) برقم ( 2786 ). وفي بعض الألفاظ التي وردت في البخاري ( 4/ 1812) برقم( 4533 ) : (( فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحَبر )). ولفظة " تصديقاً " هي من تصرف الرواة ، وهي مردودة بشكل قاطع لأنها تعارض العقيدة الإسلامية التي تُنَزِّه الخالق تعالى عن مشابهة مخلوقاته. واليهود غارقون في التشبيه والتجسيم . وضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب صغر عقل اليهودي وحُمقه وغرقه في الاستهزاء والسخرية سواءٌ كان مقصوداًَ أو غير مقصود ، وعدم معرفته بربه تعالى ، لذلك تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية الشريفة: (( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ )). قال الحافظ في الفتح( 13/ 398) نقلاً عن القرطبي : (( قوله إن الله يمسك الى آخر الحديث، هذا كله قول اليهودي وهم يعتقدون التجسيم، وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي ولهذا قرأ ثم ذلك : (( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ))، أي ما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه فهذه الرواية هي الصحيحة المحققة وأما من زاد "وتصديقاً له" فليست بشيء فإنها من قول الراوي وهي باطلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُصَدِّق المحال، وهذه الأوصاف في حق الله محال ، إذ لو كان ذا يد وأصابع وجوارح كان كواحد منا فكان يجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلهاً إذ لو جازت الإلهية لمن هذه صفته لصحت للدجال، وهو محال فالمفضي إليه كذب، فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله في الرد عليه (( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ )) ، وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله، فظن الراوي أن ذلك التعجب تصديق وليس كذلك )) اهـ ] . قال أبو سليمان الخطَّابي : (( وذكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السنة التي شرطها في الثبوت ما وصفنا ، فليس معنى اليد في الصفات معنى اليد حتى يتوهم بثبوتها الأصابع ، بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه ))[ انظر دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه للإمام ابن الجوزي ، ص 206 ] . _ عن سَيِّدنا عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ، ثم يطوي الأرضين بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ )) [رواه مسلم ( 4/ 2148)برقم ( 2788 )] . وهذا الحديث رواه البخاري ( 4/ 1812 ) دون ذكر لفظة " بشماله " ، فعن سَيِّدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يقبض اللهُ الأرضَ ويطوي السماوات بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟ )) . ويؤيد هذا الحديث ما رواه زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم_ عن الله تعالى_: (( وكلتا يديه يمين ))[ رواه مسلم ( 3/ 1458 ) برقم ( 1827 ) ] . وهذا يوهن ذكر الشِّمال ، ويظهر لنا أن لفظة " الشمال " من تصرف الرواة لا أكثر . وقال الإمام ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص 210 ) : (( فأما لفظ " الشمال" فهي في رواية مسلم ، وهي مما انفرد به عن عمر بن حمزة عن سالم عن ابن عمر ، وقد روى الحديث نافع وغيره عن ابن عمر فلم يذكروا لفظة الشمال، ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر أحد منهم في الشمال ، وقد رُوِيَ ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعيف بالمرة ، ورواه بعض المتروكين )) اهـ . قلتُ : والعقيدة السليمة في هذا الموضوع التسليم بالآية القرآنية : (( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ )) [ الزُّمَر: 67] ، واعتماد الأحاديث الخاضعة لهذه الآية القرآنية الشريفة . _ عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تدرون كم بين السماء والأرض ؟ )) ، فقلنا : الله ورسوله أعلم ، فقال : (( بينهما مسيرة خمسمائة سنة وبين كل سماء إلى السماء التي تليها مسيرة خمس مائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمس مائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهم وأظلافهم كما بين السماء والأرض ، والله فوق ذلك ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء هذا ))[ رواه الحاكم ( 2/ 410 ) برقم ( 3428 ) وصححه !، ووافقه الذهبي !، وأحمد ( 1/ 206) برقم ( 1770 ) ، والترمذي ( 5/ 424 ) برقم ( 3320) وقال : (( هذا حديث حسن غريب )) ، وأبو داود ( 4/ 231 ) برقم ( 4723 ) ، وابن ماجة ( 1/ 69 ) برقم ( 193 ) ، وأبو يعلى ( 12/ 75 ) برقم ( 6713 ) اهـ . قلتُ : وتعجبتُ من تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له ، ففي سنده يحيى بن العلاء ، فقد اعترف الحاكم نفسه بأن يحيى واهٍ ( المستدرك 2/ 316 ) ، واعترف الذهبي كذلك بأن يحيى واهٍ ، ومع هذا فقد صحَّحاه ! ] . قلتُ : وهذا الحديث الواهي سنداً ومتناً من أساسات التجسيم عند أتباع بدعة السلفية التيمية النجدية ، وفيه كوارث سيأتي تفصيل تفنيدها . وبالطبع فهو لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلج الجمل في سم الخياط ، وعلى فرض أن سند هذا الحديث صحيح فإنه مرفوض لأن متنه شاذ . وهناك أحاديث كثيرة صحيحة سنداً شاذة متناً ، وهذا النوع من الأحاديث لا يستطيع أن يكتشفه إلا الذي رسخت قدمه في هذا العلم ، وتعمَّق في العلوم الشرعية كلها . وللحديث الصحيح خمسة شروط : 1) اتصال السند 2) عدالة الراوي 3) ضبطه 4) عدم الشذوذ 5) عدم العلة القادحة . مع الانتباه إلى أن الشرطَيْن الأخيرَيْن لا يدركهما إلا العلماء الذين جمعوا بين الفقه والحديث مستندين إلى عقيدة راسخة من الكتاب والسنة المتواترة ، أما غيرهم فلن يتمكنوا من اكتشاف الشذوذ والعلة القادحة . قال الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية ( 1/ 141 ) والكلام منسوب لسيدنا الإمام الشافعي : (( ليس الشاذ من الحديث أن يرويَ الثقة حديثاً لم يروه غيره ، إنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقات حديثاً فيشذ عنهم واحد فيخالفهم )) اهـ . قلتُ : فما بالك إذا خالف الحديثُ القرآنَ أو حديثاً متواتراً ؟! . ففي هذه الحالة لا بد أن يُضْرَب به عرض الحائط ، لأن القرآن والسنة المتواترة لهما صفة قطعي الورود . وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث ( 1/ 119 ) : (( فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث أو وهم فيه راوٍ أو أرسله واحد فوصله واهم )) اهـ . وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 457 ) مُوَضِّحاً أننا نقبل الحديث الصحيح سنداً إلا إذا تبيَّن لنا العلة القادحة : (( إلى أن تتبين العلة القادحة بأن تكون مفسرة ولا تقبل التأويل )) اهـ . وقال الإمام ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص 143 ) : (( اعلم أن للأحاديث دقائق وآفات لا يعرفهما إلا العلماء الفقهاء ، تارة في نظمها ، وتارة في كشف معناها )) اهـ . ولنرجع إلى خرافة الأوعال لتفنيد هذا الحديث الواهي سنداً ومتناً الذي لا يصح ، فنقول : [ أ] يحيى بن العلاء ، وهو أحد الرواة في السند الذي عند الحاكم وأحمد وأبي يعلى . قال الحاكم في المستدرك ( 2/ 316 ) : (( يحيى واهٍ ). قال ابن أبي حاتم ( 9/ 179 ): (( قال يحيى بن معين: ليس بشيء . قال عمرو بن علي : متروك الحديث جداً )) اهـ. قال البخاري في التاريخ الكبير (8/ 297 ): (( كان وكيع يتكلم فيه )) اهـ. وقال ابن عدي في الكامل ( 7/ 198): (( قال النَّسائي : متروك الحديث )) اهـ. قال المزي في تهذيب الكمال ( 31/ 487 ): (( وقال أبو حاتم : سمعتُ أبا سلمة ضعَّف يحيى بن العلاء )) اهـ . وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 595 ) : (( رُمِيَ بالوضع )) اهـ . وقال الذهبي في الكاشف ( 2/ 372 ) : (( تركوه )). [ب] أما في السند الذي عند أبي داود والترمذي وابن ماجة ففيه " عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس " . قال البخاري في التاريخ الكبير ( 5/ 159) عن عبد الله بن عميرة : (( ولا نعلم له سماعاً من الأحنف )) اهـ . وقال ابن عدي في الكامل ( 4/ 232 ) : (( لا يُعلَم له سماع من الأحنف )) اهـ . أما متن الحديث شاذ، وفيه كوارث لا يعلمها إلا الله تعالى والراسخون في العلم، وقد استندتُ لنسف متن الحديث إلى كتاب " سبيل التوفيق " للشيخ عبد الله ابن الصِّديق الغماري ، وقمتُ بتفصيلها بشكل منهجي أكثر توسعاً مع الأدلة الشرعية : [أ] القرآن الكريم يفيد أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية لا اليوم . قال الله تعالى : (( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ )) [ الحاقة : 17] . [ب] القرآن الكريم نعى على الكفار تسمية الملائكة إناثاً ، فقال الله تعالى : (( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً )) [ الإسراء : 40] ، والحديث يفيد أنهم أوعال ، والإناث أشرف من الأوعال . [ج] الوعل هو التيس الجبلي. قال المرداوي في الإنصاف( 3/ 537 ) : (( وهو التَّيس الجبلي، قاله الجوهري وغيره )) اهـ. والوصف به يدل على الذم، فقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّل تيساً مستعاراً، فقد قال سَيِّدنا عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بالتَّيس المستعار ))، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (( هو المحلِّل ، فلعن الله المحلِّل والمحلَّل له ))[ رواه الحاكم ( 2/ 217 )برقم ( 2804 ) وصحَّحه، ووافقه الذهبي ، وابن ماجة( 1/ 623)برقم ( 1936) ، والدارقطني ( 3/ 251 ) برقم ( 28) ، والبيهقي ( 7/ 208 ) برقم ( 13965 ) ، والطبراني ( 17/ 299 ) برقم ( 825 ).وقال الذهبي في الكبائر ( ص 157):(( رواه ابن ماجة بإسناد صحيح)) اهـ. وقال الهيثمي في المجمع ( 4/ 267 ): ((عن أبي هريرة قال : لعن رسولُ الله المحلل والمحلل له . اهـ. رواه أحمد والبزار ، وفيه عثمان بن محمد الأخنسي ، وثقه ابن معين وابن حبان . وقال ابن المديني له عن أبي هريرة أحاديث مناكير )) ] . ووصف الذين يتخلفون في نساء المجاهدين بالفاحشة بأنهم ينبّون نبيب التَّيس . فقد قال سَيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التَّيس ))[ رواه مسلم ( 3/ 1319 ) برقم ( 1692 )] . وبالتالي فإن الوصف بالوعل ( التيس الجبلي ) يدل على الذم الأكيد ، وهذا محال في حق ساداتنا الملائكة _عليهم السلام _ الذين هم عباد مُكَرَّمون أصحاب مكانة سامية . [د] القرآن الكريم يصف الملائكة بأنهم ذوو أجنحة ، فقد قال الله تعالى : (( الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ )) [ فاطر : 1] . أما الحديث فجعلهم أوعالاً _ والعياذ بالله تعالى _ . وهكذا نكون قد وضَّحنا أهم الكوارث التي وضعها محمد بن عبد الوهاب في كتابه الذي سماه بالتوحيد ، والذي صار فيما بعد دستوراً لبدعة السلفية التَّيمية النَّجدية . ولنلخِّص المسائل الخمس المرفوضة التي دحضناها ونسفناها وفق المنهج العلمي الشَّرعي ، وهي : 1) التبرك بالشجر والحجر من الشِّرك ، 2) الاستعاذة بغير الله تعالى من الشرك ، 3) الاستغاثة بغير الله تعالى من الشرك ، 4) رفض تسويد النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تعظيمه ، 5) نشر عقائد التجسيم ونسبها إلى السلف الصالح . ومن الأخطاء المنهجية التي اتخذها أتباع محمد بن عبد الوهاب أساساً لعقيدتهم توسعهم الغريب في مفهوم البدعة ، فهم يرفضون تقسيم البدعة نهائياً ، ويعتبرون كل بدعة هي ضلالة بدون نقاش، وهذا الكلام سيأتي تفنيده تفصيلاً وبالأدلة القاطعة . وبدعة النجدية ظهرت في الصحراء العربية نتيجة الإفراط في تقديس الأشخاص والأضرحة بشكل يخالف الدِّين ، فنشأتها كانت طيبة ذات أهداف شرعية نبيلة لكنها سرعان ما انحرفت ، بعد أن تم أدلجتها سياسياً لتحقيق مكاسب سياسية وتثبيت الحكم السياسي الذي صبغ نفسَه بإطار ديني لنيل الشرعية ، وهذا ما كان ليتم لولا القتل العشوائي الجنوني الذي ارتكبه أتباع بدعة النجدية لأهداف سياسية لا علاقة لها بالدِّين . وقد تطرف هؤلاء المبتدعون بشكل غريب ، حتى إن بعض العامة منهم يعتبرون المدخِّن بمنزلة المشرك ، وهم بذلك يشبهون الخوارج . وكانوا في أول أمرهم يحرِّمون القهوة على أنفسهم وما يماثلها لكنهم تساهلوا في هذا الأمر بعد ذلك . وأيضاً حرَّم علماؤهم التصوير الفوتوغرافي ، ويظهر ذلك في فتاواهم المتطرفة ، وقد توسَّعوا في مفهوم البدعة بشكل جنوني ، حتى إنهم منعوا تجديد ستائر الروضة النبوية الشريفة معتبرين ذلك بدعة مرفوضة . كما أنهم شديدو التعصب لأفكارهم، فهم يعتبرون أنفسهم على الحق المطْلَق،والآخرين على الباطل المطْلَق [راجع " تاريخ المذاهب الإسلامية " للشيخ محمد أبو زهرة ، ص 208_ 211 ] . ( مسألة البدعة ) : اعلم أخي المسلم أن البدعة جاءت من الفعل " بدع " _ بَدَعَهُ : أنشأه على غير مثال . والبِدعة : ما اسْتُحْدِث في الدِّين [انظر المعجم الوجيز ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ص 40 ] . وقال الله تعالى : (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )) [ الحديد: 27] . وبعض الجهال يستدلون بهذه على تحريم البدعة مطلقاً ، وهذا الاستدلال فيه نظر ، لأن الأمر ذو منحى عكسي تماماً ، فهذه الآية مدحت أولئك الذين سنوا هذه البدعة . قال القرطبي ( 17/ 264 ) : (( ابتدعها هؤلاء الصالحون، فما رعوها المتأخرون حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، يعني الذين ابتدعوها أولاً ورعوها ، وكثير منهم فاسقون يعني المتأخرين )) اهـ . وقال الطبري ( 27/ 241 ) : (( وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بعض الطوائف التي ابتدعتها ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم ، قال: فدل بذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحق الأجر الذي قال جل ثناؤه : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، إلا أن الذين لم يرعوها حق رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم )) اهـ . وهكذا يتبين أن الله تعالى لم يعب على أولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، بل عاب على الذين لم يتمسكوا بهذه البدعة الحسنة ، ولم يرعوها حق رعايتها . ولو كانت هذه البدعة مذمومة لما آتى الله تعالى الذين آمنوا منهم أجرهم ، كما يتضح من الآية الشريفة . وهذه الآية دليل قاطع على جواز الابتداع بشرط عدم مخالفة هذه البدعة لأصول الدِّين وفروعه ، كما أن هذه الآية دليل واضح كالشمس على وجود بدعة حسنة يؤجر صاحبها إذا قام بها حق القيام . وعن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرَّجل الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس قارئهم، قال عمر: نِعْمَ البدعة[رواه البخاري ( 2/ 707)]. وقال الحافظ في الفتح ( 4/ 253 ) : (( والبدعة أصلها ما أُحْدِث دون مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة ، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة )) اهـ . وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 6/ 154 ) : (( قال العلماء : البدعة خمسة أقسام : واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة )) اهـ . وقال الحافظ في مقدمة فتح الباري ( 1/ 85 ) عن البدعة : (( هو فعل ما لم يسبق إليه ، فما وافق السنة فحسن ، وما خالف فضلالة ، وهو المراد حيث وقع ذم البدعة ، وما لم يوافق ولم يخالف فعلى أصل الإباحة )) اهـ . وقد قام الصحابة باستحداث بدع حسنة لم تصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً ، نذكر منها [هذه النقاط الثلاث الأولى مذكورة بدون تفاصيل في مطوية صادرة عن دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دبي ، وقد قمتُ بتأصيلها وتفصيلها وتخريج أحاديثها وتدقيقها وشرحها ] : [1] جمع القرآن : فعن سيدنا زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن يكتب الوحي قال : أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن تجمع القرآن ، قال أبو بكر : قلتُ لعمر : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، فقال عمر : هو والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري[رواه البخاري ( 4/ 1720 ) برقم ( 4402 )] . فجمع القرآن بدعة لم تصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه : (( كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ )) ، ورد عليه سيدنا عمر رضي الله عنه : (( هو والله خير )) في إشارة إلى وجود بدع حسنة وتمتاز بالخير والصلاح والفضل تنضوي تحت تعاليم الشرع . وعلينا أن نستنبط الأحكام من النصوص لا أن نقف عند ظاهر النص دون إعمال عقولنا _ كما يفعل بعض المتنطعين دون بصيرة _ . [2] مقام إبراهيم: فقد روى البيهقي عن السيدة عائشة _ رضي الله عنها _ أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ذكره ابن كثير في تفسيره ( 1/ 172 ) ، وقال : (( هذا إسناد صحيح )) ]. قال الحافظ في الفتح ( 8/ 169) : (( وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عُيَيْنَة قال : [ كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوَّله عمر ، فجاء سيل فذهب به فرده عمر إليه ، قال سفيان : لا أدري أكان لاصقاً بالبيت أم لا ])) اهـ . ولم ينكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعاً ، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى ، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن )) اهـ . [3] زيادة الأذان الأول يوم الجمعة : عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ فلما كان عثمان رضي الله عنه ، وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء[رواه البخاري ( 1/ 309 ) برقم ( 870 )] . باعتبار إضافته إلى الأذان الأول والإقامة ، ويقال له أول باعتبار سبقه في الزمان على أذان الجمعة ، ويقال له ثانٍ بإسقاط اعتبار الإقامة . [4] زيادة ابن عمر لعبارة"وحده لا شريك له" في التشهد: قال ابن عمر_ رضي الله عنهما_: (( زدت فيها _ أي في الشهادة في الصلاة_ وحده لا شريك له )) [رواه أبو داود ( 1/ 255 )برقم ( 971 )، والدارقطني ( 1/ 351 ) برقم ( 6)، وقال : (( هذا إسناد صحيح )) اهـ ، والبيهقي ( 2/ 139 ) برقم ( 2646 ) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار ( 1/ 263 ) ، وصحَّحه الشوكاني في نيل الأوطار ( 2/ 314 ) ] . وهذا إثبات على وجود بدعة حسنة ، إذ إن سيدنا ابن عمر _ رضي الله عنهما _ زاد عبارة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً ، وقد رأى هذا الصحابي الجليل خيراً في ابتداع هذه العبارة ، فقام بزيادتها من عنده لاشتمالها على معانٍ طيبة . [5] ابتداع ذكر غير مأثور في الصلاة : فعن رفاعة بن رافع الزرقي قال : كنا يوما نُصَلِّي وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رأسه من الركعة قال : (( سمع الله لمن حمده )) ، قال رجل وراءه : ربنا ولك الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: (( من المتكلم ؟ ))، قال: أنا، قال : (( رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكَاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول ))[ رواه البخاري ( 1/ 275 ) برقم ( 766 )] . قال الحافظ في الفتح ( 2/ 287 ) بشكل عام : (( واستدل به على جواز إحداث ذكر في مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور )) اهـ . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤسِّساً القاعدة الذهبية في التعامل مع البدع : (( من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فعمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء ))[ رواه مسلم ( 4/ 2058 ) برقم ( 1017)] . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 11/ 166 ): (( ومثله من ابتدع شيئاً من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة )) اهـ . وقد تعلَّق إخواننا الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين بما رواه سيدنا جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ))[ رواه مسلم ( 2/ 592 ) برقم ( 867 )]. فقاموا بتحريم كل أنواع البدع ، ورفض تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة أخذاً بظاهر الحديث دون إعمال عقولهم. واستدلالهم فيه نظر ، فقد قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 104 ): (( المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة ... إن البدع خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة )) اهـ . وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 253 ) : (( قال الشافعي : البدعة بدعتان محمودة ومذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم ، أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم ابن الجنيد عن الشافعي. وجاء عن الشافعي أيضاً ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال : المحدثات ضربان ، ما أُحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه بدعة الضلال ، وما أُحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك فهذه محمودة ، اهـ . وقسَّم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة وهو واضح)) اهـ. وأضاف الحافظ في الفتح ( 13/ 254 ): (( فإنه يدل على أن المحدَث يُسمى بدعة، وقوله : كل بدعة ضلالة ، قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها ، أما منطوقها بالحق يقال حكم كذا بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب ، والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أُحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام )) اهـ . حتى إن ابن تيمية الحراني الذي يُعتبَر أحد أبرز المتطرفين عقدياً وفقهياً في تاريخنا فهو يؤمن بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ، حيث يقول في مجموع الفتاوى ( 1/ 162 ) : (( كل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة ، وهي ضلالة باتفاق المسلمين ، ومن قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي أنها مستحبة ، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين أنها من الحسنات التي يتقرب بها الى الله )) اهـ . وهناك حديث يتمسك به الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ليدعموا رأيهم الشاذ الرافض لتقسيم البدعة . فعن السيدة عائشة _ عليها السَّلام _ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أَحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ))[ متفق عليه . البخاري ( 2/ 959 ) برقم ( 2550) ، ومسلم ( 3/ 1343 ) برقم ( 1718)] . وهذا الحديث الشريف مُقيَّد بعبارة " ما ليس فيه " . فلو قام بشخص بإحداث شيء من الدِّين وليس خارجاً عن الدِّين ، فهذا مأجور لا محالة على فعلته تلك . فالحديث يرد الأشياء المحدثة التي ليست من الدِّين ، كما يوضح السياق اللغوي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم . وهكذا ينهار بنيان الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين بالأدلة القاطعة . وإذا استمر هؤلاء في المعاندة ورفض الأدلة الشَّرعية الواضحة ، فعليهم أن يجيبونا عن هذه البدع التي وضعوها هم بأنفسهم،[راجع مطوية "هل نحتفل ؟" الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دبي ]: [ أ] جمع الناس على إمام واحد لأداء صلاة التهجد بعد صلاة التراويح في الحرمين الشريفين وغيرهما من المساجد . [ب] قراءة دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح ، وكذلك في صلاة التهجد . [ج] تخصيص ليلة (27) لختم القرآن في الحرمين . [د] قول المنادي بعد صلاة التراويح : (( صلاة القيام أثابكم الله )) . ومع هذا فنحن نرى أن هذه بدعاً حسنة رائعة يؤجرون عليها _ إن شاء الله تعالى _ . وبعد هذا التأصيل الشرعي نصل إلى مسألة سُنِّية الاحتفال بالمولد النبوي الشَّريف، والرد على من زعم أنه بدعة ضلالة . الاحتفال بالمولد النبوي الشَّريف : قال الله تعالى : (( وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللهِ )) [ إبراهيم : 5 ] . وعن سيدنا أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله ، وأيام الله نعماؤه وبلاؤه ))[ رواه مسلم ( 4/ 1850 ) برقم ( 2380 )] . قال القرطبي ( 9/ 341 ) : (( أي قل لهم قولاً يتذكرون به أيام الله تعالى . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : بنعم الله عليهم ، وقاله أبي بن كعب ، ورواه مرفوعاً : أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام، ومنه قول عمرو بن كلثوم : وأيام لنا غر طوال )) اهـ . وقال ابن كثير ( 1/ 91) : (( أي بأياديه ونعمه عليهم )) اهـ . قلتُ : والمولد النبوي الشريف من أيام الله تعالى العظيمة ونعمه الجليلة ، فعلينا أن نُذَكِّر الناسَ به كما أمرنا اللهُ تعالى عن طريق عمل الأشياء الطيبة وإشاعة البهجة والفرح المنضبط بالكتاب والسنة الصحيحة . والنبي صلى الله عليه وسلم هو رحمة الله المهداة للعالَمِين ، فقد قال اللهُ تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )) [ الأنبياء : 107 ] . قال الطبري ( 17/ 106 ) : (( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي ، ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر ؟، فقال بعضهم عُنِي بها جميع العالم المؤمن والكافر )) اهـ . والحق الساطع هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة للعالَمين ، الإنس والجن مؤمنهم وكافرهم ، وكل مخلوقات الله تعالى العاقلة وغير العاقلة ، ويشمل ذلك الحيوانات والطبيعة بكل ما فيها . فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله تعالى إلى كل المخلوقات . وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 302 ) تفسيراً لمعنى الرحمة : (( أما المؤمن فشفقة عليه لإيمانه ، وأما الكافر فلرجاء إسلامه ، وهو بُعث رحمةً للعالَمِين )) اهـ . وقال الله تعالى : (( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )) [ يُونُس : 58] . واتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمةٌ الله تعالى للعالَمين ، والله تعالى أمرنا بأن نفرح بفضل الله تعالى ورحمته، إذاً يجب أن نفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو رحمة الله المهداة للعالمين ومولده الشريف ، والاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو فرح بفضل الله تعالى ورحمته ، لذا فهو تطبيق فعلي لأوامر الله تعالى . وإليك أقوال العلماء بشأن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وتفنيد شبهات المعارِض ، حصلت عليها من مطوية " هل نحتفل ؟" الصادرة عن دائرة الأوقاف بدبي مع بعض الزيادات مني: [1] قال الإمام الحافظ ابن كثير ( 13/ 136 ) : (( ابن زين الدين علي بن تبكتكين أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الامجاد له آثار حسنة ... وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الاول يحتفل به احتفالاً هائلاً ، وكان مع ذلك شهماً شجاعاً فاتكاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه ، وقد صنَّف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلداً في المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير ، فأجازه على ذلك بألف دينار )) اهـ . فانظر إلى مديح ابن كثير لهذا الرَّجل ، فلو كان مبتدعاً بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف لما صب ابن كثير كل هذا المدح عليه . [2] عقد الإمام الحافظ السيوطي في كتابه الحاوي للفتاوي باباً أسماه ( حسن المقصد في عمل المولد ) ص 189 ، قال في أوله : وقع السؤالُ عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول، ما حكمه من حيث الشرع ؟ وهل هو محمود أم مذموم ؟ وهل يُثاب فاعله أم لا ؟ . والجواب عندي أن أصل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسَّر من القرآن ، ورواية الأخبار الواردة في بداية أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ، ثم يُمَدُّ لهم سماط يأكلونه ، وينصرفون من غير زيادة على ذلك ، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيها من تعظيم قَدْر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح بمولده الشَّريف . [3] ونقل الإمام الحافظ السيوطي عن الإمام الحافظ ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تُنْقَل عن السَّلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرَّى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كانت بدعة حسنة ، وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت ، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا : هو يوم أَغرق اللهُ فيه فرعون ، ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكراً لله [رواه البخاري ( 3/ 1244 ) برقم ( 3216 ) ، ومسلم ( 2/ 796 ) برقم ( 1130 ) ] . فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معيَّن من إسداء نعمة ، أو دفع نقمة .. إلى أن قال : وأي نعمة أعظم من نعمة بروز هذا النبي صلى الله عليه وسلم ... نبي الرحمة في ذلك اليوم ، فهذا ما يتعلق بأصل عمله ، وأما ما يُعمَل فيه: فينبغي أن يُقتصر فيه على ما يُفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدَّم من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحرِّكة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة . اهـ . [4] الإمام الحافظ محمد بن أبي بكر عبد الله القيسي الدمشقي : حيث ألَّف كتباً في المولد الشريف، وأسماها : ( جامع الآثار في مولد النبي المختار )، و ( اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق)، وكذلك ( مورد الصادي في مولد الهادي ) . [5] الإمام الحافظ العراقي : وقد سمَّى كتابه في المولد النبوي ( المورد الهني في المولد السني ). [6] الإمام مُلا علي قاري : فقد ألَّف كتاباً في المولد النبوي العطر أسماه : ( المورد الروي في المولد النبوي ) . [7] الإمام ابن دحية : وسمَّى كتابه ( التنوير في مولد البشير النذير ) . [8] الإمام ابن الجزري : وسمَّى كتابه ( عرف التعريف بالمولد الشريف ) . [9] الإمام أبو شامة ( شيخ الحافظ النووي ) قال في كتابه ( الباعث على إنكار البدع والحوادث/ ص 23 ) : (( ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعَل كل عام في اليوم الموافق لمولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور ، فإن ذلك مشعر لمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكراً لله تعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين )) اهـ. [10] الإمام الحافظ القسطلاني ( شارح صحيح البخاري ) : حيث قال في كتابه ( المواهب اللدنية _ 1/ 148 طبعة المكتب الإسلامي ) ما نصه : (( فرحم اللهُ امرءاً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ، ليكون أشد علة على من في قلبه مرض وإعياء داء )) اهـ . [11]وكذلك ممن ألَّف وتكلَّم في المولد: الإمام الحافظ السخاوي، والإمام الحافظ وجيه الدين الزبيدي ، وغيرهم . [12] حتى إن ابن تيمية الحراني قال في كتابه( اقتضاء الصراط المستقيم _طبعة دار الحديث / ص 266 ) : (( وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد..وقال: فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه )) اهـ. فهذا إمامكم الذي تقدسون كلامه ، وتعتبرون مؤلفاته دستوراً معصوماً لكم يا معاشر من تسمون أنفسكم بالسلفيين ، يجيز المولد النبي الشريف ، فماذا بقي لكم ؟ . أما الشبهات التي تعلَّق بها الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين ، فهي كالتالي : [1] قال المعارِض: لو كان الاحتفال بالمولد من الدِّين لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه _ رضي الله عنهم _ ، ولا يقول قائل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله تواضعاً منه ، فإن هذا طعن فيه عليه الصلاة والسلام . انتهى كلام المعارِض . الجواب : إن كل ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة من بعده لا يُعتبَر تركهم له تحريماً ، والدليل على ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة ... )) [ سبق تخريجه برقم 58] ، وفيه أكبر دليل على الترغيب في إحداث كل ما له أصل من الشرع، وإن لم يفعله المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته _ رضوان الله عليهم _ . وكل ما له مستند من الشَّرع فليس ببدعة ، ولو لم يعمل به السلف ، لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت ، أو لما هو أفضل منه ، أو لعله لم يبلغ جميعهم علم به. فمن زعم تحريم شيء بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله فقد ادعى ما ليس له دليل، وكانت دعواه مردودة . وهو بذلك يكشف جهله بعلم الأصول ، إذ إنه من المقرَّر أن التَّرك ليس من دلائل التحريم ، ولا حتى من دلائل الكراهة [راجع رسالة " حسن الفهم والدَّرْك لمسألة التَّرك " للشيخ عبد الله بن الصِّديق ] . [2] زعم المعارِض أن أكثر من يُحيي هذه الموالد هم من الفجار والفساق . وهذا كلام ساقط يدل على معدن صاحبه وخبث طويته ، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ؟ . [3] زعم المعارِض وجود شِركيات في بعض الألفاظ ، فاعترض على قول البوصيري : يا أَكرمَ الخلق ما لي مَن ألوذ بـه سِواكَ عند حدوث الحادِثِ العَمِمِ وكلام المعارِض يفضح جهله بالشريعة واللغة والعربية . ونحن نسأل ما هو الحادث العمم ؟ ، إنه الحادث الذي يَعُم الكون بأسره من إنس وجن وجميع الخلائق ، وهو يوم القيامة . فيكون المعنى هو التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم لإنقاذنا من هذا الخطب الجلل بإذن الله تعالى، وقد وضَّحتُ مسألة التوسل والاستغاثة سابقاً ، فراجعها . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض ، فيأتون آدم فيقولون : اشفع لنا إلى ربك ، فيقول : لستُ لها ، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم فيقول : لستُ لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله ، فيأتون موسى فيقول: لستُ لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله ، وكلمته فيأتون عيسى فيقول : لستُ لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيأتونني فأقول : أنا لها )) [رواه البخاري ( 6/ 2727 ) برقم ( 7072 ) ، ومسلم ( 1/ 182 ) برقم ( 193 ) ] . [4] يقول المعارِض إنه يحصل اختلاط الرِّجال بالنساء ، واستعمال الأغاني والمعازف وشرب المسكرات . وهذا كذبٌ محض ، وسَتُكْتَب شهادتهم ويُسألون . وقد حضرنا الموالد فلم نر اختلاطاً ولم نسمع معازف، أما شرب المسكرات فنعم ، رأينا سُكْراً بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس كسكر أهل الدنيا ، وجدنا سُكْرَ المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله الأطهار الثوار ، وصحابته الأبرار الفاتحين . [5] يقول المعارِض إن يوم ولادته صلى الله عليه وسلم هو نفس يوم وفاته ، فالفرح ليس أولى بالحزن ، ولو كان الدِّين بالرأي لكان اتخاذ هذا اليوم مأتماً ويوم حزن . اهـ . والذي سيجيبكم هو الإمام السيوطي كما في ( الحاوي للفتاوي / ص 193 طبعة دار الكتب العلمية ) حيث قال ما نصه : (( إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النِّعم ، ووفاته أعظم المصائب لنا ، والشريعة حثَّت على إظهار شكر النعم ، والصبر والسكون عند المصائب ، وقد أمر الشرعُ بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود ، ولم يأمر عند الموت بذبح عقيقة ولا بغيره ، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلَّت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته . وقد قال ابن رجب في كتابه ( اللطائف ) في ذم الرافضة ... حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً لأجل مقتل الحسين ، ولم يأمر اللهُ ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً ، فكيف ممن هو دونهم . اهـ . [6] وزعموا أيضاً أن الدولة الفاطمية الرافضية هي من أحدثت الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وعلى فرض التسليم بصحة هذا الأمر ، فماذا تقولون بكل هؤلاء الأئمة الأعلام الذين أباحوا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ؟ . هل هم أزلام الدولة الفاطمية ؟ . حتى إمامكم المعصوم ابن تيمية جوَّز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، فهل هو كان عميلاً للدولة الفاطمية الرافضية ؟. إن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها ، وخذ الحكمة والخير والفضيلة ، لا يضرك من أي وعاء خرجت، فلو قال ملحدٌ كلمة حق، فعلينا أن نتمسك بكلمة الحق تلك، ولو قال إمام مسجد كلمة باطل، فعلينا رفض تلك الكلمة . هكذا علمنا الإسلام . فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما صام عاشوراء أخذ صيامه عن اليهود ، فنحن أولى بسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم منهم ، ولو افترضنا أن الدولة الفاطمية سنَّت الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، فعلينا أن نتمسك بالمولد النبوي الشريف لأننا أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم منهم . فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( احْرِصْ على ما ينفعك ))[ رواه مسلم ( 4/ 2052 ) برقم ( 2664 )] . وهذا اللفظ عام يشمل الحرص على المنفعة سواءٌ صدرت من مسلم أو كافر ، وكما هو مقرَّر في الأصول فإن العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والتخصيص بحاجة إلى دليل ولا دليل في هذه المسألة . إذاً ، يظل التعميم شاملاً دون قيد . ولنأت إلى خاتمة موضوعنا في هذه المسألة ، ونبحث موضوع حصر فهم القرآن والسنة الصحيحة بالسلف الصالح_ رضي الله عنهم _ . ونحن نؤمن أن أعلم هذه الأمة هم سلفنا الصالح، لكنهم اختلفوا في مسائل كثيرة كما وضَّحنا من قبل ، فلو كان لهم مذهب واحد موحَّد لما ظهر الأشاعرة والماتريدية الذين حملوا المشعل لقيادة الأمة دينياً وفكرياً في مواجهة الطوائف الضالة . لذا فإن الخلف هم أفضل من شرح مراد السلف ، وجناحا الأمة هم السلف والخلف ، وهذه الأمة لا تنطلق إلى بالاعتماد على هذين الجناحين. كما أن ثوابت الإسلام معروفة لا جدال فيها ، ومسائل الفروع فيها اجتهاد واسع ، أما منهجية الفهم والاستنباط فقد اختلف فيها الصحابة _ رضي الله عنهم_ اختلافاً واضحاً والقرآن ينزل بينهم ، وهذا لم يجعلهم يطعنون في بعضهم البعض مثلما يفعل بعض العوام الذين يسمون أنفسهم علماء . وسوف ندخل في دحض مسألة حصر فهم الإسلام بعقلية السلف الصالح . خرافة حصر فهم الإسلام بالسلف الصالح : ينبغي أن ندرك أن القرآن الكريم بوصفه كتاباً مُعجِزاً لا تنقضي عجائبه، وهذا يستلزم أن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه ، مما يقود إلى فهم متجدد واجتهادات مبتكرة ، فكل ذي أهلية للاستنباط فعليه أن يستنبط، والقرآن الكريم لم يمنح السلف الصالح حق الاجتهاد والاستنباط ويمنع الخلف من ذلك ، بل إن الاستنباط مفتوح على مصراعيه لكل من امتلك أهلية الاستنباط. قال الله تعالى : (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ))[ آل عمران: 7 ]. والرَّاسخون في العلم لم يحصرهم القرآن الكريم بالسلف الصالح ، وإنما هو لفظ عموم غير مقيَّد يفيد كل الراسخين في العلم سواءٌ كانوا في القرن الأول الهجري أو القرن العاشر الهجري مع الاعتقاد بأفضلية السلف الصالح بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن العصمة فقط لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، أما ما عداه فيؤخذ منه ويُرَد عليه . فكون العالِم من السلف الصالح سواءٌ كان صحابياً أم تابعياً فهذا لا يعطيه حصانة ضد النقد أو عصمة ضد الخطأ. والحق يُقال فإن هذه الآية اختلف فيها العلماء هل هي موصولة أم مقطوعة ؟. وكلا الرأيين قويٌّ وله مؤيِّدون جهابذة ، وقد ساق الطبري أدلة الفريقين بأسانيده في تفسيره ( 3/ 182و183و184 ) . قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 218 ) : (( واختلف العلماء في الراسخين في العلم ، هل يعلمون تأويل المتشابه وتكون الواو في والراسخون عاطفة أم لا، ويكون الوقف على (( وما يعلم تأويله إلا الله ))، ثم يبدأ قوله تعالى: (( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ))؟ وكل واحد من القولين محتمل واختاره طوائف والأصح الأول، وإن الراسخين يعلمونه لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد والله أعلم )) اهـ . وهذا الرأي هو الذي أعتنقه وأدين اللهَ تعالى به . قال الإمام الغزالي في المستصفى ( 1/ 85 ) : (( الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله ، قلنا كل واحد محتمل فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أولى، وإلا فالعطف. إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق )) اهـ . وقد تظهر مسألة للخلف لم تظهر للسلف ، وقد تظهر مسألة للسلف لم تظهر للخلف . والْحَكَم هو القرآن والسنة الصحيحة ضمن منهجية رد المتشابه إلى المحكَم ، وتقييد العام بالتخصيص، والتوفيق بين النقل والعقل ضمن منهجية وسطية معتدلة، فالنَّقل لا يُفهَم إلا بالعقل ، والعقل لا يكون إلا خاضعاً للنَّقل . والنقل والعقل يوجدان معاً ويغيبان معاً ، ولا يُقبَل أحدهما دون الآخر . فلو تم حصر فهم القرآن الكريم بالسلف الصالح فهذا يعني أن عجائب القرآن قد انقضت ، وظهرت على أيدي السلف الذين فسَّروها ، وصار موقفنا نحن المعاصرين التفرج على منجزات السلف الصالح فقط دون إعمال عقولنا ، فإن هذا يضاد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن أن القرآن لا تنقضي عجائبه،مما يعني تعدد الاستنتاجات والفهوم،وتجدد الاجتهادات والمعارف الخاضعة لسلطان الكتاب والسنة الصحيحة ، أي إن الأمر غير محصور بفهم السلف الصالح . فعن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا القرآن مأدبة الله ، فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبلُ الله والنور المبين والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فَيُسْتَعْتَبُ ، ولا يُعَوَّجُ فَيُقَوَّم ، ولا تنقضي عجائبه )) [رواه الحاكم ( 1/ 741 ) برقم ( 2040 ) وصحَّحه،والترمذي ( 5/ 172 ) برقم ( 2906)، والدارمي ( 2/ 523 ) برقم ( 3315 ) ، وابن أبي شيبة ( 6/ 125 ) برقم ( 30007 ). وقال المنذري في الترغيب والترهيب ( 2/ 231) : (( رواه الحاكم من رواية صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عنه ، وقال : تفرد به صالح بن عمر عنه ، وهو صحيح )) اهـ ] . قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 38 ) : (( فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شىء من كلام الخلق ، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها ، والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرِّفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه ، والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه ، والبحث عن عمومه وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء اليه )) اهـ . وعدم انقضاء عجائب القرآن يعني أن هناك تفاسير جديدة ، وفتوحات ربانية سوف تظهر في كل زمن حول فهم آيات القرآن الكريم ، وما يُصَدِّق هذا الكلام تعدد تفاسير القرآن في كل العصور ، واختلاف مستويات التحليل والفهم للمفسِّرين منذ نزول القرآن الكريم حتى قيام الساعة ، وبالقطع فهذا لا يعني تحريف الآيات عن سياقها الدِّيني اللغوي من أجل اختراع فهمٍ غير مسبوق . وعن أبي جحيفة قال : قلتُ لعليٍّ : هل عندكم كتاب ؟، قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أُعطيه رجل مسلم [رواه البخاري ( 1/ 53 ) برقم ( 111) ] . فلم يقل سيدنا علي _ عليه السلام_ : أو فهم أُعطيه رجل من السلف الصالح ، بل قال رَجُل مسلم ، أي قد يكون من السلف أو من الخلف أو من زماننا المعاصر . لذا فالفهم غير محصور في السلف الصالح . والذين يقومون بحصر فهم الإسلام بالسلف الصالح مع اختلافاتهم اللانهائية ، وتباين منهجيات اجتهاداتهم هم يؤسِّسون في أذهانهم الواهمة سلطة كهنوتية تحتكر حق فهم وتأويل النص الديني ، وهذا باطل بالضرورة . كما أن أقوال السلف ليست من حجج الشرع ( الكتاب ، السنة ، الإجماع ، القياس ) ، فكيف نبني ديننا على فهوم رجال مختلفين أصحاب مدارس فكرية شتى ونلغي أعظم من فسَّر مراد السلف وهم الخلف ( الأشاعرة والماتريدية ) ؟! . إن هذا الدِّين لا يقوم إلا بالسلف والخلف معاً ، ولا يُقبَل أحدهما دون الآخر ، فالذي يسقط السلف كلهم هذا مرتد كافر لأنه أسقط طبقة كاملة حاملة للدِّين ، والذي يُسقِط الأشاعرة كلهم فهذا مرتد كافر لأنه أسقط طبقة حاملة للدِّين ، وإذا كان السلف ضالين أو الأشاعرة ضالين فمن الذي حمل إلينا هذا الدِّين ؟. وهذه العقيدة الفاسدة تستلزم أن يكون إسلامنا مشكوكاً فيه لأنه حُمِل على أكتاف رجال خونة ضالين ، والعياذ بالله تعالى . وهذا لا يقول به إلا زنديق ألقى الإسلام وراء ظهره نابذاً إياه . وعن سيدنا قيس بن عبادة رضي الله عنه قال : دخلتُ أنا والأشتر على علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الجمل ، فقلتُ : هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً دون العامة ؟ ، فقال : لا ، إلا هذا ، وأخرج من قراب سيفه فإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، لايُقْتَل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده[رواه الحاكم ( 2/ 153) برقم ( 2623 ) وصحَّحه، ووافقه الذهبي] . وفي صحيح مسلم ( 2/ 994و995) برقم ( 1370) : [ عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة ، قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه فقد كذب ، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات ، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( المدينة حَرَم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، ومن ادعى أباه أو انتمى مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) ] اهـ . فها هو النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص آل بيته بعلم دون المسلمين ، ومن باب أولى أنه لم يخص السلف الصالح بشيء دون المسلمين . إذاً ، الباب مفتوح للاجتهاد على مصراعيه سلفاً وخلفاً، وغير مقيَّد بالسلف فقط كما يزعم بعض العوام الذين يظنون أنفسهم علماء . وقد تظهر للخلف مسألة لم تظهر للسلف الصالح ، فإن امرأة من المسلمين ردَّت على سَيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخطَّأته وهو على المنبر ، فعن مسروق قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربع مئة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رَجل في صداق امرأة على أربع مئة درهم،قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين نهيتَ الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربع مئة درهم، قال : نعم ، فقالت : أما سمعتَ ما أنزل الله في القرآن ، قال : ونصف ذلك. فقالت : أما سمعتَ الله يقول : (( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً )) [ النِّساء : 20] ، قال : فقال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال : أيها الناس إني كنتُ نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهم على أربع مئة درهم فمن شاء أن يعطيَ من ماله ما أحب، قال أبو يعلى: وأظنه قال فمن طابت نفسه فليفعل[رواه ابن كثير في تفسيره ( 1/ 468 ) وقال : (( إسناده جيد قوي ))] . فانظر كيف ردَّت امرأة من المسلمين على أعظم الصحابة _ رؤوس السلف الصالح _ بعد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وأيضاً يُستفاد من هذه القصة أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه _ رضي الله عنهم _ لأمر ما ليس من دلائل التحريم. إذ إن التحريم بحاجة إلى نص شرعي واضح في التحريم . والذين يعتبرون ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه _ رضي الله عنهم _ لأمر ما تحريماً له فهذه القصة ترد عليهم وتلجمهم إلجاماً . واستناداً إلى هذه القصة فقد تنكشف لي مسألة أنا العبد الفقير لله تعالى الغني به لم تنكشف لصحابي أو تابعي ، وقد تنكشف مسألة لرَجل من الخلف لم تنكشف لرجل من السلف الصالح ، أما أن نأخذ أقوال السلف الصالح مصدراً من مصادر التشريع ، وحجة لا تقبل المناقشة ، فهذا هو الجنون بعينه . والذين يسمون أنفسهم بالسلفيين لا يؤمنون بشرعية المذاهب الأربعة ، إذ إنهم يقولون بوجوب الذهاب فوراً إلى الكتاب والسُّنة قافزين على المذاهب الأربعة . وهذا أمر كارثي يقود الأمة إلى اللادينية ، فالأغلبية الساحقة من الأمة هم عوام من ناحية العلوم الدينية لا يملكون أهلية الاستنباط والاجتهاد مباشرة من النصوص الشرعية . وعندما يتم إلغاء المذاهب الأربعة بحجة الذهاب إلى القرآن والسُّنة مباشرة ، فإن الأمة سوف يضيع دينها ، فهي غير قادرة على صياغة نصوص فقهية لحياتها. وفي هذا الموضوع يقول الإمام الأسنوي في التمهيد ( ص 527 ) كلاماً هاماً جداً : (( إذا علمتَ ذلك فمن فروع المسألة : عدم جواز تقليد الصحابة _ رضي الله عنهم _ كذا ذكره ابن برهان في الأوسط ، قال : لأن مذاهبهم غير مُدوَّنة ولا مضبوطة حتى يمكن المقلِّد الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال. وذكر إمام الحرمين في البرهان نحوه فقال : أجمع المحقِّقون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة _ رضي الله عنهم _ بل عليهم أن يتَّبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا وبوَّبوا الأبواب وذكروا المسائل وجمعوها وهذَّبوها وثبَّتوها . وذكر الحافظ ابن الصلاح أيضاً ما حاصله أنه يتعين الآن تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم ، قال : لأنها انتشرت وعُلِم تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشرط فروعها بخلاف مذهب غيرهم _ رضي الله عنهم أجمعين _ )) اهـ . وقد تطاول بعض الجهال على السادة الأشاعرة بحجة أنهم خاضوا في مسائل وتعرَّضوا لأشياء لم يقلها السلف الصالح _ رضي الله عنهم _، فنقول إن السادة الأشاعرة قد قاموا بتفصيل الأشياء المجملة التي قالها أسيادنا السلف الصالح ، وهم أفضل من شرح مراد السلف خصوصاً مع انتشار الطوائف الضالة كالمعتزلة والرافضة الذين أثاروا أشياء عديدة مستقاة من الفلسفات الدخيلة وأقحموها في دينهم، لذا كان لا بد أن يُرَد عليهم بنفس سلاحهم ، من أجل فضح باطلهم أمام الناس ، والتحذير منهم خوفاً من انجرار العوام وراءهم معتمدين على شُبَه خطافة ، فكما هو معلوم فإن المعتزلة يقدِّمون العقل على النص ، وبالتالي فعلينا محاورتهم عقلياً لكي نرد كيدهم ، وهذا أحد أسباب نشأة علم الكلام [هو العلم الذي يستخدم الحجج العقلية والبراهين المنطقية لإثبات العقائد الإسلامية ، وهو كالدواء لا يُستخدم إلا في حالات خاصة جداً ، منها استخدامه مع أولئك الذين يرفعون العقل فوق درجة النَّص الشَّرعي ، أو مع أولئك الذين لا يؤمنون إلا بالعقل غير معترفين بالكتاب والسنة ] . وبما أن الإسلام نَقْلٌ وعقلٌ ، فعلينا إثبات حججنا الشرعية نقلياً وعقلياً لكي نُقدِّم البرهان الساطع المتكامل على صحة هذا الدِّين، إذ إن الدليل الشرعي الصحيح لا يضاد العقل الصحيح، والعقل السليم محالٌ أن يتصادم مع نص شرعي صحيح . والكفار والملاحدة والماديون الجدليون عندما تقول لهم قال الله تعالى في القرآن الكريم يجيبونك بأنهم لا يؤمنون بكلام الله تعالى، وعندما تقول لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لك إنهم لا يؤمنون بالنُّبوة، ومثل هؤلاء عليك أن تحاورهم _لزاماً_ بعلم الكلام والمنطق والبراهين العقلية لكي تقدر على كشف باطلهم ، والانتصار للحق الذي جاء به الإسلام . يقول الإمام الحسن البصري في رسالة أرسلها إلى عبد الملك بن مروان أو الحجاج ( روايتان وردتا في ذلك ) يتحدث فيها عن القضاء والقدر : (( ...ولم يكن أحد من السلف يذكر ذلك ولا يجادل فيه ، لأنهم كانوا على أمر واحد . وإنما أحدثنا الكلامَ فيه لَمَّا أحدث الناسُ من النُّكرة له . فلما أحدث المحْدِثون في دينهم ما أَحدثوا ، أَحدث اللهُ للمتمسكين بكتابه ما يُبطلون به المحْدَثات ويحذرون به من المهْلِكات )) [المنية والأمل لابن المرتضى 12_ 13] . يقول الكوثري في مقدمة تحقيقه لكتاب ( تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري لابن عساكر 9_15 ) : كان عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ، ثم أخذوا بعدهم في بث ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ، ممن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم. فتلقفوها منهم وردوها لآخرين بسلامة باطن ، معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه ، ومستأنسين بما كانوا عليه من الاعتقاد في جاهليتهم .. فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتَقَد الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة . وقد سمع معبد بن خالد الجهني من يتعلل في المعصية بالقَدَر ، فقام بالرد عليه ، ينفي كون القدر سالباً للاختيار في أفعال العباد ، وهو يريد الدفاع عن شرعية التكاليف . فضاقت عبارته وقال : (( لا قَدَرَ والأمر أُنُف )) فسُمِّيَ جماعةُ معبد قدرية ..وأول من عرف القول بخلق القرآن الجعد بن درهم الدمشقي ، وكان جهم بن صفوان أخذ ذلك القول عن الجعد وضمه إلى بدعه التي قام بإذاعتها. ومن جملتها نفي الخلود . ولما قام الحارث بن سريج بخراسان ضد الأموية داعياً إلى الكتاب والسنة اعتضد بجهم . وكان مقاتل بن سليمان ينشر هناك نِحلة في التجسيم ، فأخذ جهم يرد عليه وينفي ما يثبته مقاتل ، فأفرط في النفي حتى قال : (( إن الله لا يوصف بما يوصف به العباد ، ولم يفرِّق بين الاشتراك في الاسم والاشتراك في المعنى )) .. فأمر المهدي علماء الجدل من المتكلِّمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة ، فأقاموا البراهين ، وأزالوا الشُّبَه ، وأوضحوا الحق ، وخدموا الدِّين . وكان القائمون بأعباء تلك المدافعات طائفة من المعتزلة ، وقد عَلِق بنفوسهم ما لا يُستهان به من أمراض عقلية عَدَتْ إليهم من مناظريهم أورثتهم تلك البدع التي عرفوا بها . اهـ مع الاختصار . فلا بد من بناء علم الكلام وفق الكتاب والسنة الصحيحة لكي تحصل الفائدة المرجوة من إلجام أصحاب البدع والانحرافات ، فالمشكلة ليست في علم الكلام إذا كان مبنياً وفق أسس شرعية ، وإنما المشكلة في أولئك الذين يستخدمونه . وينبغي أن لا ننسى أن علم الكلام كالدواء يوضع بمقادير محدَّدة في أوقات محدَّدة ، ولا ينبغي أن يطلع عليه العامة لأن ذلك قد يُخَلْخِل إيمانهم، وإنما يظل بين أوساط العلماء الذين يعرفونه حق المعرفة ، ويستخدمونه لنصرة هذا الدِّين . وفي فتنة خلق القرآن الشهيرة أحدث الإمام أحمد بن حنبل كلاماً لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السادة الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ، إذ قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهذه العبارة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه _ رضوان الله عليهم _ ، وهذا مشهور ومبسوط في الكتب . وإنما أحدث الإمام أحمد ذلك الكلام الجديد لما فيه من مصلحة ، وبسبب انتشار الفئات الضالة التي أحدثت أموراً دفعت الإمام أحمد إلى إحداث أمور ليرد عليهم ، فهل يجوز لنا أن نصف الإمام أحمد بالبدعة لأنه جاء بشيء لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام ؟! . لا وألف لا . ومن ضلَّل الأشاعرةَ لأنهم خاضوا في أشياء لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح ، فعليه أن يُضلِّل الإمامَ أحمد قبلهم لأنه خاض في أمور مُسْتَحْدَثة ، وهذا باطل بالضرورة .