الإحساس بالذكريات والموت والزمن
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة صوت العروبة ، نيوجيرسي ، 7/7/2019
................
1
إن الإحساس بالذكريات لا
يعني العودة إلى الماضي ، كما أن الإحساس بالموت لا يعني الذهاب إلى الموت . وهذا
الفرق بين الإحساس والواقع ، يَدفع باتجاه توليد صيغ جديدة للحياة باعتبارها
مرحلةً مُؤقَّتة تنتهي بالموت . وبعبارة أخرى ، إن الحياة هي الطريق إلى الموت ،
والموت هو الضوء في نهاية النَّفَق ، واليقظة بعد النَّوم . وفي ظل هذه المنظومة
الفكرية ، تستمد الحياةُ شرعيتها من الموت ، لأن الحياة امتحان ، والموت نتيجة .
والتعويلُ إنما يكون على النتائج ومآلات الأمور وخواتيمها. ومَن يَضحك أخيرًا يضحك
كثيرًا .
2
الذكرياتُ سِباقُ المسافات الطويلة ، والحلقةُ
الواصلة بين أحلام الطفولة وانطفائها . والإنسانُ لا يَقْدِر أن يتخلَّص من طفولته
مهما امتدَّ بِه العُمر ، لأن الطفولة مغروسة في الذهن ، وثابتة فيه ، كثبوت
الأعضاء في الجسم . وأحلامُ الطفولةُ قد تَخبو ويَضعف لمعانها أثناء حياة الإنسان
، ولكنها لا تنطفئ إلا بموته.وهنا تبرز مُلاحظتان مُتعلِّقتا بالطفولة والموت :
الأُولى _ إذا كَفَّ الإنسانُ عن ممارسة طفولته مَات . والثانية _ إذا ماتَ
الإنسانُ انطفأت أحلام طُفولته . وهكذا يُصبح العُمر هو المسافة بين لمعان أحلام
الطفولة وانطفائها . وهذه المسافةُ تُحدِّد زاوية الرؤية للحياة باعتبارها ظِلًّا
زائلًا ، كظل شجرة منسية في مقبرة قديمة . وكما أن الموت يَضرب حياةَ الإنسان
فيُنهيها ، كذلك الصاعقة تضرب الشجرة فتقسمها. وكما أن الموت يُعرِّي الإنسانَ،
ويُجبره على الخروج من الدنيا عاريًا، بلا مال ولا سُلطة، كذلك الخريف، يُعرِّي
الشجرةَ ، ويُسقط أوراقَها ، ويَجعلها عاريةً بلا ثمر ولا ظِل . وهكذا يزول الظل
المُؤقَّت ، ويختفي المجد الوهمي ، لأنه عَرَض لا جوهر ، والعَرَضُ لا يدوم
زَمَانَيْن .
3
إذا استطاعَ الإنسانُ
بناءَ منظومة فكرية تقوم على الموت والذكريات ، فسوفَ يتمكَّن من اكتشاف ماهية
الزمن بعيدًا عن الآلات والأدوات . وقيمةُ الزمن لا تتحدَّد وَفْقَ الحركة
الميكانيكية لعقارب الساعة ، وإنما تتحدَّد وَفْقَ الحركة الفكرية للمشاعر
والأحاسيس . والإحساس بالزمن هو الذي يُعطي الزمنَ شرعيته وماهيته ، لأن الإحساس
بالشَّيء يَجعله موجودًا في الذهن ، ومُسَيْطِرًا على التفكير . وغيابُ الإحساس
يُمثِّل إزالةً للأشياء ، وطَمْسًا للعناصر المحيطة بالإنسان . وعندئذ، يسقط
الإنسانُ في الفراغ ، ويتحرَّك في العدم ، ويفقد القدرة على التَّخَيُّل ، ويَخسر
مُتعة الدَّهشة والانبهار . مِمَّا يُحوِّل الإنسانَ إلى رَجل آلي ، مَيت في
الحياة ، لا يَحُسُّ بها ، ولا يَشعر بوجوده .