ارتبطَ اسم الفيلسوف الألماني إدموند هُوسِّرل
( 1859_ 1938) بالفينومينولوجيا ، والتي تُعرَف بالظاهراتية أو الظاهريات . وكلما
ذُكر اسم هذا الفيلسوف ذُكرت معه هذه الفلسفة التي قام بتأسيسها ، وقضاءِ حياته في
تثبيت دعائمها ، والانتصار لها ، وحشد البراهين لشَرعنتها ، وإيجاد مشروعية لها
داخل الفكر الفلسفي ، والبحث عن حاضنة اجتماعية لها. فصار الفيلسوف وفلسفته وجهين
لعملة واحدة ، لا انفصال بينهما . يُوجدان معًا ، ويَغيبان معًا .
وُلد هُوسِّرل
في مُورافيا لأبوين يهوديين ، لكنه تنصَّر في عام 1886 ( على المذهب البروتستانتي
) مثل الكثيرين من اليهود . واليهودُ الألمان كانوا يُعتبَرون عناصر شاذة في
المجتمع ، يُنظَر إلَيهم بِعَين الرِّيبة، ويتم تصنيفهم كطابور خامس . لذلك كان
الكثيرون منهم يَتنصَّرون للحصول على مصالح شخصية ، ومزايا وظيفية. ومن أجل إبعاد
المشكلات عن حياتهم ، وتقديم أنفسهم كمواطنين صالحين يعيشون في قلب المجتمع ، ولا
يَعيشون على هامشه .
درس هُوسِّرل الرياضيات في فيينا ، وحصل على
شهادة الدكتوراة عام 1883. ثُمَّ درس الفلسفة على يد فرانز برنتانو . قام بالتدريس
في جامعة هاله ( 1887_ 1901) ، ثُمَّ في جامعتَي غوتنغن
وفرايبورغ (1906 _ 1916) ، حتى تقاعد عام 1929 . وفي عام 1933 قام النظام النازي بتجريده من مكانته
العلمية ومزاياه الأكاديمية. وبعد معاناة مع المرض ، تُوُفِّيَ في فرايبورغ عام
1938 . والجديرُ بالذِّكر أن هوسِّرل هو أستاذ مارتن هايدغر .
إن حياة هوسِّرل الفكرية مرَّت بمرحلتين :
الأولى _ التأثر بالاتجاه النَّفسي ( السَّيكولوجي ) في الفلسفة . والذي يَعني
النظر إلى مضامين المعرفة وحقائق الواقع باعتبارها كيانات ذاتية فقط ، لا وجود لها
إلا باعتبارها ظواهر نفسية . والثانية _ الاتجاه إلى المعاني والماهيات ، والإيمان
بأن التجربة هي مصدر جميع المعارف .
وفي كتابه
" بحوث منطقية " ، نفى أن تكون العلاقات المنطقية خاضعة للتأثيرات
النَّفسية ، واعتبرَ العلاقاتِ المنطقية تنتمي إلى عالَم خاص ( الماهيات )
المستقلة عن العقل البشري . وهذه الماهيات بمثابة حقائق ثابتة تجعل الأفرادَ
يتَّفقون حَوْلها ، فيُصدرون أحكامهم الصالحة لكل زمان ومكان ، مثل : 1+1= 2 . وهذه
الماهيات ( الحقائق الثابتة ) لَيس نتيجةً للشُّعور، وإنما يتَّجه إلَيها ويَقصدها.
وهنا تبرز فكرة " القَصْدية " التي تُعتبَر النواة المركزية في
الظاهراتية .
وتُعرَّف
القصدية بأنها " خاصية كُلِّ شعور أن يكون شعورًا بشيء " ، ولَم يحصرها
هوسِّرل في دائرة الأحكام المنطقية ، بَل جعلها فكرةً عامةً لتشمل العواطفَ
والقِيمَ والانفعالات .
ومعَ أنَّه
بدأ حياته متأثراً بالاتِّجاه النَّفسي ( السَّيكولوجي ) ، إِلا أنه انقلبَ عليه
سريعًا . وهذا الانقلاب الجذري يُشير إلى قلقه الذهني ، وتفكيره المستمر ، وعدم
رُكونه إلى أفكار محدَّدة أو مُسلَّمات جامدة. فهو يُغيِّر رَأْيَه إذا ظهرت له
قناعة أخرى ، ويَنقلب على نفْسه وأفكاره إذا آمنَ بعدم صِحَّتها. وهذا التغير
الفكري نتيجة طبيعية للعَصف الذهني .
لقد أدركَ
هوسِّرل مُبَكِّرًا أن الفلسفة والرياضيات عِلْمان مترابطان ومُتشابهان . وهذا
لَيس غريبًا . فهذان العِلْمان يَعتمدان على فكرة واحدة، وهي التفكير المنطقي المتسلسل.
وهوسِّرل _ بالأساس _ عالِم رياضيات، وهذا أفاده كثيرًا في حياته التي كرَّسها
بالكامل لتشييد فلسفته الخاصة ( الظاهراتية ) ، وتقديمها كَعِلْمٍ متكامل قائم
بذاته ، يهدف إلى الدقة والصدق في وصف الظواهر ، وتنسيقها بشكل تراتبي مُحكَم ،
وشرح المعاني الإنسانية في العلوم .
اعتبرَ
هوسِّرل الفلسفةَ منهجًا جديدًا للبحث عن الحقيقة. ووَفْقَ هذا المنظور ، قامَ
بوضع مبدأين رئيسَيْن : الأول _ رفض كُل رأي سابق إلا إذا كان مُبَرْهَنًا وقائمًا
على دليل واضح . والثاني _ النظر إلى الأشياء بذاتها كما هي في الشعور ، وهذه
العملية تُسمَّى " الرجوع إلى الذات" التي تعني الرجوعَ إلى الوعي ،
مِمَّا يُنتِج وَعْيًا خاصًّا ( حَدْسًا ) بظواهر العالَم وماهياته . وعندئذٍ ،
يَبدو العالَم ظاهرةً للشعور الخالص ، ويُواجِه الشعورُ الحقائقَ الداخلية
والخارجية . وهذه هي فكرة قَصْدية الشعور عند هوسِّرل . فالشعورُ قائم على فكرة
القَصْد ( الاتجاه ) . وبالتالي ، فإِن
المعرفة _ عند هوسِّرل _ هي دراسة المواضيع ( الماهيات / الظواهر ) كما تبدو
ظاهرةً في الشعور . وفي هذا السياق تبرز مهمة " الفينومينولوجيا " كوصف
بُنية الشعور في علاقته بمواضيع العالَم ، واستنباطِ معنى الظواهر / الماهيات ،
بإعادتها إلى البُنية المقابلة لها في الشعور . وحَسَبَ هذه الرؤية، يتحدَّد معنى
الفلسفة :" العِلْم الشمولي القائم على المعرفة بالماهيات وخصائصها الثابتة
".
ويمكن تلخيص
فلسفة هوسِّرل في أمرَيْن : 1_ التشديد على الترابط بين الذات والموضوع. 2_ اعتبار
الشعور شيئًا مُرَكَّبًا من الشعور الإنساني والشيء ذاته ، وليس عواطف وانفعالات.
مِن أبرز مؤلفاته : فلسفة علم الحساب ( 1891) . بحوث منطقية ( 1900_ 1901) . مقدمة عامة لفلسفة ظاهرية خالصة ( 1913) . المنطق الصوري والمتعالي ( 1929) .تأملات ديكارتية(1932).أزمة العلوم الأوروبية والظاهريات المتعالية (1936).التجربة والحكم( 1939).