وُلد المؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي ( 1889 _ 1975 ) في لندن.درس
اليونانية واللاتينية في جامعة أكسفورد . وتقلَّبَ في عِدَّة مناصب،منها: أستاذ
الدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن ، ومدير دائرة الدراسات في وزارة
الخارجية البريطانية . أهم أعماله موسوعة دراسة للتاريخ، وهو من أشهر المؤرخين في القرن العشرين .
يُعتبَر توينبي أهم مؤرِّخ بحث في مسألة
الحضارات بشكل مُفصَّل وشامل،ولا سِيَّما في موسوعته التاريخية " دراسة
للتاريخ " التي تتألف من 12 مجلدًا ، أنفق في تأليفها أكثر من 40 عامًا . وهو
يَرى، خِلافًا لمعظم المؤرِّخين الذين يعتبرون الأُمَم أو الدول القومية مَجالاً
لدراسة التاريخ، أن المجتمعات ( أو الحضارات ) الأكثر اتِّساعًا زمانًا ومكانًا ،
هي المجالات المعقولة للدراسة التاريخية . وهو يُفرِّق بين المجتمعات البِدائية
والحضارية ، وهذه الأَخيرة أقل عددًا من الأولى، فهي تبلغ واحدًا وعشرين مُجتمعًا
اندثَرَ مُعظمُها، ولَم يبقَ غيرُ سبع حضارات، تمرُّ سِت منها بدَور الانحلال،
وهي: الحضارة الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية،
والإسلامية، والهندوكية، والصينية، والكورية اليابانية ، أمَّا السابعة، أي
الحضارة الغربية، فلا يُعرَف مصيرُها حتى الآن . يُفسِّر توينبي نشوءَ الحضارات
الأولى، أو كما يُسمِّيها الحضارات المنقطعة، من خلال نظريته الشهيرة الخاصة بـ
" التحدي والاستجابة "، التي يعترف بأنه استلهمَها من عِلم النفس
السلوكي. وعلى وَجه الخصوص من كارل يونغ . ويقول هذا العالِم إن الفَرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه
لفترة ما، ثمَ قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة : الأولى _ النُّكوص إلى الماضي
لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المر، فيُصبح انطوائيًّا . والثانية _
تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثمَ مُحاولة التغلب عليها، فيكون في هذه الحالة
انبساطيًّا. فالحالة الأولى تُعتبَر استجابةً سلبية، والثانية إيجابية بالنسبة
لعلم النفس . ( والحالة الأولى تنطبق على العرب ، فهم قد تعرَّضوا لصدمة الحضارة ،
فلجؤوا إلى النُّكوص إلى الماضي دفاعًا عن النفس ) .
يقول توينبي في تفسير نشوء الحضارات إن
المجتمعات البدائية لدى مُواجهتها تحديات بيئية أو بشرية مُعيَّنة ، تستجيب
استجاباتٍ مُختلفة، أي إنها تُواجه ذلك الحافزَ برُدودِ فِعلٍ تختلفُ من جماعةٍ
إلى أُخرى ، بعضها سلبية وبعضها إيجابية. وعلى هذا المِنوال يُفسِّر ظهورَ
الحضارات الأصلية الأُولى في كُل مِن وادي الرافدين ووادي النيل، فيقول: كان السهل الأفروآسيوي (أي جنوب شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا ) يتمتَّع بجوٍّ مُعتدل ومَراعٍ شاسعة ومياهٍ غزيرة، خلال نهاية الفترة
الجليدية الأخيرة . وكانت الشراذمُ البشرية المنتشرة فيه تعيشُ عيشةً راضية على
الصَّيد والقَنص وجمع الثمار والبذور.ولكن حدثَ تغيُّر مناخي تدريجي في الفترة المعتدلة
أو الدفيئة الأخيرة التي نعيشها الآن، الأمر الذي سبَّب انحباسَ الأمطار وانتشارَ
التصحُّر وجفافَ الأنهر . وهذا هو
نَمطُ التحدي الذي واجهته تلك المجتمعات، فاستجابت له بأساليب مُختلفة . إذ تَحَوَّلَ
بعضُها إلى قبائل رُحَّل تسعى وراء الكلأ والماء، وترعى أنعامَها التي تقتاتُ
عليها. وانحدر الجزءُ الثاني إلى الجنوب نحو المناطق الاستوائية المشابهة للبيئة
السابقة إلى حد بعيد، فظل مُحافِظًا على نَمط مَعيشته البدائية السابقة إلى يومنا
هذا . ورَحل قسمٌ ثالث إلى دِلتا النيل، حيثُ وَاجه أحوالاً طوبوغرافية جديدة
تتمثل بوجود هذا النهر العظيم وتلك البيئة المختلفة، فكافح عوائقها وسخَّرها
لأغراضه، بعد أن اكتشف الزراعة، الأمر الذي أدَّى إلى إنشاء الحضارة المصرية . كما
أن انتقال بعض الجماعات من شبه الجزيرة العربية إلى أهوار جنوب العراق والفرات الأسفل تمخَّض عن انبثاق حضارات ما بين النهرين . وبعبارةٍ
أُخرى ، إن هذه الجماعات قد استجابت إلى التحدي الطبيعي بأساليب مُختلفة ، منها
بالبقاء في أرضها وتحوُّلها إلى قبائل بدوية، أي كانت استجابتُها سلبية، ومنها
بالرحيل إلى مناطق جديدة مختلفة قريبة من الأنهار، حيث أسَّست تلك الحضارات الأُولى،
أي كانت استجابتُها ديناميكية حضارية، تعتمد على الحركة أو الهجرة، ثم التغيير
والتطوير والإبداع . أمَّا فيما يتعلق بنمو الحضارة، فيُعيدها تُوينبي إلى الدافع الحيوي ، وهي الطاقة الكامنة لدى الفَرد والمجتمع التي تنطلق
بغرض التحقيق الذاتي . ويقول : إن الشخصية النامية أو الحضارة تسعى إلى أن تصيرَ
هي نفسها بيئةَ نفسها، وتحدِّيًا لنفسها، ومجالَ عمل لنفسها. وبعبارة أخرى ، إن مقياس
النمو هو التقدُّم في سبيل التحقيق الذاتي . ويكون ذلك عن طريق المبدِعين من
الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة الملهَمين . إذ تستجيب لهم
الأكثرية عن طريق المحاكاة الآلية التي تُمثِّل الطريقةَ الغالبة في عملية الانقياد الاجتماعي . وتقود هذه
المحاكاةُ في الجماعة البدائية إلى حركةٍ سلفية تَنْزِعُ إلى مُحاكاةِ القُدَماء ،
بينما هي في المجتمعات الحضارية النامية حركة تقدُّمية تُؤدِّي إلى مُحاكاة
الطليعة الخلاقة .
وعلى صعيد سقوط الحضارات يرى تُوينبي أنه يعود إلى ثلاثة أسباب : 1_ ضعف القُوَّة الخلاقة في الأقلية الْمُوجِّهة وانقلابها إلى سُلطة تعسُّفية . 2_ تخلِّي الأكثرية عن مُوالاة الأقلية الجديدة المسيطِرة ، والكف عن مُحاكاتها . 3_ الانشقاق وضياع الوَحدة في كيان المجتمع .