وُلد الشاعر آرثر رامبو( 1854_ 1891) في
شارلفيل (شمال شرق فرنسا ) لعائلة متوسطة. كان الطفل الثاني لأبيه الذي كان يعمل
جنديًّا مُتَطَوِّعًا ثم ترقَّى إلى كابتن، وقضى أكثر فترة خدمته في الجيش في
مناطق أجنبية ، وحاربَ في غزو الجزائر ، وحصل على وسام جَوقة الشرف .
كانت أُمُّه مُتشدِّدة في تَدَيُّنها ، وسُلطوية
في تعاملها مع أفراد عائلتها ، وأحاطت رامبو الصغير بجو ديني خانق ، بَقِيَ أثرُه
واضحًا في كتاباته مع كل محاولاته للتحرر منه .
بدأ رامبو بكتابة الشِّعر في سن السادسة
عشرة ، وتميَّزت كتاباته الأولى بطابع العنف . اتَّبعَ مَبدأ جمالِيًّا يقول إن
على الشاعر أن يكون رَائِيًا ، ويتخلص من قيود الضوابط الشخصية، وبالتالي يصبح
الشاعر أداة لصوت الأبدية .
دعاه
الشاعر الفرنسي بول فرلين للمجيء إلى باريس
، الذي كانت تربطه علاقة شاذة به
. وفي يوليو 1873، وفي حالة مِن السُّكر ، أطلقَ فرلين على رامبو رصاصتين ، مِمَّا
تَسبَّب في إصابته بجروح في المعصم . وقد اعتزلَ رامبو الأدب ، وقرَّر في عام 1875
السفر إلى أثيوبيا ، حيث عمل في قيادة القوافل أملاً في التجارة والربح ، لكن
المرض وضع
حَدًّا لجميع طموحاته ، فعاد إلى بلاده ليموت في مرسيليا
في عام 1891 ، بعد أن بُتِرَت ساقه .
كتب أشهر أعماله ، وهو لا يزال في أواخر
مراهقته ، وأثنى عليه فكتور هوغو وقتها ، وقال إنه " طفل شكسبير " . وقد
توقَّف بشكل كُلِّي عن الكتابة قبل أن يبلغ الخادية والعشرين مِن عُمره . وباعتبار
رامبو مُشَارِكًا هَامًّا في حركة التدهور ، فقد أثَّرَ بطبيعة الحال في الأدب
الحديث ، وكذلك الموسيقى والفن . ويُشار دَومًا إلى رامبو على أنه واحد من
الطائشين المتحررين من الأخلاق والعادات. وقد سافر في رحلات كثيرة إلى ثلاث قارات
قبل أن يموت من السرطان ، قبل أن يُكمِل السابعة والثلاثين .
تُعتبَر قصيدته " قارب السكارى "
( 1871) أبرز قصائده على الإطلاق ، وتُشير إلى براعة واضحة في اختيار الألفاظ
والصور الفنية والاستعارات . وفي الفترة ( 1872_ 1874) كتب " الإشراقات " ، وهي مجموعة من
القصائد النثرية ، حاول فيها عدم
التمييز بين الواقع والهلوسة . وفي عام 1873، كتب
قصيدة أخرى وهي " فصل في الجحيم " استبدل فيها المقاطع النثرية بكلمات مُميَّزة
، وكانت آخر أعماله الشعرية .
كان رامبو في دراسته طالبًا لامعًا ،
تَمَيَّز بثقافة كلاسيكية متينة ، وبقلم ساحر مطواع ، أثارَ إعجاب مُدرِّسيه
ودعمهم له .
قَرَّر في سن السادسة عشرة التخلي عن بيئته
ونبذ تقاليدها ، فرفضَ التقدم لامتحان الثانوية العامة ، وتركَ بيت أهله ليبدأ
تشرُّده الذي دام ما يُقارب خمسة أعوام ، عَرَفَ فيها الكحول والمخدِّرات والتجارب
الغرامية المتعددة ، وأضاعَ صحته العقلية والجسدية .
بقي رامبو لُغزًا مُحَيِّرًا في تاريخ الأدب
الفرنسي . وكان
مُلْهِمًا لأهم الشعراء والحركات الأدبية في القرن العشرين . لُقِّب بالصبي الرجيم
، والمراهق المعجزة ، والمتمرد الأزلي . وبقي رمزًا للشباب المتحمسين المتمردين
الذين يلهثون وراء شهواتهم ونزواتهم بلا ضوابط دينية ولا أخلاقية.
تميَّزت
قصائده بالغنائية والبراءة ونضارة
الشباب من جهة،والتمرد والسخرية مِن جهة أخرى. كما عَبَّر عن كُرهه لأُمِّه . وقد
أسقطَ هذا الكُره على جميع النساء ، وفَجَّر تمرُّده على القيم البرجوازية
والدينية .
يُعتبَر كتابه " فصل في الجحيم "
( 1873) الكتاب الوحيد الذي عمل على نشره بنفسه ، وقَدَّم فيه مُحصِّلة حياته
وتجاربه وخَيبات أمله ويأسه ، ودعا فيه إلى التخلي عن الأحلام ، والعودة إلى الواقع
.
ارتكزت رؤية رامبو الشعرية على ثلاثة مبادئ
: الحركة والموسيقى والألوان . واستطاعَ من خلالها بناء عالَم جديد مُتحرِّر من
الرؤية ومن المنطق التقليديين ، فأعطى الجوامدَ رُوحًا وعاطفة ، وجعل الأزهار ترى
وتتكلم . كما تميَّزت أشعاره بتوظيف مثمر للمفردات التي اختارها غنيةً ومُوحيةً
ومتنوعة ، تراوحت بين المفردات العلمية المنتقاة ، والمفردات الشعبية الخاصة ،
وصولاً إلى الكلمات السوقية والشتائم .
شَكَّل رامبو مع الشاعرين : لوتريامون ومالارميه مسيرة شعرية خاصة ، سارت على خطى الشاعر بودلير ، وتميَّزت بنصوصها القصيرة الصعبة الْمُحيِّرة ، ورفضت في شكلها مبادىء الشعر التقليدي وجمالياته . وتَبَنَّت هذه المسيرة الرفض عنوانًا لها ، والسعي إلى الأمثل والمطْلق منهجًا، وعَدَّت اللغة طريقًا للوصول إلى المعرفة ، وفتحت الطريق أمام ولادة الشعر الحديث ، وأثَّرت تأثيرًا خاصًّا في نشوء الحركة السريالية .