سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

29‏/09‏/2012

الجنة وأسماؤها

الجنة وأسماؤها

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     إن الجنة هي الجزاء العادل الذي أَعَدّه اللهُ تعالى لعباده الصالحين . فقد رحمهم بأن وفّقهم لأداء العبادات في الدنيا وفق منهج الشريعة السمحة ، فكان جزاؤهم الجنة خالدين فيها أبداً ، علماً بأن دخول الجنة يكون برحمة الله تعالى لا بأعمال الإنسان القاصرة . والإنسانُ مهما عمل من طاعاتٍ جليلة إلا أنه يظل في دائرة التقصير ، فكل المخلوقات بلا استثناء لم تعبد اللهَ حق عبادته ، حتى الأنبياء والملائكة هم مُقصِّرون في عبادة الله تعالى ، ليس بمعنى انتقاصهم ، بل بمعنى أنهم عاجزون عن أداء حق الله تعالى بشكل كامل ، لذلك فإن الأنبياء لا يَدخلون الجنةَ بأعمالهم ، وإنما برحمة الله تعالى ، وهؤلاء هم سادة البشرية المعصومون ، فما بالك بالبشر العاديين الغاطسين في الآثام ؟.
     والمؤمنُ يعبد اللهَ تعالى لأنه أَهْلٌ للعبادة . فلو لم يكن هناك جنة ولا نار ، لكان اللهُ تعالى مستحقاً للعبادة . لكن رحمته _ تعالى _ تجلّت على عباده فجعل لهم جنةً عرضها السماوات والأرض مكافأةً لهم على إيمانهم في الدنيا وسيرهم وفق الشريعة الإلهية . ففي الجنة يرتاحون من تعب الحياة ومصائبها ، وينتقلون من ضنك الدنيا الفانية إلى الجنة الخالدة التي لا نهاية لها، والْمُنَزهة عن المنغِّصات .
     وقد وردت أوصاف كثيرة للجنة في القرآن والسنة كي يتشوق الإنسانُ ، وترتفع روحه المعنوية ، ويواصل صمودَه أمام فتن الحياة الدنيا وزخرفها الزائل . ولكن الجنة لا يمكن تخيّلها لأنها فوق مستوى العقل البشري القاصر ، والمحصور في المتع الدنيوية الفانية .
     فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال الله تعالى : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رَأتْ ، ولا أُذن سَمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر )).
[متفق عليه. البخاري( 3/ 1185 )برقم ( 3072 )،ومسلم( 4/ 2174 ) برقم ( 2824 ).].
     وللجنة أسماء متعددة ، حيث يشير كل اسم إلى صفة لها ، ويُسلِّط الضوءَ على جانبٍ معيّن منها ينقل المرءَ إلى التفكير بعمق ، وتكوين فهمٍ منضبِط، والإحاطة_قدر المستطاع _ بهذا الموضوع الغَيْبِي الجليل .  
أ _ الآخِرة :
     قال الله تعالى : (( والآخِرةُ عند ربكَ للمُتقين )) [ الزخرف : 35] .
     والجنةُ التي فيها النعيمُ المقيم واللذةُ الأبدية هي خاصة بالمتقين حصرياً فلا يشاركهم فيها أحد. فهم أهلُها الشرعيون وأصحابها الفعليون ، لأنهم قضوا حياتهم الدنيا في نشر الخير والاستعداد لهذا الموقف العظيم ، فاستحقوا نيل المكافأة نظير أعمالهم الجليلة في الدعوة إلى الله تعالى ، والتزام أوامره دون أن يَحيدوا عن الطريق . فقد كانوا في الدنيا أصحاب بصر وبصيرة ، فلم ينخدعوا بالبهرج الفتان المخادِع . وهؤلاء دخلوا الجنة مرتين . الأولى في الدنيا ، حين عمروا المساجدَ وقاموا بالطاعات وعاشوا تحت راية الشريعة . والثانية يومَ القيامة ، حيث النعيم المقيم الْمُعَد للمتقين حصرياً دون غيرهم . وقال الطبري في تفسيره ( 11/ 186 ) : (( يقول تعالى ذِكْره : وزينُ الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين الذين اتقوا اللهَ ، فخافوا عقابه ، فَجَدوا في طاعته ، وحذروا معاصيه ، خاصة دون غيرهم من خلق الله )) .
ب _ جَناتُ عَدْن :
     قال الله تعالى : (( جَناتُ عَدْنٍ تجري من تحتها الأنهار خالِدين فيها )) [ طه : 76] .
     قال القرطبي في تفسيره ( 8/ 186 ): (( أي في دار إقامة. يُقال: عَدَنَ بالمكان إذا أقام به )).
     فهي دارُ الاستقرار والكرامةِ السرمدية التي أعدها اللهُ تعالى لعباده الصالحين كي يتنعّموا فيها بلا انقطاع . فالجنةُ مقر إقامتهم فلا يَرحلون عنها ، ولا يستبدلونها بأي سَكَن آخر ، ولا يُصابون فيها بالملل أو السآمة .
     وعن عبد الله بن قيس _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( جَنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن )).
[متفق عليه . البخاري ( 6/ 2710 ) برقم ( 7006 )، ومسلم ( 1/ 163 ) برقم ( 180). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 16 ) : (( قال العلماء: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب العربَ بما يفهمونه، ويُقرِّب الكلامَ إلى أفهامهم ، ويستعمل الاستعارةَ وغيرها من أنواع المجاز لِيُقرِّب متناولها. فَعَبّر صلى الله عليه وسلم عن زوال المانع ورفعه عن الأبصار بإزالة الرداء)) اهـ.وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 433 ): (( قال ابن بطال : لا تَعَلق للمجسِّمة في إثبات المكان، لما ثبت من استحالة أن يكون _ سبحانه _ جسماً أو حالاً في مكان ، فيكون تأويلُ الرداء الآفةَ الموجودة لأبصارهم ، المانعة لهم من رؤيته ، وإزالتها فعل من أفعاله يفعله في محل رؤيتهم ، فلا يرونه ما دام ذلك المانع موجوداً ، فإذا فعل الرؤيةَ زال ذلك المانع ، وسَمّاه رداءً لتنَزله في المنع منزلة الرداء الذي يحجب الوجهَ عن رؤيته ، فأطلق عليه الرداء مجازاً )) اهـ .].
     فهذا النعيمُ المقيم في جنة عدن دارِ الإقامة الشريفة تم تتويجه برؤية الله تعالى الْمُنَزه عن المكان والزمان. فاللهُ تعالى غير محصور في مكان ، فهو أكبر من كل شيء . ورؤيةُ المؤمنين له _ سبحانه _ أعظمُ شرفٍ لهم ، ودليلٌ على قُدسية جنة عدن ومكانتها السامية .
     وعن أبي سعيد الخدري  _ رضي الله عنه _  :  أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قولَ الله    _ عز وجل _  : [ جَناتُ عَدْنٍ يَدخلونها يُحَلوْنَ فيها من أساور من ذهب ] [ فاطر : 33] . فقال : (( إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 462 ) برقم ( 3594 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .] .
     وهذا المجدُ الباقي ، والمتعةُ الخالدة التي لا تشوبها أحزان أو كدر . وقد أعطاهم اللهُ تعالى هذا النعيم جزاءً لهم على حسن فعالهم في الدنيا، وصبرهم على طاعته، وثباتهم على شريعته . والإنسانُ يَعجز عن تخيل هذا النعيم المقيم لأنه محصور في شوائب الدنيا التي سعادتها ممزوجة بالكدر، وبهجتها مندمجة مع الهموم ، وتألقها ظاهري لا يَدوم . ولكنْ عليه أن يُدرك أن المعطي هو الله تعالى ، لذلك تكون العطيةُ عظيمةً لا تُقاس ولا تزول . فصانعُ هذا النعيم هو مالكُ الخزائن التي لا تَنفد . فكل هذا المجد السرمدي لا يُنقِص من مُلْك الله شيئاً . فالمنعِمُ هو صانعُ السماواتِ والأرض ورازقُ الخلائق عبر كل هذه الحقب التاريخية . يُنفق ليلاً نهاراً، ولا يَبخل على عباده ، مؤمنهم وكافرهم ، ولا يُصاب بالتعب أو الفقر . ومن كانت هذه قدرته فلن يَعجز عن خلق جنة عرضها السماوات والأرض ، أو منح عباده _ رغم عملهم القليل _ الخلود في النعيم . فخالقُ الموت والحياة قادرٌ على إلغاء الموت من حياة أهل الجنة .
ج _ الفِرْدَوْس :
     قال الله تعالى : (( الذين يَرِثُون الفِرْدَوْسَ هُم فيها خالدون ))[ المؤمنون : 11] .
     إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات _ أي إنهم لم يكتفوا بالقول بل حوّلوا إيمانَهم إلى واقع عملي لإصلاح أنفسهم بالطاعات وإصلاحِ الأرض بالفضائل _ كانت لهم أعلى درجات الجنة منزلاً ومكانَ إقامة لا يتبدل ، فهم يرثون الفردوس ، أي يحصلون عليها مكافأةً لهم ، ولا أحد ينتزعها منهم .
     وفي صحيح البخاري ( 6/ 2700 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فإذا سألتُم اللهَ فسلوه الفردوسَ ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهارُ الجنة )) .
     فالفردوسُ هي أشرف منازل الجنة . ففيها النعيم الدائم ، ويعلوها عرشُ الرحمن _ سبحانه وتعالى _ ، ومنها تفجر أنهار الجنة ، فهي المنبع الطاهر . وهذا يشير إلى مكانتها المميّزة عن باقي الجِنان . فالجنانُ متفاوتة فيما بينها بسبب تفاوت إيمان الناس وحجم تضحياتهم ، وكل امرئ ينال منزلته التي يستحقها . فكما أن الطالب ينال علامته الدراسية التي يستحقها وتكشف مستواه الحقيقي ، كذلك طالب الآخرة ينال درجته العادلة . فلا يُعقَل أن تتساوى درجة الأنبياء مع درجة الشهداء ، أو تتساوى درجة الشهداء مع درجة المؤمنين العاديين . وهذا التفاضلُ حافزٌ للمؤمنين على زيادة العمل ، ومضاعفة الجهود ، وبذل أقصى ما يستطيعون من طاقة .
د _ جنة المأوى :
     قال الله تعالى: (( عِندَها جَنةُ المأوى )) [ النجم : 15] .
     فعند سِدْرة المنتهى تقع جنةُ المأوى التي يأوي إليها الشهداء والأتقياء . فهي منزلهم ومستقرهم . والدنيا _ مهما طالت _ هي دار مؤقتة ، وأهلُها راحلون عنها _ رغم أنوفهم _ . فالجنةُ هي المأوى الحقيقي والمستقر الكريم الأبدي .
[سدرة المنتهى هي شجرة النبق ( السدر ) . وفي الحديث النبوي : (( ثم صعد بي إلى السماء السابعة ... ثم رُفعت لي سِدْرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر _ أي كالجِرار _، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة )) {جزء من حديث رواه البخاري ( 3/ 1410 ) واللفظ له، ومسلم ( 1/ 145 )}.(( قال المفسرون : وإنما سُمِّيت سدرة المنتهى لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض فيُقبَض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيُقبَض منها ، وإليها ينتهي علم جميع الملائكة )){ زاد المسير لابن الجوزي 8/69}. ].
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 152 ) : (( أي عند تلك السدرة جنةٌ تُعرَف بجنة المأوى، وسُمِّيت جنة المأوى لأنه آوى إليها آدم ، وقيل إنها أرواح المؤمنين تأوي إليها )) اهـ .
هـ _ جنة الْخُلد :
     قال الله تعالى : (( قُل أذلك خيرٌ أم جَنةُ الْخُلْدِ التي وُعد المتقون )) [ الفُرقان : 15] .
     فجنةُ الْخُلْد دائمة بلا انقطاع ، ونعيمها لا ينفد . فقد أُضيفت إلى الخلود لإشعار السامع بأنها لا تنتهي ، ولا يطرأ عليها الزوال أو الكدر . وهي مخصصة للمتقين الذين وُعدوا بها ، ووعدُ الله لا يتخلف .
     وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ كان يدعو : (( اللهم إني أسألكَ إيماناً لا يَرتد ، ونعيماً لا يَنفد ، ومرافقةَ محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الْخُلد )).
[رواه ابن حبان في صحيحه ( 5/ 303 ) برقم ( 1970 ) .].
و _ الحسنى :
     قال الله تعالى : (( وكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى )) [ النساء : 95] .
     والحسنى هي الجنةُ ، وهي وَعْدُ الله لعباده الصالحين الذي لا يتأخر ولا يُلغَى . وقد وعدهم   _ سبحانه _ بالأجر الجزيل ، والسعادةِ الأبدية في الدار الآخرة التي لا تفنى. مع العلم أن درجات الجنة متفاوتة ، لأن أعمال العباد متفاوتة في درجة صلاحها .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 238 ) : (( المثوبة الحسنى وهي الجنة ، لحسن عقيدتهم وخلوص نبتهم ، وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب )) اهـ .
ز _ الدار الآخِرة :
     قال الله تعالى : (( تلك الدارُ الآخِرةُ نجعلها للذين لا يريدون عُلُواً في الأرض ولا فساداً ))    [ القَصَص : 83 ] .
     والإشارةُ للتعظيم . أي : تلك الجنة العالية ذات المكانة المقدسة ليست في متناول الجميع ، بل يحصل عليها المؤمنون الصادقون الذين لا يريدون الظلمَ والاستكبارَ في الأرض ولا الفساد . فعلو مكانتها دافع للعمل من أجل نَيْلها .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 6/ 248) عن معنى " العُلُو " : (( وفيه خمسة أقوال : أحدها أنه البغي ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : الشرف والعِز ، قاله الحسن . والثالث : الظلم ، قاله الضحاك . والرابع : الشرك ، قاله يحيى بن سلام . والخامس : الاستكبار عن الإيمان ، قاله مقاتل )) اهـ .
ح _ دار السلام :
     قال الله تعالى : (( لهم دارُ السلام عند ربهم ))[ الأنعام : 127] .
     فدارُ السلام هي الجنة التي خلقها اللهُ تعالى للمؤمنين ، وقد أُضيفت إليه _ سبحانه _ إضافة تشريف مثل بيت الله . وقد وردت أقوالٌ في سبب تسميتها بذلك. (( أحدها: أن السلام هو الله وهي دارُه. والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع. والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام . والرابع : أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام )).
[زاد المسير لابن الجوزي ( 3/ 122) .].
ط _ دار المتقين :
     قال الله تعالى : (( وَلَنِعْمَ دارُ المتقين )) [ النحل : 30] .
     إنها الجنة بيتُ المتقين الدائم الذي لا يغادرونه ، وإنما يستقرون فيه . فالجنةُ دارُهم التي لا يتركونها من أجل أية دار أخرى . إنها تجمعُ المتقين الذين صنعوا حياتهم وفق مراد الله تعالى ، فلم يتقاعسوا ، ولم يُصابوا بالإحباط أو التعب من مواصلة السير . ولا شك أنهم تحلوا بالصبر الهائل في دنياهم حتى نجحوا في الوصول إلى هذه المنزلة الراقية .
ي _ دار الْمُقامة :
     قال الله تعالى : (( الذي أَحَلنا دارَ الْمُقامة )) [ فاطر : 35] .
     فاللهُ تعالى أعطى المؤمنين الجنةَ، وهي المنزلة الرفيعة بفضله ورحمته. وهي دار الإقامة والاستقرار بلا رحيل أو مغادَرة .

28‏/09‏/2012

اليوم الآخر وأسماؤه

اليوم الآخر وأسماؤه

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     إن الإيمان باليوم الآخِر من أركان الإيمان . وقد ذُكر هذا الركن الجليل في آيات كثيرة جداً . قال الله تعالى : (( ولكن البِر مَن آمن بالله واليومِ الآخر )) [ البقرة: 177] . فهو من المعلوم من الدين بالضرورة . ومنكرُه كافرٌ خارج من الإسلام . فلا معنى للحياة الإنسانية دون الإيمان باليوم الآخِر الذي يُحاسَب فيه المرءُ ، فيُكافأ على حسناته ، ويُعاقَب على سيئاته .
     وقد وردت أسماء متعددة لليوم الآخر تشير إلى معانيه المتضافرة :
أ _ يوم الدين :
     قال الله تعالى : (( مَالِكِ يَوْمِ الدين ))[ الفاتحة : 4] .
     ويوم الدين هو يوم القيامة ، حيث يُدين اللهُ تعالى عبادَه بأعمالهم ، فإن عملوا خيراً وجدوا خيراً ، وإن عملوا شراً وجدوا شراً . ويعفو اللهُ عمن يشاء ، ويُعاقب من يشاء . فهذا اليومُ العظيم يُحاسَب فيه العباد ، ولا أحد يملك الهربَ أو التحايلَ .
     وقال الطبري في تفسيره ( 1/ 94) : (( ... أن لله الْمُلْك يوم الدين خالصاً دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكاً جبابرة ينازعونه الْمُلْك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية ، فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة ، وأن له من دونهم ودون غيرهم الْمُلْك والكبرياء والعزة والبهاء )) اهـ .
     وعن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ وعن أُناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : _[  مَالِكِ يَوْمِ الدين ] ، قال : (( هو يوم الحساب )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 284 ) برقم ( 3022) وصحّحه ، ووافقه الذهبي.    
وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 156 ) : (( وللدين معانٍ أخرى منها : العادة والعمل والحُكم والحال والخُلق والطاعة والقهر والملة والشريعة والورع والسياسة ، وشواهد ذلك يطول ذِكرها )) . ].
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 1/ 13) : (( وفي الدين هاهنا قولان: أحدهما أنه الحساب، قاله ابن مسعود . والثاني : الجزاء ، قاله ابن عباس ، ولَمّا أقرّ اللهُ _ عز وجل _ رب العالمين أنه مالك الدنيا دَلّ بقوله : [ مَالِكِ يَوْمِ الدين ] على أنه مالك الأخرى . وقيل : إنما خُصّ يوم الدين لأنه ينفرد يومئذ بالْحُكْم في خلقه )) اهـ .
     و (( الله تعالى هو المنفرد بالْمُلْك ذلك اليوم ، وبجزاء العباد وحسابهم . والدينُ الحساب ، وقيل الجزاء )) .
[شرح النووي على صحيح مسلم ( 4/ 104 ) .].
     فيومُ الدين يعرف الإنسانُ فيه حقيقةَ أعماله المقبولة أو المرفوضة ، وينال المرءُ جزاءه المستحق دون ظلم . فإن وجد خيراً ، فبفضل الله تعالى وله المِنة . وإن وجد غيرَ ذلك فبعدل الله تعالى وله الْحُجة . 
ب _ الآخِرة :
     قال الله تعالى : (( وبالآخِرةِ هُم يُوقنون )) [ البقرة : 4] .
     قال الطبري في تفسيره ( 1/ 138 ) : (( أما الآخِرةُ فإنها صفة للدار ... وإنما وُصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى كانت قبلها )) اهـ .
     فالآخرةُ ( وقت الحصاد ) هي المرحلة المتأخرة عن الدنيا ( وقت الزراعة ) . وفي الآخرة تظهر نتيجة امتحان الدار الأولى ( الدنيا ) . وعندئذ يُكرَم المرءُ أو يُهان . فعلى المرء أن يحرص على الوصول إلى يوم القيامة وهو في كامل الاستعداد ، ذو رصيد وافر من الحسنات لئلا يخسر مصيرَه. والناس نيامٌ ، فإذا ماتوا انتبهوا . كما أنهم إذا ماتوا قامت قيامتهم .
ج _ يوم القيامة :
     قال الله تعالى : (( لا أُقْسِمُ بيوم القيامة )) [ القيامة : 1] .
     وهذا السياق القرآني هو قَسَمٌ بيوم القيامة . وما كان اللهُ تعالى ليُقسِم بهذا اليوم لولا مكانته السامية ، ومنزلته العظيمة . وهو يوم الحسابُ والجزاء دون إمكانية الاستئناف أو تعيين المحامين البارعين .
     (( وقد اشْتُهِر في كلام العرب زيادة[ لا] قبل القَسَم لتأكيد الكلام ، كأنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قَسَم ، وجوابُ القَسَم محذوف تقديره (( لتُبْعثن ولتُحاسبن )) )).
[صفوة التفاسير للصابوني ( 19/ 75 ) .].
     وقال القرطبي في تفسيره ( 19/ 83) : (( قيل : إن ( لا ) صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة، لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حُكْم كلام واحد )) اهـ .
     واللهُ تعالى يُقسِم بما شاء من مخلوقاته ، وليس هذا إلا لله تعالى . أما الإنسانُ إذا أراد الحلفَ فلا يجوز أن يحلف إلا بالله تعالى ، فلا يُشرِك معه شيئاً . وحينما يُقسِم اللهُ تعالى بشيء من مخلوقاته فهذه إشارةٌ إلهية سامية على عظمة ذلك الشيء ومكانته الجليلة .
     وقد سُئل ابن عباس _ رضي الله عنهما_ عن قوله تعالى: [ لا أُقْسِمُ بيوم القيامة ] ، فقال : (( يُقسِم رَبكَ بما شاء من خلقه )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 552 ) برقم ( 3877 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     وسُمِّيَ يوم القيامة بهذا الاسم لأن الناس يقومون فيه لله _ سبحانه وتعالى _ (( يَوْمَ يقوم الناسُ لرب العالَمين )) [ المطففين : 6] . أو لأن الناس يقومون من قبورهم إلى هذا اليوم . قال الله تعالى : (( يَوْمَ يَخرجون من الأجداث سِرَاعاً )) [ المعارج : 43] .
د _ الساعة :
     قال الله تعالى : (( حتى إذا جَاءتْهُم الساعةُ بَغْتةً )) [ الأنعام : 31] .
     فيومُ الساعة ( القيامة ) يأتي فجأةً ، ولا يُعطي فرصةً للآخرين كي يستعدوا ،  أو يُجهِّزوا أنفسهم . فعلى العاقل أن يكون مستعداً بشكل مسبق لئلا تصعقه الساعةُ قاطعةً حياته ، وعندئذ يبدأ في التحسر على تفريطه ، ويتمنى العودةَ ليُصلح ما فات . فما دام هناك وقتٌ للتحرك فينبغي اغتنامه واستغلاله في عمل الطاعات .
     (( وَسُمِّيت القيامةُ بالساعة لوقوعها بغتة ، أو لسرعة حسابها ، أو على العكس لطولها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق )).
[الكشاف للزمخشري ( 1/ 439 ) .].
هـ _ يوم الحسرة :
     قال الله تعالى : (( وَأَنذِرهم يومَ الحسرة )) [ مريم : 39] .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 3/ 477 ) : (( أي يوم يتحسرون جميعاً ، فالمسيء يتحسر على إساءته ، والمحسنُ على عدم استكثاره من الخير )) اهـ .
     وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   :    (( يُؤتى بالموت كهيئة كبش أملح ، فينادي منادٍ : يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا ؟ ، فيقولون : نعم ، هذا الموت . وكلهم قد رآه . ثم ينادي : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا ؟ ، فيقولون : نعم ، هذا الموت . وكلهم قد رآه . فَيُذبَح . ثم يقول : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ،  ويا أهل النار ، خلود فلا موت . ثم قرأ  :  (( وَأَنذِرهم يومَ الحسرة إذ قُضِيَ الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون )).
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 4/ 1760)برقم( 4453).ومسلم( 4/ 2188 )برقم( 2849).].
     ومن خلال هذا الحديث تتضح حسرةُ الكافرين الخالدين في النار . فقد أضاعوا الفرصةَ الذهبية في الدنيا لكي ينالوا النعيم السرمدي في الآخرة ، فخسروا الدارين ، خصوصاً الآخرة . وقد أحسن اللهُ إليهم في الدنيا ، فأعطاهم العقولَ والنعمَ الجزيلة ، لكنهم أساؤوا إلى أنفسهم ، فلم يُنظِّفوا قلوبَهم لاستقبال الهداية الربانية ، فركنوا إلى الحياة الدنيا ، واطمأنوا إليها ، ولم ينظروا إلى ما ورائها .
     وفي زاد المسير ( 5/ 234) : (( قال المفسرون : فهذه هي الحسرة ، إذا ذُبح الموت ، فلو مات أحد فرحاً مات أهل الجنة ، ولو مات أحد حزناً مات أهل النار )) اهـ .
     والموتُ مخلوقٌ مثل الإنسان، له أجلٌ محدد . وبعد أن يدخل المؤمنون الجنةَ ، والكافرون النارَ، يُذبَح الموتُ بأمر الله تعالى ، لأن الموت حينئذ يفقد معناه . ففي الآخرة ( الدار الباقية ) لا يوجد موتٌ . إما نعيم أبدي أو جحيم أبدي . كما أن الموت هو لحظة فاصلة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، حيث يُنقَل المرء من العمل إلى الحساب ، ومن الزرع إلى الحصاد ، ومن الامتحان إلى النتيجة . وبالتالي تظهرُ النتائج في الدار الآخرة ويفقد الموتُ جدوى وجوده ، وتنتهي مهمته ، فيُذبَح .
     وفي صحيح البخاري ( 5/ 2402 ) : عن أبي هريرة  _ رضي الله عنه _ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل أحدٌ الجنةَ إلا أُرِيَ مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً ، ولا يدخل النارَ أحدٌ إلا أُرِيَ مقعده من الجنة لو أحسن ، ليكون عليه حسرة )) اهـ .
و _ المعاد :
     قال الله تعالى : (( إن الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآنَ لَرَادكَ إلى مَعَاد )) [ القَصَص : 85] .
     فالمعادُ هو يوم القيامة، حيث العودة لكي يُحاسَب المرءُ على أفعاله ، ويحصل الفردُ على نتيجة الامتحان الدنيوي، ويقف على مستواه الدقيق ، إما فائزاً أو خاسراً . وفي هذا اليوم العظيم تظهر الإنجازات البشرية والإخفاقات على حَد سواء . فالدنيا ليست هي نهاية المطاف ومنتهى الأحلام ، فما بعدها أجمل منها أو أسوأ منها . فالموتُ هو البداية الحقيقية للحياة ، بل إن الموت هو الحياة بعَيْنها ، وإذا لم ينتبه المرءُ إلى هذه المبدأ السامي ، فإنه الأوهام ستجرفه .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 768 ) : (( أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادكَ إليه ، ومعيدكَ يوم القيامة ، وسائلكَ عن أداء ما فرض عليكَ . هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن )).
[قال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 268 ) : (( قال جمهور المفسرين : أي إلى مكة . وقال مجاهد وعكرمة والزهري والحسن : إن المعنى : لرادك إلى يوم القيامة ، وهو اختيار الزجاج )) اهـ . وفي صحيح البخاري ( 4/ 1790 ) عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_:[  لَرَادكَ إلى مَعَاد ] ، قال : (( إلى مكة )) . اهـ . وفي رواية أن ابن عباس قال : (( إلى الموت )) { ذكرها الحافظ في الفتح  ( 8/ 510 ) ، وقال : (( أخرجها ابن أبي حاتم ، وإسناده لا بأس به )) } . ].
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 268 ) : (( يقال بيني وبينك المعاد : أي يوم القيامة ، لأن الناس يعودون فيه أحياء )) اهـ .
     وتتجلى القدرةُ الإلهية غير المحدودة يومَ المعاد ، حيث يعود الناسُ أحياء بعد أن جمع اللهُ تعالى عظامهم ، وأخرجهم من قبورهم ، وأحضرهم عن بكرة أبيهم ، دون وجود أية فرصة للهرب أو الغياب أو الاختباء .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2087 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو :   (( وأصلح لي آخرتي التي فيها مَعادي )) .
     وهذا المعنى العظيم يشير إلى أهمية الدار الآخرة باعتبارها الباقية ، حيث يعود الإنسانُ إليها ليستقر فيها إلى الأبد . فيجيء الدعاءُ النبوي ليُنبه على أهمية إصلاحها بالطاعات في الدنيا ، لكي يكون المعادُ راحةً أبدية لا شقاءً دائماً .
ز _ يوم البعث :
     قال الله تعالى : (( فهذا يَوْمُ البعث )) [ الروم : 56] .
     إنه يوم القيامة العظيم الذي يُبعَث فيه الناسُ من قبورهم . والفاءُ في الآية القرآنية (( جواب لشرط محذوف دَل عليه الكلام مجازة : إن كُنتم مُنكِرين البعث فهذا يوم البعث )) .
[تفسير القرطبي ( 14/ 45 ) .].
     والبعثُ من تجليات عدالة الخالق _ سبحانه وتعالى _ ، حيث يُبعَث الناس لكي يُحاسَبوا . فإن كان الظالِمُ قد هرب بفعلته في الدنيا ، فسوف يلاقي جزاءه العادل يوم القيامة . وإن كان المظلوم قد عاش في الدنيا منبوذاً مقهوراً فسيأخذ حقه كاملاً غير منقوص في هذا اليوم العظيم . فالدنيا ليست نهاية المطاف ، إنها عَمَلٌ ولا جَزَاء . والآخرةُ هي جزاء ولا عمل . فلا توجد أدنى فرصة لهروب الظالم ، أو ضياع حقوق المظلوم .
ح _ يوم الفَصْل :
     قال الله تعالى : (( هذا يَوْمُ الفَصْل الذي كُنتم به تُكذبون ))[ الصافات : 21] .
     وقال الطبري في تفسيره ( 10/ 478 ) : (( يقول تعالى ذِكْره : هذا يوم فَصْلِ الله بين خلقه بالعدل من قضائه الذي كنتم به تكذبون في الدنيا فتنكرونه )) اهـ .
     ويوم القيامة يفصل اللهُ فيه بين الخلائق ، فيظهر الصادقُ من الكاذب ، والمحِق من المبطِل ، والصالح من الطالح ، والمحسن من المسيء . ويتميز فيه الحق من الباطل. فهو يوم الفصل ، وإحقاق الحق ، ودحض الباطل . وهذا يؤدي إلى بعث السكينة في قلوب المقهورين ، فهم يُدرِكون أن حقهم لن يضيع . وأيضاً يردع الظالمين ، فهو يُذكرهم أن العقوبة بانتظارهم إذا لم يتوبوا . 
ط _ يوم التلاق :
     قال الله تعالى : (( لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق )) [ غافر : 15] .
     وهذا اليوم العظيم يلقى فيه العبدُ خالقَه ، ويتلاقى أهلُ السماء والأرض ، ويتلاقى العباد . ويلتقي الأولون بالآخرين في مشهد رهيب لا فرصة فيه للتدارك أو التعويض . فالقيامةُ لا تتكرر ، إنه فوز أبدي أو خسارة أبدية .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 87) : (( فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد ، وأهل السماء والأرض ، أو المعبودون والعُباد ، أو الأعمال والعُمال )) اهـ .
ي _ يوم الجمع :
     قال الله تعالى : (( وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لا رَيْبَ فيه )) [ الشورى : 7] .
     فهذا اليوم الذي لا شك فيه سوف يجمع اللهُ تعالى العبادَ للحساب فيُوفيهم أعمالهم كاملةً غير منقوصة بلا ظلم . وهذا المشهدُ العظيم سوف يضم كل الخلائق والأمم التي تعاقبت على الأرض . فالذين كانوا موتى صاروا أحياء في صعيد واحد ينتظرون مصيرَهم بكل قلق وترقب .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 136 ) : (( وهو يوم القيامة يجمع اللهُ الأولين والآخرين في صعيد واحد )) اهـ .
     فاللهُ تعالى الذي بدأ الخلقَ لن تعجزه إعادته. فالذي خلق الإنسانَ من تراب لن يعجز عن إعادته من التراب .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 7/ 274 ) : (( وتنذرهم يوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، يجمع اللهُ فيه الأولين والآخرين ، وأهل السموات والأرضين ،[  لا رَيْبَ فيه ] أي : لا شك في هذا الجمع أنه كائن )) اهـ .
     وسُمِّيَ بيوم الجمع (( لأنه مَجْمع الخلائق . وقيل : المراد جمع الأرواح بالأجساد . وقيل : جمع الظالم والمظلوم . وقيل : جمع العامل والعمل )).
[فتح القدير للشوكاني ( 4/ 749 ) .].
ك _ يوم الوعيد :
     قال الله تعالى : (( ذلك يومُ الوعيد )) [ ق : 20] .
     وهو يوم القيامة الذي وعد اللهُ الكفارَ به بالعذاب. وهذا اليومُ الجليل هو يوم الوعد والوعيد، ولكن خُصّ بالوعيد لتعظيمه وتهويله ، ولكي يكون ذا وقع شديد في النفوس .
ل _ الواقعة :
     قال الله تعالى : (( إذا وَقَعَت الواقعةُ )) [ الواقعة : 1] .
     فهذا اليوم الشديد واقع لا محالة ، وهو قريبٌ ، لأن كلَّ آتٍ قريبٌ . فلا مفر منه ، ولا توجد وسيلة للاختباء منه . فالقيامةُ قريبةٌ ، وفيها أهوال شديدة ، لا يمكن تجاوزها إلا بإذن الله تعالى .
     قال الطبري في تفسيره ( 11/ 622 ) : (( إذا نزلت صيحةُ القيامة ، وذلك حين يُنفَخ في الصور لقيام الساعة )) اهـ .
     وفي زاد المسير ( 8/ 130 ) : (( والمراد بها ها هنا النفخة في الصور لقيام الساعة )) اهـ .
     (( وسُمِّيت واقعة لأنها تقع عن قُرب . وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشدائد )).
[تفسير القرطبي ( 17/ 167 ) .].
م _ يوم التغابن :
     قال الله تعالى : (( ذلك يومُ التغابُن )) [ التغابن : 9] .
     الغُبن _ لغةً _ : النقص . يُقال : غَبَنَهُ ، إذا أخذ الشيءَ بدون قيمته .
     فيومُ القيامة هو يوم التغابن الذي يُظهِر غُبنَ أهل النار بتركهم الإيمان ، وغُبنَ أهل الجنة بتقصيرهم في الطاعات .
     أما تسميته بهذا الاسم ففيه أقوال نوجزها على الشكل التالي:
[أورد هذه الأقوال ابنُ الجوزي في زاد المسير ( 8/ 282 و283 ) .].
     _ ليس من كافر إلا وله منزل في الجنة ، فيرث ذلك المؤمنُ ، فيُصاب الكافر بالغُبن .
     _ غُبن أهل الجنة لأهل النار .
     _ يوم غبن المظلوم الظالم ، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً ، فصار في الآخرة غابناً .
     _ يظهر فيه غُبنُ الكافر بتركه للإيمان ، وغُبنُ المؤمن بتقصيره في الإحسان .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 18/ 121 ) : (( وسُمِّيَ يوم القيامة يوم التغابن ، لأنه غبن فيه أهلُ الجنة أهلَ النار ، أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير والشر والجيد بالرديء والنعيم بالعذاب ، يقال : غبنتَ فلاناً إذا بايعتَه أو شاريتَه فكان النقص عليه ، والغلبة لك ، وكذا أهل الجنة وأهل النار )) اهـ .
ن _ الحاقة :
     قال الله تعالى : (( الحاقة )) [ الحاقة : 1] .
     وهذا الاسم العظيم ليوم القيامة يدل على أنها حق واقع لا محالة ، ولا يقبله الشك أو الإلغاء . وفيها يتحقق الوعد والوعيد . فهي الحاقةُ ( القيامة ) التي عظّمها اللهُ تعالى في كتابه  ،  وجعلها إحقاقاً للحق ، وإزهاقاً للباطل .    
     فيوم القيامة لا يتخلف ، وسيأتي في موعده بدقة بلا تقديم أو تأخير ، فهو الحق الساطع ، والحقيقةُ الباهرة التي تنهار أمامها العقائدُ الزائغة والشكوك والوساوس . فالذين آمنوا بهذا اليوم ينبغي أن يستعدوا له ، أما الذين رفضوا الإيمان باليوم الآخر فسوف يُصعَقون حينما يباغتهم .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 18/ 224) : (( سُمِّيت بذلك لأن الأمور تحق فيها ، قاله الطبري ... وقيل : سُمِّيت حاقة لأنها تكون من غير شك ، وقيل : سُمِّيت بذلك لأنها أحقت لأقوامٍ الجنةَ وأحقّت لأقوامٍ النارَ ، وقيل : سُمِّيت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقاً بجزاء عمله )) اهـ .
س _ القارعة :
     قال الله تعالى : (( كَذبت ثمودُ وعاد بالقارعة )) [ الحاقة : 4] .
     والقارعةُ اسم جليل من أسماء القيامة ، فهي تقرع القلوبَ بأهوالها . وهذا دليلٌ على الشدة البالغة والخطب الجليل . حيث ترجّ القلوبَ رجّاً عنيفاً ، فيشعرُ المرءُ كما لو كان قلبُه سيخرج من مكانه . ولا يمكن للقلب أن يَثبت في تلك اللحظات العصيبة إلا إذا كان مملوءاً بالإيمان المقترن بالعمل الصالح في الدنيا .
     قال القرطبي في تفسيره ( 18/ 225 ) : (( يقال : أصابتهم قوارع الدهر ، أي أهواله وشدائده ، ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه وقوارص لسانه جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية ، وقوارع القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الإنس نحو آية الكرسي كأنها تقرع الشيطانَ ، وقيل : القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين ، قاله المبرد )) .
ع _ الطامةُ الكبرى :
     قال الله تعالى : (( فإذا جاءت الطامةُ الكُبرى )) [ النازعات : 34] .
     فهي عظيمة الشأن شديدة الوطأة ، فتُغطِّي على كل الفظائع والمصائب ، فهي الحدثُ الرهيب الذي تصغر أمامه الأحداثُ الجسيمة . فكل الخطوب العظيمة تتلاشى أمام الطامة الكبرى التي تعم على كل الأحداث فتصبح هي الحدث الأكبر المرعب ، والشغل الشاغل للعباد . فكما أن نور الشمس يُغطِّي على نور النجوم ، فكذلك هذا الحدث الجلل يُغطِّي على ما عداه . 
     قال الطبري في تفسيره ( 12/ 440 ) : (( تطم على كل هائلة من الأمور ، فتغمر ما سواها بعظيم هَوْلها )) اهـ .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 9/ 23و24) : (( الطامة : الحادثة التي تطم على ما سواها أي تعلو فوقه ، وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها النفخة الثانية التي فيها البعث ، والثاني : أنها حين يقال لأهل النار : قوموا إلى النار ، والثالث : أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار )) اهـ .
ف _ الصاخة :
     قال الله تعالى : (( فإذا جاءت الصاخةُ )) [ عَبَسَ : 33] .
     والصاخةُ هي صيحة يوم القيامة . سُمِّيت كذلك لشدة صوتها ، فتصخ الآذانَ ، أي تجعلها عاجزةً عن السمع ( حالة الصمم ) . فهذا الصوتُ المخيف يُعطِّل الجوارحَ عن عملها ، فتصبح حاسةُ السمع كما لو أنها غير موجودة . وذلك لشدة الصدمة والضغط الهائل .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 19/ 194) : (( والصاخة : الصيحة التي تكون عنها القيامة ، وهي النفخة الثانية تصخ الأسماعَ : أي تصمها ، فلا تسمع إلا ما يُدعَى به للأحياء ، وذكر ناسٌ من المفسرين قالوا : تصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصاخ إلى كذا : أي استمع إليه )) اهـ .
ص _ الغاشية :
     قال الله تعالى : (( هل أتاكَ حديثُ الغاشية )) [ الغاشية : 1] .
     والغاشيةُ هي القيامة ، تغشى الناسَ بأهوالها ، وتَعُمهم بالشدائد . وفي ذلك الموقف العصيب لن يَثْبت إلا من ثَبّته اللهُ تعالى . فهذه الشدةُ العارمة العامة التي لا تستثني أحداً تدل على هَوْل الموقف واستحالة الإفلات منه .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 20/ 26 ) : (( أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها قاله أكثر المفسرين  .  وقال سعيد بن جبير و محمد بن كعب : ( الغاشية ) : النار تغشى وجوه الكفار  ... وقيل : تغشى الخلق ، وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلائق ، وقيل  : ( الغاشية ) أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها )) اهـ .

27‏/09‏/2012

الموت من منظور الإسلام

الموت من منظور الإسلام

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


أ _ قضاءٌ محتوم :
     قال الله تعالى : (( كُل نَفْسٍ ذَائقةُ الموت )) [ آل عمران : 185] .
     كل النفوس سوف تتجرع كأسَ الموت وتصارع غُصّاتِه . فلن تنجوَ أيةُ نَفْس من الموت ، فمصيرها المحتوم إلى الفناء . وفي هذا إشارة بالغة إلى أن النفوس مقهورة خاضعة للسُلطة الإلهية العُليا المطلقة التي تتحكم في كل شيء. واللهُ تعالى هو المسيطر على هذه النفوس، فقد وضع لها آجالاً لا يمكن للمخلوقات تجاوزها .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 577 ) : (( فهو _ تعالى _ وحده هو الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخِراً كما كان أولاً ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت )) اهـ .
     والجدير بالذكر أن لفظة [ ذَائقة ] تدل على صورة تشبيهية للموت ، وكأنه طعام أو شراب لا بد من تذوقه وعندئذ يُعرَف طَعْمُه المر . وكل الخلائق قادمةٌ لتذوقه رغماً عنها . فلا مهرب من الموت . وكل ينتظر دورَه . والموتُ شاملٌ عام لا يُفلِت من قبضته أَحد . وليس بدعةً تصيب البعضَ وتترك البعضَ الآخر . فالموتُ يصيب الجميعَ بلا استثناء .
     وكما قال طرفة بن العبد :
تمنى رِجالٌ أن أموت وإن أَمُت               
فتلكَ سَبيلٌ لَسْتُ فيها بأوحد
     وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ( 3/ 240 ) أن الإمام الشافعي _ رضي الله عنه _ كان يُنشد هذا البيت ويستشهد به . وقد روى ذلك أيضاً ابن حبان في روضة العقلاء ( 1/ 287 ) .
     وقال الله تعالى : (( وما كان لِنَفْسٍ أن تموت إلا بإذن الله كِتاباً مُؤَجلاً )) [ آل عمران : 145] .
     فكل نفسٍ لا تموت إلا بإذن الله تعالى الذي وضع وقتاً محدداً لخروج الروح من الجسد . وهذا الوقتُ المعيّن موجود في علم الله تعالى المحيطِ بكل الأزمنة والأمكنة . فإذا انقضى الأجلُ فارقت الروحُ الجسد بأمر الله تعالى ، أما إذا لم تحن ساعة الوفاة فلا يحصل الموتُ .
     وقال الطبري في تفسيره ( 3/ 459 ) : (( وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله اللهُ غايةً لحياته وبقائه ، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه اللهُ له وأذن له بالموت ، فحينئذ يموت ، فأما قبل ذلك فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال )) اهـ .
     وهذه الحقيقة الثابتة تبعث في النفس البشرية الطمأنينة، وتحضّها على العمل باجتهاد وشجاعة، لأن الموت بيد الله وحده، لا بيد الأعداء . وكَم من قائد قضى حياته في المعارك مُقاتِلاً ثم مات على فراشه . وكَم مِن جبان قضى حياته هارباً من المعارك ، لكن ذلك لم يمنعه من الموت . ومات حَتْفَ أنفه ( من غير قتل ولا ضرب ) . وكما قال المتنبي :
ولو أن  الحياةَ  تَبْقَى لحـــي                
لعدَدنا أضَلنا الشجعــــانا
    وإِذا لم يكنْ من الموتِ بـُــد                
فمن العجزِ أن تمــوتَ جبانا
[معنى البيتَيْن : لو كانت الحياةُ خالدةً دائمة بلا موت لكان أغبى الناس وأضلهم هم الشجعان الذين ضحوا بحياتهم . وبما أن الموت لا بد منه ولا مفر منه ، فمن العجز أن يموت الإنسانُ جباناً . لأن كل الناس سيموتون . فلماذا لا يموت الإنسانُ شجاعاً ما دام الموتُ لا يُفرِّق بين شجاع وجبان ؟ .].
     وقال الله تعالى : (( قُل لو كُنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم )) [ آل عمران : 154] .
     أي لو كان المؤمنون في بيوتهم آمنين مطمئنين لخرج الذين كُتب عليهم القتل إلى الأماكن التي سيُقتَلون فيها ، لأن قَدَر الله تعالى لا يُرَد . والإنسانُ الذي كُتب عليه الموت سيذهب إلى الموت بقدمَيْه ، فالقضاءُ والقَدَر نافذان في كل شيء ، ولا يمكن رَدّهما أو تجاوزهما أو التحايل عليهما ، فالإنسانُ يدور في مدار مغلَق مركزه الجاذب هو الموت ، ولا يمكن الإفلات منه إطلاقاً .
     وروى الطبري في تفسيره ( 3/ 482) أن الحسن قال في تفسير الآية : (( كتب اللهُ على المؤمنين أن يُقاتِلوا في سبيله ، وليس كل مَن يُقاتِل يُقتَل ، ولكن يُقتَل من كتب اللهُ عليه القتلَ )) .
     وقال الله تعالى : (( أينما تكونوا يُدْرِككم الموتُ ولو كُنتم في بُروجٍ مُشيدةٍ )) [ النساء : 78].
     فالموتُ قادمٌ لا محالة ، لا يحتاج إلى خارطة أو بوصلة لمعرفة طريقه ، ولا يمكن رَدّه بوضع حواجز أو حراس شخصيين . ولو كان الإنسانُ في حصونٍ منيعة أو قلاعٍ محروسة ، فإن الموت سيأتيه حينما يحين الأجلُ المكتوب الذي لا يعلمه إلا اللهُ تعالى . وكما قال الشاعر :
ومن هابَ أسبـابَ المنايا يَنَلْنَهُ           
وإِن يرقَ أسبابَ السماءِ بسُلّمِ
     وقال الطبري في تفسيره ( 4/ 174 ) : (( يقول : لا تجزعوا من الموت ، ولا تهربوا من القتال وتضعفوا عن لقاء عدوكم حذراً على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت بإزائكم أين كنتم وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة )) اهـ .
     وفي واقع الأمر فإن الموت هو الحارس الشخصي للإنسان ، فإذا لم تحن ساعة وفاته فلا أحد يقدر على قتله ، أما إذا حانت ساعة الموت فكل الخلائق لا تقدر على حماية حياته .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 2/ 137 ): (( قوله تعالى:[ أينما تكونوا يُدْرِككم الموتُ ] سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حق شهداء أُحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ومقاتل )) اهـ .
     وقال الله تعالى: (( قُل إن الموت الذي تَفِرون مِنه فإنه مُلاقيكم ))[ الْجُمُعة : 8].
     فلا يمكن الفرارُ من الموت. أما محاولات البعض الهروب من الموت_ حسب تفكيرهم القاصر_ فهي محض عبث ، لأن الموتَ قادمٌ ، وسيُلاقي الناسَ وجهاً لوجه فلا يترك لهم فرصةً للهرب أو الإفلات . فالقَدَرُ المحتوم نازلٌ بالناس لا محالة ، ولا تنفع معه وسائل الحراسة أو الاختباء .
     وقال الله تعالى : (( وَلَن يُؤَخرَ اللهُ نَفْساً إذا جاء أَجلُها )) [ المنافقون : 11] .
     إن الله تعالى لن يؤخر نفساً إذا حان وقتُ وفاتها . لن يُعطيَها فرصةً أخرى أو عمراً آخر أو فترةً إضافية . فالأجلُ المحتوم إذا حان وقتُه فارقت الروحُ الجسدَ ، ومات الإنسانُ في الوقت الذي قَدّره اللهُ له دون زيادة أو نقصان . وهذا يدحض عقيدةَ الفوضى والعبث والصدفة التي تتجلى في قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى :
رأيت المنايا خَبطَ عشواءَ من تُصبْ          
 تُمِتْـهُ وَمَـنْ تُخطـئ يُعَمّرُ فيهرَمِ
     فهو يقرر أن الموت يصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة . وهذه عقيدة تُضاد العقيدة الصحيحة ، وهي أن الله تعالى يقبض أرواح من يشاء إذا انتهت أعمارهم المكتوبة . لكنّ البيئة الجاهلية الوثنية التي عاش فيها زهير بن أبي سلمى أصابَتْه بلوثتها .
     وقال الله تعالى : (( وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أفإن مِت فهم الخالدون )) [ الأنبياء : 34] .
     أي : وما جعلنا لبشرٍ من قبلك يا محمد الخلودَ في الدنيا . فإذا مِت فهل الذين بعدكَ سيحصلون على الخلود ؟ . فكل الخلائق سائرة نحو الموت . والقضيةُ مسألة وقتٍ ، حيث ينتظر الإنسانُ دَوْرَه كي يتجرع كأسَ الموت .  
     وهذه الآيةُ العظيمة هي التي ثَبّتت أبا بكر الصِّديق _ رضي الله عنه _ ساعة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أن أبا بكر الصديق _ رضي الله عنه _ أتى البيتَ الذي تُوُفيَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وهو مُسَجى ، فنظر إليه فَأَكَب عليه لِيُقَبل وجهَه، وقال: (( واللهِ لا يجمع اللهُ عليكَ موتتَيْن بعد موتكَ التي لا تموت بعدها ))،  ثم خرج إلى المسجد ، وعمر يُكلم الناسَ ، فقال أبو بكر : (( اجلسْ يا عمر )) ، فأبى فَكَلمه مَرتين أو ثلاثاً ، فأبى ، فقام فتشهد ، فلما قضى تشهده قال :  (( أما بعد ، فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان يعبد اللهَ فإن الله حي لا يموت ثم تلا : [ وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ] ... )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 323 ) برقم ( 3162 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     وهذا يشير إلى عظمة القرآن الكريم في تثبيت النفوس عند الشدائد ، وبثِّ الروح المعنوية في الأفراد والجماعات عند الأزمات الصعبة ، من أجل أن يظلوا متماسكين بدون انهيار أو بلبلة . فاللحظاتُ العصيبة هي الكاشفة عن معادن الرِّجال ورباطةِ جأشهم .
     وقال الله تعالى : (( وجاءت سَكْرةُ الموت بالحق ذلك ما كُنتَ مِنه تَحيد ))[ ق : 19] .
     وجاءت شدةُ الموت وغمرته التي تغلب على عقل الإنسان بالحق الساطع الذي لا يُنكَر . فالمرءُ سوف يرى الأشياء التي كان  يسمع عنها عياناً  ،  فتصبح الغيبياتُ واقعاً محسوساً كعالَم الشهادة . وهذا ما كنتَ تهرب منه وتَفزع .
     وعن القاسم بن محمد يُحدث ، وتلا قول الله _ عز وجل _ : [ وجاءت سَكْرةُ الموت بالحق ذلك ما كُنتَ مِنه تَحيد ] ، ثم قال : حَدثتني عائشة أم المؤمنين _ رضي الله عنها _ قالت : لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت ، وعنده قدحٌ فيه ماء ، وهو يُدخِل يَدَه في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : (( اللهم أَعِني على سكرات الموت )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 505 ) برقم ( 3731 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . ].
     فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم مخلوقات الله تعالى يعاني من سكرات الموت . واللهُ تعالى قادر على تخليصه منها . ولكنْ في ذلك زيادة في الأجر والإيمان والمكانةِ الأُخروية. وأيضاً لكي يصبر المؤمنون الذين يتخذون من النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً لهم ومُعلماً، فيسيرون على دربه في الإيمان والصبر وقوةِ التحمل. فالمعلمُ حينما يتطابقُ قولُه مع فعله فإنه سيكون بالغ التأثير في أتباعه ، أما إن كان منفصلاً عنهم في عالَمه الخاص ، فعندئذ سيحصل الشرخُ ، ويختفي التأثير .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 8/ 12) : (( قوله تعالى : [ وجاءت سَكْرةُ الموت ] وهي غمرته وشدته التي تغشى الإنسانَ ، وتغلب على عقله ، وتدله على أنه ميت .[ بالحق ] وفيه وجهان : أحدهما أن معناه جاءت بحقيقة الموت ، والثاني : بالحق من أمر الآخرة فأبانت للإنسان ما لم يكن بَيناً له من أمر الآخرة )) اهـ .
     وعن عائشة قالت : كنتُ عند أبي بكر حين حَضَرَتْه الوفاة فتمثلتُ بهذا البيت :  ( من لا يزال دمعه مقنعاً يوشك أن يكون مدفوقاً ) ، فقال : (( يا بُنَية، لا تقولي هكذا، ولكن قولي :      [ وجاءت سَكْرةُ الموت بالحق ذلك ما كُنتَ مِنه تَحيد ] )).
[رواه ابن حبان في صحيحه ( 7/ 308 ) برقم ( 3036 )، وأبو يعلى في مسنده ( 7/ 429) برقم ( 4451 ).وقال الهيثمي في المجمع ( 3/ 113) عن إسناد أبي يعلى:(( رجاله رجال الصحيح)).].
     وهذا التوجيهُ من أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ يدل على رجاحة عقله ، وقدرته على استحضار الآيات القرآنية ومعانيها ، حيث إنه يعيش معها ، ويتخذها مصباحاً منيراً في حياته . وعلى الرغم من حالته الصعبة ( الاحتضار ) إلا أنه استحضر المعاني القرآنيةَ السامية المتعلقة بأهوال الاحتضارِ ، وسكراتِ الموت . مما يدل على أن القرآن الكريم كان دستورَه في حياته ، وعند لحظات وفاته .
     أما السيدة عائشة _ رضي الله عنها _ فتمثلت ببيت من الشِّعر معناه أن مَن كان دمعُه مُقنعاً مخفياً يوشك أن يصير مصبوباً مكشوفاً . وفي هذا معنىً للألم والحزن والتأثر . لكن تأثير القرآن الكريم لا يجاريه تأثير . لذلك حَضّها والدُها على تلاوة الآية القرآنية لا بيتِ الشِّعر .
ب _ لكل أُمة أَجَلٌ محتوم :
     قال الله تعالى : (( وَلِكُل أُمةٍ أَجَلٌ فإذا جاء أَجلُهم لا يَستأخرون ساعةً ولا يَستقدمون ))  [ الأعراف : 34] .
     كل أُمةٍ لها وقتٌ محدّد لنزول العذاب بها أو موتهم . وهذا الأجلُ المحتوم المعيّن لا يتأخر ولا يتقدم .
     وقال الله تعالى : (( وَإِن مِن قَرْيةٍ إلا نحن مُهلِكوها قبل يوم القيامة أو مُعَذبوها عذاباً شديداً )) [ الإسراء : 58] .
     فكل قريةٍ لا بد من هلاكها قبل يوم القيامة . فالقريةُ الصالحة تُهلَك بالموت ، أما الطالحة فتُهلَك بالعذاب . والمقصود بالقرية في الآية هم أهلُها.
[هذا الأسلوب القرآني شبيهٌ بأسلوب الآية : (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ التِي كُنا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنا لَصَادِقُونَ ))[ يوسُف : 82 ] . أي اسأل أهلَ القرية ، وحُذفت " أهل " للبلاغة ، كما أن  (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ )) مجاز مرسل علاقته المحلية . ].
فالفناءُ مكتوبٌ على الأشياء ، وهو أمرٌ حتمي لا مفر منه .
     وقال الله تعالى : (( فهل تَرى لهم مِن بَاقيةٍ )) [ الحاقة : 8] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 530 ) : (( أي : هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم ؟، بل بادوا عن آخرهم ، ولم يجعل اللهُ لهم خَلفاً )) اهـ.
     وتتجلى قدرةُ الله تعالى غير المحدودة في استئصالهم ، ومحوهم عن بكرة أبيهم ، واجتثاثهم ، فلم يعد لهم أثر ، وصاروا أحاديث في المجالس بعد أن ملأوا الدنيا ضجيجاً ومجداً زائفاً . فالعاقلُ من اتعظ بغيره ، والجاهلُ من اتعظ بنفسه .  
     والعذابُ الإلهي لا يحتمل المزاح أو المراوغة أو التحايل ، ولا يمكن امتصاصه ، لأن الصدمة النازلة على القوم المستحقين للعذاب تكون قاصمةً لا تُبقي ولا تَذر . فالأمرُ في منتهى الجدية ، وليس أزمةً طفيفة عابرة . فالعذابُ هو عملية اجتثاث استئصالية ماحية تأتي كعقوبة مستحقة على أقوام لم يكتفوا برفض الإيمان، بل حارَبوه بشتى الوسائل وبكل الإمكانيات ، وقاموا بالاعتداء على المؤمنين والتضييق عليهم . وكل هذا بعد أن أُقيمت عليهم الْحُجّة ، واتضح لهم الحق من الباطل . وبالتالي فهم مستحقون للعذاب . (( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين )) [ الزخرف : 76].  
ج _ ساعة الاحتضار :
     إن ساعة الاحتضار بالغة الصعوبة . وهي لحظاتٌ شديدة الوطأة لن يثبت فيها إلا من ثَبته اللهُ تعالى . وقد عبّر القرآنُ الكريم عن هذه الساعة ، ووضّح أبعادَها التي من شأنها بث الاعتبار في نفس السامع ، لأن المشهد الذي تصنعه الآياتُ يستجلب انتباهَ الإنسان وينقله إلى عالم الاحتضار الصارم .
     قال الله تعالى : (( فلولا إذا بَلغت الْحُلْقومَ )) [ الواقعة : 83 ] .
     وهذا مشهدٌ تصويري لحالة الاحتضار الشديدة حيث تبلغُ الروحُ الحلقَ أثناء خروجها من الجسد . وكأنها لا تريد مفارقةَ الجسد . وفي هذا إشارة بالغة إلى هول الموقف ، ولحظاتِ الاحتضار العصيبة التي يعاني فيها الإنسانُ ، ويتكبد المشاق العظيمة . وفي تلك اللحظات لا ينفع الرصيدُ البنكي ، ولا قوة القبيلة ، ولا كثرة الأتباع . فالإنسانُ يكون في أشد أنواع الوحدة .
     وقد قال حاتم الطائي في تصويره لشدة خروج الروح من البدن ( الحشرجة ) :
أَمَاوِيّ ومَا يُغْنِي الثرَاءُ عَن الْفَتَــى         
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصدْرُ
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : جاء رَجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله ، أَي الصدقة أعظم أجراً ؟ ، قال : (( أن تَصَدق وأنتَ صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان )).
[متفق عليه. البخاري ( 2/ 515 ) برقم ( 1353 )،ومسلم ( 2/ 716 ) برقم ( 1032). وفي شرح النووي على صحيح مسلم ( 7/ 123): (( فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة فإذا شَح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره ، بخلاف من أشرف على الموت وآيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح... ومعنى بلغت الحلقوم : بلغت الروح . والمراد قاربت بلوغ الحلقوم ، إذ لو بلغته حقيقةً لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته باتفاق الفقهاء )) .].
     فعلى الإنسان أن يسارع في عمل الخيرات قبل أن تبلغ الروحُ الحلقومَ ، ويبدأ حينئذ بالحسرة وتمني تدارك ما فاته من أعمال البِر . فما دام في العمر فسحةٌ فعلى المرء أن يستغلها على أكمل وجه قبل أن يغرق في الاحتضار ، وتفارق الروحُ البدنَ ، ويصبح في عِداد الموتى الذين انقطعت أعمالهم ، وحان وقتُ حصاد ما زرعوه ، دون أية فرصة للتعويض .   
     وقال الله تعالى : (( كلا إذا بَلغت التراقِيَ )) [ القيامة : 26] .
[قال السيوطي في الإتقان ( 1/ 548 ) : أضمر الروحَ أو النفسَ لدلالة التراقي عليها .].
     وهذا مشهدٌ بالغ الصعوبة ، حين تبلغ الروحُ أعالي الصدر في طريق خروجها من الجسد . فهذه الصورةُ المعبِّرة عن الاحتضار تجعل المستمعَ يتابع حركةَ الروح الخارجة من البدن لحظةً بلحظة بكل ما يحمله هذا الحدث من أهوال .
     وعن بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق على كفه فقال  :     (( يقول الله : يا ابن آدم أَنى تعجزني وقد خلقتكَ من مثل هذه ، حتى إذا سَويتكَ وعدلتكَ مشيتَ بين بردتين وللأرض منك وئيد _ يعني شكوى _ فجمعتَ ومنعتَ حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدق ، وأَنى أوان الصدقة )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 545 ) برقم ( 3855 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     فعلى الفرد أن يبادر إلى عمل الخير قبل وصول الروح إلى التراقي ، وعندئذ تذوب حياةُ المرء ويدخل في عالم الموتى دون فرصة للعودة أو التعويض .
     وحالةُ الاحتضار المخيفة لم يوضِّحها القرآنُ الكريم للخوف والاعتبار فحسب ، بل أيضاً لتكون حافزاً على عمل الخير والإسراع في الطاعات ما دام الفردُ على قيد الحياة ، وأمامه مهلة زمنية لم يصل إليها الاحتضار . فعملُ الخير عند الاحتضار ( حينما يفقد الفردُ فرصته في الحياة ) ليس كعمل الإنسان للخير أثناء حياته وفي أوج مصارعته لشهواته .
     فالخيرُ الحقيقي هو أن تملك ثم تتخلى طواعيةً في ذروة صحتك وعنفوانك ، أما الاحتضار فهو تركٌ قسري للحياة الدنيا بكل متاعها وزخرفها ، وفي هذه الحالة كل الناس يصبحون كراماً أسخياء . فينبغي أن تكون الدنيا في اليد لا في القلب . وهكذا يصبح الفردُ مالِكاً للمال _ على وجه التحقيق _ ، فلا يملكه المالُ ، ولا تلعب به الدنيا .
     وقال الحافظ في الفتح ( 5/ 374 ) : (( قال بعض السلف عن بعض أهل الترف : يعصون اللهَ في أموالهم مرتين ، يبخلون بها وهي في أيديهم _ يعني في الحياة _ ، ويُسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم _ يعني بعد الموت _ )) اهـ .
     وعن أبي الدرداء _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَثَل الذي يُعتِق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 231 ) برقم ( 2846 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . ورواه الترمذي في سُننه ( 4/ 435 ) برقم ( 2123 ) بسند حسّنه الحافظ في الفتح ( 5/ 374 ) . ].
     فعملُ الخير الحقيقي مكانه في الحياة الدنيا أثناء صحة الإنسان وعافيته ، ونزواته الشهوانية الاستهلاكية . فهذه هي مجاهدة النفس والتغلب عليها في سبيل رضا الله تعالى . أما حينما يفقد المرءُ الأملَ في الحياة والتمتع بها ، فلا معنى لعمل الصالحات .