الحج والعمرة
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
_
الحج :
إن الحج من
أعظم العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى . فهو من أركان الإسلام الخمسة ،
كما أنه رحلة نورانية من الظلام إلى التألق ، ومن الذنوب إلى التوبة ، ومن الشهوانية
المادية إلى الروحانية المستقيمة .
فالعبدُ
يرحل إلى خالقه تعالى راجياً القبول ونيل المغفرة . كما أن شعائر الحج تذكِّر
العبدَ بأحداث ما بعد الموت ، مثل البعث والنشور . مما يترك في النفس البشرية
بالغَ الأثر الطيب الذي يدفع باتجاه خلع الذنوب والتزام التوبة .
والحج من
الفرائض الثابتة في القرآن والسنة، بحيث إن منكره يخرج من الملة . وحري بالذكر أن
الحج يجب على العبد مرةً واحدة في العمر ، وهذا أمرٌ مُجمَع عليه بلا خلاف .
ولا يتسع
هذا المقام لبيان شعائر الحج تفصيلاً ، أو ذكر الأدلة الشرعية بكل جوانبها . لكننا
نسعى إلى تسليط الضوء على موضوع الحج بشكل عام شديد الإيجاز لنعطيَ فكرةً شمولية
واضحة وسريعة حول مركزية هذه العبادة ودورِها في بناء الفرد، وتحريكِ المجتمعات
نحو العمل الدؤوب ، وإلغاء اليأس من القلوب ، وبعث الأمل المتجدد في قلوب العباد
لكي يواصلوا رحلتهم إلى الله تعالى . وكلما سَقطوا وقفوا من جديد ، واستمروا في
المشي بكل ثبات رغم كل العوائق .
قال الله
تعالى: (( وللهِ على الناس حِج البَيْت من استطاع إليه سبيلاً )) [ آل عمران : 97]
.
فالحجُّ
عبادةٌ خالصة لله تعالى لها حُرمتها الجليلة ومكانتها المجيدة . وهي تقوم على أُسس
ثابتة كصحة البدن وتوفر المال . وقد اقترن الحج بالقدرة الإنسانية تخفيفاً عن
الناس ، وعدم تكليفهم فوق ما يطيقون . مع العلم أن كل عبادة فيها قَدْرٌ من المشقة
والتعب ، إلا أن الله تعالى يُعين العبادَ على أداء ما افترضه عليهم ، ولا
يُحمِّلهم فوق طاقتهم . وعبادةُ الحج مُيسّرةٌ رغم ما فيها أحكام دقيقة وشعائر
متعددة وانتقال عبر أماكن مختلفة . وبالطبع فلن يكون دخولُ الجنة مجاناً . وكل
امتحان لا يمكن تجاوزه إلا ببذل الجهد والوقت والمثابرة .
قال
الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 547 ) : [ اللام في قوله (( للهِ )) هي التي يقال لها
لام الإيجاب والإلزام. ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف (( على )) فإنه من أوضح الدلالات
على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل لفلان عليّ كذا ، فذكر الله _ سبحانه _
الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته . وهذا الخطاب شامل لجميع
الناس لا يخرج عنه إلا من خصّصه الدليل كالصبي والعبد ] اهـ .
وتتجلى
حكمةُ الله تعالى في ربط الحج بالاستطاعة . لذلك قال تعالى : (( من استطاع إليه
سبيلاً )) . وتتحقق الاستطاعة بأن يكون الشخصُ صحيح البدن ، والطريق آمناً ،
ومالكاً للزاد والراحلة. وعن أنس _ رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
_ تبارك وتعالى _ : (( وللهِ على الناس حِج البَيْت من استطاع إليه سبيلاً )). قال
: قيل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟. قال : [ الزاد
والراحلة] .
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 1/ 609 ) برقم ( 1613 ) وصحّحه . قال ابن حجر في تلخيص
الحبير ( 2/ 221) : ((قال
البيهقي : الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلاً ... وسنده صحيح إلى الحسن ... وقد قال عبد
الحق : إن طرقه كلها ضعيفة . وقال أبو بكر بن المنذر : لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً
. والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة )) اهـ .].
_ مكة المكرمة :
قال الله
تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أنا جعلنا حَرَماً آمناً ويُتخطف الناسُ من حَوْلهم
)) [
العنكبوت : 67] .
والخطابُ
موجّهٌ إلى الكفار . ألم ينظروا كيف جعلنا مكة المكرمة حرماً يتمتع بالأمن
والإيمان ، فيأمن الإنسان على نفسه وماله وعِرْضه دون حدوث أي اعتداء عليه ، في
حين أن جرائم القتل والنهب تصيب من حولهم . وفي هذا إشارة واضحة وبليغة إلى نعمة
الله العظيمة بأن جعل مكة المكرمة حرماً مصوناً محمياً له حُرْمة جليلة لا ينتهكها
إلا ضال . كما أن حُرْمة مكة تبث في النفس المؤمنة مزيداً من الإيمان والطمأنينة ،
فهي البلد الآمن الأمين . فقد قال الله تعالى : (( وهذا البلد الأمين )) [
التين : 3] . ولا يخفى أن مكة
المكرمة هي أعظم بقعة على كوكب الأرض على الإطلاق . فهي مدينة الله ذات الثقل
العالمي الذي لا يُجارَى . وهي مأوى أفئدة المؤمنين يهربون إليها ، فيشعرون بالأمن
والإيمان . فما دام المرءُ متواجداً فيها ، فهو في حصن حصين لا
يتسلل إليه الخوف ولا الوهن . إنها محطُّ أنظار العالَم بأسره . فهي مدينةُ مَلِك
الملوك ، ولا أحد يدخلها إلا بإذنه وتوفيقه .
وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم مُخاطِباً مكة المكرمة ، مدينته العزيزة المحببة إلى نفسه
الشّريفة : (( واللهِ إنكِ لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني
أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ )).
[رواه
الحاكم ( 3/ 8 ) برقم ( 4270 ) وصحّحه، ووافقه الذهبي . وقال الهيثمي في
المجمع ( 3/ 283) : (( رواه أبو يعلى
، ورجاله ثقات )) اهـ .].
وكل هذه
الدلائل تشير _ بلا شك _ إلى مكانة مكة الدينية والحضارية والتاريخية والجغرافية،
ومركزيتها العظيمة ذات القداسة في الأرض والسماء .
وفي صحيح
مسلم ( 2/ 989 ) : عن جابر _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : (( لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح )) .
مما يدل على
الأهمية الخاصة لمكة المكرمة حَرَمِ الله الآمن . فالإنسان لا حاجة له بحمل السلاح
فهو يتمتع بالأمان بكل جوانبه . لكن الضرورات تبيح المحظورات. فإن ظهرت حاجة طارئة
تضطر المؤمنَ لحمل السلاح فلا شيء عليه .
قال السيوطي
في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 402 ) : (( قال الجمهور هذا النهي إذا لم تكن حاجة ، فإن
كانت جاز )) اهـ .
وقال الله
تعالى : (( وإذ قال إبراهيمُ رب اجعلْ هذا بلداً آمناً وارزُقْ أهله من الثمرات من
آمن منهم بالله واليومِ الآخر )) [ البقرة : 126] .
وهذه دعوة
نبوية جليلة من إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم بأن يجعل مكة المكرمة بلداً
يتمتع بالأمن ، وأن يرزق أهله المؤمنين بالثمرات . وكما هو معلوم فإن دعاء
الأنبياء مستجاب لا يُرَد . وكل هذه المؤشرات تدل على تفرّد مكة بالرتبة السامية .
فلا يمكن للنبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ لبلدٍ ما بالخير إلا إذا كان
عالِماً بمكانة هذا البلد، ودورِه المركزي في تاريخ الحضارة البشرية على كوكبنا.
فأفعالُ الأنبياء وأقوالهم لا تَخصع للصدف أو الارتجال العبثي . إنهم يَعلمون ما
يقولون ويفعلون ، فهم حملةُ الرسالة الإلهية على هذه المعمورة ، ولا يتخلى اللهُ
تعالى عن مبعوثيه . فمكةُ ليست مدينةً عادية ، وليست بقعةً جغرافية محصورة في
الزمان والمكان . إنها منبع الطهارة ، وقلبُ النور ، وصانعةُ الزمان والمكان .
وقد اختلف
العلماء في مكة ، هل صارت حَرَماً آمناً بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم أو كانت
قبله . فالذي نعتمده هو أنها حَرَمٌ يوم خلق اللهُ السماواتِ والأرض .
فقد قال
الله تعالى : (( إنما أُمرتُ أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها )) [ النمل : 91] .
فتحريمها
تحريمٌ إلهي لا بشري. فلا يُسفَك فيها دم، ولا يُظلَم فيها أحد ، ولا يُصاد فيها
صيد ، ولا يُعضَد فيها شجر .
وعن ابن عباس
_ رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : (( إن هذا
البلد حرمه اللهُ يومَ خلق السماواتِ والأرض ، فهو حرام بحُرْمة الله إلى يوم القيامة
)).
[متفق
عليه. البخاري ( 3/ 1164 ) برقم ( 3017 )، ومسلم ( 2/ 986 ) برقم ( 1353 ). وقال
الحافظ في الفتح ( 4/ 47 ) : (( وقيل : الحُرْمة الحق . أي حرام بالحق المانع من تحليله.
واستدل به على تحريم القتل والقتال بالحرم . فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز
إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها . وخُصّ الخلاف بمن قَتل في الحل ثم لجأ إلى
الحرم . وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي )) اهـ . ].
وفي تفسير
القرطبي ( 2/ 117 ) أن العلماء قالوا عن مكة المكرمة : (( لم تزل حَرَماً من الجبابرة
المسلّطين ، ومن الخسوف والزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد . وجُعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها
ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى . ولقد جعل فيها _ سبحانه _
من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد
فلا يهيج الكلب الصيد ، ولا ينفر منه ، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه ، وعاد
إلى النفور والهرب. وإنما سأل إبراهيم أن يجعلها_ بلداً _ آمناً من القحط والجدب والغارات،
وأن يرزق أهله من الثمرات. لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من
لزمه القتل . فإن ذلك يبعد كونه مقصوداً لإبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى يقال : طلب
من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم . هذا بعيد جداً )) اهـ .
ومكةُ
المكرمة هي الحاضنة للكعبة المشرّفة قِبْلةِ المسلمين التي توحِّدهم على اختلاف
مذاهبهم وبلادهم وأجناسهم ولغاتهم . وهذه المدينة هي قلبُ العالم الإسلامي النابض
، وسيدة مدن كوكب الأرض . إنها مدينة الله وحَرَمه الآمن ، من دخلها فهو في كنف
الله تعالى ، يتمتع بالأجواء الإيمانية الصافية ، ويخلو قلبُه من المخلوقات ،
ويتوجّه بالكلية إلى خالقه تعالى . إنها المركزُ الحضاري والمركزيةُ الشرعية
العالمية . من آوى إليها آوَتْه ، ومن قصدها بسوء قَصَمَتْه ، ومن دخلها بقلبٍ
مشتاق للإيمان فإن الفتوحات الربانية ستهبط عليه ، وتكتنفه الفيوضات الإلهية
المجيدة .
قال الله _
عز وجل _ : (( إن أول بَيْت وُضع للناس للذي بِبَكة مُبارَكاً وهدىً للعالَمِين ))
[ آل عمران : 96].
[قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 508 ): (( بَكة من أسماء مكة
على المشهور. قيل: سُمِّيَتْ بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون
بها ويخضعون عندها . وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون )) اهـ . وفي مفردات القرآن (
1/ 1378 ) : (( اشتقاق مكة من : تمككت العظم : أخرجتُ مخه . وامتك الفصيلُ ما في ضرع
أمه . وعبر عن الاستقصاء بالتمكك ... وتسميتها بذلك لأنها كانت تمك من ظلم بها. أي
: تدقه وتهلكه )) اهـ . وقيل : سُمِّيَتْ بذلك لقلة مائها .].
قال
الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 546 ) : [ هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود
بالباطل . وذلك أنهم قالوا : إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء
وفي الأرض المقدسة . فرد الله ذلك عليهم بقوله (( إن أول بَيْت وُضع للناس )) [ آل
عمران : 96] ... وقد اختلف في الباني له في الابتداء فقيل : الملائكة ، وقيل : آدم
، وقيل : إبراهيم . ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة ثم جدّده آدم ثم إبراهيم
] اهـ .
فالكعبةُ هي
أول بيت وُضع للناس . وهذه المنزلة المقدّسة ليست لغيرها . مما يدل على عظمتها
الفائقة ، ومكانتها الكَوْنية التي لا يضارعها شيء . فهي مركزُ القداسة والطهارة
والبركة والهدى . من رآها لان قلبُه وخضع لله تعالى.ومن رفضها قَضَتْ عليه فعاد
منتكساً يجر أذيال الخيبة والظلمة.
وعن أبي ذر
_ رضي الله عنه _ قال : قلتُ : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول؟. قال :
(( المسجد الحرام )) . قال : قلتُ : ثم أي ؟ ، قال : (( المسجد الأقصى )) . قلتُ :
كم كان بينهما ؟ ، قال : (( أربعون سنة )).
[متفق عليه. البخاري ( 3/ 1231 ) برقم ( 3186 ) ، ومسلم (
1/ 370 ) برقم ( 520 ) . قلتُ : وقد يظهر لدى البعض إشكال . فالنبي سليمان صلى
الله عليه وسلم بنى بيتَ المقدس كما ورد في سنن النسائي ( 2/ 34 ) بسند صحّحه
الحافظ في الفتح ( 6/ 408 ) . والنبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى الكعبةَ .
فقد قال الله تعالى : (( وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البَيْت )) [ البقرة : 127] . وبين إبراهيم وسليمان _ عليهما الصلاة والسلام _ مدة
زمنية طويلة . فقد قال أهل التواريخ : أكثر من ألف سنة [ تفسير القرطبي 4/ 134] .
قلتُ : قد قيل _ لإزالة هذا اللبس في الأذهان _ إن إبراهيم وسليمان عليهما
السلام إنما جدّدا ما كان أسّسه غيرهما . وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 408 ) : (( وليس
إبراهيم أول من بنى الكعبةَ ، ولا سليمان أول من بنى بيتَ المقدس . فقد روينا أن أول
من بنى الكعبةَ آدم ، ثم انتشر ولده في الأرض ، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيتَ المقدس
، ثم بنى إبراهيمُ الكعبةَ بنص القرآن )) ].
ويتضح
الاقترانُ الأبدي ، والترابطُ العقائدي المصيري ، والصلةُ الوثيقة الحاسمة بين
المسجد الحرام ( أول مسجد وُضع في الأرض / القِبلة الثانية ) ، والمسجد الأقصى (
ثاني مسجد وُضع في الأرض / القِبلة الأولى ) . فالمدةُ الزمنية بينهما قريبة جداً ،
وهنا تتجلى الرابطة المشتركة بينهما . كما أن حادثة الإسراء قد وحَّدت بينهما بشكل
متماسك على الصعيد العقائدي والتاريخي والجغرافي . فقد قال الله تعالى : (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير )) [ الإسراء :1] .
ومن أسماء
مكة المكرمة الثابتة ( أم القرى ) . وهذه التسمية الجليلة تعكس أصالة مكة
ومركزيتها بالنسبة لباقي القرى فهي أُمّها . وهذا المعنى يحمل صفات الأصل والحاضنة
. فمكةُ هي أشرف البلاد قاطبةً . وقد تناولنا الأدلة الشرعية التي تؤسس هذا المعنى
بشكل واضح لا لبس فيه. فتقدمُ مكة على سائر البلدان أمرٌ متفق عليه بلا معارضة .
قال الله
تعالى: (( وكذلك أوحَيْنا إليكَ قُرْآناً عربياً لتنذرَ أُم القُرى ومن حَوْلها ))
[الشورى : 7].
فالقرآنُ
الكريم الذي هو بلسان عربي مبين جاء لإنذار أهل مكة ( أم القرى ) ومن حَوْلها ،
مشتملاً على الترغيب والترهيب. فلكل مقامٍ مقال. وتخصيص أم القرى( مكة ) بالذكر
دليلٌ على مركزيتها الأصيلة ، ومن حَوْلها أطراف . فهي كالأم التي أبناؤها يحيطون
بها لأنها الشجرة وهم الأغصان .
قال الله
تعالى : (( لا أُقْسِمُ بهذا البلد )) [ البلد : 1] .
وهذا قسمٌ
إلهي جليل بمكة المكرمة يشير إلى مكانتها المقدّسة . فاللهُ تعالى يُقسِم بما شاء
من مخلوقاته ، وليس للإنسان أن يحلف بغير الله تعالى . وكما هو معلوم فإن الله تعالى
لا يُقسِم إلا بشيء عظيم ذي رتبة سامية .
قال الصابوني
في صفوة التفاسير ( 20/ 62 ): [ زيادة (( لا )) لتأكيد الكلام،وهو مستفيض في كلام
العرب . (( لا أُقْسِمُ بهذا البلد )) أي
: أُقسم بهذا البلد ، وفائدتها تأكيد القَسَم كقولك : لا والله ما ذاك ، كما تقول
: أي والله . قال امرؤ القيس : ( لا وأبيك ابنة العامري ) ] .
_ الكعبة المشرّفة :
[قال القرطبي في تفسيره ( 6/ 302 ) : (( وقد سُمِّيَت الكعبة
كعبة لأنها مربعة ، وأكثر بيوت العرب مُدَوّرة . وقيل : إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها
، فكل ناتئ بارز كعب ، مستديراً كان أو غير مستدير . ومنه كعب القدم ، وكعوب القناة
، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها . والبيتُ سُمِّيَ بذلك ، لأنها ذات سقف وجدار
وهي حقيقة البَيْتية وإن لم يكن بها ساكن )) .].
إن الكعبة
المشرّفة هي بيت الله الحرام ، وهي قِبلة المسلمين في أنحاء العالم التي تجمع
كلمتهم ، وتوحِّد شملَهم على اختلافهم . ومنزلتها الساميةُ لا يمكن الوصول إليها .
قال الله
تعالى : (( وإذْ جعلنا البيتَ مثابةً للناس وأمناً )) [ البقرة : 125] .
أي إن الله
تعالى جعل الكعبة المشرفة مرجعاً للناس يثوبون ( يرجعون ) إليها من كل الجهات ،
فهل مركز التقائهم ، ونقطة تجميع شملهم . فهي القوة الجاذبة التي تستقطبهم لتبث فيهم
المعاني الإيمانية الراقية ، ويجدون عندها الطمأنينة ، ويستشعرون معاني الوحدة
والقوة .
وقال الله
تعالى : (( جعل اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرام قِياماً للناس ))[ المائدة : 97] .
فقد جعل
اللهُ تعالى الكعبة صلاحاً ومعاشاً لأمن الناس.وهي سبب صلاحهم في الدنيا والآخرة. حيث
الخائف يشعر بالأمان ، والضعيفُ يحصل على القوة ، والمضطربُ ينال السكينة . والجميعُ
يأمنون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم .
وقال
البيضاوي في تفسيره ( 1/ 369 ) : [ (( قِياماً للناس )) انتعاشاً لهم أي سبب انتعاشهم
في أمر معاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ، ويتوجه
إليه الحجاج والعُمّار ، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم ] اهـ .
_ العُمرة :
قال الله
تعالى : )) وأتِموا الحج والعُمرةَ لله )) [ البقرة : 196] .
وقد سبق
توضيح مكانة الحج وفضله . وبقي توضيح مكانة العُمرة وفضلها . ففي الآية أمرٌ
بإتمام الحج والعُمرة. وقد قرنهما الله تعالى معاً للتشديد على أهميتهما القصوى ،
وارتباطهما الوثيق، إذ إنهما رحلتان نحو الخالق تعالى ، تشتملان على إلقاء الدنيا
وراء الظهر ، والسعي نحو الآخرة .
فالمؤمنُ
يُلقي أعباء الدنيا عن كاهله ، ويسافر في هذه العوالم الجديدة التي لا تَبلى ،
فيكتشف إنسانيته ، ويُجدِّد العهدَ مع خالقه ، ويسير على خطى النبي صلى الله عليه
وسلم وصحابته _ رضي الله عنهم _ .
قال ابن كثير
في تفسيره ( 1/ 312 ) : (( فأمر بإتمام الحج والعمرة . وظاهر السياق إكمال أفعالهما
بعد الشروع فيهما ... ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعُمرة مُلزم ، سواءٌ
قيل بوجوب العُمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء )) اهـ .
وفي الحديث أن
رَجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف تأمرني أن أصنع في عُمرتي ؟ . فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : (( اخلعْ عنكَ
الجبة ، واغسلْ أثرَ الخلوق عنكَ ، وأنق الصفرة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك )).
[متفق
عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 634
)برقم ( 1697 ).ومسلم( 2/ 836 ) برقم ( 1180). الجبة : ثوب واسع يلبس
فوق الثياب / الخلوق : نوع من الطِّيب / صفرة
: من أثر الطيب . ].
لذلك
فالواجبُ إتمام شعائر الحج والعُمرة بضوابطهما لكي ينال المؤمنُ رضا الله تعالى في
هذه الرحلة المقدّسة المقترنة معاً ( الحج والعُمرة ) ، حيث يخلع الدنيا ، ويسعى
نحو خالقه تعالى ، ناظراً بعين قلبه إلى ما وراء الموت . حيث النعيم الأبدي أو
الشقاء الأبدي .