سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

20‏/09‏/2012

النفاق

النفاق

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     إن النفاق يعني إظهار عكس الباطن ، أو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، أو إظهار الصداقة وإخفاء العداوة . لذلك فهو بالغ الخطورة في المجتمع الإنساني عموماً ، والإسلامي خصوصاً . فمن شأنه تفتيت أوصال المجتمع ، وتدمير معنويات أبنائه، والقضاء على المكتسبات الوطنية . وكل هذه العوامل تقضي على تماسك الجبهة الداخلية ، وتجعل من البلاد والعباد لقمةً سائغة للأعداء . فالشيء لا يمكن أن يَسقط إلا إذا سقط من الداخل . 
     لذلك كان المنافقون ( العدو الخفي ) أشد خطورة من الكافرين ( العدو الواضح ) ، لأن العدو الخفي لا تعلم من أين تأتي ضربته وغدره وخيانته، فيصبح عنصر المفاجأة شديد الخطورة، خصوصاً مع انعدام إمكانية التوقع وأخذِ الاحتياطات. أما العدو الواضح فمعلومٌ مكانه وإمكانياته ، وبالتالي لا مكان للمباغتة والمفاجأة. فيمكن أخذ الحيطة والحذر بسبب معرفة الشخص وقدراته وارتباطاته، فيكون الوضع تحت السيطرة .   
     فليس غريباً أن يكون عذاب المنافق أشد بكثير من عذاب الكافر . فقد قال الله تعالى : (( إن المنافقين في الدرْك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً )) [ النساء : 145] .
     إي إنهم في أسفل النار . (( فالمنافق لَمّا كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين ، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ، ووالى الكافرين على المؤمنين . ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف. ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح )).
[تفسير ابن كثير ( 1/ 79 ) .].
     وقد فضح اللهُ تعالى المنافقين ، وكشف صفاتِهم للمؤمنين ، وأظهر كثيراً من المواقف التي صنعها المنافقون في محاولة يائسة منهم لتفريق الجماعة الإسلامية والقضاءِ على الدعوة . وهذه الإرشادات الإلهية جاءت لكي يأخذ المؤمنون حذرهم ، ويعملوا على تقوية الجبهة الداخلية لمجتمعاتهم ، ويمنعوا المنافقين من تنفيذ مخططاتهم الدنيئة .
     قال الله تعالى : (( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضُهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح اللهُ عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون )) [ البقرة : 76] .
     وهؤلاء المنافقون كانوا إذا لقوا المؤمنين ادعوا الإيمانَ نفاقاً لخداع المؤمنين ، وتنفيذ أهدافهم التدميرية . وإذا خلا بعضهم ببعض وكانوا لوحدهم قالوا : (( أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ . ومن حكمه _ جل ثناؤه _ عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة . ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير ، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم  . وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حُجَّة على المكذِّبين به من اليهود المقرِّين بحكم التوراة وغير ذلك من أحكامه وقضائه )) [ تفسير الطبري ( 1/ 412 ) ] .
     وهؤلاء المنافقون كتموا العلمَ خوفاً أن يُحتج به عليهم . فهم يضحكون على أنفسهم ظناً منهم أنهم بذلك يحافظون على مكانتهم بين الناس ، ويخدعون المؤمنين من أجل تحقيق مآربهم المادية الوضيعة . وهذه هي الفلسفة اللامنطقية للمنافقين في كل العصور .
     وقال الله تعالى : (( ألم ترَ إلى الذين يزعُمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليكَ وما أُنزل من قبلكَ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقدْ أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطانُ أن يُضِلهم ضلالاً بعيداً (60) وإذا قيل لهم تعالَوْا إلى ما أنزل اللهُ وإلى الرسول رأيتَ المنافقين يَصُدون عنكَ صدوداً (61) )) [ سورة النساء] .
     وهذا إنكار من الله تعالى على هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإيمان بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء السابقين _ عليهم الصلاة والسلام _ . ومع هذا لم يرضوا بحكم الكتاب والسنة . بل يريدون التحاكم إلى غيرهما .
     أما سبب نزول الآيات السابقة . فعن الشعبي قال : (( كان بين رَجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فدعا اليهودي المنافقَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ، ودعا المنافقُ اليهودي إلى حكامهم لأنه علم أنهم يأخذونها )).
[قال الحافظ في الفتح ( 5/ 37 ) : رواه إسحاق بن راهويه في تفسيره بسند صحيح .].
     وهكذا نرى أن المنافقين _ دائماً _ ينتهجون الأساليب الملتوية، فلا يحبون أن يسلكوا الصراطَ المستقيم لأنه يتعارض مع مصالحهم الآنية الدنيوية الزائلة ، فتراهم يسلكون كل السبل المنحرفة التي من شأنها أن تحقِّق أطماعهم ، وتوفِّر لهم شرعيةً مصطنعة للحفاظ على مكاسبهم المادية ومكانتهم الاجتماعية . وهم دائمو التحرك بفعل أهوائهم ومصالحهم الشخصية بغض النظر عن موقف الشريعة منها .
     أما الطاغوت فهو كل معبود من دون الله تعالى. والمقصود به في الآية على قولَيْن:
     الأول _ أنه حاكم اليهود أبو برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب ( يصبح صحابياً ).
[قال ابن حجر : رواه الطبري بسند صحيح عن ابن عباس .].
     والثاني _ أنه كعب بن الأشرف . [قال ابن حجر : رواه الطبري بسند صحيح إلى مجاهد .]. وهو من أكابر سادة اليهود . وقد سُمِّيَ بالطاغوت لشدة طغيانه وعداوته للنبي صلى الله عليه وسلم .
     وقد أُمروا بأن يكفروا بالطاغوت، ويؤمنوا بالله تعالى، ويتحاكموا إلى الكتاب والسنة وحدهما. لكنهم رفضوا ذلك اتباعاً للهوى والمصلحة الشخصية ، وساروا في طريق الشيطان الذي يريد إضلالهم وإغواءهم ، وقيادتهم إلى طريق الجحيم .
     وهؤلاء المنافقون إذا دُعوا إلى الكتاب والسنة ليحكما بينهم بالحق والخير، فإنهم يعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم رافضين الاحتكام إلى الشريعة . وهذا سقوطٌ مريع يجعل من الإنسان كائناً شاذاً عن مسار الحق والحقيقة ، ومتمرداً على الشريعة الإلهية. والإنسان بذلك يُلقي بنفسه إلى الهاوية .
     والمؤمنون يحملون صفاتٍ معاكسة لصفات المنافقين . إذ إن الإيمان يوجب على الإنسان أن يحتكم إلى الكتاب والسنة ، وأن يرضى بحكمهما . وهذه صفة لا تستقر إلا في قلب استقر فيه الإيمان . كما أن الاعتراض على الحكم الإلهي والحكمِ النبوي كارثة حقيقية تقضي على الإنسان ، وتجعل منه ظلاً باهتاً للأهواء والجهل .
     فعن عبد الله بن الزبير _ رضي الله عنهما _ أنه حدَّثه : أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة_ مسايل الماء _ التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه ، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : (( اسقِ يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك )). فغضب الأنصاري فقال : أن كان ابن عمتك ؟ ، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : (( اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر )). فقال الزبير : والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك [ فلا وربكَ لا يؤمنون حتى يحكموكَ فيما شجر بينهم ](  النساء : 65)   .
[متفق عليه. البخاري ( 2/ 832 ) برقم ( 2231)، ومسلم ( 4/ 1829 ) برقم ( 2357 ) .].
     لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقيَ ثم يرسل الماءَ إلى جاره . لكن الأنصاري قد تلفظ بكلام بالغ القبح ، فقد طعن في حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، واتهمه بالمحاباة مع أقربائه . إذ إن والدة الزبير هي السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد تلون وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم بسبب انتهاك حرمات الله تعالى . ولم يكن ليغضب لنفسه الشريفة لأن قداسة الشريعة فوق مكانة النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا هو قمة السمو الأخلاقي ، وتقديم الشريعة الإلهية على الشخصية النبوية . فأمر صلى الله عليه وسلم الزبيرَ أن يحبس الماءَ حتى يرجع إلى الجدر ( الحواجز التي تحبس الماءَ ) ، أي حتى تبلغ تمام الشرب . وهذه هي العدالة النبوية في الحكم بين الناس بغض النظر عن درجة القرابة .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت : (( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حُرمة الله فينتقم لله بها )).
[متفق عليه. البخاري ( 3/ 1306 ) برقم ( 3367)، ومسلم ( 4/ 1813 ) برقم ( 2327).].
     وهذا الكلامُ من الأنصاري جهلٌ وتهور . فكل من يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم كافرٌ بالإجماع . وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس ، ويصبر على أذاهم ، ويرشدهم إلى الخير .
     والنبي صلى الله عليه وسلم لم يظلم الأنصاري ، لأن أولوية السقي كانت للزبير _ رضي الله عنه _ بحكم موقع أرضه . فلا يجوز الاعتراض على الحكم النبوي المعصوم ، ولا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسولَ صلى الله عليه وسلم في كل الأمور ، ويخضع لحكمه دون اعتراض ، فلا يمكن أن يتساوى الحكمُ النبوي المؤيّد بالوحي المعصوم مع الحكم البشري القاصر .
     قال الله تعالى : (( وإن منكم لَمَن ليُبَطئن فإنْ أصابتْكم مصيبةٌ قال قدْ أنعم اللهُ علي إذْ لم أكن معهم شهيداً (72) ولئنْ أصابكم فضلٌ من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودةٌ يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً ( 73) )) [ سورة النساء ] .
     ويتوالى فضح المنافقين . ويجيء التحذير الإلهي بأن بين المؤمنين مجموعة مدسوسة من المنافقين الذين يظهرون الإيمان تقيةً. والمنافق يتباطأ في الخروج للجهاد ، ويُبطئ غيره لكي يثبِّطهم ، ويقضيَ على معنوياتهم .
     فإن أصاب المسلمين خسارة أو تفوق عليهم العدو لحكمة إلهية ، فإن هذا المنافق يفرح بعدم وجوده مع المؤمنين في تلك الموقعة، وما درى بتضييعه للأجر الإلهي الجزيل. أما إن انتصر المسلمون وحصلوا على الغنائم فيقول كأنه من ليس المؤمنين (( يا ليتني كنتُ معهم )) ، وذلك للحصول على المكاسب المادية ، وتحقيق أرباح شخصية محضة .
     وقال الله تعالى : (( ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندكَ بَيت طائفةٌ منهم غير الذي تقول )) [ النساء : 81 ] .
     وهؤلاء المنافقون عندما يكونون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يزعمون طاعته ، وموافقته ، وامتثالهم لأوامره، فإذا خرجوا قامت طائفة منهم بتبديل الكلام وتغيير المواقف لتحقيق مكاسبهم الشخصية. وهم يعتقدون بذلك أنهم يكسبون الوقت ، ويلعبون على الحبال دون أن يُكتشف أمرهم ، لكن الله تعالى يكتب أعمالهم الشريرة ، وسوف يحاسبهم عليها حساباً عسيراً . فكما هو معلوم إن الأحكام الدنيوية تُجرى على الظاهر ، أما السرائر فحسابها عند الله تعالى ، ولا طريق للبشر لمعرفتها . وبالتالي فالمنافق يضحك على نفسه لأنه يقامر بمصيره ، ويضيع دنياه وآخرته مجاناً .
     وقال الله تعالى : (( فما لكم في المنافقين فئتَيْن واللهُ أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل اللهُ ومَن يُضللِ اللهُ فلن تجد له سبيلاً )) [ النساء : 88] .
     وهذه الآيةُ تشير إلى انقسام المؤمنين في أمر المنافقين إلى فرقتَيْن ، وهذا عائد إلى اجتهادهم البشري وفق العلم الذي لديهم . والاستفهام للإنكار والتوبيخ . فعن زيد بن ثابت _ رضي الله عنه_ قال: (( لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد ، رجع ناس من أصحابه ، فقالت فرقة : نقتلهم ، وقالت فرقة : لا نقتلهم . فنزلت (( فما لكم في المنافقين فئتَيْن )).
[متفق عليه. البخاري ( 2/ 666 ) برقم ( 1785 )، ومسلم ( 4/ 2142 ) برقم ( 2776 ).].
     ومعناه : أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم . وهذا إنكار وتوبيخ للمؤمنين الذين يحكمون وفق علمهم الشخصي القاصر ، فيأتي التوجيه الرباني الكامل المعصوم ليرشد المؤمنين ، ويصحِّح أخطاءهم ، ويقودهم إلى جادة الصواب . فاللهُ تعالى يتولى أمر عباده الصادقين ، ولا يتركهم لآرائهم الشخصية .
     واللهُ تعالى أركس المنافقين ، أي ردّهم إلى الضلال والكفر جزاء أعمالهم الدنيئة ، وعقوبة لهم على أفعالهم القبيحة. ولا يمكن هداية من أضلهم اللهُ تعالى وختم على قلوبهم . فهم يستحقون ذلك، فقد ظلموا أنفسهم ، وما ظلمهم اللهُ تعالى . ومن أضله اللهُ فلا تفلح كل المخلوقات في هدايته ، ومن يطرده اللهُ فلن ينجح أحد في إيوائه .  
     وتتوالى الآياتُ في إبراز صفات المنافقين السيئة . ومنها _ بل من أهمها _ موالاة الكافرين ، والاستقواء بهم لنيل العزة الوهمية ، وإيجاد ظهر يسندهم _ وفق ما يتصورون _ .
     قال الله تعالى : (( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العِزةَ فإن العزة لله جميعاً ))[ النساء : 139] .
     فهؤلاء المنافقون يتخذون الكافرين نصراء وداعمين وأولياء متجاوزين بذلك ولايةَ المؤمنين . ويلجأ المنافقون لهذا العمل لنيل العِزة الوهمية ، والمنعةِ ، والحماية . لكن العِزة الحقيقية هي لله تعالى ومن خضع لأمره . والمؤمنون لا يوالون أعداءَ الله تعالى ، بل يوالون المؤمنين وينصرونهم .
     وعن علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   :   (( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم على من سواهم )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 153 ) برقم ( 2623 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     وهذا يشير إلى وحدة الجماعة الإسلامية ، وكونها يداً واحدة ، ومجتمعاً متماسكاً من قاعدة هرمه حتى الرأس . حيث يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً ، ولا يسمحون للغرباء ( الكفار ) بالدخول فيما بينهم لتفريق كلمتهم ، وتشتيت رأيهم ، وبث الوهن فيهم . فالمسلمون على الحق يتحركون في ظل الشريعة الإلهية ، وغيرهم على الباطل يتحركون بفعل قوة الأهواء ، وتضليلِ الشيطان . لذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يساعده أحد المشركين في المعركة . لأن المسلمين يقاتلون بدافع العقيدة الإسلامية الواضحة والمستقيمة ، أما الكافرون فيقاتلون رياءً وسُمعة ، وبدافع تحقيق أرباح مادية .
     ففي صحيح مسلم ( 3/ 1449 ) : عن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر ، فلما كان بحرة الوبرة _ اسم مكان _ أدركه رجل قد كان يُذكر منه جرأة ونجدة ، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئتُ لأتبعك وأصيب معك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تومن بالله ورسوله ؟ )) ، قال : لا ، قال : (( فارجع فلن أستعين بمشرك )) .
     وقال الله تعالى في وصف المنافقين وفضحهم : (( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتحٌ من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين )) [ النساء : 141] .
     فالمنافقون ينتظرون ماذا يحدث في أثناء المعركة وبعدها لكي يصوغوا مواقفهم الشريرة في اللعب على كل الحبال، ودراسة كل الاحتمالات. فإن انتصر المسلمون ، وحقّقوا إنجازاتٍ حاسمة، جاء المنافقون يمدحون أنفسهم بأنهم قاتلوا إلى جانب المسلمين ، ودافعوا عنهم ، وكانوا معهم في الشدة ، فيطلبون نصيبهم من الغنائم . أما إن كان للكافرين نصر وظفر ، فيقولون للكافرين ألم نغلبكم ونقدر على قتلكم وأسركم ، لكننا حافظنا عليكم ، وحميناكم من المؤمنين ، فهاتوا نصيبنا من المكاسب التي حصلتم عليها .
     وقال الله تعالى : (( إذْ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غَر هؤلاء دينُهم )) [ الأنفال : 49] .
     وقد قال المنافقون والذين في قلوبهم شك دون نفاق لكَوْنهم حديثي عهد بالإسلام إن المسلمين قد غرّهم دينُهم حتى تكلّفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش . وهذا الأسلوب الدنيء في لغة النفاق يهدف إلى تثبيط المؤمنين ، وتدميرِ معنوياتهم ، لكي يصبحوا فريسةً سهلة لأعدائهم . فإذا سقطت معنويات المقاتِلين فسيخسرون المعركة لا محالة . وهذا هو الوتر الحساس الذي يضرب عليه المنافقون في كل زمان ومكان .
     والمنافقون يفتقدون إلى الشجاعة والإقدام ، لذلك يخترعون الأعذار للهروب من المواجهات الحاسمة . وذلك لأن الدنيا بالنسبة إليهم هي حلمهم النهائي الحاسم ، فلا ينظرون إلى الأجر الإلهي الذي ينتظرهم إذا بذلوا جهدهم بإخلاص ، وقاموا بالتضحية من أجل الإسلام والمسلمين .
     قال الله تعالى : (( إنما يستأذنكَ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبُهم فهم في رَيْبهم يترددون (45) ولو أرادوا الخروجَ لأعدوا له عُدةً ولكن كره اللهُ انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) )) [ سورة التوبة ] .
     فالمنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم للتخلف عن الجهاد مستخدمين أعذاراً واهية للهروب من هذه المسؤولية لعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر . فقلوبهم مرتابة مليئة بالشبهات والشكوك التي يغرقون فيها أكثر فأكثر . ولو أنهم كانوا صادقين لأعدوا عُدةً للجهاد ، وقاموا بتجهيز أنفسهم وعتادهم ، لكنهم لم يستعدوا للخروج، فكره اللهُ انبعاثهم ، فخذلهم ، وردهم على أعقابهم خاسرين وقاعدين.
     وقال الله تعالى : (( يحذر المنافقون أن تُنَزل عليهم سورةٌ تنبئهم بما في قلوبهم قُلِ استهزؤوا إن الله مُخْرِجٌ ما تحذرون )) [ التوبة : 64] .
     فقد كانوا يحذرون أن تُنَزّل سورةٌ تفضحهم وتكشف سرّهم للمؤمنين . وهم مستمرون في استهزائهم وغيِّهم ، واللهُ تعالى يكشف أمرَهم للمؤمنين ، ويُنزل سورةً تفضحهم . وقد فضحهم في مواضع كثيرة في القرآن ، وبيّن صفاتهم الدنيئة ، ومواقفهم المخزية .
     وقال الله تعالى : (( وممن حَوْلكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتَيْن ثم يُرَدون إلى عذابٍ عظيم )) [ التوبة : 101] .
     ويتواصل توضيح أحوال المنافقين الدنيئة . فهؤلاء المنافقون الذين هم حَوْل المدينة : مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع . ومن أهل المدينة منافقون أيضاً أقاموا على النفاق وغرقوا فيه فلم يفارقوه، وتخصصوا فيه فخفي أمرُهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فلم يقدروا على تحديد أسمائهم، لكن الله تعالى يعلمهم ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . وينتظرهم عذابان قبل نار الآخرة وهما : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر ، لكي يذوقوا جزاء أعمالهم البشعة الرامية إلى القضاء على الدعوة الإسلامية ، وإعادة الناس إلى الكفر والضلال .
     وقال الله تعالى : (( ألا إنهم يثنون صدورَهم ليستخفوا منه ألا حين يَسْتغشون ثيابَهم يعلم ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون إنه عليم بذات الصدور )) [ هود : 5] .
     إن المنافقين يكتمون في قلوبهم الحقدَ على الإسلام وعداوةَ النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطوونها على المكر والخديعة . وهم يقومون بذلك ليستخفوا من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . ويغطون رؤوسهم بثيابهم لكي يحيكوا المؤامراتِ دون أن يراهم أحد _ في اعتقادهم _ . لكن الله تعالى يعلم سرَّهم وعلانيتهم . فلا يمكن إخفاء أي شيء عليه _ سبحانه وتعالى _ .
     وقال الله تعالى : (( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا اللهُ ورسولُه إلا غروراً )) [ الأحزاب : 12] .
     وهذه الآية تقدِّم وصفاً دقيقاً لحال المنافقين ومبلغ علمهم وموقفهم المخزي وقولهم الجاهل الوقح الرامي إلى خنق الدعوة الإسلامية ، وبث الإشاعات والشكوك في النفوس عن طريق استغلال الأوضاع ، ومحاولة تحويلها عن حقيقتها . فطبعُ المنافقين أنهم يحاولون اصطياد أية لحظة وتحويلها إلى نقطة في صالحهم _ حسب اعتقادهم الفاسد _ .
     فالمنافقون والذين قلوبهم مرض الشك والحيرة اعتبروا الوعدَ الإلهي والوعدَ النبوي باطلاً بلا أية قيمة . وهذا تجديفٌ كارثي وكفرٌ ممزوج بالوقاحة والجهل وغيابِ بعد النظر . (( قيل : قائله معتب بن قشير _ أحد المنافقين _ قال : يعدنا محمد بفتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً _ خوفاً _ ، ما هذا إلا وعد غرور )). [تفسير البيضاوي ( 1/ 366 ) .].
     وقال الله تعالى : (( وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا ويستأذن فريقٌ منهم النبي يقولون إن بيوتنا عَوْرةٌ وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً )) [ الأحزاب : 13].
[يثرب : هو الاسم القديم للمدينة المنورة . (( ويقال كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد )) { تفسير ابن كثير 3/ 624} . وفي الحديث المتفق عليه ( البخاري 3/ 1326 ومسلم 4/ 1779 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب )) . أي إن ظن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى اليمامة ( بلد من بلاد الحجاز ) أو هجر ( بلد في اليمن ) . وفي فتح الباري ( 4/ 87 ) : (( يقولون يثرب ، وهي المدينة . أي أن بعض المنافقين يسمِّيها يثرب ، واسمها الذي يليق بها المدينة . وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب  . وقالوا : ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين )) اهـ . وقد روى أحمد في مسنده ( 4/ 285 ) عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن سمى المدينة يثرب فليستغفر الله _ عز وجل _ ، هي طابة هي طابة )) . لكن ابن كثير ضعّفه في تفسيره ( 3/ 624 ) . ففي سنده يزيد بن أبي زياد . قال عنه الهيثمي في المجمع ( 7/ 508 ) :   (( والأكثر على ضعفه )). وضعّفه ابن حجر في تلخيص الحبير ( 2/ 274 ) . وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ( 3/ 221 ) : (( متكلم فيه )) . ].
     وتستمر خيانة المنافقين حيث قالوا لأهل المدينة : لا مكان لكم هنا ولا إقامة ، فاتركوا محمداً وأصحابه لوحدهم . وهذه دعوة لعزل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وجعلهم محاصَرين بلا قوة بشرية داعمة . وتأتي فرقة من المنافقين بعذر واهٍ ، حيث يزعمون أن بيوتهم عَوْرة ، أي غير حصينة ، فيخافون عليها اللصوص أو الاعتداء عليها . وقد كذبهم اللهُ تعالى ، ونفى أن تكون عَوْرة . لكنهم يريدون الهرب وعدم المواجهة .
     وقال الله تعالى عن المنافقين الكاذبين : (( ولَوْ دُخلت عليهم من أقطارها ثم سُئلوا الفتنةَ لآتَوْها وما تلبثوا بها إلا يسيراً )) [ الأحزاب : 14].
[قال الحافظ في الفتح ( 13/ 71 ) : (( وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة (( ولَوْ دُخلت عليهم من أقطارها ثم سُئلوا الفتنةَ لآتَوْها )) ، يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة )) اهـ . ووقعة الحرة سببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد ، فأمّر الأنصار عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ، وأمّر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي . وأرسل إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة، وقتلوا ابن حنظلة وقُتل من الأنصار شيء كثير جداً { انظر فتح الباري لابن حجر 8/ 651 } .].
     أي : لو دخل الأعداءُ على هؤلاء المنافقين من كل جوانب المدينة ثم طُلب من المنافقين أن يكفروا ، ويقاتلوا المسلمين ، لفعلوا ذلك سريعاً دون تردد لفساد عقائدهم ، وغيابِ الحق في قلوبهم ، وخرابِ نياتهم ، وانعدامِ ثقتهم بأنفسهم .
     وقال الله تعالى : (( أشِحةً عليكم فإذا جاء الخوفُ رأيتَهم ينظرون إليكَ تدور أعينهم كالذي يُغشَى عليه من الموت فإذا ذهب الخوفُ سلقوكم بألسنةٍ حِداد أشحةً على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط اللهُ أعمالَهم وكان ذلك على الله يسيراً ))[ الأحزاب : 19] .
     وقد وصف اللهُ تعالى هؤلاء المنافقين بأنهم بخلاء على المؤمنين ، لا يساعدونهم لا مادياً ولا معنوياً. فإذا جاء الخوف أُصيبوا بالجزع والقلق وانعدام الاتزان وذهول العقل ، كالشخص الذي أصابته علامات الموت ، وهذه صفة الجبناء على الدوام . فإذا شعروا بالأمن آذوا المؤمنين بألسنة سليطة وقحة ، ويتميزون بالبخل الشديد . وكل هذه الصفات تكاثرت فيهم لأنهم لم يؤمنوا بالله واليومِ الآخر . فأفسد اللهُ أعمالَهم وأبطلها ، وردّهم خاسرين في الدنيا والآخرة معاً .
     وقال الله تعالى : (( لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجِفون في المدينة لنُغْرِيَنكَ بهم ثم لا يجاورونكَ فيها إلا قليلاً )) [ الأحزاب : 60 ] .
     إذا لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض الفجور وشهوة الإثم ، والمرجِفون الذي يبثون الإشاعات لخلخلة الصفوف ، وإسقاطِ الروح المعنوية ، وتشتيتِ كلمة المجتمع ، فإن الله تعالى سيُسلط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستأصلهم . فيخرجون من المدينة ولا يعودون لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمناً قليلاً استعداداً للخروج .
     وقد كان النبي بعيد النظر في التعامل مع المنافقين فلم يقتلهم لئلا يسبّب ذلك بلبلةً في المجتمع الإسلامي ، وإضعافاً للروح المعنوية ، فيظهر المجتمع الإيماني ممزقاً يقتل بعضُه بعضاً . لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابَه )) .
[متفق عليه. البخاري ( 4/ 1861 ) برقم ( 4622 )،ومسلم ( 4/ 1998) برقم ( 2584 ).].
     وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول ( رأس المنافقين ) مع علمه بأحواله السيئة وأقواله الدنيئة ومواقفه القذرة .
     ففي صحيح البخاري ( 1/ 459 ) عن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ أنه قال : لما مات عبد الله بن أُبي بن سلول دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُصَليَ عليه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتُ إليه ، فقلتُ : يا رسول الله أتصلي على ابن أُبي وقال: قال يوم كذا وكذا كذا وكذا ؟ . أُعدد عليه قوله . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :   (( أَخر عني يا عمر )). فلما أكثرتُ عليه قال : (( إني خُيرْتُ فاخترتُ. لو أعلم أني إن زدتُ على السبعين يُغفر له لزدتُ عليها )). قال: فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة : (( ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون )) [ التوبة : 84] .
     وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 335 ) : (( أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله . وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام ... واستصحاباً لظاهر الحكم ، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته ، ومصلحة الاستئلاف لقومه ، ودفع المفسدة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح ، ثم أُمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه ... فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام، وقلّ أهل الكفر وذلوا ، أمر بمجاهرة المنافقين ... ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين ... قال الخطابي : إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح ، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم . فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سُبّة على ابنه وعاراً على قومه ، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة )) اهـ .  
     وقال الله تعالى : (( ومنهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من عندكَ قالوا للذين أُوتوا العلمَ ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع اللهُ على قلوبهم واتبَعوا أهواءهم )) [ محمد : 16] .
     وهؤلاء المنافقون كان يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا خرجوا من عنده قالوا لجماعة الصحابة أصحاب الحصيلة العلمية الوافرة : ماذا قال قبل قليل ؟. حيث إنهم لم يفهموا كلامَه صلى الله عليه وسلم ، فأضافوا إلى جهلهم سخريةً ووقاحة وسوء أدب. فختم اللهُ على قلوبهم بالكفر والضلال ، واتبعوا أهواءهم الباطلة وأمانيهم التي لا أساس لها على أرض الواقع .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : في قوله _عز وجل _ : [ حتى إذا خرجوا من عندكَ قالوا للذين أُوتوا العلمَ ماذا قال آنفاً ]. قال : (( كنتُ فيمن يُسأل )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 496 ) برقم ( 3705 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     وقال الله تعالى : (( وإذا رأيتَهم تعجبكَ أجسامُهم وإن يقولوا تَسْمَعْ لقَوْلهم كأنهم خُشُبٌ مُسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم )) [ المنافقون : 4] .
     وهؤلاء المنافقون أصحاب خِلقة سوية وقاماتٍ منتصبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم حينما يراهم تعجبه أشكالهم ، وحينما يتكلمون يسمع لهم لأنهم أصحاب منطق ، ويجيدون الكلامَ المعسول . لكن الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى مطّلع على نفوسهم الخبيثة ، فهم كالخشب المسندة لا خير فيها ولا منطق . فهم أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا عقول. ومن شدة جبنهم وخوفهم يحسبون كل صيحة أو أمر أنه نازل بهم . فكاد المريب أن يقول خذوني . فهؤلاء هم العدو الخطير الذين يختفون وراء الكلام المعسول . وجاء الأمرُ الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم لخبثهم ومكرهم وحقدهم . فالعدو الخفي أخطر بكثير من العدو المكشوف . وكما قال حسان بن ثابت _ رضي الله عنه _ :
لا بَأْسَ بالقَوْمِ من طُولٍ ومن عِظَمٍ           
جِسْمُ البغالِ وَأحْلامُ العَصَــافِيرِ

     وقال الله تعالى عن المنافقين : (( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَن الأعز منها الأذل ولله العِزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )) [المنافقون : 8 ] .
     فالمنافقون قالوا حينما نرجع من غزوة بني المصطلق إلى بلدنا ( المدينة المنورة ) ليخرج الأعز ( قصدوا به ابن سلول وأتباعه ) الأذل ( قصدوا به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ) .
     وعن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ قال : كنا في غزاة ، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار . فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ... وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ، ثم كَثُر المهاجرون بعد . فقال عبد الله بن أبي : أو قد فعلوا، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :   (( دَعْهُ ، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )).
[متفق عليه واللفظ للبخاري( 4/ 1863 )برقم( 4624 ).ومسلم( 4/ 1998 )برقم( 2584).].
     ونلاحظ أن رأس النفاق ابن سلول قد حوّل النزاع بين الأنصاري والمهاجري إلى عصبية قَبَلية، وقام بصب الزيت على النار لإشعال الفتن ، إذ إن المنافقين دائمو الاصطياد في الماء العكر ، ويعشقون إذكاء نار الفتن، وما دروا أنها حصادهم . وهم يهدفون من وراء ذلك إلى تدمير المجتمع، والقضاء على إنجازاته ، واستئصال الدعوة من جذورها ، وإحراق الأخضر واليابس لكي ترتاح نفوسهم الشريرة الحاقدة . لكن النبي صلى الله عليه وسلم بما يملكه من بعد نظر مؤيّد بالوحي المقدّس المعصوم لا يمكن استفزازه بالكلمات الدنيئة التي تصدر من هنا وهناك ، فقام بتهدئة عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ ، وأمره بترك ابن سلول ، لئلا يعتقد الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابَه ، وعندئذ تتفرق كلمة المسلمين ، وينهار المجتمع الإيماني من جذوره ، وتذهب الدعوة الإسلامية أدراج الرياح بسبب البلبلة والإشاعات وأعداءِ الداخل والخارجِ .
     وقال ابن حجر في أُسد الغابة ( 1/ 633 ) : [ فقال ابنه عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم : هو واللهِ الذليلُ وأنت العزيز يا رسول الله . إن أذنتَ لي في قتله قتلتُه ، فوالله لقد علمت الخزرجُ ما كان بها أحد أبر بوالده مني ، ولكني أخشى أن تأمر به رجلاً مسلماً فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض حياً حتى أقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( بل نحسن صحبته ، ونترفق به ما صحبنا ، ولا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابَه، ولكن بِر أباك وأحسن صحبته )) ].
[انظر البداية والنهاية ( 4/ 158 )، وتاريخ الطبري ( 2/110)، وسيرة ابن هشام ( 4/ 255).].
     تشير هذه القصة إلى القوة الإيمانية للصحابي الجليل عبد الله الذي والده هو زعيم المنافقين ، وكيف أنه قدّم الإسلامَ على رابطة النسب ، واستعد لقتل أبيه في سبيل الدعوة . لكن النبي صلى الله عليه وسلم بما يملكه من بعد نظر مؤيّد بالوحي لم يرد أن يفرِّق الجماعةَ الإسلامية ، ويثيرَ فيها الفتن والقلاقل ، ويتركها فريسةً لكلام الأعداء وطعنهم . وهذا يدل على أهمية القائد الذي ينظر إلى ما وراء الواقع حفاظاً على مصلحة رعيته .
     ومن عظيم رحمة الله تعالى بخلقه أن جعل بابَ التوبة مفتوحاً . فالمنافقُ أمامه فرصة ذهبية للتوبة والعودة إلى الله تعالى لكي ينجوَ في الدارين . ولخطورة موضوع النفاق كانت التوبة منه أشد من التوبة من الكفر . فالكافر يدخل الإسلامَ بالشهادتين ، أما المنافق فعليه أن يحقِّق أربعة شروط معاً : التوبة ، والإصلاح ، والاعتصام بالله ، وإخلاص الدين لله .
     فقد قال الله تعالى : (( إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلَصوا دينَهم لله فأولئك مع المؤمنين )) [ النساء : 146] .
     فهذا الاستثناء يشمل المنافقين الذين أرادوا التوبة . فعليهم أن ينتهوا عن نفاقهم ويتوبوا ، ويصلحوا نياتهم وأفعالهم وأقوالهم ، ويعتصموا بالشريعة الإلهية المعصومة ( الكتاب والسنة ) ، ويجعلوا كل أعمالهم الفعلية والقَوْلية طلباً لرضا الله وحده . وبذلك يصبحون مؤمنين ، لكن الله تعالى لم يقل: فأولئك هم المؤمنون ، بل قال : (( فأولئك مع المؤمنين )) لكي يشعرهم بعظيم جُرْمهم ( النفاق )، وتشديد الله عليهم.