القِبلة
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
قال الله تعالى : (( ومِن حيثُ خرجتَ فَوَل
وجهكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثُ ما كنتم فَوَلوا وجوهَكم شَطْرَه )) [ البقرة :
150] .
وهذا أمرٌ
إلهي باستقبال المسجد الحرام في الصلاة ( التوجه شَطْره أي قِبَله ). وقد (( كرّر هذا
الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته
، وجري العادة الإلهية على أن يولِّيَ أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز
بها ، ودفع حجج المخالفين )).
[تفسير
البيضاوي ( 1/ 426 ) .].
فقِبلة
المسلمين هي المسجد الحرام المحتوي على الكعبة المقدّسة . ووجودُ مكان يتوجه إليه
كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتنوع أعراقهم ولغاتهم عامل توحيد ، وضمانة أساسية
لتجذير الأمة الإسلامية كوحدة جمعية متجانسة ومتماسكة . وهذا عامل قوة يعزز الثقة
بقدرات المسلمين ، ويبث الرعب في صدور أعدائهم الطامحين إلى تفريقهم .
وحينما
يستشعر المؤمنون وِحدةَ القِبلة فهم يترفعون عن كل خلافاتهم المذهبية أو الضغائن
المزروعة بينهم ، لأنهم سيُدركون _ حينئذ _ أنهم أُمّة واحدة تتوجّه إلى إله واحد
، وذات رسالة واحدة . وهذه الجماعةُ البشرية العظيمة المتوحِّدة تمضي وفق الصراط
المستقيم الذي لا يتعدد . وبالتالي فلا مكان لهذه الخلافات ، وسوف تتساقط الشحناء
، ويختفي الحقدُ والتربصُ بالآخرين ، ومحاولة الانقضاض عليهم ، لأن الجسد الواحد
لا يمكن أن يحارب نفسَه مهما أصابه من أمراض .
وعن ابن عباس
_ رضي الله عنهما _ قال : (( أول ما نُسخ من القرآن فيما ذُكر لنا شأن القِبلة،
قال الله : [ وللهِ المشرقُ والمغرب فأينما تُوَلوا فثم وجهُ الله ] [ البقرة :
115] . فاستقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيتَ العتيق
، فقال الله تعالى : [ سيقول السفهاءُ من الناس ما ولاهم عن قِبلتهم التي كانوا
عليها ] [ البقرة : 142] . يعنون بيت المقدس ، فنسختها، وصرفه الله إلى البيت العتيق
، فقال الله تعالى :[ ومِن حيثُ خرجتَ فَوَل وجهكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثُ ما
كنتم فَوَلوا وجوهَكم شَطْرَه ] [
البقرة : 150] )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 294 ) برقم ( 3060 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .].
وحادثةُ
تحويل القِبلة ثابتةٌ في القرآن الكريم بحيث إن منكرها يَكْفر لتكذيبه كلام الله
تعالى ، أي تكذيب نَص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة . فقد تم تحويل القِبلة من بيت المقدس
إلى البيت الحرام لحِكَم إلهية عديدة وجليلة . منها أن اللهَ تعالى أراد تحقيق
رغبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى البيت الحرام . واللهُ تعالى قادر
على جعل البيت الحرام هو القِبلة الأولى دون عملية تحويل ، لكنه أراد الربط بين
المسجد الأقصى والمسجد الحرام بحيث لا ينفصلان في عقيدة المؤمن ، كما أن حادثة
تحويل القِبلة كانت اختباراً حقيقياً لعقائد الناس ، بحيث أظهرت الثابتين على
الإسلام، وأظهرت أصحاب العقيدة المضطربة الضعيفة ، وأبرزت ما في قلوب أعداء الأمة
الذين يريدون أية حادثة لكي يزعزعوا عقائد المؤمنين ، ويشكِّكوا فيها ، في محاولة
يائسة منهم لصرف الناس عن الإسلام .
قال القرطبي
في تفسيره ( 2/ 144 ) : [ أعلم اللهُ تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام
إلى الكعبة : (( ما ولاهم )) . وسيقول بمعنى قال . جعل المستقبلَ موضع الماضي دلالة
على استدامة ذلك ، وأنهم يستمرون على ذلك القول . وخص بقوله : ))
من الناس )) لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات . والمراد من السفهاء جميع من قال
: (( ما ولاهم )) ، والسفهاء جمع. واحده سفيه ، وهو الخفيف العقل ] )) اهـ .
والردّ
القرآني يجيء حاسماً لكل المسائل ، وقاطعاً لكيد أعداء الإسلام ، وفاضحاً لهم . إذ
إن ترك المنحرفين ينشرون باطلَهم دون إيقافهم عند حدهم من شأنه تدمير المجتمع
الإنساني ، وسيادة الفسقة والكافرين على الناس، وقيادتهم للأمور الحياتية ، وهذا
سيؤدي إلى اجتثاث الخير ، وتفشي الشر . فالقرآنُ يؤسس منهجَ الرد على المخالِفين ،
وفضح انحرافهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ورد كيدهم في نحورهم .
والمراد
بالسفهاء هم اليهود الذين حاولوا نشر باطلهم وصرف الناس عن الحق عبر إيراد حادثة
تحويل القِبلة لتشكيك المؤمنين بإيمانهم ، وإثارة التساؤلات الخبيثة المغرضة حول
هذا الأمر .
[قال
الحافظ في الفتح ( 8/ 171 ) : (( واختلف في المراد بالسفهاء.
فقال البراء ... وابن عباس ومجاهد : هم اليهود . وأخرج ذلك الطبري عنهم بأسانيد صحيحة
)) اهـ .].
وفي فتح
الباري ( 8/ 171 ) : (( ورُوِيَ من طريق السدي قال : هم المنافقون ، والمراد بالسفهاء
الكفار وأهل النفاق واليهود . أما الكفار فقالوا _ لما حُوِّلت القِبلة _ : رجع محمد
إلى قِبلتنا وسيرجع إلى ديننا فإنه علم أنّا على الحق . وأما أهل النفاق فقالوا : إن
كان أولاً على الحق فالذي انتقل إليه باطل وكذلك بالعكس . وأما اليهود فقالوا : خالف
قِبلة الأنبياء ولو كان نبياً لما خالف )) اهـ .
ودَيْدَنُ
أعداء الحق في كل زمان ومكان هو محاولة الاصطياد في الماء العكر ، وبث الأراجيف
والإشاعات لإبعاد الناس عن الإيمان ، وإيصالهم إلى الشك والكفر . وهم بذلك
يستخدمون كل الوسائل الخبيثة الدنيئة لتحقيق غايتهم غير الشريفة . فيتعاملون مع
الحق من منظور مصالحهم الشخصية الضيقة ، ووفق أهوائهم الذاتية المشوَّشة . وهذا
أدى إلى إصابتهم بانتكاسات متوالية قادت إلى طردهم من حظيرة الإيمان لأنهم لم
يقوموا بتنظيف قلوبهم لاستقبال الحق فخسروا الدارين معاً .
والجديرُ بالذكر
أن حادثة تحويل القِبلة قد حصلت في السنة الثانية للهجرة ، حيث أمر اللهُ تعالى
النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه من بيت المقدس إلى البيت الحرام .