الابتلاء والفتن اختبار لإيمان المؤمن
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن الابتلاء يجسِّد اختباراً حقيقياً لإيمان
المؤمن ، ومدى التزامه بالشريعة ، وقدرته على الصبر والتحمل والعملِ تحت ضغط
الأزمات . فالشدائدُ تكشف عن معادن الرجال ، تماماً كما النار التي تكشف عن الذهب
الحقيقي وتفصله عن الشوائب . فلا توجد درجات إيمانية في الجنة بدون اختبارات دنيوية
وعملياتِ تمحيص وغَرْبلة .
فمنظومةُ
الاختبارات في الدنيا تكشف عن قوة القلب الحامل للعقيدة . ففي السراء يكون كل
الناس ثابتين واثقين ضاحكين ، لكن الأزمات هي المحك الحقيقي للكشف عن المعدن النفيس
.
وأشد الناس
بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم في المنزلة وهكذا . كما أن الإنسان كلما علت
مكانته الإيمانية كان بلاؤه أشد . فعن سعد بن أبي وقاص قال : سألتُ رسول الله صلى
الله عليه وسلم : من أشد الناس بلاءً ؟، قال : (( النبيون ثم الأمثل فالأمثل
، يُبتلى الرجل على حسب دِينه ، إن كان صَلْبَ الدين اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه
رقة ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه
خطيئة )).
[رواه
الحاكم في المستدرك( 1/ 100) برقم ( 121) . وصححه ابن كثير في تفسيره ( 3/ 536 ) .].
لذلك يكون
البلاءُ حسب إمكانيات الشخص وقدراته ، وهو _ بحد ذاته _ عملية تطهير للنفس الإنسانية
مما علق فيها من آثام وثغرات ، وتنقية للجسد الآدمي مما علق به من خطايا وأوساخ
معنوية جراء تتابع الذنوب عبر الأزمنة . وبذلك تكون الفتن للصابرين فرصةً ذهبية لتكفير
ذنوبهم ، والعودة أنقياء طاهرين ، بعد أن يَخلعوا ثوبَ الخطيئة .
قال الله
تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من
الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) [ البقرة : 155] .
وهذا الكلام
الإلهي للصحابة _ رضي الله عنهم _ . أي إن الله تعالى سيبتليهم بشيء من الخوف حيث
يفتقدون الأمان ، والجوعِ حيث لا يجدون الطعامَ ، وتقل الأموال في أيديهم ، وتنقص
القوى البشرية ( يقل عدد الأنفس ) ، وتقل الثمرات حيث الأشجار يضعف إنتاجُها أو لا
تعود تُنتج . وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الدنيا دار بلاء واختبار ، نعيمها مشوب
بالكَدَر ، ونعومتها مختلطة بالخشونة ، وفرحها ممزوج بالحزن .
ومن صبر على
هذا الابتلاء فله البشرى والفوز ورفع الدرجات ، ومن سخط وضجر فعليه سخطه ، ورجع
خائباً صِفر اليدين في الدنيا والآخرة .
وفي صحيح
مسلم ( 2/ 631 ): عن أم سلمة_ رضي الله عنها_ قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : (( ما مِن مسلم تصيبه مصيبة ، فيقول ما أمره الله : [ إنا لله وإنا إليه راجعون ] { البقرة : 156}، اللهم
أجرني في مصيبتي ، واخلفْ لي خيراً منها . إلا أخلف الله له خيراً منها )) .
فالمسلمُ
متصل بالله تعالى في السراء والضراء . وهو يعبد خالقَه تعالى لأنه أهلٌ لأن يُعبَد
، لا لنيل مكاسب دنيوية دنيئة ، أو تحقيق أرباح مالية ، أو تحصيل مكانة اجتماعية .
فالعبادةُ التي هي حق الله على العبيد غير مرتبطة بالسراء والضراء في حياة المسلم
. فعلى المؤمن أن يعبد خالقَه تعالى ويلتزم بذلك بغض النظر عما يحصل له في الدنيا
، خيراً أو شراً . فالإيمانُ ليس بورصةً يتحدد شكلُها وفق الربح الدنيوي أو
الخسارة . إن الإيمان نظام متكامل لا يخدشه متاع الدنيا الزائل .
وفي صحيح
مسلم ( 4/ 2295 ) : عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجباً لأمر
المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سَراء شكر فكان خيراً
له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) .
وقال الله
تعالى : (( ورفع بعضَكم فوق بعض
درجاتٍ ليبلوَكم في ما آتاكم )) [ الأنعام : 165] .
فاللهُ
تعالى قد خالف بين أحوال العباد من حيث الغنى والفقر ، والعلم والجهل ، والقوة والضعف . فالدنيا مبنية على التفاوت بين
العباد . وكل ذلك من أجل الاختبار ، وتمييز الغث من السمين ، ومن يصبر ومن يسخط ،
ومن يشكر ومن يكفر .
وفي صحيح
مسلم ( 4/ 2098 ) : عن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : (( إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون )).
فهذه الدنيا
منظرها فتّان ومُحبّب للنفس بما فيها من زينة ولمعان . وهي دار ابتلاء واختبار .
وإن الله تعالى جعل الناس مُسْتَخْلَفين فيها ، أي أنهم خَلَفوا الأممَ السابقة ،
ووصلت إليهم الأمور ، من أجل الامتحان والابتلاء . وإن الله تعالى ناظر إليهم كيف
يعملون ( من الذي سيؤدي شكرَ النعم فيفوز ، ومن الذي سيجحدها فيخسر ) .
قال الله
تعالى : (( أَحَسِبَ الناسُ أن
يُترَكوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون )) [ العنكبوت : 2] .
وهذا
الاستفهام الإنكاري معناه : هل يظن الناسُ أن لا يتعرضوا للامتحان بمجرد أن يقولوا
بألسنتهم نحن مؤمنون ؟ . فلا بد للعمل أن يُصَدِّق قولَهم . فالفتنةُ هي الكاشفة
عن صدق إيمانهم من عدمه .
وهناك مسألة
غاية في الدقة ، وهي اعتقاد الكثيرين أن البلاء مرتبط مع الضراء فقط . وهذا فهمٌ
قاصر ، لأن البلاء مرتبط بالسراء والضراء ، والعلمِ والجهل ، والغنى والفقر .
فأحياناً يكون ابتلاءُ النعيم أشد من ابتلاء الشقاء .
قال الله
تعالى : (( ونبلوكم بالشر
والخير فِتْنةً ))[ الأنبياء : 35 ] .
وهذه الآية
تدل على أن البلاء يكون بالشر ( المصائب ) تارةً لبيان الصابرين ، وتارةً بالخير ( النِّعم ) لبيان الشاكرين . وهكذا يتضح
الشاكر من الكافر ، والصابر من الساخط ، والصادق من الكاذب .
وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى فيقول : (( وأعوذ بكَ من فِتنة الغنى
، وأعوذ بك من فتنة الفقر )).
[متفق عليه
واللفظ للبخاري( 5/ 2344)برقم ( 6015).ومسلم ( 4/ 2078 )برقم( 589) .].
وفي هذا
إشارة واضحة إلى أن الغنى والفقر يتساويان في كَوْنهما اختباراً إلهياً للعبد
لبيان درجة إيمانه عند الشدائد ، وثباتِ قلبه عند الفتن العاصفة . والمؤمنُ من
يثبت عند الغنى ، فيقوم بشكر النعمة على أكمل وجه ، ليس باللسان فحسب ، بل بالعمل
التطبيقي . فيُخرج الزكاةَ ، ويساعد الفقراء ، ولا يتكبر عليهم ، ولا يبذِّر ثروته
. أما الفقير فعليه بالصبر قولاً وفعلاً ، فلا يسخط ، وعليه أن يسعى في طلب الرزق
، فلا يَقنط ، ولا يَعجز ، ولا يشكو ربه إلى الناس .
فالناجح في
الدنيا والآخرة هو الذي يثبت عند الفتن ، ولا يترك الشدائدَ تلعب به يمنةً ويسرة. فالدهرُ
يومان : يومٌ لك ، ويوم عليك . فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصطبر .
فكلاهما سينحسر .