الإيمان بالله
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
_
الدعوة إلى الإيمان :
إن الإيمان
هو الهدف السامي الذي يسعى الفرد إلى اعتناقه وتحقيقه واقعاً ملموساً . وهذا الهدف
ينقل الفرد من الموت إلى الحياة ، فيغدو إنساناً كَوْنياً صالحاً، يعمر الأرضَ ،
ويطبِّق الشريعةَ الإلهية على كوكب الأرض بكل توازن .
والآياتُ
القرآنية التي تتحدث عن موضوع الإيمان كثيرة جداً ، لكن هذا المقام يسعى إلى إضاءة
الطريق بشكل مختصر ومفيد . وذلك لتقديم الإيمان شكلاً وجوهراً ، وإبراز أهميته
الوجودية القصوى في إعطاء الأشياء معانيها ، وفتح الباب أمام الكائنات الحية عموماً
، والإنسان خصوصاً ، للعيش الكريم في ظل الشريعة الربانية التي جاءت لإنقاذ الحياة
لا القضاء عليها . فالمؤمنُ إنسان متصالحٌ مع إنسانيته ومجتمعه ، أما غيرُ المؤمن
فغارقٌ في التصادم مع ذاته ومحيطه .
والدعوة إلى
الإيمان مسألة غاية في الأهمية لأنها ترشد الحيارى إلى اليقين الذي لا يعتريه
الشك، وتأخذ بأيدي العباد الضالين إلى الهداية الربانية من أجل الاستمتاع بالدنيا
والآخرة . فالدعوةُ الإيمانية هي مشروع أخلاقي لإنقاذ الناس ، وتحقيقِ الأخوة
البشرية واقعاً ملموساً لا شعاراً فارغاً .
ولا يخفى أن
أعظم الدعاة إلى الإيمان هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي نادى للإيمان ، ودعا
إليه بكل ما أوتي من قوة ووقت . فقد قال الله تعالى : ((ربنا إننا سَمِعْنا
منادياً يُنادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا )) [ آل عمران : 193] .
وأكثر
المفسرين على أن المنادي في الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إن دل على
شيء فيدل على شرف الدعوة ومكانتها السامية ، ودورِ النبي صلى الله عليه وسلم
المركزي في الدعوة ، واقتناع الأفراد بالإيمان والالتزام به ، وحمل أمانة الإيمان
ودعوته بكل صبر وإخلاص .
والإيمان لا
يمكن أن يثبت في القلوب بالإكراه ، أو بإجبار الناس على اعتناقه بحد السيف .
والإسلامُ الذي انتشر بالتسامح والوعي والحُجة الساطعة لا يقبل أن يُدخلَ الإجبارَ
في مجال الإيمان لأن الإكراه مبدأ يناقض القرآنَ الكريم . فقد قال الله تعالى : ((
لا إكراه في الدين )) [ البقرة : 256]. لذا فإن الدعوة إلى الإيمان منهج حياتي
متكامل يرتقي بالإنسانية،ودعوةٌ حضارية مستندة إلى النقل والعقل معاً بلا إكراه . (( فَمَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرْ )) [
الكهف : 29] .
_ حقيقة الإيمان :
يرتكز
الإيمان إلى مبدأ أساسي ثابت وهو التصديق بالغيب ( اللامحسوس ). فالمنهجية
الإسلامية تقدِّم البراهين المحسوسة على صدق الدعوة الإيمانية كطريق للإيمان
بالغيب غير المحسوس ، والتصديقِ بما وراء قدرة الحواس الإدراكية ( الماورائيات ) .
فلا يعني
الإيمانُ بالغيب _ بأية حال من الأحوال _ الاستسلامَ الأعمى ، والتقليدَ المبني
على الوهم . بل على العكس ، إنه يدعو إلى التسليم المبصر بصدق الشريعة الإسلامية
فيما أخبرتْ عنه في عالم الغيب والشهادة . كما يدل الإيمان بالغيب على قوة الفرد
من الناحية الإيمانية، وثباته على الحق .
والغيبُ ليس
خيالاً ، بل هو واقع ملموس في حينه . فعلى سبيل المثال ، لم تتم مشاهدة الجنة
والنار ، لكن الدلائل والبراهين قائمة على وجودهما في الكتاب والسنة بالحُجة
والمنطق الواضح لا التسليم الأعمى المعتمد على التقليد . وبعد الموت سيرى العبدُ
بأم عينيه ما كان يقرأ عنه في النصوص الشرعية ، أو يسمع به من العلماء والدعاة .
لذلك كان
الإيمان بالغيب ( كل ما غاب عنك ) دليلاً واضحاً على قوة عقيدة العبد ، وحُسْنِ
إسلامه، وعقلِه الراجح ، وبعدِ نظره المستند إلى البراهين والحجج الواضحة لا
الخيالاتِ والأوهام .
قال الله
تعالى موضِّحاً أولى صفات المتقين : (( الذين يؤمنون بالغيب )) [ البقرة : 3] .
وهذا يدل
على أن الإيمان بالغيب هو ركيزة الإيمان ، والحد الفاصل بين نجاة العبد وهلاكه . والغيبُ
مرئي بعين القلب ، يُورث في النفس لذةَ التسليم للشريعة على بصيرة . فليس في
الإسلام إيمانٌ أعمى ، أو سُلطة كهنوتية تغلق عيونَ الناس ، ثم تقودهم دون أن
يعترضوا . كما أن الدلائل الملموسة في العالم المشاهَد تشير إلى وجود عالَم غيبي
له حالاته الخاصة . والإنسانُ الذي صَدّق بالقدرة الإلهية يُدرك أن الله تعالى لا
يُعجزه شيء . فخالقُ النار في الدنيا قادرٌ على خلق النار في الآخرة. والقادرُ على
بعث الناس بعد النوم ( الموت الصغير ) يستطيع بعثهم من قبورهم ، وهكذا.
وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( إن أمر
محمد كان بَيناً لمن رآه . والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب )) ،
ثم قرأ : [ الم (1) ذلك الكتاب لا ريبَ فيه هدىً للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب
] [ سورة البقرة ].
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 286 ) برقم ( 3033 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
وهنا تبرز
قوة الإيمان الغيب . فالنبي صلى الله عليه وسلم صاحب الشخصية الفذة والمتفردة ما
كان ليخفى نورُه للذي يشاهده . كما أن الحضور النبوي الساطع لا يمكن إخفاؤه أو
تجاوزه ، فالشمسُ لا يمكن تغطيتها بغربال _ كما يقال _. أما الذين آمنوا بالنبي
صلى الله عليه وسلم ورسالته ، وقاموا بتطبيقها دون
رؤيته ، فهذا يدل على قوة إيمان كبيرة مستندة إلى التسليم المبصر بالغيب والإيمان
به .
وعن عمر _ رضي الله
عنه _ قال : كنتُ
مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أتدرون
أي أهل الإيمان أفضل إيماناً ؟ )) ، قالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : (( هم
كذلك ويحق ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم
)) ، قالوا : يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة ،
قال : (( هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم
بها بل غيرهم )) ، قال : قلنا : فمن هم يا رسول الله ؟ ، قال : (( أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون
بي ولم يروني ، ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان
إيماناً )).
[رواه الحاكم في المستدرك
( 4/ 96) برقم ( 6993 ) وصحّحه ، وقال الذهبي : (( بل محمد ابن أبي حميد ضعّفوه ))
. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 65) : (( رواه أبو يعلى ورواه البزار ... وقال
الصواب أنه مرسل عن زيد بن أسلم ، وأحد إسنادي البزار المرفوع حسن )) اهـ .].
فأفضلُ المؤمنين إيماناً هم الذين آمنوا
بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يَرَوْه . ومع هذا صَدّقوا بوجوده ، واعتنقوا
شريعته ، وساروا على دربه متمسكين بِسُنّته التي وَجدوها محفوظةً في الكتب
والأوراق . فهؤلاء ليسوا مُغفّلين أو يفتقدون للمنهج العلمي . إنهم انطلقوا من
المحسوس إلى غير المحسوس ، ومن آثار الطريق إلى صاحب هذه الآثار الذي مَرّ على
الطريق . وهذا هو التحليل العلمي المنطقي الذي ينطلق مع رؤية العَيْن إلى رؤية
القلب . فليس في الشريعة الإسلامية مبدأ " آمِنْ ثم فَكِّرْ " ، لأن
الفكر المستقيم _ بلا أهواء أو إغراءات _ هو الموصل إلى الإيمان الراسخ .
وحقيقةُ الإيمان تنعكس إيجاباً على حياة
الفرد والجماعة ، فتتحول الحياةُ من نظام روتيني مغلق إلى حياة طيبة مفعمة بالنشاط
والعمل الجاد المخلِص . وتكتسب طريقةُ العيش معنىً شريفاً في ظل طاعة الله تعالى ،
فيحس الفردُ بجدوى حياته وأهميةِ دوره فيها ، وهذا التأثير الإيجابي يصل إلى
الجماعة التي تتحول إلى خلية نحل دؤوب ، لا مكان فيها للكسل أو الفوضى . أضف إلى
هذا نيل السعادة الأخروية ، والفوزِ بالرضا الإلهي ، والجنةِ السرمدية .
وإننا لنجد في آيات كثيرة في القرآن ارتباط
الإيمان بعمل الصالحات . فالإيمان ليس كلاماً مجرداً ، بل هو قول وفعل ، لذلك من
الطبيعي أن يقترن العمل الصالح بمفهوم الإيمان . وفي حال غياب العمل النافع فإن
مفهوم الإيمان يفقد معناه في النفس البشرية ، مما يؤدي إلى تآكل المنظومة
الإيمانية في نفس الفرد ، فيخسر معنى حياته ، ويُعرِّض نفسه للهلاك في الدارين ،
لأن لم يقم بتأدية حق الإيمان كما أمر الله تعالى .
قال الله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صالحاً مِن
ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حياةً طَيبةً وَلَنَجْزِيَنهُمْ أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون )) [ النحل : 97] .
فعملُ
الصالحات المقترن بالإيمان هو مفتاحُ السعادة ، إذ إنه يُحوِّل الإنسان إلى كائن
فعّال مُنتِج وليس كائناً استهلاكياً عالةً على الآخرين ، فيتغير السلوك البشري من
السلبية إلى الإيجابية ، وتنتقل نظرة الفرد من التشاؤم والاكتئاب إلى التفاؤل
والبهجة . وهذا يدفع باتجاه صناعة حياة جديدة مضادة للملل والفراغ والروتين
الوظيفي ، وعامرة بالإبداع والنشاط والإعمار ، فتُولَد هذه الحياة الطيبة المحكومة
بالشَّريعة ، والتي تدفع المرءَ لإبراز كل طاقاته وتوجيهها نحو نشر الخير .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 2/ 749 ) : (( من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا
والآخرة . ثم أخبر بأن دار الآخرة خير ، أي من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من
الجزاء في الدنيا )) اهـ .
وهنا تتجلى
المساواة بين الذكر والأنثى في نيل العطاء الإلهي . فعملُ الصالحات المستند إلى
الإيمان يؤدي إلى صناعة حياة طيبة روحياً ومادياً ، والحصولِ على الأجر الجزيل . فعن
ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : _ [ فَلَنُحْيِيَنهُ حياةً طَيبةً ] ، قال : القنوع
. قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يقول : (( اللهم قَنعْني بما رزقتني
، وبارك لي فيه ، واخلف علي كل غائبة لي بخير )) .
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 2/ 388 ) برقم ( 3360 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
والقناعةُ
كنزٌ لا يَفنى . وهذه قاعدة واقعية لا شعار خيالي . فالقناعةُ تريح الفردَ روحياً
ومادياً، وتبعده عن التذمر والسخط وعدم الرضا بقَدَر الله تعالى . فتجعله متصالحاً
مع نفسه ، في سلام داخلي عميق مع ذاته فيبتعد الاضطراب النفسي والقلق والأمراض التي
تنهش فكرَ الفرد وجسدَه. مما يجعل من الفرد شعلة نشاط ، وراية لا تنكسر أم المصائب
. وكلما تعرَّض لأزمة شديدة قام أقوى من ذي قبل ، متسلحاً بالإيمان بالله تعالى ،
ومؤمناً بالقضاء والقَدَر ، بلا كسل أو تواكل .
وكما قال
الإمام الشافعي _ رحمه الله _ :
إذا ما كنتَ ذا قلبٍ
قنوعٍ
فأنتَ ومالكُ الدنيا سَواءُ
وعن سعد بن
أبي وقاص _ رضي الله عنه _ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله أوصني وأوجزْ ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( عليكَ بالإياس مما في أيدي الناس ، وإياك والطمع
، فإنه الفقر الحاضر )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 4/ 362 ) برقم ( 7928 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
وهذا يدل
على الأهمية الشديدة للقناعة . فعلى الإنسان أن لا يَنظر إلى ما في أيدي الناس ،
ولا يتطلع للحصول عليه ، ويقطع الأملَ نهائياً في نَيْله . ويبتعد عن الطمع الذي هو
شكلٌ من أشكال الفقر واللهاث الهستيري وراء تحصيل لعاعة الدنيا . وكما قال حكيم : أكثر
مصارع العقول تحت بروق المطامع .
ومنزلةُ
العبد عند خالقه تعالى تتحدد وفق إيمانه وعمل الصالحات لا وفق أمواله أو أولاده . كما
أن الإيمان لا يمكن شراؤه بالمال ، أو نيله عن طريق العشيرة القوية ، أو باستخدام
السلطة الممنوحة للأفراد . إنه فضلٌ رباني محض يمنحه اللهُ لمن يشاء ، ويحجبه عمن
يشاء .
قال الله
تعالى : (( وما أموالكمْ ولا أولادكم بالتي تقربكمْ عِندنا زُلفى إلا مَن آمن وعملَ
صالحاً )) [ سبأ : 37] .
فالأموالُ
والأولاد ليست طريقَ التقرب من الله تعالى . وإنما يقرِّب الناسَ من خالقهم أن
يكونوا مؤمنين حق الإيمان ، ويقوموا بالعمل الصالح في كل زمان ومكان . أما المالُ
والولد فمتاعُ الحياة الدنيا الزائل وزينتها الزائفة . والمرءُ ينبغي أن ينظر إلى
اللباب ولا ينخدع بالقشور ، ويُفكِّر في الجوهر الكامن وراء المظاهر البراقة .
فالمظاهرُ الشكلية مجرد وهم ظاهري غير قادر على النفي والإثبات ، أما الجوهرُ فهو
الذي يُحدِّد وجهةَ السير ، وهو الذي يكشف الفكرَ الحقيقي عارياً من مواد التجميل
. والعاقلُ يواصل النظر إلى ما وراء الأشياء إذا أراد اكتشاف حقيقتها .
قال الطبري
في تفسيره ( 10/ 380 ) : (( وما أموالكم التي تفتخرون بها أيها القوم على الناس ، ولا
أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا قربة )) اهـ .
وقال الله
تعالى : (( المالُ والبنونَ زينةُ الحياة الدنيا )) [ الكهف : 46] .
وهذه الزينة
شكلية يوظِّفها الناسُ للتفاخر فيما بينهم في هذه الدنيا الدنيئة الزائلة ، ووجودها
لا يدل على منزلة العبد عند خالقه تعالى ، لأن التقوى _ والتي مكانها القلب_ هي
التي تجعل للعبد مكانةً عند الله تعالى .
وفي صحيح
مسلم ( 4/ 1986) : عن أبي هريرة _ رضي
الله عنه _ قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا ينظر
إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) .
إن الصور
الآدمية صورٌ ظاهرية زائلة لا تحتوي على العقائد ، لكن القلبَ هو مَلِك الأعضاء ،
الذي يرسخ فيه الإيمانُ أو الكفر . وبالتالي إما أن يقود الفردَ إلى النعيم أو
الهلاك .
فعن النعمان بن بشير _ رضي الله عنه_ قال :
سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ألا وإِن في الجسد مُضْغَةً إذا
صَلُحَتْ صَلُحَ الجسدُ كُله ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كُله ألا وهي القَلْبُ
)).
[متفق
عليه . البخاري ( 1/ 28 ) برقم ( 52 )، ومسلم ( 3/ 1219 ) برقم ( 1599 ). قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 11/ 29
) : (( واحتُج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور .
مذهب أصحابنا _ يقصد السادة الشافعية _ وجماهير المتكلمين أنه في القلب )) .].
وأهمية القلب تكمن في احتوائه على العقل .
فقد قال الله تعالى : (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )) [ الحج : 46].
إذن ، حقيقة الإيمان ضرورية للغاية في حياة
الفرد الدنيوية التي تقود إلى حياته بعد الموت . وتتجلى مظاهر هذه الحقيقة
الإيمانية السامية في كل تفاصيل الحياة .
ومن الجدير بالذكر أن الإيمان مكانه القلب ،
وتظهر آثاره على الجوارح . ولا يمكن للإيمان والإكراه أن يلتقيا في قلب العبد .
فعلى العبد أن يعتنق الإيمان ويثبِّته في قلبه ما دام هناك متسع من الوقت لذلك ،
وما دام أنه في وقت الرخاء والمهلة . فهناك أحداث جسامٌ بالغة الشدة حينما تأتي لن
ينفع إيمان العبد الذي لم يؤمن من قبل ، أو كسب في إيمانه خيراً . فمن الطبيعي أن
يؤمن كل الناس حينما يرونَ الشدائد المحيطة بهم ، أو يعاينون عذابَ الله تعالى بأم
أعينهم . ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما حصل لفرعون الذي ادعى الألوهية، لكنه آمن
بالله تعالى حينما أيقن بالغرق والنهاية، لكنه تاب في وقت لا تنفع فيه التوبة ،
فرُفض إيمانه بشكل كامل .
قال الله تعالى : (( يَوْمَ يأتي بعضُ آيات ربكَ لا ينفع نَفْساً إيمانها لم
تكنْ آمنتْ من قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمانها خيراً )) [ الأنعام : 158] .
فهذه الآيات
الربانية الباهرة حينما تأتي لا يُقبَل إيمان غير المؤمن ، ويُغلَق باب التوبة ،
ويوضع حد لأعمال الإنسان فلا يُقبَل منه شيء بعد ذلك ، وتنتهي فترة الامتحان
الإلهي للعبد في حياة الدنيا ، وعليه أن ينتظر النتيجةَ ، فأمامه خياران لا ثالث
لهما : الجنة أو النار .
وعن أبي
هريرة _ رضي الله عنه _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا
طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين [ لا ينفع نَفْساً إيمانها لم تكنْ
آمنتْ من قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمانها خيراً ] )).
[متفق عليه
. البخاري ( 5/ 2386 ) برقم ( 6141) ، ومسلم ( 1/ 137 ) برقم ( 157 ) .].
فالإيمانُ
ليس سلعةً في متناول اليد متى شاء الفردُ أخذها حسب مزاجه . بل هي نعمةٌ ربانية
تُمنَح لأناس ، وتُحجَب عن آخرين . وقد يبحث عنها الإنسان فلا يجدها ، وقد تكون
عند شخص ثم تُنزَع منه عقوبةً له .
وفي صحيح
مسلم ( 1/ 138 ) : عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : (( ثلاث إذا خرجنَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من
قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ))
.
فينبغي
للعاقل أن يبادر إلى الإيمان والتمسك به قبل أن يلهث وراءه فلا يحصِّله. فما دام
البابُ مفتوحاً ينبغي الإسراع في الدخول ، لأنه إذا أُغلِق لن يُفتَح مرةً أخرى ،
وسيدرك الفردُ أنه خسر الفرصةَ الوحيدة في حياته ، والتي تحدِّد مصيرَه ، ولا يوجد
مجال للتعويض أو فرصة أخرى . فهو خيارٌ وحيد : إما الخلود في الجنة أو الخلود في
النار .
والإنسانُ
في سباق مع الزمن ، ولا يعرف متى تدركه المنية ، لأن الموت لن يستأذن من أحد ، فيجب
على الإنسان أن يكون مستعداً للرحيل في أي وقت . فالمسافرُ حقيبته جاهزة دائماً .
وتظل
الوصيةُ النبوية الخالدة مشعلاً ينير الطريقَ للعالَم نحو الخلاص الأبدي : (( اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك ، وصحتك
قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 4/ 341 ) برقم ( 7846) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].