سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

14‏/09‏/2012

الإيمان بالله

الإيمان بالله

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


_ الدعوة إلى الإيمان :
     إن الإيمان هو الهدف السامي الذي يسعى الفرد إلى اعتناقه وتحقيقه واقعاً ملموساً . وهذا الهدف ينقل الفرد من الموت إلى الحياة ، فيغدو إنساناً كَوْنياً صالحاً، يعمر الأرضَ ، ويطبِّق الشريعةَ الإلهية على كوكب الأرض بكل توازن .
     والآياتُ القرآنية التي تتحدث عن موضوع الإيمان كثيرة جداً ، لكن هذا المقام يسعى إلى إضاءة الطريق بشكل مختصر ومفيد . وذلك لتقديم الإيمان شكلاً وجوهراً ، وإبراز أهميته الوجودية القصوى في إعطاء الأشياء معانيها ، وفتح الباب أمام الكائنات الحية عموماً ، والإنسان خصوصاً ، للعيش الكريم في ظل الشريعة الربانية التي جاءت لإنقاذ الحياة لا القضاء عليها . فالمؤمنُ إنسان متصالحٌ مع إنسانيته ومجتمعه ، أما غيرُ المؤمن فغارقٌ في التصادم مع ذاته ومحيطه .
     والدعوة إلى الإيمان مسألة غاية في الأهمية لأنها ترشد الحيارى إلى اليقين الذي لا يعتريه الشك، وتأخذ بأيدي العباد الضالين إلى الهداية الربانية من أجل الاستمتاع بالدنيا والآخرة . فالدعوةُ الإيمانية هي مشروع أخلاقي لإنقاذ الناس ، وتحقيقِ الأخوة البشرية واقعاً ملموساً لا شعاراً فارغاً .
     ولا يخفى أن أعظم الدعاة إلى الإيمان هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي نادى للإيمان ، ودعا إليه بكل ما أوتي من قوة ووقت . فقد قال الله تعالى : ((ربنا إننا سَمِعْنا منادياً يُنادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا )) [ آل عمران : 193] .
     وأكثر المفسرين على أن المنادي في الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إن دل على شيء فيدل على شرف الدعوة ومكانتها السامية ، ودورِ النبي صلى الله عليه وسلم المركزي في الدعوة ، واقتناع الأفراد بالإيمان والالتزام به ، وحمل أمانة الإيمان ودعوته بكل صبر وإخلاص .
     والإيمان لا يمكن أن يثبت في القلوب بالإكراه ، أو بإجبار الناس على اعتناقه بحد السيف . والإسلامُ الذي انتشر بالتسامح والوعي والحُجة الساطعة لا يقبل أن يُدخلَ الإجبارَ في مجال الإيمان لأن الإكراه مبدأ يناقض القرآنَ الكريم . فقد قال الله تعالى : (( لا إكراه في الدين )) [ البقرة : 256]. لذا فإن الدعوة إلى الإيمان منهج حياتي متكامل يرتقي بالإنسانية،ودعوةٌ حضارية مستندة إلى النقل والعقل معاً بلا إكراه .   (( فَمَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرْ )) [ الكهف : 29] .
_ حقيقة الإيمان :
     يرتكز الإيمان إلى مبدأ أساسي ثابت وهو التصديق بالغيب ( اللامحسوس ). فالمنهجية الإسلامية تقدِّم البراهين المحسوسة على صدق الدعوة الإيمانية كطريق للإيمان بالغيب غير المحسوس ، والتصديقِ بما وراء قدرة الحواس الإدراكية ( الماورائيات ) .
     فلا يعني الإيمانُ بالغيب _ بأية حال من الأحوال _ الاستسلامَ الأعمى ، والتقليدَ المبني على الوهم . بل على العكس ، إنه يدعو إلى التسليم المبصر بصدق الشريعة الإسلامية فيما أخبرتْ عنه في عالم الغيب والشهادة . كما يدل الإيمان بالغيب على قوة الفرد من الناحية الإيمانية، وثباته على الحق .
     والغيبُ ليس خيالاً ، بل هو واقع ملموس في حينه . فعلى سبيل المثال ، لم تتم مشاهدة الجنة والنار ، لكن الدلائل والبراهين قائمة على وجودهما في الكتاب والسنة بالحُجة والمنطق الواضح لا التسليم الأعمى المعتمد على التقليد . وبعد الموت سيرى العبدُ بأم عينيه ما كان يقرأ عنه في النصوص الشرعية ، أو يسمع به من العلماء والدعاة .
     لذلك كان الإيمان بالغيب ( كل ما غاب عنك ) دليلاً واضحاً على قوة عقيدة العبد ، وحُسْنِ إسلامه، وعقلِه الراجح ، وبعدِ نظره المستند إلى البراهين والحجج الواضحة لا الخيالاتِ والأوهام .
     قال الله تعالى موضِّحاً أولى صفات المتقين : (( الذين يؤمنون بالغيب )) [ البقرة : 3] .
     وهذا يدل على أن الإيمان بالغيب هو ركيزة الإيمان ، والحد الفاصل بين نجاة العبد وهلاكه . والغيبُ مرئي بعين القلب ، يُورث في النفس لذةَ التسليم للشريعة على بصيرة . فليس في الإسلام إيمانٌ أعمى ، أو سُلطة كهنوتية تغلق عيونَ الناس ، ثم تقودهم دون أن يعترضوا . كما أن الدلائل الملموسة في العالم المشاهَد تشير إلى وجود عالَم غيبي له حالاته الخاصة . والإنسانُ الذي صَدّق بالقدرة الإلهية يُدرك أن الله تعالى لا يُعجزه شيء . فخالقُ النار في الدنيا قادرٌ على خلق النار في الآخرة. والقادرُ على بعث الناس بعد النوم ( الموت الصغير ) يستطيع بعثهم من قبورهم ، وهكذا.
     وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( إن أمر محمد كان بَيناً لمن رآه . والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب )) ، ثم قرأ : [ الم (1) ذلك الكتاب لا ريبَ فيه هدىً للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ] [ سورة البقرة ].
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 286 ) برقم ( 3033 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     وهنا تبرز قوة الإيمان الغيب . فالنبي صلى الله عليه وسلم صاحب الشخصية الفذة والمتفردة ما كان ليخفى نورُه للذي يشاهده . كما أن الحضور النبوي الساطع لا يمكن إخفاؤه أو تجاوزه ، فالشمسُ لا يمكن تغطيتها بغربال _ كما يقال _. أما الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ، وقاموا بتطبيقها دون رؤيته ، فهذا يدل على قوة إيمان كبيرة مستندة إلى التسليم المبصر بالغيب والإيمان به .  
     وعن عمر  _ رضي الله عنه _  قال  :  كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً  ،  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيماناً ؟ )) ، قالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : (( هم كذلك ويحق ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم )) ، قالوا : يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة ، قال : (( هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم )) ، قال : قلنا : فمن هم يا رسول الله ؟ ، قال :  (( أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني ، ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 96) برقم ( 6993 ) وصحّحه ، وقال الذهبي : (( بل محمد ابن أبي حميد ضعّفوه )) . وقال الهيثمي في المجمع (10/ 65) : (( رواه أبو يعلى ورواه البزار ... وقال الصواب أنه مرسل عن زيد بن أسلم ، وأحد إسنادي البزار المرفوع حسن )) اهـ .].
     فأفضلُ المؤمنين إيماناً هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يَرَوْه . ومع هذا صَدّقوا بوجوده ، واعتنقوا شريعته ، وساروا على دربه متمسكين بِسُنّته التي وَجدوها محفوظةً في الكتب والأوراق . فهؤلاء ليسوا مُغفّلين أو يفتقدون للمنهج العلمي . إنهم انطلقوا من المحسوس إلى غير المحسوس ، ومن آثار الطريق إلى صاحب هذه الآثار الذي مَرّ على الطريق . وهذا هو التحليل العلمي المنطقي الذي ينطلق مع رؤية العَيْن إلى رؤية القلب . فليس في الشريعة الإسلامية مبدأ " آمِنْ ثم فَكِّرْ " ، لأن الفكر المستقيم _ بلا أهواء أو إغراءات _ هو الموصل إلى الإيمان الراسخ .
     وحقيقةُ الإيمان تنعكس إيجاباً على حياة الفرد والجماعة ، فتتحول الحياةُ من نظام روتيني مغلق إلى حياة طيبة مفعمة بالنشاط والعمل الجاد المخلِص . وتكتسب طريقةُ العيش معنىً شريفاً في ظل طاعة الله تعالى ، فيحس الفردُ بجدوى حياته وأهميةِ دوره فيها ، وهذا التأثير الإيجابي يصل إلى الجماعة التي تتحول إلى خلية نحل دؤوب ، لا مكان فيها للكسل أو الفوضى . أضف إلى هذا نيل السعادة الأخروية ، والفوزِ بالرضا الإلهي ، والجنةِ السرمدية .
     وإننا لنجد في آيات كثيرة في القرآن ارتباط الإيمان بعمل الصالحات . فالإيمان ليس كلاماً مجرداً ، بل هو قول وفعل ، لذلك من الطبيعي أن يقترن العمل الصالح بمفهوم الإيمان . وفي حال غياب العمل النافع فإن مفهوم الإيمان يفقد معناه في النفس البشرية ، مما يؤدي إلى تآكل المنظومة الإيمانية في نفس الفرد ، فيخسر معنى حياته ، ويُعرِّض نفسه للهلاك في الدارين ، لأن لم يقم بتأدية حق الإيمان كما أمر الله تعالى .
     قال الله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صالحاً مِن ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حياةً طَيبةً وَلَنَجْزِيَنهُمْ أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) [ النحل : 97] .
     فعملُ الصالحات المقترن بالإيمان هو مفتاحُ السعادة ، إذ إنه يُحوِّل الإنسان إلى كائن فعّال مُنتِج وليس كائناً استهلاكياً عالةً على الآخرين ، فيتغير السلوك البشري من السلبية إلى الإيجابية ، وتنتقل نظرة الفرد من التشاؤم والاكتئاب إلى التفاؤل والبهجة . وهذا يدفع باتجاه صناعة حياة جديدة مضادة للملل والفراغ والروتين الوظيفي ، وعامرة بالإبداع والنشاط والإعمار ، فتُولَد هذه الحياة الطيبة المحكومة بالشَّريعة ، والتي تدفع المرءَ لإبراز كل طاقاته وتوجيهها نحو نشر الخير .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 749 ) : (( من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة . ثم أخبر بأن دار الآخرة خير ، أي من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا )) اهـ .
     وهنا تتجلى المساواة بين الذكر والأنثى في نيل العطاء الإلهي . فعملُ الصالحات المستند إلى الإيمان يؤدي إلى صناعة حياة طيبة روحياً ومادياً ، والحصولِ على الأجر الجزيل . فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : _ [ فَلَنُحْيِيَنهُ حياةً طَيبةً ] ، قال : القنوع . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يقول : (( اللهم قَنعْني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف علي كل غائبة لي بخير )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 388 ) برقم ( 3360 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     والقناعةُ كنزٌ لا يَفنى . وهذه قاعدة واقعية لا شعار خيالي . فالقناعةُ تريح الفردَ روحياً ومادياً، وتبعده عن التذمر والسخط وعدم الرضا بقَدَر الله تعالى . فتجعله متصالحاً مع نفسه ، في سلام داخلي عميق مع ذاته فيبتعد الاضطراب النفسي والقلق والأمراض التي تنهش فكرَ الفرد وجسدَه. مما يجعل من الفرد شعلة نشاط ، وراية لا تنكسر أم المصائب . وكلما تعرَّض لأزمة شديدة قام أقوى من ذي قبل ، متسلحاً بالإيمان بالله تعالى ، ومؤمناً بالقضاء والقَدَر ، بلا كسل أو تواكل .
     وكما قال الإمام الشافعي _ رحمه الله _ :
إذا ما كنتَ ذا قلبٍ قنوعٍ         
فأنتَ ومالكُ  الدنيا سَواءُ
     وعن سعد بن أبي وقاص _ رضي الله عنه _ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أوصني وأوجزْ ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( عليكَ بالإياس مما في أيدي الناس ، وإياك والطمع ، فإنه الفقر الحاضر )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 362 ) برقم ( 7928 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     وهذا يدل على الأهمية الشديدة للقناعة . فعلى الإنسان أن لا يَنظر إلى ما في أيدي الناس ، ولا يتطلع للحصول عليه ، ويقطع الأملَ نهائياً في نَيْله . ويبتعد عن الطمع الذي هو شكلٌ من أشكال الفقر واللهاث الهستيري وراء تحصيل لعاعة الدنيا . وكما قال حكيم : أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع .
     ومنزلةُ العبد عند خالقه تعالى تتحدد وفق إيمانه وعمل الصالحات لا وفق أمواله أو أولاده . كما أن الإيمان لا يمكن شراؤه بالمال ، أو نيله عن طريق العشيرة القوية ، أو باستخدام السلطة الممنوحة للأفراد . إنه فضلٌ رباني محض يمنحه اللهُ لمن يشاء ، ويحجبه عمن يشاء .
     قال الله تعالى : (( وما أموالكمْ ولا أولادكم بالتي تقربكمْ عِندنا زُلفى إلا مَن آمن وعملَ صالحاً )) [ سبأ : 37] .
     فالأموالُ والأولاد ليست طريقَ التقرب من الله تعالى . وإنما يقرِّب الناسَ من خالقهم أن يكونوا مؤمنين حق الإيمان ، ويقوموا بالعمل الصالح في كل زمان ومكان . أما المالُ والولد فمتاعُ الحياة الدنيا الزائل وزينتها الزائفة . والمرءُ ينبغي أن ينظر إلى اللباب ولا ينخدع بالقشور ، ويُفكِّر في الجوهر الكامن وراء المظاهر البراقة . فالمظاهرُ الشكلية مجرد وهم ظاهري غير قادر على النفي والإثبات ، أما الجوهرُ فهو الذي يُحدِّد وجهةَ السير ، وهو الذي يكشف الفكرَ الحقيقي عارياً من مواد التجميل . والعاقلُ يواصل النظر إلى ما وراء الأشياء إذا أراد اكتشاف حقيقتها .
     قال الطبري في تفسيره ( 10/ 380 ) : (( وما أموالكم التي تفتخرون بها أيها القوم على الناس ، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا قربة )) اهـ .
     وقال الله تعالى : (( المالُ والبنونَ زينةُ الحياة الدنيا )) [ الكهف : 46] .
     وهذه الزينة شكلية يوظِّفها الناسُ للتفاخر فيما بينهم في هذه الدنيا الدنيئة الزائلة ، ووجودها لا يدل على منزلة العبد عند خالقه تعالى ، لأن التقوى _ والتي مكانها القلب_ هي التي تجعل للعبد مكانةً عند الله تعالى .  
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 1986) : عن أبي هريرة  _ رضي الله عنه  _  قال  :  قال  رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) .
     إن الصور الآدمية صورٌ ظاهرية زائلة لا تحتوي على العقائد ، لكن القلبَ هو مَلِك الأعضاء ، الذي يرسخ فيه الإيمانُ أو الكفر . وبالتالي إما أن يقود الفردَ إلى النعيم أو الهلاك .
     فعن النعمان بن بشير _ رضي الله عنه_ قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ألا وإِن في الجسد مُضْغَةً إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسدُ كُله ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كُله ألا وهي القَلْبُ )).
[متفق عليه . البخاري ( 1/ 28 ) برقم ( 52 )، ومسلم ( 3/ 1219 ) برقم ( 1599 ).     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 11/ 29 ) : (( واحتُج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور . مذهب أصحابنا _ يقصد السادة الشافعية _ وجماهير المتكلمين أنه في القلب )) .].
     وأهمية القلب تكمن في احتوائه على العقل . فقد قال الله تعالى : (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )) [ الحج : 46].
     إذن ، حقيقة الإيمان ضرورية للغاية في حياة الفرد الدنيوية التي تقود إلى حياته بعد الموت . وتتجلى مظاهر هذه الحقيقة الإيمانية السامية في كل تفاصيل الحياة .
     ومن الجدير بالذكر أن الإيمان مكانه القلب ، وتظهر آثاره على الجوارح . ولا يمكن للإيمان والإكراه أن يلتقيا في قلب العبد . فعلى العبد أن يعتنق الإيمان ويثبِّته في قلبه ما دام هناك متسع من الوقت لذلك ، وما دام أنه في وقت الرخاء والمهلة . فهناك أحداث جسامٌ بالغة الشدة حينما تأتي لن ينفع إيمان العبد الذي لم يؤمن من قبل ، أو كسب في إيمانه خيراً . فمن الطبيعي أن يؤمن كل الناس حينما يرونَ الشدائد المحيطة بهم ، أو يعاينون عذابَ الله تعالى بأم أعينهم . ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما حصل لفرعون الذي ادعى الألوهية، لكنه آمن بالله تعالى حينما أيقن بالغرق والنهاية، لكنه تاب في وقت لا تنفع فيه التوبة ، فرُفض إيمانه بشكل كامل .    
     قال الله تعالى : (( يَوْمَ يأتي بعضُ آيات ربكَ لا ينفع نَفْساً إيمانها لم تكنْ آمنتْ من قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمانها خيراً )) [ الأنعام : 158] .
     فهذه الآيات الربانية الباهرة حينما تأتي لا يُقبَل إيمان غير المؤمن ، ويُغلَق باب التوبة ، ويوضع حد لأعمال الإنسان فلا يُقبَل منه شيء بعد ذلك ، وتنتهي فترة الامتحان الإلهي للعبد في حياة الدنيا ، وعليه أن ينتظر النتيجةَ ، فأمامه خياران لا ثالث لهما : الجنة أو النار .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين [ لا ينفع نَفْساً إيمانها لم تكنْ آمنتْ من قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمانها خيراً ] )).
[متفق عليه . البخاري ( 5/ 2386 ) برقم ( 6141) ، ومسلم ( 1/ 137 ) برقم ( 157 ) .].
     فالإيمانُ ليس سلعةً في متناول اليد متى شاء الفردُ أخذها حسب مزاجه . بل هي نعمةٌ ربانية تُمنَح لأناس ، وتُحجَب عن آخرين . وقد يبحث عنها الإنسان فلا يجدها ، وقد تكون عند شخص ثم تُنزَع منه عقوبةً له .
     وفي صحيح مسلم ( 1/ 138 ) : عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث إذا خرجنَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض )) .
     فينبغي للعاقل أن يبادر إلى الإيمان والتمسك به قبل أن يلهث وراءه فلا يحصِّله. فما دام البابُ مفتوحاً ينبغي الإسراع في الدخول ، لأنه إذا أُغلِق لن يُفتَح مرةً أخرى ، وسيدرك الفردُ أنه خسر الفرصةَ الوحيدة في حياته ، والتي تحدِّد مصيرَه ، ولا يوجد مجال للتعويض أو فرصة أخرى . فهو خيارٌ وحيد : إما الخلود في الجنة أو الخلود في النار .
     والإنسانُ في سباق مع الزمن ، ولا يعرف متى تدركه المنية ، لأن الموت لن يستأذن من أحد ، فيجب على الإنسان أن يكون مستعداً للرحيل في أي وقت . فالمسافرُ حقيبته جاهزة دائماً .
     وتظل الوصيةُ النبوية الخالدة مشعلاً ينير الطريقَ للعالَم نحو الخلاص الأبدي :  (( اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 341 ) برقم ( 7846) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].