الزكاة والصدقات
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن المنهج الاقتصادي الإسلامي عالج قضايا
المجتمع بصورة واقعية بعيدة عن المثالية النظرية الجوفاء . فقد وضع أنظمةً تطبيقية
فعالة لتجذير العدالة الاجتماعية عبر محاربة الشطط الطبقي واحتكارِ الثروة من قبل
فئة محدودة .
فعبر تشريع
الزكاة نقل الإسلامُ المجتمعَ من الحقد إلى الأخوة ، ومن الظلم إلى العدل . فالزكاةُ
تعني مساعدة الأغنياء لإخوانهم الفقراء ، الأمر الذي ينزع الحسدَ والغل من صدور
الفقراء تجاه مجتمعهم وأغنيائه ، ويعمل
على تقوية الروابط المجتمعية وتثبيتها كوحدة جَمْعية متماسكة ، ويتيح فرصةً كبيرة
لتداول المال بين أبناء المجتمع الواحد دون تركز الثروة في أيدي أناس معدودين .
كما أن
المنهج الاقتصادي الإسلامي أسّس لمبدأ الصدقة ، حيث يساعد الأغنياءُ الفقراءَ بما
يرونه مناسباً في أي وقت شاؤوا ، إيماناً بالشريعة الإلهية ، والأجرِ الأخروي يوم
القيامة ، ومساعدةً للطبقات المتدنية في المجتمع .
قال الله
تعالى : (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي
الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله واللهُ عليم حكيم )) [
التوبة : 60] .
قال ابن
كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) : (( لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي
صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بيّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبيّن
حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يَكِل قسمها إلى أحد غيره فجزّأها لهؤلاء المذكورين
)) اهـ .
وقد بيّنت
الآيةُ الكريمة مصارف الزكاة ( الأصناف المستحقة لها ) وهي ثمانية أصناف :
_ الفقراء
والمساكين : (( وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم ، ويقابلهم الأغنياء
المكفيون ما يحتاجون إليه )). فهؤلاء المحتاجون في أمس الحاجة إلى المساعدة المالية
من قبل إخوانهم الأغنياء . فتأتي الزكاةُ لردم أي ثغرة في المجتمع من أجل تحويل
الأفراد إلى عناصر إيجابية بناءة لا هدامة ، تملك كفايتها ولا تمد الأيدي إلى
الناس، أو تلجأ إلى وسائل الكسب الحرام .
فعن عبد الله
بن عمرو _ رضي الله عنهما_: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تحل الصدقة لغني،
ولا لذي مرة قوي )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 1/ 565 ) برقم ( 1478 ) وصححه . وحسنه الحافظ ابن حجر في
تلخيص الحبير ( 3/ 108 ) . ].
وعن عبيد الله
بن عدي حدّثه أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة
، فقلّب فيهما البصر ، ورآهما جَلْدَيْن ، فقال : (( إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها
لغني ، ولا لقوي مكتسب )).
[رواه أحمد
( 4/ 224) برقم ( 18001) ، وأبو داود ( 1/ 513 ) برقم ( 1633) ، والنسائي ( 5/ 99)
برقم ( 2598) . وقوّى
إسنادَه ابنُ كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) ].
وهكذا نجد
أن الأغنياء والأقوياء القادرين على العمل والكسب لا يجوز إعطاؤهم شيئاً من الزكاة
، لأنهم قادرون على توفير مصادر دخل كريمة لأنفسهم وأُسرهم ، فهم لا يحتاجون إلى
مساعدة مالية من أي نوع .
والمساكين
هم صنفٌ مخصوص من المحتاجين ، لذلك جعلتهم الآيةُ صنفاً مستقلاً بذاته ، لتمييزهم
عن الفقراء .
فعن أبي هريرة
_ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس المسكين الذي يطوف
على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً
يغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس )).
[متفق
عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 538 )برقم ( 1409).ومسلم( 2/ 719 ) برقم ( 1039).].
والمسكينُ
له وضعيةٌ خاصة ، فهو مخفي عن الأنظار ، لا يُظهِر الحاجة والسؤال . فهو لا يجد
غنىً يُغنيه فيسد حاجته ويخرجه من دائرة العوز ، ولا ينتبه الناسُ إليه فيتصدقون
عليه لأن وضعه مستتر لا تُدرَك حقيقته إلا للقريبين منه المطلعين على أسراره . وهو
_كذلك_ لا يمد يدَه للآخرين بسبب عزة نفسه ، وتعففه ، فلا يَقبل أن يسأل الناسَ
ويطلب منهم المالَ .
_ العاملون
عليها : وهم الذين يعملون على جمع الزكاة من الأغنياء وحفظها والقيام بشؤونها .
وقد (( اتفق العلماء على أن العاملين عليها السعاة المتولون لقبض الصدقة )).
[نقله
الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 3/ 365و366) عن ابن بطال .].
(( ويجب أن يكونوا من المسلمين، وأن لا يكونوا ممن تحرم
عليهم الصدقة، من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم : بنو هاشم ، وبنو عبد
المطلب )).
[فقه السنة
للسيد سابق ( 1/ 365 ) .].
ففي صحيح
مسلم ( 2/ 756 ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الصدقة لاتنبغي لآل محمد
، إنما هي أوساخ الناس )) .
قال النووي
في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 179 ) : (( ومعنى أوساخ الناس : أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم
... هي كغسالة الأوساخ )) اهـ .
لذلك فأخذ
الصدقة منزلة ضعيفة ومتدنية تمس الكرامةَ الإنسانية ، والأنبياءُ أصحاب المكانة
السامية أرفع من أن يمدوا أيديهم لمن هم دونهم .
ففي فتح
الباري ( 5/ 204 ) : [ قال ابن بطال : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة
، لأنها أوساخ الناس . ولأن أخذ الصدقة منزلة ضعة ، والأنبياءُ مُنَزهون عن ذلك ، لأنه
صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى :
(( ووجدك عائلاً فأغنى )) [ الضحى : 8 ] . والصدقة
لا تحل للأغنياء ، وهذا بخلاف الهدية ، فإن العادة جارية بالإثابة عليها ] اهـ .
_ المؤلفة
قلوبهم : من التأليف ( التجميع ) . وهم جماعة من الناس يُهدف إلى تأليف قلوبهم
واستمالتهم . وهم أصناف. فمنهم من يُعطَى ليُسلم . فالأموال التي تُعطَى لهم تهدف
إلى إبراز وجه الإسلام المشرق الذي يحتوي أبناءه ويغنيهم من فضل الله تعالى ، ولا
يتركهم فقراء معوزين . كما أن البعض قد يفقد أموالَه في حال اعتناقه للإسلام .
فالأسرة أو القبيلة قد تمارس ضغطاً هائلاً على الفرد الذي يريد اعتناقَ الإسلام ،
فيُصادِرون أمواله وممتلكاته لكي يردوه عن الإيمان . لذلك يُعطَى من المال لكي
ينفتح قلبُه على الإيمان دون وجود عوائق مادية ، أو حواجز نفسية ، أو إشكاليات من
أي نوع تؤثر سلباً على مسار الدعوة .
ففي صحيح
مسلم ( 4/ 1806 ): عن ابن شهاب قال : (( غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح
، فتح مكة . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين ، فاقتتلوا
_ أي مع الكفار _ بحُنَيْن ، فنصر اللهُ دينه والمسلمين ، وأعطى رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة )) . وعن سعيد بن
المسيب أن صفوان قال : (( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
أعطاني وإنه لأبغض الناس إلَي ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلَي )) .
فالإسلامُ
يُقدِّم حوافز للآخرين ، ولا يتركهم ضحيةً لهواجسهم ومخاوفهم . فإعطاءُ المال
لصفوان بن أمية أظهر محاسنَ الإسلام ، وفتح قلبَه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم
، لأن النفوس مجبولة على حب مَن أحسن إليها
. فليست هذه رشوةً لتغيير عقائد الناس ، أو شراء ولائهم ، أو خداعهم .
وليست _ كذلك _ وصفةً تجميلية للدِّين . فالإسلامُ جميلٌ لا يحتاج إلى وصفات ولا
يحتاج إلى الآخرين ، فهم الذين يحتاجونه لكي ينالوا الخلاصَ الأبدي .
لكنّ منح
المال يُدخِل الطمأنينة والأمان إلى النفس البشرية المجبولة على حب المال ، وهذا
يؤدي إلى انشراح الصدر لسماع الحق واعتناقه دون الانشغال بالأمور المادية ، أو حصر
التفكير بطرق جمع المال لتأمين المستقبل وتوفير الحماية من المجهول ، كما يفعل
الكثيرون . فالمرءُ حينما يتحرر من ضغط الاحتياجات المعيشية فإنه يتفرغ للتفكير
بمعالم الحق واعتناقه .
ومنهم من
يُعطَى ليحسن إسلامُه ويثبت على الحق : فهؤلاء يُعْطَوْن ليزدادوا طمأنينة وثباتاً
على الإسلام ، ويبتعدوا عن التأثيرات السلبية للمال ، ويركِّزوا في تدعيم أركان
إيمانهم دون تأثيرات مادية ضاغطة على عقائدهم قد تؤدي إلى إعادتهم إلى الكفر بفعل
الضغوط الاقتصادية ، لأن الفقر والكفر وجهان لعملة واحدة .
فعن أبي سعيد
الخدري _ رضي الله عنه_ قال : (( بعث علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، فقسمها بين
أربعة نفر بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة وإما
عامر بن الطفيل )).
[متفق
عليه. البخاري ( 4/ 1581 ) برقم ( 4094 )، ومسلم ( 2/ 741 ) برقم ( 1064 ). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 162) : (( قال العلماء: ذكر عامر
هنا غلط ظاهر ، لأنه توفى قبل هذا بسنين ، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة )) اهـ . قلتُ : أما قوله " بذهبية في أديم مقروظ لم
تحصل من ترابها "
فيعني : ذهبٌ مدبوغ بالقرظ ( نوع من الشجر ) لم تخلص من تراب المعدن . ].
(( ومنهم مَن
يُعطَى لما يُرجَى من إسلام نظرائه ، ومنهم من يُعطَى ليجبيَ الصدقاتِ ممن يليه ، أو
ليدفع عن حوزة المسلمين الضررَ من أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله
أعلم )). [تفسير ابن كثير ( 2/ 479 ) .].
_ الرقاب:
وهم المكاتبون يُعْطَوْن من الزكاة لفك رقابهم من الرِّق، فيتخلصون من العبودية،
ويصبحون أحراراً . ولا يخفى أن المنهج الإسلامي واضح ومتماسك في إعتاق الرقاب، والحث
عليه ، ونقلِ الناس من الرق إلى الحرية ، لكنه منهج تدريجي عبر مراحل منطقية لضمان
عدم حدوث خلل في المجتمع ، أو فوضى عارمة لا يمكن إصلاحها . فهؤلاء الأرقاء
السابقون بحاجة إلى وقت كي يدخلوا في السياق الفكري الحياتي للمجتمع، إذ إنهم
ينتقلون من وضع نفسي واجتماعي إلى وضع آخر ذي طبيعة مختلفة ، كما أن المجتمع بحاجة
إلى وقت كي يستوعبهم ، ويضعهم في مكانتهم اللائقة ، ويقود الأفرادَ للتعامل معهم
بأسلوب صحيح . ومن هنا نفهم منهجية التدرج في تعامل الإسلام مع مسألة الرق . إذ إن
إقحام الرق في الحرية مباشرةً دون مقدمات من شأنه تفتيت الأواصر الاجتماعية ،
وإحداث اضطراب هائل في المجتمع الذي سيعجز عن استيعابهم وإعطائهم أدواراً اجتماعية
لتحريك عجلة المجتمع ، وصناعة التقدم ، والقيام بعملية الإعمار والتعمير . مما
يؤدي إلى انتكاسة كبرى في النسق الحضاري، وتراجع مرعب في التنمية، وانكسار حلم
المشروعات الضخمة، لأنه _ عندئذ _سيكون جزءاً كبيراً من المجتمع مشلولاً وعبئاً
على الآخرين، وهذا الوضعي غير الصحي سيعود بالضرر الشامل على الفرد والجماعة .
فليست القضيةُ مسألة شعارات ولافتات تحرر وتحرير وجعجعة بلا طحن . إنه قضية أمن
قومي لها تماس مباشر مع كل تفاصيل المجتمع ومفاصل الدولة . وبالطبع فإن كل عملية
إصلاح بحاجة إلى وقت للتخطيط ورسم السياسات وتطبيقها على أرض الواقع ، وليست فعلاً
ارتجالياً أو خُطبةً عصماء ثم ينتهي الأمر .
وعن البراء بن
عازب _ رضي الله عنه _ قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله ، علمْني عملاً يدخلني الجنة . فقال : (( أعتق النسمةَ وفُك الرقبةَ )) ، فقال
: يا رسول الله ، أو ليستا بواحدة ؟، قال: (( لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك
الرقبة أن تعين في عتقها )).
[رواه
أحمد ( 4/ 299 ) برقم ( 18670 )، وابن حبان في صحيحه( 2/ 97 ) برقم ( 374)،
والحاكم في مستدركه ( 2/ 236 ) برقم ( 2861 ) وصححه، ووافقه الذهبي . وصححه الحافظ
في الفتح ( 5/ 146 ) . ] .
فهذا التوجه
النبوي لنشر عبادة عتق الرقاب في المجتمع ، وتوجيه انتباه الناس إلى هذه القضية
الحساسة التي كانت مهملةً قبل الإسلام، يدل على المنهج الإسلامي في تخليص الناس من
ذل الرِّق، وجعلهم أحراراً متساوين في الكرامة الإنسانية ، وعلى قَدم المساواة مع
الآخرين دون شعور بالدونية أو اللاجدوى . فالعبيدُ والجواري في المجتمع الجاهلي
كانوا جزءاً من الأثاث لا يُعبَأ بهم ، فيُعامَلون كالدواب أو أقل . فلمّا جاء
الإسلامُ رفع من مكانتهم وسَلّط الضوء على معاناتهم ، ووضع تشريعات لتخليصهم من
أوضاعهم البائسة. وإننا لنجد آياتٍ قرآنية عديدة تتحدث عنهم، وهذا الشرفُ ما كانوا
ليحصلوا عليه لولا الإسلام .
_ الغارمون
: وهم الأشخاص الخاضعين لدَيْن لا يقدرون على سداده. فهؤلاء يُعْطَوْن من الزكاة
لسداد ديونهم ، وتفريجِ كرباتهم ، وقضاءِ حاجاتهم . فالشخصُ الخاضع للدَيْن تجده
محاصَراً وواقعاً تحت الضغط ، فتأتي الزكاة لتعيده إلى الوضع الطبيعي المتحرر من
ثقل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها النفسية والمادية .
ففي صحيح
مسلم ( 2/ 722 ) : عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : (( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )) .
فهذا الرّجلُ
الذي عليه دَيْنٌ أدرك أن الشريعةَ الإسلامية لن تتركه يغرق ، ولن تُغلق الأبوابَ
في وجهه . فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً العَوْن ، فقرّر النبي صلى
الله عليه وسلم إعطاءه من الزكاة حينما تأتيه . وهذا تجسيدٌ فعلي لا شعاراتي
للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم الذي يحضن أبناءه ولا يُميّز بينهم .
فالمسلمُ يعلم أن له دولةً تؤويه وتدافع عنه ، وإذا وقع فإنها ستُقيل عثرته ،
وتنتشله من مأزقه . مما يبعث الطمأنينة في نفوس الرّعية ، ويزيد من انتمائهم
لمجتمعهم الإيماني ، ويُقوِّي الروابط بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكوم
والتعاليم الشرعية . فالمجتمعُ الإيماني الحامل للفكرة الإسلامية نظريةً وتطبيقاً
لا يمكن أن يكون طارداً لأبنائه ، أو عبئاً عليهم ، أو يُضيِّق عليهم في طرق
معيشتهم ، فهذا المجتمعُ المحكوم بالشّريعة ينطلق من مبدأ تحقيق مصالح الناس
وحماية مكتسباتهم ، وتخفيف الضغوط الحياتية عن كاهلهم ، وهذا ليس بمستغرب إذا
علمنا أن الشريعة جاءت لرفع الحرج ، وأن الأمر كلما ضاق اتّسع .
قال النووي
في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 133) : (( قوله ( تحملتُ حَمالةً ) ... وهي المال الذي
يتحمله الانسان ، أي يستدينه ، ويدفعه في إصلاح ذات البين ، كالإصلاح بين قبيلتين ونحو
ذلك . وإنما تحل له المسألة ويُعطَى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية )) .
_ في سبيل
الله : والمقصود به هو الغزو . فهؤلاء المجاهِدون يمارسون دوراً محورياً في الدفاع
عن الإسلام ، والذّوْد عن حِياض الأمة . إنهم يضعون أرواحهم على أيديهم ، ويُضحون
بأوقات راحتهم وسعادتهم في أحضان نسائهم وأبنائهم من أجل رفع كلمة الله تعالى .
وهم يعلمون أن ذهابهم قد يكون بلا عَوْدة . ومع هذا فهم يواصلون عملَهم دون تردد
أو إجبار من أحد ، لأنهم ينطلقون من قناعاتهم الداخلية المستمدة من قوة الإيمان ،
ورباطةِ الجأش ، وشرفِ الجهاد .
وقال
القرطبي في تفسيره ( 8/ 166) : (( وهم الغزاة وموضع الرباط ، يُعْطَوْن ما ينفقون في
غزوهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ، وهذا قول أكثر العلماء )) .
وعن أبي
سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تحل
الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله ، أو لعاملٍ عليها ، أو لغارمٍ ، أو لرجلٍ
كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين الغني )).
[رواه
الحاكم في المستدرك ( 1/ 566) برقم ( 1480 ) وصححه ، وأبو داود ( 1/ 514) برقم (
1635) ، وابن ماجة ( 1/ 590 ) برقم ( 1841 ) . قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 111) : (( وصحّحه
جماعة )) . ].
وهؤلاء
المجاهِدون يُعْطَوْن من الزكاة للإنفاق على متطلبات الجهاد الذي يتكلف أموالاً
كثيرة، وذلك للدفاع عن الإسلام وأهله وأراضيه . ومن أجل قهر الأعداء وتحجيمهم ،
وردهم خاسرين يجرون أذيال الهزيمة ، ويرفعون رايةَ الاستسلام .
_ ابن
السبيل : وهو المسافر الذي انقطع عن أهله ، وانقطعت به السّبل . فيتم إعطاؤه من
مال الزكاة لكي يتجاوز عثرته ، ويتخلص من غربته . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/
281 ) : (( وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيُعطَى ما يوصله إلى بلده ،
وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيُعطَى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف
)) .
فنجد أن
الأصناف الثمانية ( مصارف الزكاة ) التي تم تحديدها في القرآن الكريم لم تجيء
عبثاً أو مصادفة . بل هي من علم الله تعالى المحيط بكل شيء ، فاللهُ الذي خلق
الإنسانَ ، يعرف ما يصلحه وما يفسده . كما أن القرآنَ الكريم يجذِّر القناعةَ في
النفوس بأن كل كلمة إلهية لها معنى دقيق ، ودلالة محددة ، وتؤسس لمجتمع الخير
المنشود على أرض الواقع . فليس القرآن شعاراتٍ خيالية حول مكافحة الفقر ، وإنشاءِ
مجتمع العدالة . بل هو منهاج متكامل قابل للتطبيق على أرض الواقع لسعادة الإنسان
في الدارَيْن . والمنهجية الاقتصادية متكاملة في القرآن الكريم ، وهي ترمي إلى
اجتثاث الفقر من جذوره ، وتأسيس العدالة الاجتماعية ، ومجتمع الأخوة البشرية
الحقيقي بعيداً عن الطبقية المرَضية، والشططِ الطبقي المخزي الذي ينذر بتفكيك
المجتمع إلى كيانات متناحرة .
قال الله
تعالى : (( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون )) [ آل عمران : 92] .
أي لن
تنالوا أيها المؤمنون الخير والعطاء الجزيل من الله تعالى والجنة حتى تنفقوا من
الأشياء التي تحبونها ، والتي هي قريبة من قلوبكم وعقولكم .
وعن أنس بن مالك
_ رضي الله عنه _ قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحب
أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها
ويشرب من ماء فيها طَيب . قال أنس : فلما أُنزلت هذه الآية [ لن تنالوا البِر حتى
تنفقوا مما تحبون ] . قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله ، إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول : (( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون
)) . وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو بِرها وذخرها عند الله، فضَعْها
يا رسول الله حيث أراك الله. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بَخٍ _
كلمة تقال عند الرضا _ ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى
أن تجعلها في الأقربين )) . فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في
أقاربه وبني عمه.
[متفق
عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 530 ) برقم( 1392 ).ومسلم ( 2/ 693 ) برقم ( 998).].
وهكذا كان الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ هم
الجيل الذهبي الذين فهموا النصوصَ الشرعية ، وقاموا بتطبيقها على أرض الواقع دون
تأخير أو تكاسل . فالتطبيق العملي للإنفاق من الممتلكات المحببة للنفس خضوعاً
للآية القرآنية قد تم واقعاً ملموساً . فينبغي على المسلم أن يبذل أحب الأشياء
لنيل رضى الله تعالى . وهذا إن دل على شيء فيدل على علو الهمة التي تدفع المؤمن
إلى التخلي عن أحب ممتلكاته من أجل وجه الله تعالى دون النظر إلى مديح الناس ، أو
نيل الحظوة عندهم . وهذا هو الإخلاص الصافي الذي لا تشوبه شائبة ، وأعلى درجات
التضحية .http://www.facebook.com/abuawwad1982