سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

11‏/09‏/2012

الزكاة والصدقات

الزكاة والصدقات

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .


     إن المنهج الاقتصادي الإسلامي عالج قضايا المجتمع بصورة واقعية بعيدة عن المثالية النظرية الجوفاء . فقد وضع أنظمةً تطبيقية فعالة لتجذير العدالة الاجتماعية عبر محاربة الشطط الطبقي واحتكارِ الثروة من قبل فئة محدودة .
     فعبر تشريع الزكاة نقل الإسلامُ المجتمعَ من الحقد إلى الأخوة ، ومن الظلم إلى العدل . فالزكاةُ تعني مساعدة الأغنياء لإخوانهم الفقراء ، الأمر الذي ينزع الحسدَ والغل من صدور الفقراء تجاه  مجتمعهم وأغنيائه ، ويعمل على تقوية الروابط المجتمعية وتثبيتها كوحدة جَمْعية متماسكة ، ويتيح فرصةً كبيرة لتداول المال بين أبناء المجتمع الواحد دون تركز الثروة في أيدي أناس معدودين .
     كما أن المنهج الاقتصادي الإسلامي أسّس لمبدأ الصدقة ، حيث يساعد الأغنياءُ الفقراءَ بما يرونه مناسباً في أي وقت شاؤوا ، إيماناً بالشريعة الإلهية ، والأجرِ الأخروي يوم القيامة ، ومساعدةً للطبقات المتدنية في المجتمع .
     قال الله تعالى : (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله واللهُ عليم حكيم ))  [ التوبة : 60] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) : (( لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بيّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبيّن حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يَكِل قسمها إلى أحد غيره فجزّأها لهؤلاء المذكورين )) اهـ .
     وقد بيّنت الآيةُ الكريمة مصارف الزكاة ( الأصناف المستحقة لها ) وهي ثمانية أصناف :
     _ الفقراء والمساكين : (( وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم ، ويقابلهم الأغنياء المكفيون ما يحتاجون إليه )). فهؤلاء المحتاجون في أمس الحاجة إلى المساعدة المالية من قبل إخوانهم الأغنياء . فتأتي الزكاةُ لردم أي ثغرة في المجتمع من أجل تحويل الأفراد إلى عناصر إيجابية بناءة لا هدامة ، تملك كفايتها ولا تمد الأيدي إلى الناس، أو تلجأ إلى وسائل الكسب الحرام .
     فعن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنهما_: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة قوي )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 565 ) برقم ( 1478 ) وصححه . وحسنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 108 ) .  ].
     وعن عبيد الله بن عدي حدّثه أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلّب فيهما البصر ، ورآهما جَلْدَيْن ، فقال : (( إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب )).
[رواه أحمد ( 4/ 224) برقم ( 18001) ، وأبو داود ( 1/ 513 ) برقم ( 1633) ، والنسائي ( 5/ 99) برقم ( 2598) . وقوّى إسنادَه ابنُ كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) ].
     وهكذا نجد أن الأغنياء والأقوياء القادرين على العمل والكسب لا يجوز إعطاؤهم شيئاً من الزكاة ، لأنهم قادرون على توفير مصادر دخل كريمة لأنفسهم وأُسرهم ، فهم لا يحتاجون إلى مساعدة مالية من أي نوع .
     والمساكين هم صنفٌ مخصوص من المحتاجين ، لذلك جعلتهم الآيةُ صنفاً مستقلاً بذاته ، لتمييزهم عن الفقراء .
     فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس )).
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 538 )برقم ( 1409).ومسلم( 2/ 719 ) برقم ( 1039).].
     والمسكينُ له وضعيةٌ خاصة ، فهو مخفي عن الأنظار ، لا يُظهِر الحاجة والسؤال . فهو لا يجد غنىً يُغنيه فيسد حاجته ويخرجه من دائرة العوز ، ولا ينتبه الناسُ إليه فيتصدقون عليه لأن وضعه مستتر لا تُدرَك حقيقته إلا للقريبين منه المطلعين على أسراره . وهو _كذلك_ لا يمد يدَه للآخرين بسبب عزة نفسه ، وتعففه ، فلا يَقبل أن يسأل الناسَ ويطلب منهم المالَ .
     _ العاملون عليها : وهم الذين يعملون على جمع الزكاة من الأغنياء وحفظها والقيام بشؤونها . وقد (( اتفق العلماء على أن العاملين عليها السعاة المتولون لقبض الصدقة )).     
[نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 3/ 365و366) عن ابن بطال .].
(( ويجب أن يكونوا من المسلمين، وأن لا يكونوا ممن تحرم عليهم الصدقة، من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم : بنو هاشم ، وبنو عبد المطلب )).
[فقه السنة للسيد سابق ( 1/ 365 ) .].
     ففي صحيح مسلم ( 2/ 756 ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الصدقة لاتنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس )) .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 179 ) : (( ومعنى أوساخ الناس : أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ... هي كغسالة الأوساخ )) اهـ .
     لذلك فأخذ الصدقة منزلة ضعيفة ومتدنية تمس الكرامةَ الإنسانية ، والأنبياءُ أصحاب المكانة السامية أرفع من أن يمدوا أيديهم لمن هم دونهم .
     ففي فتح الباري ( 5/ 204 ) : [ قال ابن بطال : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة ، لأنها أوساخ الناس . ولأن أخذ الصدقة منزلة ضعة ، والأنبياءُ مُنَزهون عن ذلك ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى :   (( ووجدك عائلاً فأغنى )) [ الضحى : 8 ] . والصدقة لا تحل للأغنياء ، وهذا بخلاف الهدية ، فإن العادة جارية بالإثابة عليها ] اهـ .
     _ المؤلفة قلوبهم : من التأليف ( التجميع ) . وهم جماعة من الناس يُهدف إلى تأليف قلوبهم واستمالتهم . وهم أصناف. فمنهم من يُعطَى ليُسلم . فالأموال التي تُعطَى لهم تهدف إلى إبراز وجه الإسلام المشرق الذي يحتوي أبناءه ويغنيهم من فضل الله تعالى ، ولا يتركهم فقراء معوزين . كما أن البعض قد يفقد أموالَه في حال اعتناقه للإسلام . فالأسرة أو القبيلة قد تمارس ضغطاً هائلاً على الفرد الذي يريد اعتناقَ الإسلام ، فيُصادِرون أمواله وممتلكاته لكي يردوه عن الإيمان . لذلك يُعطَى من المال لكي ينفتح قلبُه على الإيمان دون وجود عوائق مادية ، أو حواجز نفسية ، أو إشكاليات من أي نوع تؤثر سلباً على مسار الدعوة .
     ففي صحيح مسلم ( 4/ 1806 ): عن ابن شهاب قال : (( غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فتح مكة . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين ، فاقتتلوا _ أي مع الكفار _ بحُنَيْن ، فنصر اللهُ دينه والمسلمين ، وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة )) . وعن سعيد بن المسيب أن صفوان قال : (( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلَي ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلَي )) .
     فالإسلامُ يُقدِّم حوافز للآخرين ، ولا يتركهم ضحيةً لهواجسهم ومخاوفهم . فإعطاءُ المال لصفوان بن أمية أظهر محاسنَ الإسلام ، وفتح قلبَه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن النفوس مجبولة على حب مَن أحسن إليها  . فليست هذه رشوةً لتغيير عقائد الناس ، أو شراء ولائهم ، أو خداعهم . وليست _ كذلك _ وصفةً تجميلية للدِّين . فالإسلامُ جميلٌ لا يحتاج إلى وصفات ولا يحتاج إلى الآخرين ، فهم الذين يحتاجونه لكي ينالوا الخلاصَ الأبدي .
     لكنّ منح المال يُدخِل الطمأنينة والأمان إلى النفس البشرية المجبولة على حب المال ، وهذا يؤدي إلى انشراح الصدر لسماع الحق واعتناقه دون الانشغال بالأمور المادية ، أو حصر التفكير بطرق جمع المال لتأمين المستقبل وتوفير الحماية من المجهول ، كما يفعل الكثيرون . فالمرءُ حينما يتحرر من ضغط الاحتياجات المعيشية فإنه يتفرغ للتفكير بمعالم الحق واعتناقه .
     ومنهم من يُعطَى ليحسن إسلامُه ويثبت على الحق : فهؤلاء يُعْطَوْن ليزدادوا طمأنينة وثباتاً على الإسلام ، ويبتعدوا عن التأثيرات السلبية للمال ، ويركِّزوا في تدعيم أركان إيمانهم دون تأثيرات مادية ضاغطة على عقائدهم قد تؤدي إلى إعادتهم إلى الكفر بفعل الضغوط الاقتصادية ، لأن الفقر والكفر وجهان لعملة واحدة .
     فعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه_ قال : (( بعث علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل )).
[متفق عليه. البخاري ( 4/ 1581 ) برقم ( 4094 )، ومسلم ( 2/ 741 ) برقم ( 1064 ). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 162) : (( قال العلماء: ذكر عامر هنا غلط ظاهر ، لأنه توفى قبل هذا بسنين ، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة )) اهـ . قلتُ : أما قوله " بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها " فيعني : ذهبٌ مدبوغ بالقرظ ( نوع من الشجر ) لم تخلص من تراب المعدن . ].
     (( ومنهم مَن يُعطَى لما يُرجَى من إسلام نظرائه ، ومنهم من يُعطَى ليجبيَ الصدقاتِ ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضررَ من أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم )). [تفسير ابن كثير ( 2/ 479 ) .].
     _ الرقاب: وهم المكاتبون يُعْطَوْن من الزكاة لفك رقابهم من الرِّق، فيتخلصون من العبودية، ويصبحون أحراراً . ولا يخفى أن المنهج الإسلامي واضح ومتماسك في إعتاق الرقاب، والحث عليه ، ونقلِ الناس من الرق إلى الحرية ، لكنه منهج تدريجي عبر مراحل منطقية لضمان عدم حدوث خلل في المجتمع ، أو فوضى عارمة لا يمكن إصلاحها . فهؤلاء الأرقاء السابقون بحاجة إلى وقت كي يدخلوا في السياق الفكري الحياتي للمجتمع، إذ إنهم ينتقلون من وضع نفسي واجتماعي إلى وضع آخر ذي طبيعة مختلفة ، كما أن المجتمع بحاجة إلى وقت كي يستوعبهم ، ويضعهم في مكانتهم اللائقة ، ويقود الأفرادَ للتعامل معهم بأسلوب صحيح . ومن هنا نفهم منهجية التدرج في تعامل الإسلام مع مسألة الرق . إذ إن إقحام الرق في الحرية مباشرةً دون مقدمات من شأنه تفتيت الأواصر الاجتماعية ، وإحداث اضطراب هائل في المجتمع الذي سيعجز عن استيعابهم وإعطائهم أدواراً اجتماعية لتحريك عجلة المجتمع ، وصناعة التقدم ، والقيام بعملية الإعمار والتعمير . مما يؤدي إلى انتكاسة كبرى في النسق الحضاري، وتراجع مرعب في التنمية، وانكسار حلم المشروعات الضخمة، لأنه _ عندئذ _سيكون جزءاً كبيراً من المجتمع مشلولاً وعبئاً على الآخرين، وهذا الوضعي غير الصحي سيعود بالضرر الشامل على الفرد والجماعة . فليست القضيةُ مسألة شعارات ولافتات تحرر وتحرير وجعجعة بلا طحن . إنه قضية أمن قومي لها تماس مباشر مع كل تفاصيل المجتمع ومفاصل الدولة . وبالطبع فإن كل عملية إصلاح بحاجة إلى وقت للتخطيط ورسم السياسات وتطبيقها على أرض الواقع ، وليست فعلاً ارتجالياً أو خُطبةً عصماء ثم ينتهي الأمر .
     وعن البراء بن عازب _ رضي الله عنه _ قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمْني عملاً يدخلني الجنة . فقال : (( أعتق النسمةَ وفُك الرقبةَ )) ، فقال : يا رسول الله ، أو ليستا بواحدة ؟، قال: (( لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها )).
[رواه أحمد ( 4/ 299 ) برقم ( 18670 )، وابن حبان في صحيحه( 2/ 97 ) برقم ( 374)، والحاكم في مستدركه ( 2/ 236 ) برقم ( 2861 ) وصححه، ووافقه الذهبي . وصححه الحافظ في الفتح ( 5/ 146 ) .  ] .
     فهذا التوجه النبوي لنشر عبادة عتق الرقاب في المجتمع ، وتوجيه انتباه الناس إلى هذه القضية الحساسة التي كانت مهملةً قبل الإسلام، يدل على المنهج الإسلامي في تخليص الناس من ذل الرِّق، وجعلهم أحراراً متساوين في الكرامة الإنسانية ، وعلى قَدم المساواة مع الآخرين دون شعور بالدونية أو اللاجدوى . فالعبيدُ والجواري في المجتمع الجاهلي كانوا جزءاً من الأثاث لا يُعبَأ بهم ، فيُعامَلون كالدواب أو أقل . فلمّا جاء الإسلامُ رفع من مكانتهم وسَلّط الضوء على معاناتهم ، ووضع تشريعات لتخليصهم من أوضاعهم البائسة. وإننا لنجد آياتٍ قرآنية عديدة تتحدث عنهم، وهذا الشرفُ ما كانوا ليحصلوا عليه لولا الإسلام .
     _ الغارمون : وهم الأشخاص الخاضعين لدَيْن لا يقدرون على سداده. فهؤلاء يُعْطَوْن من الزكاة لسداد ديونهم ، وتفريجِ كرباتهم ، وقضاءِ حاجاتهم . فالشخصُ الخاضع للدَيْن تجده محاصَراً وواقعاً تحت الضغط ، فتأتي الزكاة لتعيده إلى الوضع الطبيعي المتحرر من ثقل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها النفسية والمادية .
     ففي صحيح مسلم ( 2/ 722 ) : عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : (( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )) .
     فهذا الرّجلُ الذي عليه دَيْنٌ أدرك أن الشريعةَ الإسلامية لن تتركه يغرق ، ولن تُغلق الأبوابَ في وجهه . فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً العَوْن ، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءه من الزكاة حينما تأتيه . وهذا تجسيدٌ فعلي لا شعاراتي للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم الذي يحضن أبناءه ولا يُميّز بينهم . فالمسلمُ يعلم أن له دولةً تؤويه وتدافع عنه ، وإذا وقع فإنها ستُقيل عثرته ، وتنتشله من مأزقه . مما يبعث الطمأنينة في نفوس الرّعية ، ويزيد من انتمائهم لمجتمعهم الإيماني ، ويُقوِّي الروابط بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكوم والتعاليم الشرعية . فالمجتمعُ الإيماني الحامل للفكرة الإسلامية نظريةً وتطبيقاً لا يمكن أن يكون طارداً لأبنائه ، أو عبئاً عليهم ، أو يُضيِّق عليهم في طرق معيشتهم ، فهذا المجتمعُ المحكوم بالشّريعة ينطلق من مبدأ تحقيق مصالح الناس وحماية مكتسباتهم ، وتخفيف الضغوط الحياتية عن كاهلهم ، وهذا ليس بمستغرب إذا علمنا أن الشريعة جاءت لرفع الحرج ، وأن الأمر كلما ضاق اتّسع .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 133) : (( قوله ( تحملتُ حَمالةً ) ... وهي المال الذي يتحمله الانسان ، أي يستدينه ، ويدفعه في إصلاح ذات البين ، كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك . وإنما تحل له المسألة ويُعطَى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية )) .
     _ في سبيل الله : والمقصود به هو الغزو . فهؤلاء المجاهِدون يمارسون دوراً محورياً في الدفاع عن الإسلام ، والذّوْد عن حِياض الأمة . إنهم يضعون أرواحهم على أيديهم ، ويُضحون بأوقات راحتهم وسعادتهم في أحضان نسائهم وأبنائهم من أجل رفع كلمة الله تعالى . وهم يعلمون أن ذهابهم قد يكون بلا عَوْدة . ومع هذا فهم يواصلون عملَهم دون تردد أو إجبار من أحد ، لأنهم ينطلقون من قناعاتهم الداخلية المستمدة من قوة الإيمان ، ورباطةِ الجأش ، وشرفِ الجهاد .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 8/ 166) : (( وهم الغزاة وموضع الرباط ، يُعْطَوْن ما ينفقون في غزوهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ، وهذا قول أكثر العلماء )) .
     وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله ، أو لعاملٍ عليها ، أو لغارمٍ ، أو لرجلٍ كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين الغني )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 566) برقم ( 1480 ) وصححه ، وأبو داود ( 1/ 514) برقم ( 1635) ، وابن ماجة ( 1/ 590 ) برقم ( 1841 ) . قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 111) : (( وصحّحه جماعة )) . ].
     وهؤلاء المجاهِدون يُعْطَوْن من الزكاة للإنفاق على متطلبات الجهاد الذي يتكلف أموالاً كثيرة، وذلك للدفاع عن الإسلام وأهله وأراضيه . ومن أجل قهر الأعداء وتحجيمهم ، وردهم خاسرين يجرون أذيال الهزيمة ، ويرفعون رايةَ الاستسلام .
     _ ابن السبيل : وهو المسافر الذي انقطع عن أهله ، وانقطعت به السّبل . فيتم إعطاؤه من مال الزكاة لكي يتجاوز عثرته ، ويتخلص من غربته . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 281 ) : (( وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيُعطَى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيُعطَى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف )) .
     فنجد أن الأصناف الثمانية ( مصارف الزكاة ) التي تم تحديدها في القرآن الكريم لم تجيء عبثاً أو مصادفة . بل هي من علم الله تعالى المحيط بكل شيء ، فاللهُ الذي خلق الإنسانَ ، يعرف ما يصلحه وما يفسده . كما أن القرآنَ الكريم يجذِّر القناعةَ في النفوس بأن كل كلمة إلهية لها معنى دقيق ، ودلالة محددة ، وتؤسس لمجتمع الخير المنشود على أرض الواقع . فليس القرآن شعاراتٍ خيالية حول مكافحة الفقر ، وإنشاءِ مجتمع العدالة . بل هو منهاج متكامل قابل للتطبيق على أرض الواقع لسعادة الإنسان في الدارَيْن . والمنهجية الاقتصادية متكاملة في القرآن الكريم ، وهي ترمي إلى اجتثاث الفقر من جذوره ، وتأسيس العدالة الاجتماعية ، ومجتمع الأخوة البشرية الحقيقي بعيداً عن الطبقية المرَضية، والشططِ الطبقي المخزي الذي ينذر بتفكيك المجتمع إلى كيانات متناحرة .
     قال الله تعالى : (( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون )) [ آل عمران : 92] .
     أي لن تنالوا أيها المؤمنون الخير والعطاء الجزيل من الله تعالى والجنة حتى تنفقوا من الأشياء التي تحبونها ، والتي هي قريبة من قلوبكم وعقولكم .
     وعن أنس بن مالك _ رضي الله عنه _ قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طَيب . قال أنس : فلما أُنزلت هذه الآية [ لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون ] . قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول : (( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون )) . وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو بِرها وذخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بَخٍ _ كلمة تقال عند الرضا _ ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين )) . فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 530 ) برقم( 1392 ).ومسلم ( 2/ 693 ) برقم ( 998).].
     وهكذا كان الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ هم الجيل الذهبي الذين فهموا النصوصَ الشرعية ، وقاموا بتطبيقها على أرض الواقع دون تأخير أو تكاسل . فالتطبيق العملي للإنفاق من الممتلكات المحببة للنفس خضوعاً للآية القرآنية قد تم واقعاً ملموساً . فينبغي على المسلم أن يبذل أحب الأشياء لنيل رضى الله تعالى . وهذا إن دل على شيء فيدل على علو الهمة التي تدفع المؤمن إلى التخلي عن أحب ممتلكاته من أجل وجه الله تعالى دون النظر إلى مديح الناس ، أو نيل الحظوة عندهم . وهذا هو الإخلاص الصافي الذي لا تشوبه شائبة ، وأعلى درجات التضحية .
http://www.facebook.com/abuawwad1982