سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

24‏/09‏/2012

الملائكة

الملائكة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .

     إن وجود الملائكة يُعتبر من المعلوم من الدين بالضرورة . بحيث إن منكره كافر. وقد ذُكروا في القرآن الكريم مرات عديدة جداً. وهذا الأمر معروف للقاصي والداني ، والعالم والجاهل . 
     قال الله تعالى : (( آمن الرسولُ بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله )) [ البقرة : 285] .
     والملائكةُ أجسامٌ نورانية ( خُلقوا من نور ) قادرة على التشكل بأشكال مختلفة . لهم قدرات خاصة ، ولا يَعصون اللهَ مُطْلقاً . ولا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ولا يتزوجون ، ويقومون بأمر ربهم ، وينفِّذون الوظائفَ الموكولة إليهم دون تفكير أو نقاش .
_ تَوفي النفوس :
     قال الله تعالى : (( قُلْ يتوفاكم مَلَكُ الموت الذي وُكل بكم ثم إلى ربكم تُرْجَعون )) [ السجدة : 11] .
     وهذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للكافرين رداً على مزاعمهم الباطلة : يتوفاكم ملكُ الموت المختص بقبض أرواحكم هو وأعوانه حينما تحين الآجال . ثم تعودون إلى الله تعالى من أجل الحساب ونيل الجزاء العادل.
[قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 604 ) : (( الظاهر من هذه الآية أن مَلَكَ الموت شخص مُعَين من الملائكة...وقد سُمِّيَ في بعض الآثار بعزرائيل، وهو المشهور. قاله قتادة وغير واحد، وله أعوان )).].
     وقال الله تعالى : (( حتى إذا جاء أحدَكم الموتُ توَفتْهُ رُسُلُنا وهم لا يُفرطون )) [ الأنعام : 61] .
     فعندما تحين ساعة الوفاة التي كتبها اللهُ تعالى على العبد فإن أعوان مَلَك الموت يَسْتَوْفون روحَه، وهم لا يضيِّعون ولا يقصِّرون . وبالطبع فإن مَلَك الموت هو الرئيس الذي وُكِّل بقبض الأرواح، وكل الأرواح التي تُقبَض تتم بعلمه ، كما أنه لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه ، لأن الله تعالى هو الآمر الناهي .
     قال الله تعالى : (( ولو ترى إذْ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوهَهم وأدبارَهم ))  [ الأنفال : 50] .
     فهؤلاء ملائكةُ العذاب الذين يتوفون أرواحَ الكفار ، فيضربون وجوهَهم ومؤخِّراتهم جزاءً لهم على كفرهم بالله تعالى ، وعداوتهم للشريعة الإلهية .
_ كتابة أعمال بني آدم :
     إن هناك ملائكة يضطلعون بمهمة كتابة أعمال البشر . فملائكة يكتبون الحسنات، وملائكة يكتبون السيئات . واللهُ تعالى لا يحتاج إلى من يُسجِّل أعمالَ البشر ، لأنه _ تعالى _ أحصاها قبل أن يولدوا . فعلمُه شاملٌ لكل شيء . ولكن من أجل إقامة الحُجة على بني البشر ، ولإشعار البشر أن هناك ملائكةً ملازِمين لهم في حركاتهم وسكناتهم .
     وهؤلاء الملائكةُ كِرامٌ على الله يكتبون أعمالَ البشر وأقوالهم. كما قال الله_ سبحانه وتعالى _ عنهم :  (( كِرَاماً كاتِبين )) [ الانفطار : 11] .
     وقال الله تعالى : (( ورُسُلنا لَدَيْهم يَكْتبون )) [ الزخرف : 80] .
     فلا مجال للهروب منهم، لأنهم يُسجِّلون ما يقوم به الإنسان قولاً وفعلاً ، صغيراً كان أم كبيراً.  
     وقال الله تعالى : (( ما يلفظ من قَوْلٍ إلا لَدَيْه رقيبٌ عَتيد )) [ ق : 18] .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 106 ) : (( أي ما يتكلم من كلام فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه ... رقيب : أي مَلَك يرقب قوله ويكتبه . والرقيب : الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر ، فكاتب الخير هو ملك اليمين وكاتب الشر ملك الشمال. والعتيد : الحاضر المهيأ )) اهـ .
     وبالتالي فإن الإنسان تحت مراقبة شديدة لا تنقطع . فعليه أن يفكِّر بالكلمة قبل قَوْلها، وبالعمل قبل فعله . فإن كان خيراً فليتقدم ، وإن كان شراً فليُمْسِكْ . فحري بالإنسان أن يختار أعماله الكلامية والفعلية بدقة شديدة ، وأن يحرص على تحصيل الثواب قدر الاستطاعة ، والابتعاد عن الآثام التي تُراكم الذنوبَ القاتلة . 
     وتبقى مسألة : هل يكتب الملكان كل شيء أم ما فيه ثواب وعقاب فقط ؟ . وهذه مسألة خلافية بين العلماء . فعن عكرمة عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : أنه سئل عن هذه الآية :  [ ما يلفظ من قَوْلٍ إلا لَدَيْه رقيبٌ عَتيد ] . قال : فقال ابن عباس : (( إنما يكتب الخير والشر ، لا يكتب : يا غلام اسرج الفرسَ ، ويا غلام اسقني الماء . إنما يكتب الخير والشر )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 505 ) برقم ( 3730 ) وصحّحه ، وسكت عنه الذهبي .].
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 285 ) : (( وقد اختلف العلماء : هل يكتب الملك كل شيء من الكلام، وهو قول الحسن وقتادة . أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب ، كما هو قول ابن عباس  _ رضي الله عنهما _ . فعلى قَوْلين . وظاهر الآية الأول، لعموم قوله _ تبارك وتعالى _ : [ ما يلفظ من قَوْلٍ إلا لَدَيْه رقيبٌ عَتيد ] )).
     فعلى الإنسان أن يتذكر نظرَ الله تعالى إليه ، وأن يستحي من الملكَيْن الملازِمَيْن له في كل أحواله، حيث يحصيان أعمالَه وأقوالَه . فالتفكرُ قبل اتخاذ أي قرار ، وعرضه على الكتاب والسنة، هو الحل الأمثل لتجنب الزلل والخطايا . وكما قيل : لسانُ الأحمق أمام قلبه ( أي يرمي الكلمةَ ثم يفكِّر فيها ) ، ولسانُ العاقل وراء قلبه ( أي يفكِّر بالكلمة ثم يقولها ) . ويبقى الحياءُ من الله تعالى هو الذي يردع الإنسانَ عن ارتكاب الآثام ، وهو الوازع الداخلي المانع من اقتراف المعاصي .
     وفي صحيح البخاري( 5/ 2268): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شِئْتَ)).
[قال الحافظ في الفتح ( 10/ 523 ) : (( قال الخطابي : الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعاً بارتكاب كل شر ... قال النووي في الأربعين : الأمر فيه للإباحة ، أي إذا أردت فعل شيء ، فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله ، وإلا فلا . وعلى هذا مدار الإسلام ، وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يستحي من تركه ، والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحي من فعله ، وأما المباح فالحياء من فعله جائز ، وكذا من تركه ، فتضمن الحديث الأحكام الخمسة . وقيل : هو أمر تهديد كما تقدم توجيهه ، ومعناه : إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت ، فإن الله مجازيك عليه ، وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء . وقيل : هو أمر بمعنى الخبر ، أي من لا يستحي يصنع ما أراد )) اهـ . وفي مجمع الأمثال للميداني ( 1/ 211) : (( قال بعضهم : جعل الحياء وهو غريزة من الإيمان وهو اكتساب ، لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي وإن لم يكن له تَقِية ( مهابة )، فصار كالإيمان الذي يقطع بينها وبينه . ومنه الحديث .. " إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئت " ، أي من لم يستح صَنَعَ ما شاء ، لفظُه أمر ، ومعناه الخبر )) اهـ .   ].
_ حفظهم :
     هناك قِسم من الملائكة وظيفتهم حفظ الإنسان والاعتناء به . وهذا مظهر من تجليات الرحمة الإلهية بعباده ، حيث يحيطهم بحمايته ، فهو خالقهم الذي يعتني بهم . وهو أرحم بهم من أمهاتهم .
     قال الله تعالى : (( له مُعَقباتٌ من بين يَدَيْه ومِن خَلْفه يحفظونه مِن أمر الله )) [ الرعد : 11].
     والمقصودُ بالمعقبات هم الملائكة الذين يتعاقبون ( يتناوبون ) على حفظ الإنسان ، وإحاطته بالحماية والأمن من أمامه وخلفه ، يحفظونه من الكوارث والأخطار بأمر الله تعالى.
{ذهب البعض إلى أن "المعقبات" في هذا الموضع تعني الحرس الذي يتعاقب على الأمير . فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ في قوله تعالى : [ له مُعَقباتٌ من بين يَدَيْه ومِن خَلْفه ] قال : (( ذلك مَلِك من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس )) [ تفسير الطبري 7/ 350] . قلتُ : وصحّح إسنادَه الحافظُ في الفتح ( 8/ 372 ) . }.
     وقد وردت آياتٌ أخرى تتحدث عن الملائكة الحفظة الذين يحفظون أعمالَ بني آدم، ويحصونها عليهم ، ويحفظونهم من الأضرار. كما في قوله تعالى: (( وإن عليكم لحافظين )) [ الانفطار : 10]. وقوله تعالى : (( إن كل نَفْسٍ لَما عليها حافظ )) [ الطارق : 4] .
_ دعاؤهم :
     إن دعاء الملائكة للإنسان يشير إلى الرحمة الربانية الشاملة ، وطهارةِ الملائكة الأبرار الذين يدعون ويستغفرون للبشر بأمر ربهم . إذ إنهم لا يفعلون شيئاً من تلقاء أنفسهم .
     قال الله تعالى : (( هو الذي يُصلي عليكم وملائكتُه ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً )) [ الأحزاب : 43] .
     إن اللهَ تعالى يُصلي على المؤمنين، بمعنى يرحمهم ويباركهم، ويتولى أمورهم ويصلحهم. والملائكةُ يدعون للمؤمنين طالبين لهم الرحمة ، ويطلبون المغفرة لهم . وذلك لإخراج الناس من الضلال إلى الهدى ، ونقلهم من ظلمات المعاصي والشكوك إلى نور الطاعة واليقين . فاللهُ تعالى رحيم بعباده هداهم إلى الصراط المستقيم ، وفتح لهم باب التوبة ، وأمر الملائكةَ بالدعاء والاستغفار لهم .
     (( والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة ... وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار )).
[تفسير ابن كثير ( 3/ 653 ) .].
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2202 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : (( إذا خرجت روحُ المؤمن تلقاها مَلَكان يصعدانها ... ويقول أهلُ السماء : روح طيبة ، جاءت من قبل الأرض ، صلى الله عليك ، وعلى جسد كنت تعمرينه )) .
     فالملائكةُ _ عليهم السلام _ يُصَلون على هذه الروح الطاهرة روحِ المؤمن التي جاءت من الأرض. أي يدعون لها، ويطلبون لها الغفران ، وأن يتجاوز اللهُ تعالى عنها .
     وجاء رجل إلى أبي أمامة _ رضي الله عنه _ قال : يا أبا أمامة ، إني رأيتُ في منامي أن الملائكة تصلي عليك كلما دخلتَ ، وكلما خرجتَ ،  وكلما قمتَ ، وكلما جلستَ . قال أبو أمامة  :  (( ... وأنتم لو شئتم صَلتْ عليكم الملائكة ثم قرأ : [ يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً  ( 41) وسبحوه بُكْرةً وأصيلاً ( 42) هو الذي يُصلي عليكم وملائكتُه ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً (43) ] )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 453 ) برقم ( 3565 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
     فذكرُ الله تعالى مفتاح كل خير ، حيث يُذكر الإنسانُ في الملأ الأعلى ، ويصلي عليه اللهُ تعالى وملائكته. وهذه المنزلة الجليلة تنعكس إيجاباً على حياة الفرد على الأرض، وعلى حياته بعد الموت.
     وقال الله تعالى : (( والملائكةُ يُسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض )) [ الشورى : 5] .
     فالملائكةُ _ عليهم السلام _ يُنَزهون اللهَ تعالى عما لا يليق به ، ويستغفرون للمؤمنين في الأرض من أجل زيادة حسناتهم ومراتبهم الإيمانية . لا سيما أن الملائكة يطلعون على أعمال الإنسان وأقواله ، ويعرفون الخللَ فيها والنقصَ ، ويدركون الذنوب التي اقترفها الإنسان وغرق فيها . فالملائكةُ لا يُسجلون أعمالَ الإنسان بدافع كرهه أو تدمير مستقبله ، أو إفساد مصيره . إنهم كِرام رحماء يقومون بتنفيذ الأمر الإلهي دون زيادة أو نقصان ، لإقامة الحُجة على العبد ، ولكي يُدرِك أنه لم يتعرض لظلم . فأعماله هي بما كسبت يداه دون إجبار من أحد، ولكي يستشعر وجود مراقِبين وملازِمين له لا يفارقونه ، فيرتدع ويستحيي من الله تعالى وملائكته الكرام .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك . اتخذوا هذه الأصنام وعبدوا غير الله . فجعلت الملائكةُ يدعون عليهم ويقولون : ربنا خلقتَ عبادك  ، فأحسنتَ خلقَهم ، ورزقتهم فأحسنتَ رزقهم ، فعصوك وعبدوا غيرك . اللهم اللهم ، يدعون عليهم . فقال لهم الرب _ عز وجل _ : إنهم في غيب . فجعلوا لا يعذرونهم . فقال : اختاروا منكم اثنين اهبطهما إلى الأرض فآمرهما وأنهاهما . فاختاروا هاروت وماروت ... فلما شربا الخمر وانتشيا وقعا بالمرأة ، وقتلا النفس ، فكثر اللغط فيما بينهما وبين الملائكة ، فنظروا إليهما وما يعملان ، ففي ذلك أُنزلت [ الملائكةُ يُسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ] . فجعل بعد ذلك الملائكة يعذرون أهل الأرض ويدعون لهم )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 480 ) برقم ( 3655 ) وصحّحه ووافقه الذهبي .
وقال الحافظ في الفتح ( 10/ 225 ) عن قصة هاروت وماروت : (( وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلاً ، خلافاً لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه . ومحصلها أن الله ركّب الشهوةَ في مَلَكَيْن من الملائكة اختباراً لهما ، وأمرهما أن يحكما في الأرض ، فنزلا على صورة البشر ، وحكما بالعدل مدة ثم افتتنا بامرأة جميلة ، فعوقبا بسبب ذلك بأن حُبسا في بئر ببابل منكسين ، وابتليا بالنطق بعلم السحر فصار يقصدهما من يطلب ذلك ، فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك . وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قصّ اللهُ عنهما ، والله أعلم )) اهـ . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 187 ) : (( فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا فيكون تخصيصاً لهما ،  فلا تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق )) اهـ . ].
_ حملهم العرش :
     قال الله تعالى : (( الذين يَحْمِلون العَرْشَ ومَن حَوْله )) [ غافر : 7] .
     وهؤلاء الملائكة الأطهار المذكورون في الآية هم حملة العرش ، ومن حول العرش . يقومون بهذه الوظيفة الجليلة، ويسبحون بحمد ربهم تعالى، ويؤمنون به . فهم عباد ملتزمون بالطاعة المطلقة، لا يحيدون عن الأوامر الإلهية . والعرشُ هو (( جِسْم مُجَسم خلقه اللهُ _عز وجل _ وأمرَ ملائكة بحمله ، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به ، كما خلق في الأرض بيتاً ، وأمر بني آدم بالطواف به ، واستقباله في الصلاة )).
[تفسير القرطبي ( 15/ 258 ) .].
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 686 ) : (( والمراد بمن حول العرش : هم الملائكة الذين يطوفون به مُهللين مكبرين )) اهـ .
     وعن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أُذِنَ لي أن أُحدث عن مَلَك من ملائكة الله من حملة العرش ، إن ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام )).
[رواه أبو داود في سُننه ( 2/ 645 ) برقم ( 4727 ).وصحّحه الحافظ في الفتح ( 8/ 665 ).].
     وهذا يدل على عظمة ملائكة الله تعالى عموماً ، وحملة العرش خصوصاً ، والذين هم العباد الكرام المقرّبون . وهذه المسيرة العظيمة بين شحمة أُذنه إلى عاتقه ليست من الخيال العلمي ، فاللهُ تعالى الذين يمسك السماءَ أن تقع على الأرض لن يعجزه أن يصنع مخلوقاً بهذه العَظَمَة .
     وقال الله تعالى : (( ويَحْمِل عَرْشَ ربكَ فَوْقهم يومئذ ثمانيةٌ )) [ الحاقة : 17] .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 532 ) : (( أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة . ويُحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العظيم ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء ، والله أعلم بالصواب )).
[بعض الجهال والعوام يعتقدون أن الله تعالى جالس على العرش ، والملائكة يحملون العرشَ الذي فوقه الله تعالى . وهذه العقيدة الباطلة قد نتجت من عقائد التشبيه والتجسيم . فالواجب اعتقاده أن الله تعالى مستوٍ على عرشه كما ذَكَر لا كما يخطر للبشر. فعلى الإنسان أن يؤمن بلا تشبيه ، ويُصدِّق بلا تمثيل ، ويمسك عن الخوض فيما لا علم له به . قال الإمام الغزالي في قواعد العقائد في التوحيد ( ص 9 ) : (( وأنه مستوٍ على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواءً مُنَزّهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال . لا يحمله العرش ، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته. وهو فوق العرش والسماء ، وفوق كل شيء ... فوقيةً لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعداً عن الأرض والثرى )) اهـ . قلتُ : إن الله تعالى مُنَزّه عن الحلول في الأشياء ، فلا مكان يحتويه ، ولا زمان يَحُده ، لأنه _ سبحانه _ خالق الزمان والمكان . وكان الله موجوداً قبل العرشِ والزمانِ والمكانِ وكلِّ المخلوقات ، ولا شيء معه .].
_ إغاثتهم المؤمنين :
     فالملائكةُ _ عليهم السلام _ يُغيثون المؤمنين ، ويساعدونهم في السراء والضراء بأمر الله تعالى. ولا يتركونهم في الشدائد يواجهون الأعداءَ وحيدين.فاللهُ ينصر عباده بأن يمدهم بالملائكة ناصرين. وهذا يبعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين ، ويجعلهم يؤمنون بأنهم ليسوا وحدهم في أرض المعركة .
     قال الله تعالى : (( إذ تقول للمؤمنين أَلَن يَكْفِيَكم أن يُمِدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزَلين )) [ آل عمران : 124] .
     وهذه الآية تشير إلى العون الإلهي عبر الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة مُنْزَلين لمساعدة المؤمنين في حربهم ضد المشركين . واخْتُلِف هل كان ذلك يوم بَدْر أم يوم أُحُد .
     قال الطبري في تفسيره( 3/ 421 ) : (( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنْزَلين ؟ . وذلك يوم بدر )) .
     وعن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بَدْر أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين ، فأنزل الله تعالى : (( أَلَن يَكْفِيَكم أن يُمِدكم ربكم بثلاثة آلاف )) الآية.
[ذكره الحافظ في الفتح ( 7/ 285) وقال : رواه ابن أبي حاتم بسند صحيح .].  
     إن الله تعالى لا يتخلى عن عباده المؤمنين ، فهو يمدهم بالنصر والتأييد والتمكين . ومهما جمع الأعداءُ من عدد وعتاد ، فعلى المؤمن أن يظل دائمَ الصلة بخالقه تعالى ، واثقاً به ، ومؤمناً بأنه _ سبحانه _ لا يتخلى عن عباده الصادقين .
     وقال الله تعالى: (( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني مُمِدكم بألفٍ من الملائكة مُرْدِفِين )) [ الأنفال : 9] .
     فالمؤمنون الذين كانوا _ يوم بدر _ يستغيثون اللهَ تعالى ، ويدعونه طالبين العون والنصر ، قد استجاب اللهُ لهم ، فأيّدهم بألف من الملائكة متتابعين، يردف بعضُهم بعضاً ( يتبع بعضُهم بعضاً ) . وكل ذلك لطمأنة المؤمنين ، وبث فيهم روح القتال ، والإرادة غير القابلة للانكسار .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1383 ) : عن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قال : لما كان يوم بدر ، نظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القِبْلةَ  ،  ثم مَد يديه ،  فجعل يهتف بربه  :  (( اللهم أَنجِزْ لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض )) . فما زال يهتف بربه ماداً يديه ، مُسْتَقْبِلَ القِبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبَيْه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه . وقال : يا نبي الله ، كذاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله _ عز وجل _ : [ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني مُمِدكم بألفٍ من الملائكة مُرْدِفِين ] ، فأمده اللهُ بالملائكة .
     وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 85) : (( قال العلماء : هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه ، مع أن الدعاء عبادة ، وقد كان وعده اللهُ تعالى إحدى الطائفتين ، إما العير وإما الجيش ، وكانت العير قد ذهبت وفاتت، فكان على ثقة من حصول الأخرى ،  لكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه  ،  من غير أذى يلحق المسلمين )) اهـ .
     وهكذا نرى أن وعد الله تعالى لا يتخلف ، كما أنه _ سبحانه _ لا يخذل أنبياءه وأتباعهم ، وإنما يؤيدهم بنصره ، ولا يجعلهم فريسةً لأعداء الحق يسومونهم سوءَ العذاب . والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم المخلوقات بالخالق تعالى ، وواثقٌ به ثقة مبصرة ومطلقة ، لكنه كان يدعو بإلحاح وذل واستكانة ، لأن حال العبد مع خالقه ينبغي أن تكون وفق هذا الشكل. كما أن دور أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ يشير إلى ثقته بربه ، وسعة علمه ، ودرايته بالأمور ، وإشفاقه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو حال المساعِد المخلِص ، والصحابي المقرّب .  
     وقال الله تعالى : [ إذ يوحي ربكَ إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعْبَ فاضْرِبوا فَوْق الأعناق واضْرِبوا مِنهم كل بَنان ] [ الأنفال : 12] .
     فالأمر الإلهي جاء للملائكة _ يوم بدر _ بأن يثبتوا المؤمنين على القتال ، ويكثروا سوادَهم ، ويشدوا من عزيمتهم . واللهُ تعالى سيلقي الخوفَ والتردد والارتباك في قلوب الكافرين ، فتنهار معنوياتهم ، وتتساقط عزيمتهم . وقد أمر اللهُ تعالى الملائكةَ أن يضربوا على أعناق الكافرين وعلى أطرافِ الأصابع، حتى تسقط السيوفُ . فالمقاتِل إذا خسر أصابعَه توقف عن القتال وخسر حياته ، إما قتلاً أو أَسْراً . فالأطراف هي العنصر الأساسي في الأداء القتالي في كل المعارك ، فإذا زالت زال خطر العدو ، وانكسر جيشُه.وعن أبي أيوب الأنصاري_رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : (( إني أُخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قبل هذا العير ؟ ، لعل الله يغنمناها )) ، فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوماً أو يومين قال لنا : (( ما ترون في القوم فإنهم قد أُخبروا بمخرجكم ؟ )) ، فقلنا : لا والله ، ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكن أردنا العير . ثم قال : (( ما ترون في قتال القوم ؟ )) ، فقلنا مثل ذلك . فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : [ فاذهبْ أنتَ وربكَ فقاتلا إنا هَهُنا قاعدون ] [ المائدة : 24] . قال : فتمنيْنا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد ، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ... ثم أنزل الله _ عز وجل _ : [ أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعْبَ فاضْرِبوا فَوْق الأعناق واضْرِبوا مِنهم كل بَنان ].
[رواه الطبراني( 4/ 174 )برقم( 4056 ).وحسّنه الهيثمي في المجمع( 6/ 94 ) برقم ( 9950).].
     وهكذا نرى إرادةَ الصحابة _ رضي الله عنهم _ الخاضعة لإرادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا تلين ولا تنكسر أمام المغريات المادية . وقد تدارك الأنصارُ أمرَهم حينما سمعوا الردّ الباهر من المقداد ، حيث أعلن عدم التخلي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومساندته حتى اللحظة الأخيرة ، دون تخاذل أو فرار . لذلك فإن هذا الجيل استحق النصرَ الإلهي ، والتأييد الرباني بإرسال الملائكة ، وأمرهم بتثبيت المؤمنين على الحق والجهاد. وعند الشدائد يظهر معدنُ الرجال الحقيقي ، لأن الأزمات هي الحاكمة على مستوى إخلاص الأفراد والجماعات .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1383 ) : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : بينما رَجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ... فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً ، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه ، وشق وجهه كضربة السوط ... فجاء الأنصاري ، فحدث بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( صدقتَ ، ذلك مَدَد السماء الثالثة )).
     ومن خلال هذا الحديث تتجلى بعضُ تفاصيل قتال الملائكة مع المؤمنين ، وتأثيرهم البالغ في سير المعركة عبر استئصالهم لشوكة الكافرين . فهذا المشركُ الذي سقط صريعاً قد خطم أنفه ، أي صارت علامة على أنفه إذلالاً له ، ووجهُه قد شُق كضربة السوط ، لكي يذوق جزاء أعماله الشريرة .
     ولم يسقط المشرك صريعاً فحسب ، بل صارت هناك علامة على أنفه لكي يموت ذليلاً كسيراً. فالأنفُ عند العرب هو رمز الشموخ ، وحدوث علامة عليه يُعتبر إهانةً عظيمة للشخص . وهذا المشرك قد مات مُهاناً بسبب العقيدة الباطلة التي يعتنقها .
     وعن الربيع بن أنس _ رضي الله عنه _ قال : (( كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة  _عليهم السلام_ ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان، مثل سمة النار قد أُحرق به)).
[الدر المنثور للسيوطي ( 4/ 35 ) . وانظر تفسير ابن كثير ( 2/ 386 ) ، وفتح الباري لابن حجر ( 7/ 312 ) .].
     إن المؤمنين الصادقين الذين يدافعون عن شرف الدعوة الإسلامية، والمنجزاتِ الحضارية المنبثقة عن عقيدتهم ، لا بد أن ينصرهم اللهُ تعالى ، ويثبِّتهم في المواطن الشديدة ، لأنه _ سبحانه _ لا يترك حملةَ دعوته المخلِصين ، ولا يترك رسالته تضيع بفعل جحود الكافرين وشدةِ بأسهم . فالنصرُ قادم لا محالة في الوقت الذي يختاره اللهُ تعالى . [ وكان حَقاً عَلَيْنا نَصْرُ المؤمنين ] [ الروم :47].
_ ملائكة العذاب :
     قال الله تعالى : (( وما جَعَلْنا أصحابَ النار إلا ملائكة ))[ المدثر : 31] .
     إن خزنة النار هم ملائكة كِرام شديدو البأس ، مختصون بعذاب المستحقين له ، لا يمكن الإفلات منهم . وهم ينفذون الأوامرَ الإلهية كما هي . فيُعاقِبون من غضب اللهُ عليه . فالذي قضى حياته مستهزئاً بخالقه تعالى وشريعته ، وسائراً ضد طريق الأنبياء ، لا بد أن يدفع ثمنَ كُفره .
     وفي تفسير القرطبي ( 19/ 74 ) : (( أي لم نجعلهم رجالاً فتتعاطون مغالبتهم. وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذّبين من الجن والإنس  ،  فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم . ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ، ولأنهم أشد خلق الله بأساً ، وأقواهم بطشاً )) اهـ .
     فملائكةُ العذاب_ عليهم السلام _ لا يمكن مقاومتهم أو التغلب عليهم أو طلب منهم الرحمة والعطف وتخفيف العذاب ، لأنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً . فهم ينفِّذون الإرادةَ الإلهية كاملةً غير منقوصة دون نقاش أو استدراك .
     وفي سيرة ابن هشام ( 2/ 155 ) : (( فقال أبو جهل يوماً وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق : يا معشر قريش ، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عدداً وكثرة ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم ؟ . فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله :[ وما جَعَلْنا أصحابَ النار إلا ملائكة وما جَعَلْنا عِدتهم إلا فِتْنةً للذين كفروا ] )).
[انظر تفسير الطبري ( 12/ 312 ) ، وتفسير ابن كثير ( 4/ 571 ) ، ولباب النقول للسيوطي ( 1/ 223) ، والموافقات للشاطبي ( 3/ 385 ) .].  
     إن الكافرين في كل زمان ومكان لا يقدرون على مواجهة الحُجة بالحجة ، وتقديمِ البراهين الساطعة ، لذلك نراهم يختبئون وراء الاستهزاء والسخرية ، لكي يخدعوا أنفسَهم بأنهم في موقف القوة والانتصار . كما أن سخريتهم مستندة إلى جهلهم المفرط وعنادهم الشديد .
     فأبو جهل _ لعنه اللهُ _ كان يعتقد بسخرية وجهل أن خزنة النار هم رجال عاديون يمكن مقاومتهم بمزيد من العُدة والعتاد والقوة الجسمانية. فالمسألة بالنسبة إليه: غالب ومغلوب ، ومعركة بين رجال أقوياء . لكن اللهَ تعالى فضح جهلَ ذلك المغرور وسخريته بأن ذكر أن خزنة النار هم ملائكة لا طاقة لبني البشر بمقاومتهم ، أو التغلب عليهم .
_ ملائكة الرحمة :
     قال الله تعالى : (( جَناتُ عَدْنٍ يدخلونها ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذُرياتهم والملائكةُ يَدْخلون عليهم مِن كل باب (23) سلامٌ عليكم بما صَبَرْتُم )) [ سورة الرعد ] .
     وهؤلاء ملائكة الرحمة الذين يدخلون على المؤمنين من أبواب الجنة للسلام عليهم وتهنئتهم بنيل رضوان الله تعالى وجنته الخالدة ، فيبعثون في نفوس المؤمنين الراحة والسعادة بما كتبه اللهُ لهم من النعيم السرمدي الذي لا ينقطع . وهذه الجائزةُ العظمى تجعل المؤمنين ينسون كل أصناف العذاب التي يكابدونها في الحياة الدنيا فتزداد ثقتهم بالخالق تعالى الذي لا يُخلِف وعدَه ، ويزداد إصرارهم على التمسك بالحق والسير في طريق الدعوة حتى آخر العمر رغم كل العوائق .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 671 ) : (( وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلِّمين مهنِّئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام )) اهـ .
     وعن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :  (( هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ )) ، قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء والمهاجرون الذين تُسد بهم الثغور ، ويُتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله _ عز وجل _ لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك ، وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتيَ هؤلاء فنسلم عليهم ؟، قال : إنهم كانوا عباداً يعبدوني لا يشركون بي شيئاً ، وتُسد بهم الثغور ، ويُتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء )).
[رواه أحمد في مسنده ( 2/ 168 ) برقم ( 6570 ) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 10/ 455) : ورجاله ثقات .  اهـ . وصحّحه ابن حبان ( 16/ 438 ) برقم ( 7421 ) . ].
     وعندئذ تأتي الملائكةُ _ عليهم السلام _ للمؤمنين (( يَدْخلون عليهم مِن كل باب )) ، ويقومون بالسلام عليهم وتهنئتهم بفوزهم برضا الله وجنته . فقدومُ الملائكة _ عليهم السلام _ لتهنئة الفقراء والمهاجرين الذين فازوا بالجنة بعد معاناتهم الطويلة ، يشير إلى عظمة العطاء الرباني غير المحدود ، وأن اللهَ تعالى لا ينسى معاناة المؤمنين في الدنيا ، بل يُعوضهم خيراً لصبرهم .
9_ النفخ في الصور :
     قال الله تعالى : (( ونُفِخ في الصور فصَعِقَ مَن في السماوات ومَن في الأرض إلا مَن شاء اللهُ ثم نُفِخَ فيه أُخرى فإذا هم قِيامٌ يَنظرون )) [ الزمر : 68] .
     قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 14/ 66 ) : (( _ الصور _ هو قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل   _ عليه السلام _ بأمر الله ، والمراد بالنفخة هنا " نفخة الصعق " التي تكون بعد نفخة الفزع ، ... فخرّ ميتاً كل من في السماوات والأرض ... إلا من شاء اللهُ بقاءه كحملة العرش ، والحور العين والولدان ... _ ثم _ نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخة الإحياء ... فإذا جميع الخلائق الأموات يقومون من القبور ينظرون ماذا يؤمرون )) اهـ .
     فالْمَلَك إسرافيل _ عليه السلام _ هو صاحب الصور ، ينفِّذ الأمرَ الإلهي بالنفخ في الوقت الذي يحدِّده اللهُ تعالى . وهذا الأمرُ من علم الغيب المخفي على الإنسان لكي يظل دائمَ الحذر والاستعداد . فهناك أهوال بالغة الشدة ، وعلى الفرد المهتم بمصيره بعد الموت أن يستعد لتجاوز هذه الأهوال ، والنجاح في الاختبارات المتوالية . وهذا لا يتأتى إلا بعد إتقان العمل في الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة .
     قال الحافظ في الفتح ( 11/ 368 ): (( اشْتُهِر أن صاحب الصور إسرافيل _عليه السلام _، ونقل فيه الحليمي الإجماع )) اهـ .
     أما " الصور " فهو قرنٌ عظيم ينفخ فيه الْمَلَكُ بأمر الله تعالى . فعن عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما الصور ؟ ، قال : (( قرنٌ يُنفخ فيه )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 550 ) برقم ( 3870 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . وصحّحه ابن حبان ( 16/ 303 ) برقم ( 7312 ) .
وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 368 ) : (( والصور إنما هو قرنٌ _ كما جاء في الأحاديث المرفوعة _. وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق والقرن في الآلة التي يستعملها اليهود للأذان. ويقال إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن، وشاهده قول الشاعر :  
نحن نفخناهم غداة النقعـــين
نطحاً شديداً  لا كنطح الصورين )) اهـ .].
     وذهب قِسْمٌ من العلماء إلى وجود ثلاث نفخات : نفخة الفزع ( حيث تفزع الخلائق وتخاف وتضطرب ويتغير مجرى الحياة )، ونفخة الصعق ( حيث تموت الخلائق إلا من استثناهم اللهُ تعالى )، ونفخة البعث ( حيث تقوم الخلائق من قبورها وتُبعَث من أجل الحساب ) .
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 221) : (( وقيل : إنها نفختان ، وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق أو إلى نفخة البعث ، واختار هذا القشيري والقرطبي وغيرهما )) .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( بَيْن النفختين أربعون )).
[متفق عليه. البخاري ( 4/ 1813) برقم ( 4536) ، ومسلم ( 4/ 2270 ) برقم ( 2955).].
     وهذا الحديث يشير إلى وجود نفختَيْن لا ثلاث نفخات .
     والأربعون لم يتم تحديدها بالسنوات أو الأشهر أو الأيام ... لعدم علم أبي هريرة _ رضي الله عنها _ بها . (( ويُحتمل أيضاً أن يكون عَلِمَ ذلك ، لكن سكت ليخبرهم في وقت أو اشتغل عن الإعلام حينئذ )) .
[ذكره الحافظ في الفتح ( 8/ 552 ) نقلاً عن ابن التين .].
     وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( يقوم الْمَلَكُ بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه ، والصورُ قرنٌ ، فلا يبقى خلقٌ في السماوات والأرض إلا مات ، إلا من شاء ربك ، ثم يكون بين النفختين ما شاء اللهُ أن يكون )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 541 ) برقم ( 8519 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .] .
     وهذا الحديث يشير إلى الأهوال القادمة ، كما يدل _ أيضاً _ على وجود نفختَيْن لا ثلاث .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته يَسمع متى يُؤمر ، فيَنفخ )) ، فقال أصحاب محمد : كيف نقول ، قال : (( قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا )).
[رواه أحمد في مسنده ( 1/ 326 ) برقم ( 3010) ، والترمذي في سُننه ( 5/ 372 ) برقم    ( 3243 ) وحسَّنه . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 565 ) : (( وهو حديث جيّد )) .].
     فلا مفر من الاستعداد لمواجهة هذا الخطب الجليل عبر الإخلاص لله تعالى في أداء العبادات على أكمل صورة . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن )) ، وهو المغفور له ما تقدّم من ذَنْبه وما تأخّر . فما بالك بالناس الذين لا يعلمون هل مصيرهم الجنة أم النار ؟! . وهذا يشير إلى عِظَم الخطب ، وشدة الأمر . وهنا تتجلى أهمية الاستعداد لتلك اللحظة كي ينجوَ المرءُ من هذا الكرب العظيم .
     وقد جاء الإرشادُ النبوي للصحابة _ رضي الله عنهم _ أن يتوجّهوا لخالقهم ، ويلهجون بذكر الله تعالى ، ويتوكلون عليه. فلا أحد يقدر على كشف الغمة ، وإزالةِ الخوف والاضطراب ، وإزاحةِ الكربات سوى الخالق تعالى .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن طَرْفَ صاحب الصور مُذْ وُكل به مستعد ينظر نحو العرش ، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طَرْفه ، كأن عينيه كوكبان دُريان )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 603 ) برقم ( 8676 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . وحسّنه الحافظ في الفتح ( 11/ 368 ) .].
     وها هو إسرافيل صاحب الصور على أهبة الاستعداد لكي ينفِّذ أمرَ الله تعالى في التو واللحظة دون تأخير أو نقاش . فحري بالبشر أن يكونوا مستعدين بشكل كامل لأن الأمر يتعلق بمصيرهم  ( النعيم الأبدي أو العذاب الأبدي ) .
     والأنبياء والملائكة لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون ، ومصيرهم معلوم وهو العيش في رحمة الله تعالى ونعيمه السرمدي دون أن يُمَسوا بأي أذى أو عذاب .
     إذن ، الأمر يتعلق بالإنس والجن الذين لا هم من الأنبياء ولا الملائكة. ومصيرهم غير مضمون البتة ، فهم لم يحصلوا على بلاغ إلهي يذكر أنهم من أهل الجنة . فينبغي أن يكونوا شديدي الحذر ، ويأتوا يومَ القيامة بأعمال الخير ، متوكِّلين على الله تعالى لكي ينالوا الخلاصَ الأبدي ( الجنّة ) ،
وغير ذلك فإن الضياع السرمدي في الانتظار ، يومَ لا ينفع الندم ، ولا توجد فرصة للتعويض .
_ مَن ورد اسمه منهم :
     قال الله تعالى: (( مَن كان عَدُواً للهِ وملائكتِه ورُسُلِه وجِبْريلَ ومِيكالَ فإن الله عدو للكافرين )) [ البقرة : 98] .
     إن الْمَلَك جبريل _عليه السلام _ هو أعظم الملائكة على الإطلاق .
     فعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ له ستمائة جناح.
[متفق عليه. البخاري ( 3/ 1181 ) برقم ( 3060 )، ومسلم ( 1/ 158 ) برقم ( 174 )].
     وهذا الحديث يشير إلى عظمة هذا الْمَلَك وقوته الكبيرة التي لا يمكن للعقل البشري أن يجسِّدها أو يتصوّرها ، لأنها فوق قدرته على التحمل أو التخيّل . فالملائكة أعظم مخلوقات الله تعالى من ناحية القوة الجسمانية التي لا تنهار مطلقاً ، ولا يعتريها التعب والإرهاق ، ولا تُصاب بالملل . فهم كائنات مخلوقة من النور ، أي إنهم يتميزون عن البشر المخلوقين من التراب ، والجن المخلوقين من النار .
     وقد ورد في صحيح البخاري ( 3/ 1181 ) : عن عائشة _ رضي الله عنه _ أن جبريل جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صورته الحقيقية فَسَد الأفقَ .
     وجبريلُ _ عليه السلام _ هو رُوح القُدُس الأمين المختص بالنزول على الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ لإخبارهم بالوحي ، فهو أمين الوحي.
     فقد قال الله تعالى : (( نَزَلَ به الروحُ الأمين )) [ الشعراء : 193] .
     وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 384 ) : (( فإن المراد به جبريل اتفاقاً )) اهـ .
     والْمَلَك ميكال ( ميكائيل ) _ عليه السلام _ يأتي في المنزلة بعد جبريل _ عليه السلام _ ، وهو مَلَكٌ كريم عظيم الشأن .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 1802 ): عن سعد بن أبي وقاص _ رضي الله عنه_ قال : (( رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أُحُد رَجُلَيْن، عليهما ثياب بياض ، ما رأيتهما قبل ولا بعد )) . يعني جبريل وميكائيل _ عليهما السلام _ .
[قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 15/ 66 ) : ((وفيه فضيلة الثياب البيض وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء ، بل يراهم الصحابة والأولياء . وفيه منقبة لسعد بن أبي وقاص الذي رأى الملائكة ، والله أعلم )) . ].
     وقال الله تعالى : (( ونَادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا ربكَ )) [ الزخرف : 77] .
     والْمَلَك ( مَالِك ) _ عليه السلام _ هو خازن النار . وهؤلاء الذي يُنَادُون هم الكفار الذين يتمنون الموتَ لكي يستريحوا من العذاب الأبدي .
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1182 ) : عن سمرة _ رضي الله عنه _ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( رأيتُ الليلة رَجُلَيْن أتياني، قالا : الذي يوقد النار مَالِك خازنُ النار ، وأنا جبريل ، وهذا ميكائيل )) .