وُلد الفيلسوف
الألماني إيمانويل كانت ( 1724 _ 1804 ) في مدينة كونجسبرغ بألمانيا ( بروسيا
آنذاك ) . كان والده يَعمل في صناعة سُروج الخيل ، وأُمُّه شديدة التدين .
التحقَ
بمعهد فريدريش التعليمي خلال الفترة ( 1732 _ 1740 ) ، ثم بجامعة كونجسبرغ عام
1740 حيث تخرَّجَ . لَم يُسافر في حياته كُلها قَط . عاش حياته كُلها دون أن يرى
جبلاً أو بحرًا ، معَ أن بحر البلطيق كان على مسافة
ساعة فقط من مدينته. ويعتقد البعض أن هذه الأوصاف والعادات ذات صلة بمرض
التَّوَحُّد .
كان كانت في شبابه طالبًا قويًّا في دراسته
، ضعيفًا في بُنيته . تربى في بيت أهله مُتديِّنون بشدة. وتربَّى تربيةً دينية
متشددة ، وعلى التفاني والإخلاص في خدمة الدِّين، وعلى التواضع مع الناس . وقد نشأ
على التفسير الحرفي "للكتاب المقدَّس". اضْطُر كانت إلى العمل مُربيًّا
لبعض الأسر الثرية ، ثم صار مُدَرِّسًا غير رسمي بجامعة كونجسبرغ في مجال القانون
الطبيعي والأخلاق واللاهوت الطبيعي، ثم بعد ذلك في علم الإنسان والجغرافيا
الطبيعية .
لَم يُفلِح في أن يكون أستاذًا رسميًّا لعدم
اتصاله بأصحاب النُّفوذ السُّلطوي، لكنه سُرعان ما تولى كرسي المنطق والميتافيزيقا
عام 1770 ، ثم صار عُضْوًا في الأكاديمية الملكية للعلوم ببرلين عام 1787 . وهكذا
أصبح أستاذًا في جامعة كونجسبرغ ابتداء من عام 1770، فمديرًا للجامعة، فعميدًا
للكلية خمس مرات .
طرحت فلسفة كانت أربعة أسئلة أساسية وحاولت
الإجابة عنها، وأول هذه الأسئلة هو: ما الذي أستطيع أن أعرفه ؟ . وهو سؤال المعرفة
الذي لا ينفصل عند كانت عن بيان شروط إمكان المعرفة وبيان حدودها .
فأمَّا شروط إمكان المعرفة ففيها ما هو
قَبْلي مُسبق ، لا تتم المعرفة إلا بوجوده ، والقبلي منها هو : الإطاران (الزمان
والمكان) ، والمقولات العقلية ، ومبادئ العقل البشري . كل هذه تسبق المعرفة
لتجعلها مُمكنة .
تتمثل الشروط البَعْدية في المعطيات التي
تُزوِّد بها الإنسانَ حواسُّه (المعطيات الاختبارية). فعنده أن لا معرفة حِسية
تكون خالصة (عكس النَّزعة الحسية)، ولا معرفة عقلية تكون بحتة (عكس النَّزعة
العقلية ) ، وإنما المعرفة هي ما شاركَ في إنشائه الحِس والعقل معًا .
أمَّا عن حدود المعرفة عند كانت ،
فهي أن المعرفة البشرية تجد نفسها محدودة بِحَدَّيْن: داخلي وخارجي . أمَّا
الحد الداخلي فيتعلق بأن الإنسان لا يَعلم مِن الأشياء إلا ظواهرها، بِحُكم أنه
يرفد هذه المعرفة _ شاء أم أبى _ بما عنده من سوابق معرفية ، فلا يُدرك الظواهر في
ذاتها ، وإنما يُدركها بحسَب ما تظهر به لذاته . الحد الثاني خارجي، ويتمثل في أن
الإنسان لا يستطيع أن يُدرك بالعقل الحقائق الميتافيزيقية (الغيبية ) : الله
والعالَم والحرية ، وإنما هذه تُدرَك بالعمل ( الإيمان ) . السؤال الثاني مِن
أسئلة كانت هو : ما الذي يجب عليَّ أن أفعله ؟. ويتعلق هذا السؤال بمسألة العمل
الأخلاقي. والذي عند كانت أنه إذا كان العقل النظري الخالص لا يُسعِف الإنسان في
إدراك مبادئ الحياة العملية الأخلاقية ، فإن له عقلاً عمليًّا خاصًّا بذلك ، وِمن
شأنه أن يكتشف في أعماق ذاته "آمِرًا قطعيًّا" أخلاقيًّا يدعوه إلى
الالتزام بالمبادئ الْخُلُقية، مثل مخاطبة ضمير الإنسان لصاحبه : " لا تقتل !
" . السؤال الثالث عند كانت هو : ما الذي يمكنني أن آمَلَه ؟ . ويتعلق هذا
السؤال بالمسألة الدينية ، أي : هل مِن أمل أرجوه إذا أنا فعلتُ ما ينبغي عليَّ
فِعله أخلاقيًّا ؟ . يرى كانت أن لا سبيل للعقل لإثبات الحقائق الغيبية ( الله ،
العالَم ، ... ) ، وإنما يمكن للعقل فَحَسْب أن يتفهم ما يدعو إليه الدين، لكنه
ليس "الدين المزيَّف" القائم على عبادة الله عبادة منفعة وإنما
"الدين الأخلاقي" القائم على عبادة الله عبادة محبة . مع العلم بأن كانت
هو أول فيلسوف غربي يجعل الأخلاق أساس الدِّين ، وليس الدين أساس الأخلاق .
السؤال الرابع من أسئلة كانت هو : مَن هو
الإنسان ؟ . هذا هو سؤال " الأنثربولوجيا الفلسفية " . والذي يقوله كانت
هو : إن الإنسان " كائن مُتناهٍ هشٌّ" مقارنة بالخالق، لأن الإنسان له
المقدرة على تصوُّر أمور ، لكنه لا يستطيع تحقيقها .
أُطْلِقَت على فلسفة كانت أسماء عِدَّة
(المثالية الذاتية ، المثالية النقدية ، .. إلخ ) ، لكن الاسم الذي ارتضاه لها
صاحبها هو " الفلسفة الترنسندنتالية "، أي تلك الفلسفة التي تبحث في
"الشروط القَبْلِيَّة" للمعرفة البشرية. فلا تهتم بالمعارف ذاتها ،
وإنما بطريقة معرفة الإنسان بها ، أي بشروط التجربة ، وما يَسبق التجربة منطقيًّا
مِن مُقتضيات تجعلها مُمكنة .
يُعتبَر كانت أحد أبرز الفلاسفة الألمان
الْمُحْدَثين ، ومِن أعظم فلاسفة عصر التنوير الأوروبي، كما يُعَدُّ مِن أكبر
الفلاسفة تأثيرًا في الفلسفة الغربية الحديثة .
مِن أبرز مؤلفاته : نقد العقل الخالص ( 1781 ) . نقد العقل العملي ( 1788 ) . نقد القُدرة على التحكيم ( 1790 ) . الدين ضمن نطاق العقل فقط ( 1793 ) .