وُلِد
الروائي الفرنسي أونوريه دي بَلزاك ( 1799_ 1850) في مدينة تور الفرنسية . كان
والده كاتب ضبط عدليًّا على قَدْر مِن الثقافة والتنوير ، أمَّا أُمُّه فكانت
امرأة فظة جافة عُرِفَت ببرود علاقتها مع أبنائها .
في عام 1813، اضْطُرَّ بلزاك لقطع دراسته
مُؤقتًا نتيجة مصاعب عقلية ، إلا أنه استكملها بعد أن رَجع إلى طَوْره عام 1816،
وظهرت تباشير موهبته الأدبية مُبَكِّرًا . ومع مطلع عام 1832،
ظهرت المجموعة الأولى من سلسلة "قصص فكاهة" وأتبعها بالجزء الثاني(1833)
، ثم برائعته
"أوجيني جرانديه" التي بلغ بها أوج شهرته ، وهذا ما سمح له بنشر أعمال
أخرى .
تناول بلزاك في رواياته جميع الأفكار
والمذاهب الأدبية. ففي الرواية الفلسفية، ألَّف" التحفة المجهولة " ،
وفي الرواية الخيالية ، ألَّف " الجِلد المسحور " . وفي الرواية الشعرية
، ألَّف " الزنبق في الوادي " . وفي الرواية الواقعية ، ألَّف "
الأب غوريو " . ويُعتبر مع فلوبير ،
من أهم مُؤسِّسي الواقعية في الأدب الأوروبي .
وقد كان بلزاك من مُدمني العمل الأدبي،
مِمَّا أثَّر على وضعه الصحي ( تُوُفِّيَ
في سن مُبكِّرة عن عمر ناهز الحادية والخمسين ) . حاول خلال عُمره القصير أن يجمع
المال ويبنيَ القصور، لكن كُل تجاراته كسدت ، وكل مشاريعه أفلست ، فحاصرته الأزمات
المالية . وحِين جَرَّبَ حظه مع الأدب لَم يفكر أنه سيصبح أديبًا عالميًّا خالدًا،
وإنما كان مُبتغاه أن يستميل قلوب النساء المتأدِّبات الناضجات اللواتي كان شغوفًا
بهن ، لكن الحب أيضًا ظَلَّ كالمال، يتأبى عليه ، ويبتعد عنه .
لقد عانى في حياته مِن الديون التي أثقلت
كاهله بسبب الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر التي غامرَ بالقيام بها ، وقضى عُمره
فَارًّا مِن دائنيه مُختفيًا ومُتَقَمِّصًا أسماء وهمية ، وعاشَ في منازل مختلفة .
كما عاش مع العديد من النساء قبل أن يتزوج في 1850 من الكونتيسة " هانسكا
" التي ظَل يَتودَّد إلَيها لأكثر من سبعة عشر عامًا .
كانت حياة بلزاك _ بحد ذاتها _ لُغزًا
عجيبًا ، فقد كَتب مئات الكتب في حياة قصيرة وقَلِقة. وأيضًا ، كيف استطاعَ الجمع
بين الإسهاب والإجادة في بعض أعماله ؟ . إن هذا الأمر يكشف حقيقة هذا الرَّجل
وعبقريته . وبشكل عام ، إن حياة المبدِع الخاصة وتجربته في الحياة ، هي التي
تتحدَّث على لسانه ، وتُعبِّر عن نفسها مِن خلاله .وإن بلزاك_الذي تربَّى في كنف
كاتب عدلي _، كانت الأوراق والأقلام هي كل حياته ، أو بالأحرى أسلحته لِمُقارَعة
الحياة . لذلك كان يكتب ثماني عشرة ساعة يوميًّا ،
كما أن طفولته المعذَّبة بعض الشيء ساهمت في تفريغ مشاعره وأحاسيسه على الورق ،
والتعبير عن ذاته بوضوح وصِدق .
كانت بدايات بلزاك مِثل الكثير مِن مُعاصريه
، مليئة بالغثاثة والارتباك السردي . وكانت قصصه ورواياته تُعاني الكثير مِن
العُيوب ، مِثل: ازدحام حشد غير معقول من الشخصيات الثانوية التي تصعب السيطرة على
تنظيم أدوارها وأصواتها في حوارات قصة واحدة ، مِن كاهن مُتحذلِق لا ينطق إلا
بالحِكَم والأمثال ، إلى خادمة جوفاء لا تعرف أن تكتم سِرًّا ، ولا يهدأ لها لسان
، وغيرهما من شخوص يُشكِّلون عبئًا حقيقيًّا على الكثير من قصصه، وينخرون بُنيتها
من الداخل، وهو ما تنجم عنه قصة أو رواية غَثَّة ، وحبكة مهزوزة غير متوازنة في
نهاية التحليل .
وبفضل تجربته المكثَّفة والمتواصلة في
الكتابة ، اهتدى بلزاك في أعماله المتأخرة إلى تجاوز الكثير من هذه النقائص
السردية ، وقَدَّم روايات أطول وأكثر انسجامًا وتماسكًا ، وهنا ظهرت عبقريته
وقدرته على تأسيس بدايات الرواية الحديثة مع رؤية واقعية هي التي سيشتهر بها
لاحقًا . وهي التي يعود لها الفضل في ترسيخ اسم بلزاك في تاريخ الأدب الروائي .
وأهم ما يميِّز هذه الواقعية هو القدرة على
التقاط مشاهد الحياة العادية، وتحويلها الى أيقونات متناسقة لرؤية مُوحَّدة
للحياة، مع تركيز خاص على القضايا الأخلاقية العاصفة التي كانت تهز المجتمع
الفرنسي المفجوع بإخفاقات الثورة التي تحوَّلت من حلم للملايين، إلى وحش هائج يأكل
أبناءه، رغم الشعارات البَرَّاقة التي حملتها في البَدء، فكان بلزاك بذلك شاهدًا
على عصر التحولات بين أحلام القرن الثامن عشر وكوابيس التاسع عشر، ورومانسيته
أيضًا .
وفي واقع الأمر ، إِن تصنيف أدب بلزاك
الروائي يَحوي في حد ذاته أكثر مِن مخاطرة ، فنظرًا لكثرة وتنوُّع ما كتب من قصص ،
نجد البعض يصفه كأب للواقعية ، أو للرواية البوليسية ، أو للرواية الجديدة ،
وغيرها . ولعل السبب في ذلك أيضًا أن المصنِّفين ينطلق كل منهم من جزء من أعماله
دون جزء آخر، وهي أعمال غير متناسقة مع بعضها البعض، إن لَم نقل إنها غير متكاملة
وغير كاملة بطبيعة الحال ، شأن أي عمل أدبي .
مِن أبرز رواياته : أوجيني جرانديه ( 1833) . الأب غوريو ( 1835) . الأوهام الضائعة ( 1837_ 1843) . العمة بيت ( 1846) . مباهج ومآسي العشيقات ( 1847) .