وُلِد الفيلسوف
الإنجليزي هِربرت سبنسر ( 1820 _ 1903 ) في دربي . كان والده من المعارضين
الدينيين ، وقد نَقل إلى ابنه مُعارَضة كل أشكال السُّلطة .
ينتمي سبنسر لأسرة عَمِلَ جُل أفرادها في
مجال التعليم ، لكنه لَم يتلقَّ تعليمًا منتظمًا . وقد عمل مُدَرِّسًا للرياضيات ،
ثُمَّ مُساعدًا لرئيس تحرير بعض المجلات . وجد سبنسر صعوبة في الاستقرار في أي
تخصص فكري أو مهني . عمل كمهندس مدني خلال فترة ازدهار السكك الحديدية في أواخر
ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، في الوقت الذي خَصَّص فيه الكثير من وقته للكتابة
للمجلات الإقليمية التي كانت متطرفة سياسيًّا ، وغَيْر ملتزمة دينيًّا .
في كتابه السياسي" الإنسان ضد
الدولة" ( 1884)، قَدَّم رؤية فلسفية متطرفة في ليبراليتها. كان سبنسر ، وليس
داروين ، هو الذي أوجد مصطلح " البقاء للأصلح " . رغم أن القول يُنسَب
عادةً لداروين. وقد ساهم سبنسر في ترسيخ مفهوم الارتقاء، وأعطى له أبعادًا
اجتماعية ، عـُرفت لاحقًا بالداروينية الاجتماعية . وهكذا يُعَدُّ سبنسر واحدًا
مِن مُؤسِّسي عِلم الاجتماع الحديث .
وَجد تعبير " البقاء للأصلح "
رواجًا كبيرًا ، وتوالت كتب سبنسر التي شملت مواضيع مختلفة، وكانت ترى مسألة
التطور والارتقاء في شتى الجوانب الاجتماعية . حيث لا مكان للضعيف في سباق
الأقوياء. كانت الداروينية الاجتماعية في تلك الفترة بمثابة كَفَّارة لضمير
الإنسانية الْمُتعَب، حيث قُدِّمت على أنها قانون الطبيعة الذي لا حِياد عنه .
وكان سبنسر يمتلك علاقات وثيقة مع كبار الرأسماليين في عصره الذين تلقفوا أفكاره
ورحَّبوا بها. وأيضًا، كان مُعْجَبًا جِدًّا بداروين، ومِن أجله حَنَثَ بيمينه
بعدم دخول أي كنيسة،حيث حضر القُدَّاس على رُوحه في كنيسة وستمنستر .
في عام 1855 ، نشر كتابًا بعنوان "
مبادئ عِلم النفس " ، ضمَّنه أفكاره
عن الوراثة ونظرية التطور بِمُجملها، وبعدها كتب العديد من الرسائل والمقالات،
أهمها مقالة بعنوان "التقدم ، قانونه وعِلَّته " ( 1857 ) . وقد ذَكَرَه
داروين في كتابه " أصل الأنواع " كأحد الذين سبقوه إلى نظريته . كما
وَضَع كتابًا موسوعيًّا ضخمًا في " الفلسفة التركيبية " كمحاولة لإقامة
نظرية فلسفية شاملة تشرح علوم عصره في ضوء قانون التطور ، نشره في الفترة ( 1860_
1893 ) ، وجعل منه موسوعة شاملة في " المبادئ الأولى ": مبادئ
البيولوجيا، مبادئ علم النفس،مبادئ علم الاجتماع، مبادئ علم الأخلاق. ونَشر في عام
1861 كتابه " في التربية " .
على الرغم من صراعات سبنسر المبكرة لتأسيس
نفْسه ككاتب ، إلا أنه بحلول عام 1870 أصبح الفيلسوف الأكثر شهرة في هذا العصر.
وتمَّت قراءة أعماله على نطاق واسع خلال حياته ، وصار قادرًا على العيش مِن مبيعات
كُتبه ، ومساهماته العادية في الدَّوريات الفكتورية التي تَمَّ جمعها في ثلاثة
مجلدات من المقالات . وقد تُرْجِمت إلى العديد من اللغات . وتَمَّ تقديمه إلى
مرتبة الشرف والجوائز في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية .
يقوم مذهب سبنسر
الفلسفي على فكرة التطور ، ويُفسِّر أنواعَ المعرفة المختلفة والمتضاربة في
التجربة الإنسانية بقانون كَوني شامل، مُتَأثِّرًا في ذلك بِعِلم الأحياء
الدارويني ، ووجهة النظر التي سادت القرن التاسع عشر، والتي ترى أن العالَم جوهره
حياة نامية . فهو يُقرِّر أن تجربة الفرد تفاعل مستمر بين الواقع والحياة التي
يعيشها الإنسان. وينحصر موضوع المعرفة عنده في جملة العلوم الواقعية التي تشمل :
علوم الصُّوَر الجوفاء ، وهي الرياضيات والمنطق، والعلوم المشخَّصة أو علوم
الظواهر وهي: الميكانيك والكيمياء وعلم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع .
وتُبنَى المعرفة على التجربة والظواهر
المحسوسة، فكل ما يُجاوز الإدراك ويَخرج عن مجال العلوم الواقعية يُؤلِّف "
مجال المجهول " أو ما تتعذر معرفته ، وكل محاولة يقوم بها العقل للوقوف على
حقيقة الكون ومعرفة أسراره وإدراك المطْلق مُجازفة مصيرها الإخفاق، لأن العقل
مجاله عالَم التجربة المحدود ، وما وراء التجربة أو ما وراء عالَم الظواهر سيبقى
وجودًا مُفارقًا بعيدًا عن المتناوَل، وقوة مجهولة، ولا يُعرَف ما إذا كان هذا
الوجود المُطْلق هو اللَّه . وهذه اللاأدرية التي تُفضي إليها نظرية سبنسر في
المطْلق المجهول ، لا تستبعد الدِّين بِقَدْر ما ترى أن " الدِّين والعِلم
أخوان متصافحان ، لكل منهما حلبة ومجال ، يتقاسمان حياة البشر ، ويُعزِّزان روح
التضامن ، ولكنهما يستويان في عدم القدرة على معرفة طبيعة الأشياء المطْلقة "
.
تَمَيَّزت العقود
الأخيرة من حياة سبنسر بخيبة الأمل المتزايدة والشُّعور بالوَحدة. لَم يَتَزَوَّج
قَط. وبعد 1855 ، كان دائمًا يشكو من آلام وأمراض لا يمكن لأي طبيب تشخيصها .
وبحلول التسعينيات من القرن التاسع عشر ، بدأ القُرَّاء يبتعدون عن كتاباته ،
بينما تُوُفِّيَ العديد من أصدقائه المقرَّبين ، وأصبح يَشُكُّ في الإيمان بالتقدم
الذي جعله مَركزًا لنظامه الفلسفي.