وُلِد الشاعر الإغريقي
هوميروس في القرن 9 ق.م ، في إيونيا الواقعة في آسيا الصغرى، وتُوُفِّيَ في القرن
8 ق.م في كيكلادس. كَتَبَ الملحمتين
الشعريتين: الإلياذة والأوديسا.وقامَ بتخليد حرب طُروادة شِعْرًا بدقة متناهية،
والتي يُعتقَد حدوثها عام 1250 ق.م. ويُعَدُّ مع هسيودوس ينبوع الشِّعر الإغريقي
وذِروته. امتازت الإلياذة بسلاسة واضحة ، وبلاغة لغوية راقية ، وكانت دقة رسم
الملامح من أهم خصائصها، إلى جانب حُسن استخدام تقنية التصوير والتشبيه، التي
أُحْصِيَت _ بحسَب المترجمين _ إلى أكثر من مئة وثمانين تشبيهًا ، تعكس الفِعل
الملحمي بدقة مُفصَّلة . كانت أشعار
هوميروس وملاحمه القُدوة والمثَل الأعلى الذي احتذته أجيال لا تُحصَى مِن الشعراء
في الآداب الكلاسيكية الإغريقية والرومانية،وفي سائر الآداب الأوروبية والعالمية.
لا يُعرَف عن حياة هذا الشاعر من الحقائق
الموثوقة إلا النَّزر اليسير، لأن معظم الروايات القديمة منحولة ، وتُثير كثيرًا
مِن الشُّكوك والتساؤلات . فقد اختلف القدماء حول زمن الشاعر اختلافًا كبيرًا،
يُراوح بين زمن الحرب الطروادية نحو القرن الثاني عشر والقرن السابع قبل الميلاد،
لكن معظم الأبحاث الحديثة تؤرخ حياته في القرن الثامن قبل الميلاد . أمَّا هوميروس
فهو لقب اشْتُهِر به الشاعر، ويعني باللغة الإغريقية الرهينة أو الأعمى . وهناك
سبع تراجم عنه، لكنها سِيَر مُتأخرة النشأة تعود إلى العصر الإمبراطوري الروماني،
وضعها مؤلفوها بناء على قصص محلية لها نواة تاريخية، وأصدروها على أنها روايات
قديمة . كُتبت أُولَى هذه السِّيَر وأهمها باللهجة الإيونية ، ونُسِبت إلى المؤرخ هيرودوت، وهي
تُؤرِّخ حياة هوميروس في السنوات القليلة التي تلت الهجرة الدورية(أي في القرن
الثاني عشر قبل الميلاد). غَير أن هيرودوت يذكر في تاريخه أن هوميروس عاش قبله
بنحو أربعمئة سنة، أي في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد . ولعل هوميروس كان رئيس
المنشدين في بلاط الأمراء والمهرجانات والأعياد، ويُروى أنه قام بجولات بعيدة
قادته إلى مصر وإيطاليا واليونان قبل أن يستقر في خيوس ، ويُؤسِّس مدرسة للشِّعر.
وحين هَرِمَ سَقط في العَوَز والحاجة، وربما فقد بصره، فبدأ يتنقل من مدينة إلى
أخرى، ومات في جزيرة إيوس. وثَمَّة بيت شِعر قديم يتضمَّن أسماء سبع مدن كانت
تدَّعي لنفْسها شرف انتسابه إليها، ومنها سميرنا وخيوس وأثينا.
وتُؤيِّد معظم الروايات القديمة ادِّعاء سميرنا أنها كانت مسقط رأس هوميروس،
ويدعمها كثير من الشواهد اللغوية لكَوْنها المكان المفضَّل لالتقاء اللهجتين
الإيولية والإيونية، وهما نواة لغة " الإلياذة". تَذكر الروايات أن حاكم
أثينا ( بَيسيستراتوس ) كان أول مَن اهتمَّ بجمع أشعار هوميروس، وكَلَّفَ لجنة من
العلماء بإخراج نص رسمي للملاحم الهوميرية من أجل إلقائها في الأعياد الأثينية
الكبرى ، فكان ذلك أول تدوين لها . وقد ضمَّت هذه المجموعة جميع الملاحم الطروادية
وغير الطروادية إضافة إلى الأناشيد ومقطوعات أخرى.لكن سُرعان ما نشأت الاعتراضات
والانتقادات. وفي واقع الأمر ، إن النقد العلمي لَم يبدأ إلا مُنذ العصر الهلنستي
في أكاديمية الإسكندرية . فقد ظهر تيار أدبي بزعامة هِلانيكوس،
ذهبَ به الشك إلى حد القَول بوجود مؤلفين مختلفين للإلياذة والأوديسة . لكن
أريستارخوس أمين مكتبة الإسكندرية تصدَّى لتلك الانتقادات، ونادى بِوَحدة
الملحمتين الشعرية،وبَيَّنَ أن التوافق بينهما أكبر بكثير من الاختلافات
والتناقضات الهامشية. أمَّا في العصر الحديث ، فقد كان الباحث الألماني فولف أول مَن
طرح مسألة نشأة الملاحم الهوميرية بصورة عِلمية في كتابه " مدخل إلى هوميروس
" ( ت 1795 ) . وتتلخص نظريته بأن ملاحم هوميروس لَم تُدَوَّن في عصر نشأتها
، الذي لَم يَعرف الكتابة ، كما أنها لا يمكن لطولها أن تُحفَظ عن ظَهْر قلب ،
ولهذا فإن هوميروس يقف في بداية التراث الملحمي الذي نما ، وتطوَّرَ على ألسنة
المنشدين حتى اكتملت الملحمتان في النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد في
عهد بَيسيستراتوس، وكان هذا مُنطلقًا لجدل علمي لَم يهدأ حتى اليوم . كان هوميروس
شاعرًا فَذًّا يعود إليه الفضل في نَظْم " الإلياذة " و"الأوديسة
" وتقديمهما عملاً فَنِّيًّا متكاملاً صار نموذجًا لكثير من الملاحم اللاحقة
، فأرسى بذلك أُسُس الشعر الملحمي . يقول عنه أرِسْطُو في كتابه " السياسة
" : (( إن هوميروس الذي فاق جميع الشعراء الآخرين في كل شيء قد امتاز على
الأخص _ سواء كان ذلك ناشئًا من معرفته بالفن أم كان فِطريًّا فيه _ بإدراك ما
يُؤلِّف وَحدة القصيدة )) .
تُمثِّل رواية هوميروس
لأسباب الحرب الطروادية الرؤية الشعرية الملحمية لهذه الحرب، وقد استمدَّها من
واقعه ومن الموروث الشعري المألوف المتداول شفهيًّا ، فَمَزَجَ في
"الإلياذة"_ وبوساطة الخيال الشعري _ عالَمَيْن في عالَم واحد:العصر
البطولي للإغريق وعالَم الشاعر وفكره . وقد اعتمد على الخيال، وحرص على جمال
الأسلوب والبلاغة وتناسق النَّظْم ودقة المعنى ورِقَّته .