سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل التاسع والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل التاسع والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م . كان الدكتور وائل عمَّاش يعقد مؤتمراً صحفياً بعد خسارته غير المتوقعة لجائزة نوبل، مع أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنه المرشَّح الأوفر حظاً. وتحدث عن الأمر باستفاضة بالغة. وقد كان حضور وسائل الإعلام العربية والعالمية كثيفاً بسبب المكانة الثقافية الكبيرة التي يتمتع بها الدكتور وائل في الداخل والخارج . وفي بداية المؤتمر تحدَّث عن خارطة الثقافة في بلاده والعالَم ، وعن خيبة أمله بسبب خسارته لجائزة نوبل، والتي قال إنها ذهبت إلى غير رجعة، فقد أخبره الأطباء بأنه مصاب بسرطان الرئة ، وأن المرض قد تفشى بصورة لا يمكن معها الشفاء ، وأن أيامه على الأرض باتت محصورة في عدة أشهر . وقد كانت صدمة كبيرة لوسائل الإعلام إعلان هذا الخبر الصادم . وقرَّر الدكتور أن يكون هذا المؤتمر آخر ظهور له في وسائل الإعلام ، وقد قال بالحرف الواحد : _ إنني أغتنم هذه الفرصة لأُعلن لكم اعتزالي الحياة الأدبية نهائياً ومن غير رجعة . صحيحٌ أن الكتابة أعطتني الشهرة والمجد ، لكنها أعطتني كل اكتئاب الأرض بدون رحمة . وقررتُ اعتزال الكتابة في كل المجالات ، فلم تعد صحتي تساعدني على ذلك، كما أنني فقدتُ الشغف بالحِبر والورق . وبما أني في آخر أيامي فقد ارتأيتُ أن أكشف أوراقي وأسراري ، فقد خضعتُ لابتزاز من قبل جهات متنفذة وعدتني بالحصول على نوبل ، فأفكاري لم تكن نابعة من داخلي ، بل نابعة من حجم لهاثي نحو العالمية والمال والشهرة . وللأسف فجائزة نوبل تُثبِت أنها أفعال سماسرة ومافيا أكثر شراسة من المافيا الإيطالية. لم يعد لي مستقبل أُدافع عنه، وبالتالي سأُنهي كلامي باعتراف سيشطب حياتي الثقافية، وهو أن كتاب " الرد على أرسطو" الذي حقَّق نجاحاً عارماً ليس من تأليفي ، بل من تأليف أحد طلابي السابقين الذي ضحَّى بمستقبله التعليمي من أجل أفكاره ، ولولا الظروف القاهرة التي حَاصَرَتْه من كل الجهات لما باع كتابَه الثمين في هذا الوطن الذي يبصق على العلماء ، ويسجد للراقصات والمذيعات العاريات ، وهذا الشخص اسمه زياد خضر. وقد آن الأوان أن ينال تكريماً يليق به ، فاذهبوا إليه لأنه أحق بالاهتمام مني . أما أنا فقد أنتظر الموتَ لكي يُنهيَ مسيرتي ، أو قد أذهب إليه مختاراً التوقيت . وانسحب من القاعة كلها بهدوء قاتل ، بينما الحضور مصابون بالوجوم جراء هذه الاعترافات التي لم يكونوا يتوقعونها . وبدأت عيونهم تدور في التساؤلات حول شخصية مؤلف الكتاب الحقيقي . وكل وسائل الإعلام صارت تتناقل تفاصيل هذا المؤتمر الصحفي غير العادي الذي شطبَ كاتباً عالمياً ، وأفسح المجال لكاتب مغمور كي يخرج على السطح .

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثامن والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثامن والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان زياد جالساً مع أبيه في بيت أسرته . يجلسان على فراش أرضي بسيط. بدا وجه أبيه كمزرعة تجاعيد وهموم لا نهائية . لكن هذه التجاعيد جديدة ، فهي لم تكن منذ مدة ، وربما يكون التعب النفسي قد ساهم في تفشيها . قال زياد بلهجة الابن البار : _ ما بك يا أبي ؟ ، أشعر أن صحتك ليست على ما يرام ، هل آخذك إلى الطبيب ؟ . _ لا طبيب ولا مهندس ، أنا بخير ، ولكن بصراحة يا زياد أُفكِّر أن أذهب إلى الحج ، فلم يعد في العمر سوى ساعات ، وأحب أن أُلاقيَ وجهَ ربِّي وقد أديتُ هذا الفرض ، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة . _ توكَّل على الله ، وسوف أُدبِّر لك المالَ اللازم ، وغداً سوف نسعى لإتمام هذا الموضوع مع الوزارة ، ولكن لا تنسانا من الدعاء هناك . _ وهناك شيء أُريدك أن تقوم به ، وهو أن تظل تزور أخاك دائماً ، وتطمئن على صحته . _ لقد زرتُه في الأسبوع الماضي ، وبصراحة لم يعد يتعرف على أحد ، فعندما رآني لم يقدر على معرفتي ، لكن الأطباء أكَّدوا أن هناك فرصة لا بأس بها لكي يتحسن وضعه الصحي بعد تنفيذ بعض البرامج الطبية المتطورة . تهلَّلت أسارير الوالد ، وكأن التجاعيد قد اختفت فجأة ، وهاجرت من رقعة وجهه . هكذا تصورتُ المشهد . لقد دبَّت فيه الروح من جديد ، فهذا الكلام المتعلق بالحج وتحسن وضع ابنه أرجعه إلى عنفوان شبابه لدرجة أنه هبَّ واقفاً كعمود الكهرباء ، وقال إنه ذاهب ليُجهِّز حقيبةَ السفر من أجل الحج. ضحك زياد من هذا الأمر المبكِّر جداً ، لكنه لم يرد أن يقضيَ على سعادة أبيه فتركه يفعل ما يريد . كانت فايزة تقوم بعملية جلي الصحون في المطبخ . سائل التنظيف آيل لأن يصبح فارغاً . لم تعد قادرة على مواكبة شراء هذه السوائل التي ارتفعت أسعارها بصورة جنونية . كل شيء ارتفع سعره أضعافاً مضاعفة . وفي زحمة تفكيرها بهذه الغلاء الفاحش أحسَّت بأن الصحون تتكاثر كقطيع من دبابات الصفيح التي تدوسها . وكانت الصغيرة خولة تجلس على كرسي متواضع تأكل تفاحةً غَسَلَتْها بعناية فائقة . دخل زياد إلى المطبخ صارخاً : _ أين أنتِ يا حبيبتي ؟ . وبعد أن نطق بتلك الكلمات رأى خولة فخجل مما قاله ، فهو حريص على أن تظل هذه الكلمات بينه وبين زوجته ولا تخرج إلى العلن . وفي محاولة منه لتغيير الموضوع قال ممازِحاً خولة : _ لماذا تأكلين تفاحة كاملة وتتركيني جائعاً ؟ . صدَّقت خولة هذه الكلمات فأرادت أن تقسم التفاحة ، لكن زياداً منعها من فعل ذلك وأكَّد لها أنه كان يمزح معها ، مما أشاع جواً من البهجة . أخرج زياد من جيبه بعض النقود ، وأعطاها لخولة لكي تشتريَ ما تحبه من البقالة القريبة . وبالفعل خرجت خولة سعيدة بهذا المبلغ الكبير في عينيها ، وها هي تمشي بشكل جيد ، فيبدو أنها تعوَّدت على رجلها الصناعية التي أضحت جزءاً من جسدها الغض بعد أن كانت جسماً دخيلاً . تأففت فايزة بصوت عال من شيء ما يضايقها ، فاقترب منها زياد وسألها عن سبب ذلك فأجابت وقد أوقفت مضغ العلكة بعد أن أرسَلَتْها إلى المنفى في إحدى زوايا فمها : _ سائل الجلي ما إن أستخدمه حتى يصبح فارغاً ، ونحتاج إلى آخر جديد ، والأسعار تطير كالصاروخ. لم نعد في وطننا قادرين على العيش ، فقد صارت بلادنا للسياح وليست لنا . ابتسم زياد ، وقال : _ لا تحرقي دمك، هذه الحكومة تريد أن تسرق الشعب بأية وسيلة ، والشعب مستمتع لأنه صار مثل قطيع الغنم لا يتكلم ... في أوروبا يقومون بمظاهرات تشل البلدَ وتُرَكِّع الحكومةَ حتى يلهث المسؤولون وراء المواطن ، أما في بلادنا فالحكومة تبصق على الشعب ، وهو يظل يمدحها ويقدسها . وتابع يقول : _ صَدِّقيني يا سوزان ... أقصد يا فايزة . وانقطع صوت زياد فجأة بعد أن نطق اسم زوجته الثانية أمام زوجته الأولى . لقد تحجَّر ريقه في حلقه بعد أن اصطدمت عيناه بعيون فايزة التي كانت في أقصى مدار الألم والدهشة والرعب ، وقالت والدموع تقرع زجاج عيونها في هذا الشتاء الصيفي : _ هل اسمها سوزان ؟ ... بصراحة اسم جميل وأُنثوي وأكثر رومانسية من اسمي الذي يبدو موضة قديمة ... لقد نسيتَ اسمي يا زياد بعد ليلة واحدة قضيتَها معها . اذهب إليها وعش معها ليظل اسمها على لسانك ... لا تأت إلي ، ابْقَ معها طول حياتك ، واتركني في هذا المطبخ كالخادمة المنسية . وصارت تبكي بحرقة كُلِّ إناث النخيل العاري من الأمطار ، فأدرك زياد حجم الكارثة التي اخترعها عن غير قصد ، وقال : _ واللهِ العظيم يا فايزة، أنا أخطأتُ عن غير قصد ، وأطلب منك أن تسامحيني. أدارت ظهرها وهي تمسح دموعها بظاهر كفها ، فقال بحرقة بالغة : _ أرجوكِ يا فايزة لا تحرميني من منظر صدرك النافر كالهضبة . لا تحرميني من رؤية بطنك التي تزداد انتفاخاً وتحمل ثمرة حبنا. أنا كالسمكة أموت إذا خرجتُ من منتجعات رموشكِ . لا تتركيني مع عمودك الفقري وحيداً أعد الفقراتِ وأخطأ في العد. عينك اليمنى نهرُ الفرات ، واليسرى نهرُ دجلة ، دعيني أُقبِّلهما ليصبح فمي شط العرب . _ مشكلتي أنني أحبك ولا أقدر على مقاومة كلامك . وبعدها أرادت بصق العلكة في سلة النفايات ، فهجمت كلمات زياد بشكل مباغِت : _ لا ترميها ، بل ضعيها في فمي لأمضغها من بعدك . _ وهل أخرجها بيدي ثم أضعها في فمك ؟ . _ ضعي فمك في فمي لتمر العلكة من لعابك إلى لعابي . ترددت فايزة بعض الشيء لكنها فعلت ذلك ، والتصق الجسدان في بؤرة بركانية صهرت مشاعرَ هذا العنف الرومانسي . كأن جسديهما في تلك اللحظة صاروخان احترقا تماماً بعد أن غادرا الغلاف الجوي للأرض . لستُ عالم فضاء أو خبير أسلحة ، لكن المشهد بدا حريقاً من العواطف الزوجية والقنابل والصواريخ المحترقة بعيداً عن طبقة الأوزون أو اتفاقية كيوتو . ذهب زياد ليتفقد غرفته القديمة على السطح التي لم يزرها منذ مدة بعيدة . وكان الحنين قد استولى على كل عواطفه . أشكال البلاط في هذا الدَّرج الذي يبدو لا نهائياً ، والتشققات التي لم يفكر أحدٌ ما في إصلاحها ما زالت على حالها . تذكر خطواتِ راحيل المزروعة في نخاع هذا البلاط الأثري . كل الذكريات هجمت عليه فجأة . إن غرفته كما هي ، لم يتغير فيها شيء سوى أن تلالاً من الغبار حلَّت مكانَه ، وتحرَّشت بأشيائه العزيزة . نظر من خلال شباك الغرفة إلى السطح ، فلم يجد أحداً . حبال الغسيل عارية من الغسيل . بدا منظراً مرعباً ، هذا الفراغ الحتمي الصاعق لم يترك في خياله سوى صور حفاري القبور الشباب الذين لم يجدوا أي مصدر دخل سوى العمل في حفر القبور وحراستها . كان خاطراً غريباً استوطن في ذهنه بعد أن رأى عُرْيَ حبال الغسيل . تذكر راحيل تلك الفتاة التي مرت تحت حبال الغسيل في الماضي الذي لا يعود إلا على شاشة الذهن . تُرى ماذا تفعل الآن ؟ ، داهمه هذا السؤال في عقر دار أحزانه لكن زياداً لم يجد إجابة واضحة . وسرعان ما هرب من تخيُّل أية إجابة محتملة ، وقام بالعودة إلى منزله هارباً من ألم الذكريات المتربصة به . لاحظ زياد هدوء بيت جيرانه اليهود ، فلا يوجد أحذية عند الباب ، ولا يوجد أي صوت على عكس العادة . لكنه قال في نفسه إنهم قد يكونون قد ذهبوا لزيارة أحد ما . وفي المنزل قال لأبيه المنتشي بعد أن انتهى من تجهيز حقيبة السفر : _ يبدو أن جيراننا اليهود غير موجودين في بيتهم . _ لقد سافروا بشكل نهائي إلى أوروبا بعد أن قطعوا كل العلاقات مع هذا المكان ، لكن بعض الناس يقولون إنهم رموا ابنتهم في دير الراهبات القريب منا ، والله أعلم بالحقيقة . _ وهل يُعقَل أن يرميَ الإنسانُ ابنته ؟ . _ هؤلاء يهود قد يفعلون أي شيء . _ وما علاقة هذه البنت اليهودية بدير الراهبات ؟ . _ أنا لا أفهم هذه المواضيع ، ولا أُتعب رأسي بالتفكير بهذه المسائل . عَلِقَ هذا الموضوع برأس زياد ، ولم يقدر على التخلص منه، فقرر الذهاب فوراً إلى الدير وإنهاء هذه القضية تماماً . ها هو يزرع أطراف أصابعه على باب الدَّير ، يقرعه بحماسة ولهفة عنيفَتَيْن رغم نعومة طرقه على الباب ، ويتحرق شوقاً إلى فتحه . وكانت كل راهبة في الداخل تطلب من زميلتها فتح الباب . وقررت جودي الذهاب إلى فتح باب لتنهيَ حالة الجدل . وبعد أن فَتَحَتْه رأت شاباً أنيقاً عليه علامات الوقار ، ويظهر أنه شخص محترم ، ففرحت جودي أنه ما زال هناك رجالٌ محترمون في هذا العالَم . قال زياد : _ لو سمحتِ يا أختي ، هل يمكن أن أُقابِل الآنسة راحيل ؟ . _ من يريدها ؟ . _ أنا ، زياد خضر . وما إن هبط هذا الاسم في فوهة أُذنيها حتى جحظت عيناها بشكل مرعب ، وحدَّقت في زياد كأنها تريد أن تأكله بأسنانها . وقد ارتبك زياد حينما رأى هذا المشهد الغريب . لاحظ زياد لمعانَ الدمع في عينيها دون سبب واضح ، فقال لها : _ عفواً يا أُختي ، هل أنتِ بخير ؟ . كانت جودي في تلك اللحظة كالطفلة الصغيرة التي تضم نفسها أمام مُعلِّمتها ذات الشخصية القوية ، وقالت بصوت هامس يحمل كل رغبة الأسئلة الحارقة : _ أنتَ زياد خضر ؟ . _ إن كنتِ لا تُصَدِّقيني فسأُخرج لك هويتي الشخصية . _ لا داعي لذلك ، فمثلك يا أُستاذ زياد لا يكذب . تفاجأ زياد من هذا الرد ، أما جودي فدخلت إلى الدَّير دامعةً تلم كل أشلاء قلبها المقلي على نار الشوق إلى الوهم ، ومضت لكي تخبر راحيل . وفي طريقها اصطدمت بعيون تيريز الجارحة التي قالت بلهجة خشنة : _ من بالباب ؟ . _ إنه شخص يريد الآنسة راحيل . _ وهل هذا الدَّير وكالة من غير بوَّاب ، وكل من هبَّ ودبَّ يأخذ ما يريد وينصرف ؟ ... سأرى من هذا الرَّجل الذي يريد هذه البنت التي لا يجيء من ورائها غير المصائب . ومضت تيريز إلى الباب فاصطدمت بهذا الشاب الذي بدا من ملابسه أنه غني نسبياً ، وقالت له : _ ماذا تريد يا أستاذ من الآنسة راحيل ؟ . أدرك زياد عدمَ وجود إمكانية في الدخول ومناقشة الموضوع بهدوء ، فقرَّر أن يُنهيَ الموضوع سريعاً ، فقال : _ بصراحة يا أختي أنا جار راحيل منذ مدة طويلة ، وكنتُ أحبها طوال هذه المدة ، وقررتُ أن أتزوجها ، لذا جئتُ إلى الدَّير لكي آخذها معي . ضحكت تيريز استخفافاً ، وقالت : _ قصة رومانسية لا بأس بها ، ولكن السيناريو ركيك ، وينقصكما أغنية لسيلين ديون لتبدوَ القصة أكثر إقناعاً ، أنصحك أن تدرس الأفلام العربية جيداً ، وعلى أية حال أنا لا أُمانِع أن تأخذها معك فهي عبء علينا ، ولكن يجب أن تُعَوِّضنا عن المبالغ التي أنفقناها عليها، فهي تأكل مجاناً، وتشرب مجاناً، وتلبس مجاناً، وتسكن مجاناً . أدرك زياد أنه يتعرض لعملية ابتزاز وتحايل ، لكنه لم يرد أن يخوض في هذه المسائل ، وقرَّر أن ينهيَ الموضوع بدون جدال ، فقال : _ أنا مستعد للدفع ، قَدِّري كل المصاريف ، وسأدفعها لك الآن . احتارت تيريز في اختيار المبلغ المناسب ، لكنها أجمعت أمرها ، وقرَّرت أن تضاعف الرقم عدة مرات لتكسب أكبر قدر ممكن من المال ، فقالت : _ المبلغ هو مئتا دولار فقط لا غير . أخرج زياد المبلغ من محفظته وناولها إياه ، وقال لها : _ أرجو أن تُخبري الآنسة راحيل لكي تستعد ، وتُجَهِّزَ نفسها وكامل أشيائها. أشارت تيريز إلى جودي لكي تذهب وتخبر راحيل . وبالفعل أسرعت جودي كالفرس غير المروَّضة ، كأن حذاءها الصغير وجواربها البيضاء الرقيقة قد اندمجت في عنفوان هذا الركض في مسارات النهايات السعيدة . كانت راحيل تمسح بلاط المطبخ . لم تنتبه إلى قدوم جودي ، فقد كانت مندمجة بالكلية في مسح البلاط بكل إخلاص وإتقان . صرخت جودي وعيناها توغلان في مسارات الحلم الكهربائي : _ ارمي هذه الممسحة من يدك يا راحيل، فقد جاء شاب رائع لكي يتزوجك . وقفت راحيل على قدميها مشدوهة ، وحدَّقت في هذا الفضاء الأسود حيث تذهب العناصر إلى الانطفاء القسري ، وقالت : _ هل تمزحين ؟! ، فأنا لا أحد يعرفني من الرِّجال ، ولا أعرف رِجالاً . _ وماذا عن زياد خضر . ارتبكت راحيل حالما سمعت هذا الاسم، ولم تقدر على الوقوف ، فجلست على كرسي قريب منها ، وهي بين اليقظة واللايقظة ، وقالت بصوت يحمل كل انكسار الرمال المتحركة : _ هل الأستاذ زياد موجود هنا وجاء ليسأل عني ؟ . _ أنتِ تستحقين كل خير يا بَطَّة ، وتستحقين أن يحبك رَجُل بهذا الشكل ... والآن لا تُضَيِّعي الوقت ، لنُجَهِّز كل أشيائك كاملةً . لم تكن أغراض راحيل الشخصية كثيرة ، فحقيبة واحدة متوسطة الحجم كانت كافية لجمع كل أغراضها البسيطة، ومشت إلى باب الدَّير الخارجي بمساعدة جودي كالعروس التي تُزَفُّ في محيط أخرس حتى النخاع بدون فستان العرس وبدون أية حفلة . وما إن رآها زياد حتى تقدَّم ، وأمسك بيدها ، دون أن ينبسا ببنت شفة . فقد كان دفء اليدين أكثر بلاغة من أي حديث.وزياد يؤمن أن تلاصق اليدين لا يجوز، ولكن الضرورة فرضت عليه هذا الموقف الذي لا يقتنع به . ومضى الاثنان في هذه الطريق الطويلة دون كلام ، فالصمت الذي كان بينهما يتكلم بالنيابة عنهما. لم يكونا يعرفان أين يذهبان، واكتفيا بالمشي وهو يمسك بيدها. أما جودي فكانت تراقب المشهد من خلال نافذة غرفتها . دموعها المتوحشة متجمدة في عيونها ، لكنها تفجرت كالتراب اللوزي ، كأضرحة الملوك المخلوعين ، كآخر نظرات فتاة لاتينية قبل أن يتم اغتصابها فلسفياً . إنها تنتحب بكل عنفوان الجنون ، فحلمها الذي نَسَجَتْهُ من خيوط جِلْدها ها هو يضمحل أمام عينيها ، وهي لا تملك إلا الدموع خلف زجاج النافذة الموحش. فهذا الرَّجل عاشت مع شَبَحه لمدة طويلة، وطالما نادت عليه في المنام . ولم تتخيل في يوم من الأيام أن يلتقيا وجهاً لوجه ثم يختفيَ بكل سهولة . لقد اكتفت بهذا الشبح ، واقتنعت بأنه لن يظهر متجسِّداً على أرض الواقع، لكنه ظهر كالإعصار ، وأحرق جسدَها الغض ، ورحل بعد أن زرع كل مسامير الألم في لحمها المزروع في رئة الوهم المتكاثر . قال زياد أثناء سيره : _ هل تقبلين بي زوجاً يا راحيل ؟ . لاذت بالصمت اللذيذ ، بينما تسلَّلت الحمرة إلى وجنتيها ، وبعد برهة من الصمت والاحمرار قالت بحياء شديد : _ نعم . ومضى الاثنان إلى المأذون الشرعي الذي أتم عقد الزواج على أصوله . وارتأى زياد أن يُبقيَ هذا الزواج سراً لئلا تحدث مشاكل في الوقت الراهن ، وقد قرَّر أن يعلنه في فترة قادمة بعد أن تكون الأمور قد سارت كما يريد . استأجر زياد غرفة في فندق متوسط الفخامة ليقضيَ فيها ليلته مع زوجته ريثما يستأجر شقة تجمعهما . وبعد أن تناولا عشاءً خفيفاً جلس الزوجان قُبالة بعضهما كأنهما يستعدان للحوار الذي يسبق حلم الجسد الواحد . والعجيب أنه في كل زيجات زياد كانت ليلة الدخلة أشبه بمحاضرة فلسفية أو مكاشفة من نوع خاص جداً . نظر زياد إلى عيون راحيل من مسافة قريبة جداً ، وقال : _ لم أكن أعرف أن عينيك جميلتان لهذه الدرجة ، إنهما تفاحتان زجاجيتان غاطستان في بركة من الفضة . _ هل تحبني يا زياد أم تشفق عليَّ ؟ . ابتسم زياد ، وقال بصوت هامس : _ أنا لا أُحبك ، ولا أُشفق عليك . أنا أعشقك حتى احتراق العشق ، وأعشق كل تفاصيل جسدك من رأسك حتى أخمص قدميك . _ لماذا تَذَكَّرْتَنِي بعد كل هذه الأيام ؟ . _ أنا لم أقدر على نسيانك حتى أتذكرك ، ولكن أموراً بالغة التعقيد حدثت معي ، وجعلتنا نبتعد عن بعضنا ، وإلا فكان يتوجب عليَّ أن أتزوجك منذ مدة طويلة . وأردف قائلاً : _ أرجوك يا راحيل ، البسي الثياب التي كانت عليك عندما كنتِ تنشرين الغسيلَ في الماضي دون أن تحمر خدودك . ترددت راحيل بعض الشيء قبل أن تُلَبِّيَ رغبةَ زوجها الذي كان ينظر إلى حزن عينيها ، ويتخيله شلالاً من الحِبر الأبيض نازلاً من كتابات رعشتها العنيفة بلا موعد مسبق . قال زياد وفي حروفه أمواج الشَّبق : _ اسمحي لي يا حياتي أن أحرق جسدكِ بدموعي ، هذه هي المحرقة الحقيقية ، وليست خرافة الهولوكوست . أُريدكِ أن تُفَجِّري كل الكبت الجنسي في حياتك ، كلَّ أحزان الشوارع الباردة ، لتكن ليلة الدخلة هي سِفْر الخروج الخاص بنا نحن الاثنين فقط . أَخرج من جسدي ، وأَدخل في جسدكِ ، وتخرجين من أعضائكِ ، وتدخلين في أعضائي . ليكن الحب بيننا معركة قاتلة ، فلا فائدة من العشق الذي لا يمتزج بالموت. سأكتشف تضاريس هذا الجسد اليهودي الذي سيحرقني بأنوثته ونعومته وبياضه . أريد أن تكون كل قمصان نومك بلون دموعي . وبدأ يقترب منها ، وهي تبتعد بشكل غريب ، كأن خوفاً من شيء ما يقتلعها . فقال زياد بصراحة وهدوء : _ راحيل ، لا أستطيع أن أجبرك على شيء لا تريدينه، وإذا كنتِ غير مستعدة فيمكننا أن نؤجل الموضوع حتى تجدي الرغبة لذلك . _ لا داعي للتأجيل . وبعد الانتهاء من ممارسة تلك الرغبة ، كانت الصدمة أكبر من كل احتمالات الانهيار الشامل. فزياد قد صُعِقَ بشراسة، وراحيل غرقت في بحور الدمع المر . انتهى المشهد بكابوس وتواريخ كل الاكتئاب . فهول الصدمة لم يكن متوقعاً في أية مرحلة من مراحل هذه المشاعر التي يبدو أنها ذهبت أدراج الرياح ، فقد اتضح أن راحيل ليست بِكْراً، الأمر الذي كان فوق قدرة زياد على التحمل ، فها هو يبكي كالنساء على هذا الحلم المتكسر في العاصفة بَغتةً، قابعاً في إحدى زوايا شهيقه المتكسر، وهو لا يعرف ماذا يفعل أو ماذا يقول . كان التشويش الهلامي في أوج جنونه ، فانسحب الاثنان من أحلامهما وتركا الساحة للدموع تخبط أطرافَهما بوحشية بالغة، وبعد برهة قال زياد بصوت خالٍ من الصوت : _ لماذا فعلتِ هذا يا راحيل ؟ ، لماذا كسرتِ هذا الحلم الذي انتظرتُه منذ زمن بعيد ؟ . ليتكِ رفضتِ زواجنا لكي يحتفظ كلٌّ منا بذكرى طيبة عن الآخر . قالت والدموع تتجذر خنادق بين كلماتها : _ واللهِ يا زياد لا ذَنْبَ لي في هذا الموضوع كله ، فأبي اعتدى عليَّ بوحشية ، وسلب عُذْرِيَّتِي . حاولتُ المقاومة ، ولكني فتاة عمياء لا حول لي ولا قوة ، فلا تُحَمِّلْني آثامَ الآخرين ، فصورة الأب وهو يقتل ابنته ما زالت في رأسي . إن الكوارث التي زرعوها في حياتي كافية ، وقد أخذتُ نصيبي من العذاب ، فلا تزد عذابي . لقد دخلوا حياتي رغماً عني ، ودَمَّرُوها ، ثم رحلوا مبتسمين . إن أردتَ أن تُطَلِّقني فلكَ هذا . ارمني في الشارع ، وأرحني من الشكوك في عينيكَ اللتين أراهما الآن مع أنني لا أرى . شعر زياد أنه قسى على راحيل بعد أن أدرك القصة كاملة ، فلم يملك في تلك الساعة الحرجة إلا أن يمسح دموعها بظاهر كفه، ويحاول التخفيف عنها. ضَمَّها إلى صدره بحنو الأب الحقيقي قائلاً : _ أنا آسف يا راحيل ، لقد أنساني الشيطانُ طهارتك التي تمنعك أن تُفَرِّطي بنفسك ، سامحيني يا قطتي الصغيرة ، واعتبري الموضوع ليس له وجود . وغادر المكانَ وهو يصارع كل أنواع السموم في حَلْقه الذي كان يلتهب التهاباً . إن جسده المضمحل يتقاتل مع إلحاح مجنون يدفعه إلى البكاء . وبصراحة لم يكن يتحمل هذا الأمر . وأخيراً استسلم لزلزال البكاء الذي كان ينهش لحمَه بلا رحمة ، وهو يصارع غصةً في كل جوانحه .

30‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل السابع والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السابع والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان مدير المخابرات في مكتبه مندمجاً مع المواقع الإباحية على الإنترنت . دخل عليه أحد الضباط بلا استئذان وهو يلهث ، فارتبك المدير وأغلق المواقع سريعاً ، وقال بلهجة حادة : _ كيف تدخل عليَّ يا حيوان بلا استئذان ؟ . ألم تعلم أن هناك هرماً وظيفياً فكيف تقوم بتجاوزه ؟ . _ أنا آسف يا سَيِّدي ، ولكن أوامركم السامية تنص على إبلاغ حضرتكم بأي نبأ خطير فوراً دون الرجوع إلى الهرم الوظيفي . _ هل هناك محاولة لقلب نظام الحكم ؟ . _ لا يا سَيِّدي ، ولكن هناك أمر سيضايقك أكثر . تعجَّب مدير المخابرات من هذا الكلام، وتساءل في نفسه عن هذا الأمر الأشد من قلب نظام الحكم ، فقال والفضول ينخر عظامه : _ قل بسرعة ولا تضيع وقتاً . _ ابنة حضرتكم صاحبة الصَّوْن والعفاف تزوَّجت شاباً كان عضواً سابقاً في الإخوان المسلمين . ضحك مدير المخابرات من كل قلبه ، وقال : _ هل جئتَ إلى هنا لتمزح معي وتتبادل النكات مع أسيادك ؟ . _ أنا آسف يا سَيِّدي ، ولكن أُقسم لك أن هذه هي الحقيقة بعد كشفنا هذا الأمر . اقتنع مدير المخابرات بهذا الكلام بعد أن رأى هذا الإصرار . وأطلق ضحكة خفيفة عابرة قبل أن يكسر كل الأشياء التي كانت على مكتبه بحركة هستيرية رغم أنه يمتاز بهدوء أعصاب مرعِب ، ثم صرخ كأنه يريد أن يُفهِم حيطانَ الغرفة : _ أنا معن اللويمي الذي ثبَّت النظام الحاكم طوال مليون سنة ، ولا أحد يقدر أن يهز شعرة من رأسي. لا قانون في البلد ، أنا القانون. ولا حكومة ، أنا الحكومة. ولا حاكم ، أنا الحاكم . وها هي ابنتي تتزوج بدون معرفتي يا أولاد الكلب ... أين كنتم ؟ ، هل كنتم نائمين في أحضان نسائكم أم تشاهدون الفيديو كليب ؟ . وبصق على الضابط الذي أمامه عن بعد ، فلم يصل إليه سوى بقايا بصاق أو رذاذ خفيف . ودخل في نوبة هستيريا مرعبة لدرجة أن الضابط ارتعب من المنظر ، وصارت أسنانه تصطدم ببعضها البعض ، ومفاصله تكاد ترحل عن جسده بشكل نهائي . ألقى مديرُ المخابرات ربطة العنق على الأرض ، وفتح أزرارَ قميصه لكي يقدر على التنفس ، وقال بانفعال واضح : _ اشنقوا الشعبَ ، اشنقوا المأذون الذي أتم العقد ، اشنقوا الحاكم أيضاً، اشنقوا هذا الولد التافه الذي تزوَّجها ، واشنقوا ابنتي ... ثم استدرك قائلاً والتشويش يقتلع أركانَ ذهنه : _ لا تشنقوا ابنتي ، لا تقتربوا من ابنتي . لا تشنقوا أي أحد ، اشنقوني أنا . ثم ارتمى على الأرض يبكي بحرقة كالطفل الذي تركته أمه وحيداً في المنزل ، وذهبتْ إلى السوق لكي تُضَيِّع وقتها لا أكثر . كان الضابط مندهِشاً من هذا المنظر غير العادي ، فقد كان يعتقد أن مدراء المخابرات ليس لديهم دموع ، وهم لا يبكون مطلقاً ، ولا يرفعون الرايةَ البيضاء حتى لو صارت كل أيامهم سوداء . لكن المشهد الصادم الذي رآه غيَّر قناعاتِه ، وأدخله في عوالم المشاعر التي كان يسمع عنها من زوجته المدمنة على مشاهدة أفلام نجلاء فتحي ومحمود ياسين . لكنه لأول مرة يتأكد من وجود أشياء تدعى مشاعر ، فقد أفهموه مذ دخل في العمل المخابراتي أن ضابط المخابرات الناجح يجب أن يرميَ قلبَه في أقرب سلة قمامة ، ويبصقَ على كل الناس حتى يقدر على انتزاع الهيبة من عقول الناس رغماً عنهم . وجاء المساء حاملاً في معدته ذكريات الغيمات الباكية . كان مدير المخابرات يجلس على كرسيه الهزَّاز قرب المدفأة الخاوية على عروشها ، ويُسرِّح نظره باتجاه النافذة التي تطل على الأشجار العنيفة . في يده اليمنى كوب يانسون ساخن يسري في نخاع عظامه كتقارير محكمة أمن الدولة . كانت الإضاءة خافتة، فهو يحب أن يجلس في هكذا جو ، حيث يتذكر جو صالة السينما التي كان يذهب إليها مع خطيبته أيام الشباب ، والتي صارت فيما بعد أُمَّاً لأبنائه . إنه يتذكرها الآن أكثر من أي وقت مضى ، فقد تم دسُّ السم لها في عصير البرتقال في أحد فنادق أوروبا ، حيث كانت تقوم برحلة سياحية معتادة . وقد اتَّهمت الحكومةُ جماعاتٍ إسلامية بالوقوف وراء الحادثة للانتقام من مدير المخابرات الذي كان سجله حافلاً بتعذيب السجناء السياسيين . أما الإسلاميون فاتهموا الحكومة بالضلوع وراء العملية لإقناع الرأي العام العالمي بأهمية تصفيتهم بعد تشويه صورتهم وتصنيفهم كإرهابيين . وفي الحقيقة لم يقدم أي طرف دليلاً على اتهاماته . وتمت عملية التسميم دون الوصول إلى الفاعلين ، وذهبت القضية إلى أدراج النسيان مثلها مثل عشرات قضايا تصفية الحسابات ، وطواها الزمن . وبينما هو غارق في تأملاته بعد أن استعاد هدوءَ أعصابه وتركيزه بشكل كامل دخلت ابنته عليه. كأنه يملك إحساس الانتظار، كأنه ينتظر خروجها من بين أشجار الحديقة ، من شقوق أي شيء . المهم أنها جاءت . ألقت السلام على أبيها ، فردَّ عليها السلام مع أنه غير متعود أن يستعمله في حياته اليومية. لاحظ حجابَ ابنته يلمع كعيون طائر حطَّ على تاج نخلة ، فقال متسائلاً : _ منذ متى ترتدين الحجاب ؟ . _ المهم أنني أرتدي الحجاب الآن . قال ساخراً : _ لقد نسيتُ أن أُبارك لك بمناسبة زواجك ، ولكن اعذريني فلم تصلني دعوة من حضرتك ، وكأني رِجْل طاولة في هذه المقبرة . _ أرجوك يا أبي لقد اخترتُ طريقي وأنا أتحمل المسؤولية . لقد تزوجتُ ولو أخبرتُك لما وافقتَ . أنتَ تريد أن تبيعني لأصدقائك الأغنياء أو أبنائهم الفاشلين . أنا الآن امرأة متزوجة، فلا تدمر حياتي. أرجوك يا أبي لا تجعلني واحدة من ضحاياك الكثيرات. كم امرأةٍ أبكيتَها بعد أن سحقتَ زوجَها ظلماً . لقد قضيتَ على كل شيء رائع في حياتي . لأول مرة في حياتي أشعر أنني امرأة تَحِبُّ وتُحَبُّ ، فاتركني أختر طريقي بنفسي ، أرجوك يا أبي اتركني . انفجر ضاحكاً من أعماق قلبه ، وصفَّق لبرهة من الوقت سخريةً من هذا الكلام ، وقال باستهزاء : _ إنكِ تتقنين دوركِ بمهارة فائقة ، ولكن ما اسم هذه المسرحية التي تشاركين فيها ؟. هل استطاع هذا الولد أن يغسل دماغك ، ويزرع هذا الكلام في رأسكِ ؟. يا له من مُهَرِّج محترِف يعرف من أين تؤكل الكتف . وتابع يقول : _ اسمعي يا سوزان ، أنتِ كنتِ ابنتي أما الآن فلا . ولن أسمح لبنت مراهقة مثلك أن تكسرني آخر عمري ، فاحملي كل أغراضك في هذا البيت ، ولا تعودي إليه نهائياً، لا أنا أبوكِ ولا أنتِ ابنتي. اذهبي مع هذا الولد الذي سيبلعك ثم يبصقك في الشارع ، والآن قد انتهت المقابلة إلى الأبد . وغادر والدها المكانَ وهو يزرع خطواتِه الثابتة على السجاد الفاخر، لكن دموعاً خفيفة برقت في عينيه ، وهو يحاول جاهداً قمعها وإخفاءها عن ابنته . وقد نجح في ذلك فلم تلمح ابنته ذلك المشهد البراق الذي امتزج فيه الملحُ بالماء . دخل غرفته ، وأغلق الباب بالمفتاح جيداً ، ثم ارتمى على السرير ، وأخذ يبكي بشكل صاعق . إنه يحترق في نحيب زرقة الرعب رافعاً كل الرايات البيضاء في وجه طوفان الدموع الذي يجتاحه ويخمشه بلا رحمة . إنها ابنته التي كبرت أمامه لحظةً بلحظة ، سوف تذهب الآن إلى مكان آخر مع رجل آخر ، قد يراها ولا يراها . لمعت في ذهنه خاطرة : _ كل الدموع التي هاجمت العيون في ليالي الشتاء الحزينة ، وكل النحيب في أجساد الأرامل اللواتي كُنَّ ضحاياي ، أنا القاتل الباكي في هذه الساعة . كل الآلام التي سقيتُها للآخرين ، ها أنا ذا أتجرعها رغماً عني . لقد نلتُ نصيبي من الحزن والسعال والنحيب ، ومن سَلَّ سيفَ البغي صُرِع به .

أشباح الميناء المهجور/ الفصل السادس والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل السادس والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان القس يعقد في مكتبة الكنيسة مؤتمراً صحفياً وإلى جانبه الراهبة تيريز. كل وسائل الإعلام المحلية التي جمعها وزيرُ السياحة خصيصاً لهذا الحدث كانت متواجدة رغماً عنها ، فهي لا تملك رفض أوامر وزير مدعوم من الحاكم مباشرة . وكان الهدف نقل هذا الخبر لكل العالَم ، لكي يبدأ تدفق وسائل الإعلام العالمية إلى هذه البقعة التي بدورها سوف تسحب كل السياح إلى هذه البقعة. أما الراهباتُ فجلسن في المقاعد الأمامية وهنَّ عالمات بموضوع الرؤية ، فقد قامت تيريز بإخبارهن . والبعض صدَّق ذلك ، والبعض الآخر لم يُصَدِّقه ، إلا أن الجميع استسلم للأمر الواقع ، ولم يرد أن يثير هذه المسألة . أما راحيل فقد ظلَّت في الدَّير لوحدها وهي لا تعرف ماذا يحصل في العالَم الخارجي . وقد حاولت جودي أن تأخذها إلى المؤتمر الصحفي إلا أن تيريز قالت بصوت عالٍ مجلجِل مزَّق أُذُنَ راحيل : _ اتركي عمياءَ النَّحس هذه في الدَّير ، فنحن غير ذاهبات إلى عُرْس . إنه مكان سيضم أناساً مهمين ، ولا تنقصنا غبيات نأخذهن معنا لكي يُشَوِّهْنَ المكانَ ، ويجلبن لنا الفضائح ... لا مكان للخادمات مع عِلْية القوم . حاولت جودي تهدئة راحيل والتخفيف عنها ، واعتذرت لها نيابةً عن تيريز . ولم تُرِدْ جودي في تلك اللحظة أن تدخل في مشادة كلامية مع تيريز ، فهي مقتنعة أن هذا الدَّير لا تنقصه مشاكل . وصار الدَّير فارغاً إلا من شبح راحيل . ذلك الشبح المنعكس على الحيطان الواقفة على أصابع ملح دمعها كأعواد المشانق المتطورة. كان تبكي ولا تبكي، فهي صورة خيالات تخرج من الحيطان المتراصة بلا تاريخ سوى التاريخ الذي تصنعه النوارس القتيلة . وبالقدر الذي كان الدَّير هادئاً كان المؤتمر الصحفي صاخباً . كانت التمثيلية منسوجة بإحكام بالغ ، فقد قام القس والراهبة تيريز بتجميع أطراف القصة الخرافية فيما بينهما قبل مدة . وحينما جاء المؤتمر تناوب الاثنان على صياغتها لفظياً لتبدوَ القضية صادقة لا يعتريها لبس . ولأنهما كانا يتحدثان بجدية ومنطق وهدوء صدَّقت الأمرَ الراهباتُ اللواتي كن واقعات في الشك والحيرة . فالأسلوب الذي انتهجاه كان موغلاً في الاتزان وتسلسل الأفكار والأحداث بدون تناقض . وتناقلت وسائل الإعلام الخبر ، فصارت في البلاد حركة واسعة جداً من ردود الأفعال ، وصار هذا الحدث الشغل الشاغل للدولة كاملةً بكل أطيافها ، فصارت الرحلات المدرسية تتوجه إلى تلك البقعة ، والناس يذهبون ليشاهدوا هذا المكان ويكتشفوا أسرارَه بعد أن كان في طوايا النسيان والإقصاء . وقادت وسائل الإعلام الحكومية حملة واسعة جداً بعدة لغات لإيصال هذا الحدث غير العادي إلى الخارج . وطبعت الحكومة كُتَيِّباتٍ سياحية تتضمن ذكر هذا المكان وصوراً عنه بالعربية والإنجليزية والفرنسية ، ووضعت إعلاناتٍ في القنوات التلفزيونية الأمريكية والأوروبية حول هذا المكان غير العادي . وقامت وسائل الإعلام المحلية والخارجية باستضافة القس والراهبة تيريز للحديث في تفاصيل هذا الموضوع . وبدأت الوفود السياحية تنهمر على هذا المكان الذي كان منبوذاً . وبين عشية وضحاها صار العالم الغربي كله يحج إلى هذا المكان ، بعد أن صدرت تصريحات من كرادلة وقساوسة عالميين بضرورة الذهاب إلى ذلك المكان ، فهم يرونه آية بارزة تدل على اقتراب عودة المسيح . لقد كان حدثاً عنيفاً جداً غطى على كل الدولة . فالدولة نسيت كل شيء إلا هذا المكان . وصار السياح يلتقطون الصور التذكارية في ذلك المكان مع القس والراهبات . كانت الأمور أشبه بحفلة لمطرب عالمي مشهور يحضرها عدد لا يُحصَى من المهووسين به . وأقامت الحكومةُ مرافق عامة في تلك البقعة ، إذ إنها شيَّدت بركةَ ماء سَمَّتْها " نبع التطهير المقدَّس" مع أنه ليس نبعاً، إلا أنها قالت إنه نبع مُبارَك من أجل تطهير الذنوب والحصول على الغفران . وفرضت الحكومةُ رسومَ دخول باهظة للغاية تصل إلى خمسين دولاراً للشخص الواحد في تلك البقعة التي صارت حديث العالَم كله . وبعد مدة زار القسُّ وزيرَ السياحة في مكتبه بعد أن أخذ موعداً مسبقاً . فقد كان القس متضايقاً جداً برغم نجاح خطته أكثر مما توقَّع ، فهو لم يكسب مادياً من هذه العملية كما خطَّط لها ، فالأموال كلها تذهب إلى الحكومة ، ولم ير شيئاً منها . جلس القس على الكرسي بعد أن دعاه الوزيرُ للجلوس. وقد بلع ريقه كدلالة على ارتباكه وتحجر الكلام في حلقه . لاحظ الوزيرُ ارتباكَ القس ، فقال محاولاً فتح الموضوع : _ ماذا هناك يا حضرة القس ؟ . _ بصراحة يا سَيِّدي الوزير ، لم أحصل على أي مبلغ نظير خطتي التي حوَّلت ذلك المكان من مقبرة خالية إلى مزرعة دولارات لم أر منها شيئاً . ابتسم الوزير ، وقال بهدوء كأنه يغرس أشجار الكلام على إسفلت العاصفة التي ستأتي : _ بصراحة يا حضرة القس ، لقد خرج الموضوع من يدي ، فالحكومة سيطرت على كل شيء . وأنا مثلك لم أستفد مادياً من هذا الموضوع. فهذه الحكومة لا يمكن لأحد أن يسرقها لأنها السارق الأكبر في هذا البلد بعد الحاكم . وللأسف فكلنا يعرف هذا الموضوع ، ولا أحد يريد أن يتحدث . وأرجو أن لا يخرج هذا الكلام إلى خارج هذا المكتب فتطير رقابنا مجاناً . وتابع يقول : _ وعلى أية حال أنا مستعد أن أُعْطِيَكَ مبلغاً بسيطاً من أموالي الشخصية كمكافأة على جهودك . _ شكراً جزيلاً يا سَيِّدي الوزير ، فلا داعي أن تُتعِب نفسك ، فقد كان عليَّ أن أعرف أن اللص المبتدئ لا يمكن أن يخدع لصوصاً محترفين .

29‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الخامس والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الخامس والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان الدكتور وائل عمَّاش يشرب الخمر برفقة السفير الأمريكي في منزل الأخير ، ويشاهدان مبارة كرة سلة أمريكية . وفي خضم الاندماج في حركة دوران الكرة على الشاشة قال السفير الأمريكي : _ ما هي آخر مؤلفاتك ؟ . _ لدي كتاب فلسفي سَمَّيْتُه " الرد على أرسطو"، سوف أنتهي منه في القريب العاجل . _ عنوان رائع بالفعل . وعلى أية حال لجنة جائزة نوبل معجبة جداً بروايتك الأخيرة " أحزان مشرقية " ، فقد هاجمتَ الإسلامَ بكل براعة ، وتناولتَ موضوع اضطهاد المرأة الشرقية . وثق تماماً يا دكتور أننا وراءك حتى تحصل على نوبل وكل الجوائز العالمية ، ولكن كما تعلم كلما هاجمتَ الإسلام أكثر ازدادت فرص فوزك بالجائزة . نريد مواضيع عن الإرهاب في القرآن ، ونريد أن نُشَكِّك الناسَ بدينهم . وحاولْ في كتاباتك المقبلة زيادة جرعة الترويج للمشروع الأميركي الديمقراطي في المنطقة . وتابع يقول وعيناه تزدادان لمعاناً عنيفاً وصادماً : _ ويسرني أن أقول لك إن الحكومة الأمريكية وقفت وراء فوزك بالجائزة الأدبية الأخيرة تقديراً لخدماتك الجليلة في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان . ومضى الاثنان يشربان الويسكي ويأكلان المكسَّرات . كان الدكتور وائل يشرب بنهم شديد على عكس السفير. وفي نهاية اللقاء قرَّر الدكتور المغادرة إلا أنه لم يقدر على الوقوف من شدة السُّكْر، مما جعل السفير يتصل بسائق الدكتور الذي ينتظر في السيارة أمام البيت. أسرع السائق إلى البيت فوجد الدكتور في حالة كارثية ، فساعده بالمشي إلى السيارة ، وانطلقت مسرعةً تحرق إسفلت هذه الشوارع التي تبدو وكأنها بلا نهاية . إنها نفقٌ طويل ، والكل ينتظر الضوء في آخره، ولكن المفاجأة المؤلمة أنه لا يوجد ضوء أصلاً . أما السفير فصار يُقَلِّب المحطات حتى ثبت على أُغنية لماريا كيري كانت تُعْرَض على قناة أوروبية مُمَوَّلة من رجال أعمال عرب. وفي خضم جحوظ عينيه المسلَّطتين على الأجساد العارية قال وهو يقهقه : _ هذا الدكتور الأعرابي يَعتقد أن كتاباتِه التافهة ستوصله إلى نوبل . يظن نفسه وليم فوكنر . نحن صنعنا هذه الأعرابي بأموالنا ، وسنهدمه متى نشاء بعد أن تنتهيَ صلاحيته ، ويصبح ورقة محروقة بالنسبة إلينا ، ولن نجعله يأخذ جائزة نوبل حتى لو سجد لنا . فمنح عربيٍّ هذه الجائزة سَيُصَوِّر العربَ كأمة لها حضارة وثقافة وإنجازات ، وهذا ما لا نريده . ومضى الزمنُ سريعاً كأنه غزال يبقر بطنَ الضباب المقلي بدموع الغيم، ويمضي إلى موته بلا هوية شخصية أو جواز سفر دبلوماسي. واقترب موعد إعلان الفائز بجائزة نوبل للآداب. كل العالَم في ترقب وانتظار صارخ . كان الدكتور وائل يتابع وسائل الإعلام المحلية والعالمية ، ويتنقل من التلفاز إلى الانترنت ، من أجل الحصول على أي خبر يتعلق بالفائز . حاول الاتصال بالسفير الأمريكي ليعرف مدى فرصه بالفوز ، لكن السفير أغلق هاتفه الخلوي عمداً لأنه لا يريد أن يسمع صوته أو أي شيء عنه . وجاءت المفاجأة الصاعقة فقد أُعلن الفائز ، وبالطبع لم يكن الدكتور وائل هو ذلك الفائز. أَغلق التلفاز بكل هدوء أعصاب . في تلك اللحظة كان هدوء أعصابه مرعِباً ومستحيلاً . مضى إلى غرفة مكتبه ولم يشعل الضوء. كان على سطح المكتب أوراق كثيرة لم يلمسها منذ أيام . جلس على كرسيه الجلدي الفاخر في هذه العتمة اللاسعة . وأغمض عينيه كأنه يدخل في عوالم الذاكرة المفتوحة على كل احتمالات المستحيل الأزرق. لم يرتجف أي عضو في جسده، فقد كان دماغه يسابق كل أعمدة الكهرباء المغروسة في ذهنه الهارب إلى نهايات خريف المشاعر . ومثلما كانت أعوادُ المشانق تركض إلى أعواد المشانق ، كان جسد الدكتور يركض وهو جالس في مكانه .

26‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الرابع والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الرابع والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
نسَّق زياد مع سوزان مواعيد ومكان إلقاء الدروس الخاصة بها وبقريباتها كما طلبت. وحضر إلى البيت الذي اتفقوا عليه. كان في المجلس ست شابات مُحَجَّبات، والعجيب أنهن يضعن الحجاب لأول مرة في تاريخهن، وبدأن مرتعبات بعض الشيء، فكلهن قادمات من مدارس أجنبية وثقافة غربية حتى النخاع . كانت أعمارهن بين السادسة عشرة والثانية والعشرين . لم يتعودن على حضور دروس دينية . فهن يقضين أوقاتهن في الكوفي شوب ، أو في مشاهدة الفيديو كليب ، أو في الرحلات السياحية ، أو في شراء العطور والملابس وسيارات المرسيدس . عائشات بصورة مترفة للغاية وكأنهن في موناكو ، مع أن هذه البلاد فقيرة للغاية ، فهناك أكثر من أربعين بالمئة من الشعب تحت خط الفقر . ألقى زياد عليهن السلام ، فَرَدَدْنَ عليه بكل العبارات سوى رد السلام . أدرك أن مشواره طويل جداً ، فقال بعد أن جلس : _ إن إلقاء السلام سُنَّة ، والرد عليه واجب . فليكن الرد " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته " ، وبدأن يرددن تلك العبارة مثل الأطفال في الروضة الذين يتعلمون شيئاً جديداً لم يعهدوه من قبل . وتوالت الدروس بشكل منتظم ، وتم قطع شوط طويل في دراسة العلوم الشرعية بشكل واضح مُبَسَّط . وفي أحد الأيام سألته إحدى الفتيات عن الأحكام الشرعية الخاصة بالحيض . احمرت خدود باقي الفتيات ، وشعرن أنهن أمام موقف محرِج ، وقالت لها الفتاة الجالسة بجانبها بالفرنسية وبصوت هامس : _ عَيْبٌ . فهم زياد معنى تلك الكلمة ، فقد كان يتقن بالإضافة إلى العربية الإنجليزية والفرنسية ، وقال : _ لا تقولوا كلمة عيب . _ كيف عرفتَ معنى تلك الكلمة ؟ ، هل تتقن الفرنسية ؟ . _ يجب علينا أن نتعلم لغة أعدائنا الصليبيين ، فمن تعلَّم لغة قوم أَمِنَ شَرَّهم . ولذلك درستُ الإنجليزية والفرنسية . قالت إحدى الفتيات : _ أنا تعلمتُ الإسبانية . _ ولماذا تعلَّمْتِها ؟ . _ بصراحة ، خالي يدرس في إسبانيا ، وأظل أراسله بالبريد الإلكتروني . _ عليك أن تراسليه باللغة العربية لأننا نفتخر بلغتنا ، أما الإسبانية فنحن نتعلمها لنحرر الأندلس الواقعة تحت الاحتلال الإسباني الكاثوليكي . يجب أن لا ننسى هذا . وانتبهن يا بنات بأن الذي يخلع هويته اللغوية سيظل قزماً أمام نفسه مهما حقق إنجازات ، وسوف تظل كل إنجازاته وهمية . وأردف قائلاً : _ أما السؤال عن الحيض ، فإن الله لا يستحي من الحق ، وبصراحة قد فكَّرتُ أن أُعطيَ دروساً في الثقافة الجنسية بأسلوب لا يخدش الحياء ، لأنكن مقبلات على حياة مفتوحة ، وعلى المرأة خصوصاً في مجتمعنا الشرقي أن تعرف جسدها وحدوده وحدود ما يتصل به، لئلا تظل عمياء تتخبط في بحر عنيف، لا تعرف شيئاً عن كيانها بداعي الخجل . ومضى زياد يلقي درساً في الثقافة الجنسية . كان ذلك الكلام تسمعه الفتيات لأول مرة في حياتهن. فتصورهن عن الجنس يرتبط بشكله في الأفلام والفيديو كليب والروايات الجنسية. وكل تلك التصورات مدفونة في الخجل والأسرار، كأن الجنس أضحى في حياتهن سلطة كهنوتية مُغلَقة . وبعد شهر كامل من الدروس المكثَّفة ، قرَّر زياد الانقطاع عن التدريس ، فقد قال إن ما وضَّحه خلال هذه الدروس يكفي إلى حد بعيد ، ومن أراد التوسع والتخصص فعليه أن يستمر في بحثه . تمنى زياد للفتيات مستقبلاً مزدهراً ، وحثَّهن على الاتصال بالله ، والابتعاد عن رفاق السوء ، والتركيز في طلب العلم ، وخدمة الناس . وحينما همَّ بالمغادرة قالت له سوزان : _ أستاذ زياد ، هناك موضوع أود أن أطرحه عليك دون حضور أي أحد . كانت الفتيات جالسات ، وقد شعرن بالإحراج ، وقمن بالاستعداد للمغادرة ، لكن زياداً قال : _ ولكن يا آنسة سوزان أنا لا أختلي بامرأة ، فالخلوة بين الرَّجل والمرأة محظورة . _ ولكن الموضوع حساس للغاية ولا يحتمل وجود أحد سوانا . _ إذاً ، اتركي باب الغرفة مفتوحاً بعد أن تخرج الفتيات . قالت سوزان : _ أستاذ زياد ، أود أن أقول لك شيئاً ، وأرجو أن لا تضحك عليَّ أو تستهزأ بي ... أنا أُريدكَ زوجاً لي على سنة الله ورسوله . حافظ زياد على رباطة جأشه ، ومستوى الألوان في ملامح وجهه ، وقال : _ آنسة سوزان ، اسمحي لي أن أقول لك إنك تلميذة مبهورة بأستاذك لا أكثر ولا أقل . وما يحدث معك الآن حدث مع الممثلة فاتن حمامة التي تزوجت المخرج عز الدين ذو الفقار ، فقد اكتشفت أنها لم تكن تحبه ، وإنما مبهورة به لأنه أستاذها . أنا لا أستحق حُبَّك ، ولا أطيق أن تمنحيني قلبكِ ، ولن أسمح لك أن تُضَيِّعي مستقبلك مع شبحي القتيل . ناشدتك الله أن تبتعدي عني فأنا لا ينقصني صدمات عاطفية . _ مستقبلي سيضيع إن لم أعشه معك . أستاذ زياد ، أنتَ الشخص الوحيد في هذا العالَم الذي رآني عاريةً وقام بتغطيتي وستري . أنت بالفعل أقرب إليَّ من أبي الذي لم يفكر أن يستر لحمي في يوم من الأيام . إن لم أرتبط بك سوف أضيع ، أنتَ خلاصي ومُنقذي . لم أعد أتخيل عالمي بدونك . قد تظن أنني مجنونة أو مراهقة ، ولكني أحتاج إليك فلا تتركني في منتصف الطريق . _ آنسة سوزان ، أنا شخص متزوج . _ أنا أعرف ذلك، وزوجتك كانت امرأة أخيك، تَزَوَّجْتَهَا لتجمع شمل العائلة. ذُهِلَ زياد من هذا الكلام ، وقال وجحوظ عينيه يُغرِق وجهَه في أرق السؤال : _ وكيف عرفتِ هذا ؟ . _ لا تنس أني ابنة مدير المخابرات . ارتبك زياد ، وبدأ جبينه يتفصد عرقاً ، وقال : _ فكِّري في الموضوع لمدة أسبوع ، وإن بقيت على رأيك فسوف نتزوج . وغادر زياد المكان الذي شعر أنه غرفة تحقيق في دائرة المخابرات ، وأن المرأة التي أمامه هي خلاصة كل عقلية ضباط المخابرات . بدا شعوراً غريباً للغاية لم يتعود عليه . لم يعرف في تلك الساعة هل هو مستعد للزواج منها ، أما أنها كانت كلمة عابرة ليفلت من إلحاحها العنيف . بدأ يسير في الشوارع شاعراً أنه يركض في فراغ صدمة الذاكرة . أوقف سيارة تاكسي ، وركب فيها . مرَّ الناس والأشجار على صفيح زجاج السيارة ، وهو أيضاً كان يمر وعقله غارق في قيعان السؤال . وأكثر ما كان يؤرق زياداً هو أنه إذا ابتعد عن تلك المرأة فسوف تضيع فعلاً ، فلا أحد سوف ينقذها . هل عليه أن يلعب دور المنقِذ مرة ثانية بعدما لعبه مع زوجة أخيه ؟. ألقى حجارة هذا السؤال في قاع بئر وجدانه بلا جواب . والعجيب عدم وجود من يسأل عن مشاعره ، فالكل يريدون منه أن يُضَحِّيَ من أجل الآخر لأن الآخر يثق به . وقد صارت الثقة به عبئاً على كاهله . وبعد أسبوع اتصلت به سوزان ، وأَخْبَرَتْه بأنها متمسكة بما قالته ، وتنتظر أن يفيَ بالوعد الذي أخذه على نفسه . قال لها زياد بصوت ذابل : _ وهل والدك موافق ؟ . ردَّت بصوت صلب وبثقة منطقية : _ والدي لا يصلح أن يكون أباً ، فهو لا يصلح أن يكون ولي أمري . سنتزوج وفق المذهب الحنفي الذي يتيح للمرأة الراشدة أن تُزَوِّج نفسها بنفسها دون ولي ، وأَدِلَّته من الكتاب والسنة مُعتبَرة . أدرك زياد أنه أستاذ ناجح ، فما درَّسه للفتيات من فقه المذاهب الأربعة وأدلة كل طرف قد جاء بنتيجة . فهذه سوزان التي قضت حياتها في المسابح المختلطة ، وشرب الخمور، وتعاطي المخدرات حسب المزاج ، قد صارت تتحدث بفصاحة عن مسائل فقهية . شعر زياد بحجم المأزق الذي يحاصره من كل الجهات . أُصيب بدوار شرس . كان عليه أن يتخذ خطوات جريئة يتوقف عليها مسار اتزانه النفسي ، وقد قرَّر أن يتخذها . وفي الحقيقة كان زياد يحب سوزان من كل قلبه، ولكنه كان ينظر لما وراء ذلك الزواج ، فهي ابنة مدير مخابرات . وبالنسبة إليه فهو رجل متزوج ، وكيف سيقوم بإخبار زوجته ؟ . وإذا أخبر والده بالموضوع قد يؤثر ذلك على صحته الضعيفة أصلاً . دخل زياد على زوجته بعد أن استأذن . كانت تنظر إلى المرآة ، وتقوم بتمشيط شَعرها . أخذ المشط من يدها بهدوء، وصار يُمَشِّطها بحنان واضح ، وجسداهما على تماس . نظر إلى المرآة فاشتبكت عيناهما في بؤرة ضوئية كالطوفان . أدرك أن هذه اللحظة هي اللحظة المناسبة للحديث . بلع ريقه ، وقال : _ فايزة ، أريد أن أخبرك بموضوع مهم . _ وأنا أريد أن أخبرك بموضوع مهم ، فهل أبدأ أم تبدأ ؟ . _ ابدئي أنتِ . _ لقد قالت لي طبيبة المركز الصحي إنني حامل . ابتسم زياد ابتسامة نابعة من قلبه وبارك لزوجته التي انتفضت بكل عنفوان الأنثى الشهية ، ثم قالت : _ وما الموضوع المهم الذي عندك ؟ . تلعثم ولم يعرف ماذا يقول ، لكنه قرَّر أن ينطق تلك الكلمات العالقة في حلقه ويرتاح ، فقال : _ فايزة ، أرجو أن تفهمي كلامي بدون عصبية أو غضب .. هناك امرأة كانت تعيش حياة سيئة ، وقد قمتُ بتغيير مسار حياتها ، وهذه المرأة قرَّرتُ أن أتزوجها . توقَّع زياد عاصفةً من البكاء أو الصراخ ، لكن فايزة ظلَّت متماسكة وصامتة لبرهة قبل أن تقول : _ وهل هي أجمل مني ؟ . هل ستنام على صدرها وتبكي في أحضانها لكي ينخر دمعُكَ عظمَها ؟ . هل ستقوم بتمشيط شَعرها ؟ . هل ستقول لها نفس الكلام الذي كنتَ تقوله لي ؟ . إذا كنتُ لا أروي عطشك فأخبرني لأُغيِّر نفسي . _ فايزة ، واللهِ العظيم أنا لستُ مصاباً بالهوس الجنسي ، ولا أريد أن أفترس أكبر قدر ممكن من النساء . هذه المرأة ستضيع إن لم أدخل في حياتها . أنا أُضَحِّي مثلما أنتِ تُضَحِّين . إن الشرع أباح لي الزواج بأربع نساء بشرط العدل ، أنا لا أجرح مشاعرك، ولا أعتبرك قطعة أثاث في البيت، ولا أعتدي على حقك. في بعض الأحيان علينا أن نتبرع بقدر من مشاعرنا لإنقإذ إنسان على حافة الهاوية لا أحد يسأل عنه . في هذا العالَم المتوحش هناك أشياء أكبر من المشاعر . قالت وهي تصارع رغبة مهووسة في البكاء : _ افعل ما تشاء ، وإذا كانت تلك رغبتك فهي رغبتي أيضاً . وارتمت على صدره، وأخذ دبيب بكائها يتسلل إلى عظامه. أما هو فراح يُقَبِّلها كأنه يريد أن يأكل الأكسجين الذي يدخل إلى فمها . وبعد أن هدأت عاصفة القبلات قال : _ لا داعي أن تخبري والدي بالموضوع، فلا أريده أن يدخل في أمراض جديدة. لم يأت زياد على ذكر أخته فاطمة لأنها قد ذهبت إلى زوجها في الخليج بعد أن تم كتابة العقد بشكل هادئ وبحفلة بسيطة جداً تكاد لا تُذكَر . تم الزواج . ودخل الزوجان إلى عش الزوجية . وقد استأجر زياد شقة بسيطة تفي بالغرض . كانت سوزان فتاة ليست وقحة ولا خجولة ، فوجهها لم يحمر نهائياً، كأن الأمر روتيني جداً لدرجة أنها أخذت زمام المبادرة في الحديث ، فقالت : _ زياد ، كنتُ أود أن أناديك حبيبي منذ مدة بعيدة ، ولكن لم تكن العلاقة بيننا تسمح بتلك الكلمة، أما الآن فأنتَ سَيِّدي وزوجي وأستاذي وحبيبي وعشيقي وأبي وأمي وكل الناس . _ أنا لستُ سَيِّدَكِ ، بل أنتِ سَيِّدتي ومُعادَلتي الفلسفية اللذيذة . أنتِ فَرَسي الذي يستنزفني عاطفياً حتى النخاع كلما حاولتُ ترويضه . أنا عُرْي عشقكِ ، وأنتِ أنثى البرتقال التي سأعصرها في قلبي الباكي . _ لماذا تحبني كل هذا الحب ؟ ، أنا غير معتادة على أن يحبني أحد بصدق وشرف. وعلى أية حال لقد تركتُ شرب الخمر مذ رأيتُكَ، ولكني لم أترك السُّكْر، فأنا الآن أسكر برحيق عينيكَ، أَسْكَرَني بياضُ أسنانك. ريقك هو خمرتي الحلال التي سأُدمن عليها لأنال رضا الله . _ صَدِّقيني ، أنا أحسد الصابونَ الذي تستحمين به ، وأغار منه . أنا أحسد عَرَقَكِ لأنه يخدش عنفوانَ أعضائكِ . أنتِ كائن دموي ، لكنَّ دَمَكِ فلسفةُ العشب النابت في جماجم أعمدة الكهرباء التي تنير للسيول طريقَها . لقد أعطيتُكِ قلبي بكل غاباته فلا تحرقيه . أريد أن أكتشف أنوثتك بأظافري وأسناني ، ولكني أَعدكِ أن لا أجرحك ، وأن لا أكون متوحشاً . _ إذا مِتُّ فلا أريد أحداً يمشي في جنازتي غيرك . _ لا تقولي هذا يا سوزان ، فالحب والموت يختلطان في جبينك فأُولد أنا كي أموت على هضبة الحزن في صوتك ، تلك المنطقة المأهولة بدموعي وأشلائي . وتابع يقول : _ لأول مرة أشعر برغبة وجودية عارمة تلقائية في ممارسة الجنس . ابتسمت سوزان ، وقالت بكل ثقة : _ ما هو تعريفك الفلسفي للجنس ؟ . أُعجِب بهذا السؤال الذي كان يود أن يسمعه منذ مدة بعيدة ، وقال : _ الجنس شرارة كهربائية في جَسَدَيْ فراشتين في مدار الاحتراق الداخلي ، لكنه مرتبط في أذهان الناس بالعار والفاحشة ، لأنهم مقموعون سياسياً ، ولا يُسمَح لهم بالتعبير عن عواطفهم الذبيحة . _ اسمح لي أن أبدل الموضوع ، لو كنتَ غير متديِّن هل كنتَ ستقيم علاقات مع النساء ؟ . _ بالطبع لا ، فأنا لا أحب أن أكون نَخَّاساً ، ولا أحب أن ألعب دور تاجر الرقيق الأبيض . _ هناك شيء عالق في ذهني منذ مدة ولم أجد له تفسيراً ، وهو كيف عرفتَ أنني كنتُ في المسبح في ذلك اليوم المنحوس ؟ . _ بصراحة لقد رأيتُكِ في المنام ، وكامل المشهد رُسِمَ أمامي ، وجاءني نداء يطلب مني أن أساعدك. وقد تكاثرت هذه الأمور فيما بعد ، حتى إنني صرتُ عندما أذهب إلى صلاة المغرب في المسجد أرى صورتكِ في الشفق فأصير أتلفت باحثاً عنكِ ، ومن يراني يظن أنني مجنون ، لقد صرتِ هاجساً ثائراً في قلبي . _ سأقول لكَ شيئاً مشابِهاً ، لقد رأيتُكَ في المنام أثناء تواجدك في السجن ، وجاءني هاتف يطلب مني مساعدتك ، وقد أخبرتُ أبي بالموضوع ، وأخرجك من السجن ، أنتَ ورفاقك . ساد بينهما صمتٌ رهيب ، واكتفيا بالتحديق في عيون بعضهما البعض ، وقال زياد وقد أخذ نفساً عميقاً : _ يا الله ! ، لقد وضعنا القدرُ في نفس الطريق ، وجمعنا معاً بعد أن قال كلمته. ذهبت سوزان إلى إحدى حقائبها ، وأحضرت شيئاً ما من الحقيبة لم يستطع زياد أن يحدده ، وأقبلت على زياد وفي يدها مسدس . ارتبك زياد للوهلة الأولى ، لكنه استعاد تماسكه سريعاً كأن شيئاً لم يكن ، ثم قالت له : _ هذا مسدس أخي عمر الذي ذهب للجهاد في البوسنة ولم يعد حتى الآن ، أريد أن أُهْدِيَهُ لكَ ، فأنتَ وحدك من تستطيع الحفاظ عليه . وأنا واثقة أن أخي سيكون سعيداً لو علم أن مسدسه الشخصي بين يديكَ . صَدِّقْني ، في حياتي رجلان محترمان فقط أنتَ وأخي ، وأنا لا أريد أي رجل أن يكون أباً لأبنائي إلا أنتَ . _ عزيزتي سوزان ، إذا كان عماد الفايد قد ضحَّى بحياته من أجل دُمية محترقة في مسرح للعرائس ، فأنا مستعد أن أُضَحِّيَ بحياتي من أجل امرأة شريفة مثلك . لاحظ زياد هطول الدمع تلقائياً من عينيها ، فلم يرد أن يخوض في تفاصيل حول أخيها الذي لم يكن يعرف أنه ذهب إلى القتال في البوسنة . دخلا في العِناق الحاسم مع هطول زخات متفرقة من الدمع الممتزِج برائحة الجروح الخفية . مثل كل مواسم هجرة الطيور ، كان الجسدان يهاجران في عزلة الدمع ، وكأن موسم الهجرة إلى النزيف يتجدد بأشكال مختلفة .

25‏/08‏/2010

كيف استفاد تنظيم القاعدة من القطبية الواحدة ؟

كيف استفاد تنظيم القاعدة من القطبية الواحدة ؟
إبراهيم أبو عواد
جريدة القدس العربي
لندن ، 25/8/2010م .
إن البعض يعتقد أن القطبية الواحدة المتجسدة في الكيان الأمريكي تعني سيطرة مجانية على العالم ، وبسط النفوذ المطلق بكل أريحية دون مخاطر . وهذه نظرة قاصرة، لأن القطبية الواحدة لها ضريبة عالية جداً يتم دفعها من الأمن القومي والقوة الاقتصادية والترابط الاجتماعي . فهناك انعكاسات سلبية للقطبية الواحدة . فقيامُ أمريكا باختراع هالة القداسة حول نفسها كسُلطة اعتبارية مطلقة تتقمص شرطي العالم جعل من الكيان الأمريكي المفكَّك في مرمى كل السهام وفق نقطة مركزية واضحة للعيان . وطبعاً هذا يحد من قوتها لأن الظهور يقصم الظهورَ . ووجود الكيان الأمريكي كقطب أوحد علني ساهم في إفقاد أمريكا القدرة على التنظيم والتنفيذ داخل مشاريع الاحتلال الأمريكي ضمن الفوضى الإمبراطورية. وما الوجود الأمريكي العلني إلا وجود هدف واضح لكل أولئك الذين يجيدون تصويب السهام ، ولديهم مشكلة مع أمريكا يريدون تصفيتها مرتين ، أي تصفية المشكلة عبر تصفية أمريكا . والخطأ الإستراتيجي الخطير الذي ارتكبته الإدارات الأمريكية المتعاقبة يتركز في عدم تقدير ردة الفعل. وأدق مثال على هذا المبدأ هو ما قامت به أمريكا من دعم المجاهدين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، وبعد أن هزموا الاتحاد السوفييتي، توجَّهوا للقضاء على أمريكا، واتخاذها كعدو في مرمى النيران ، وصار يُنظَر إليهم كإرهابيين . فجاءت تفجيرات السفارات الأمريكية في أنحاء متفرقة من العالَم ، وأحداث 11/9 ، والهزيمة المرة في العراق وأفغانستان دون أية رائحة للنصر . والذي ينظر إلى مسرح الأحداث العالمي يجد أن الخاسر هو أمريكا التي تدفع الثمن من أعصاب شعبها ، وأموالِ دافعي الضرائب ، وأرواحِ جنودها القتلى، واقتصادِها المحتضر، وصورتها السيئة ، في حين أن تنظيم القاعدة ليس لديه ما يخسره لأنه ليس دولة ذات سيادة على أراضٍ وممتلكات وموارد قومية ، بل هو منظمة لا مركزية أينما هَبَطَتْ قامت بأداء ما تراه صحيحاً دون أن تثق بأية رؤية شرعية سوى رؤية منظِّريها . ومهما تلقَّت "القاعدة " من ضربات فهي قادرة على بناء ذاتها لأنها خلايا نائمة لا مركزية ، ولا تنتظر قدوم أوامر ابن لادن أو الظواهري . بل إن كل مسؤول قادر على إصدار أوامر ورسم سياسات وتحالفات لوحده دون الرجوع إلى النواة الأساسية . والجدير بالذكر أن تنظيم القاعدة ليس منظمةً تقصفها بعدة صواريخ من طائرة بلا طيار وتعود فرحاً بأنك قضيتَ عليها . فالأمر ليس بهذه البساطة. فالقاعدة جيش من الخلايا غير نظامي يعتمد على تمويل ضخم لا يمر بالطرق التقليدية ، ولا يمكن محاصرته لأنه لا يملك معسكرات محدَّدة تقصفها وترتاح منها ، كما لا يمكن قطع المساعدات عنه من البنك الدولي على سبيل المثال، ولا يمكن وضع عقوبات عليها من مجلس الأمن الدولي . وهذه هي الصعوبة في الأمر لأن أمريكا تقاتِل شبحاً ، تحارِب شيئاً كأنه بلا وجود حقيقي على أرض الواقع . وإنما تعرف بوجوده من خلال التفجيرات على مسرح الأحداث العالمية . كما أن تنظيم القاعدة استفاد_ مجاناً _ من حملة دعائية عالمية في كل وسائل الإعلام بشتى أشكالها ، فصار كالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس . وأنا على ثقة أن تنظيم القاعدة قد أخذ أكثر من قَدْره بكثير ، لكن الذي ساهم في ترسيخ صورته كتنظيم عابر للقارات هو أحداث 11/ 9 التي كانت _ رغم الإدانة الشديدة لها _ حدثاً أسطورياً سينمائياً استعراضياً وضع ابن لادن ومنظمته في قلب كل بيت على سطح المعمورة . وقد نجح تنظيم القاعدة في استقطاب أمريكا إلى أفغانستان لكي يقوم بقتالها على أرضه وبين مؤيديه . فابنُ لادن لا يستطيع مقاتلة أمريكا في الأراضي الأمريكية، وبالتالي فقد قام بسحبها إلى أفغانستان ليقاتلها على أرضه. وهذا يعكس أبعاد المصيدة التي نصبها ابن لادن لأمريكا عن طريق استقطابها إلى الفخ ، واستدراجها إلى أرضه التي يعرفها شبراً شبراً لكل يقاتلها بكل تركيز . ولأن المصائب لا تأتي فرادى نجد أن أمريكا تعاني من تصدع الحلف الذي تقوده تحت مسمى" مكافحة الإرهاب" لأن الدول الأوروبية الشريكة في هذا المشروع اكتشفت أنها تورطت مع أمريكا. فتنظيم القاعدة صار له فروع في عدة بلدان يصول ويجول فيها . كما أن الملابسات المحيطة بهذه الحرب رسَّخت لدى أذهان الكثيرين أنها حرب على الإسلام والمسلمين بالمقام الأول. فقد وجدنا الكثيرين من الأبرياء والمدنيين يُقتَلون على يد القوات الأمريكية بذريعة أنهم إرهابيون ، وهذا زاد الكراهية لأمريكا . كما أن هذه الحرب تم استغلالها للتضييق على الأقليات المسلمة في الغرب ، والتجسس عليهم ، ومنعهم من حقوقهم وممارسة شعائرهم الدينية ، والتطاول على مقدَّساتهم مع أنهم يعيشون في الغرب دون أية علاقة بتنظيم القاعدة . أضف إلى هذا أن صورة أمريكا في العالَم سيئة للغاية ، فقد كانت تُقدِّم نفسها على أنها واحة الأمن والسلام والحرية وحقوق الإنسان لكنها أدارت ظهرها لهذه القيم . وحينما سقط القناع عن وجه أمريكا رأى العالمُ الوجه الحقيقي المتمثل في معتقل غوانتانامو المبني على شكل أقفاص تتعارض مع الكرامة الإنسانية . فقد ضمَّ الأفرادَ بلا محاكمة ، والمتَّهم بريء حتى تثبت إدانته . فالوجود العلني الظاهري للقطب الواحد جعل أعداءَ الحضارة الأمريكية يُركِّزون في تحديد الهدف المعادي ( أمريكا ) بدقة ، دون تشتيت قواهم تجاه عدة أقطاب مبعثرين هنا وهناك . وبسبب انعدام وجود أقطاب مُكرَّسة على مسرح السياسة العالمية صار تركيز استهداف أمريكا عالياً للغاية . ومع ازدياد التشظي في بؤر الصراع العالمي ، وتأججِ الأزمات الداخلية والخارجية ، سوف يعاد تشكيل كوكب الأرض على صورة كيانات متعددة الأقطاب . ونحن نجد أن الجهات المضادة للاتجاه الأمريكي آخذة في التشكل كأقطاب لها وجود فاعل. ومن أبرز هذه الجهات المناوئة للمشروع الأمريكي هو تنظيم القاعدة الذي صار _ بسبب معادته لأمريكا _ قطباً عالمياً يتردد اسمه في كل العالَم بدون استثناء ، وكأنه قد حلَّ مكان الاتحاد السوفييتي .

24‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثالث والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثالث والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان الهاتف الخلوي لزياد يرن . وعرف زياد من خلال الرقم أن المتصل هو مسؤول الكوادر الطلابية في جماعة الإخوان المسلمين . وقد تبلَّغ بالنبأ الذي لا يحب سماعه ، فقد تم فصلُه من الجماعة بسبب قصة المسبح . فصوره تملأ الجرائد مع تعليقات نارية ضده وضد الجماعة . وفي الحقيقة فإن الحكومة هي التي التقطت تلك الصور لكنها حرصت على عدم إظهار ابنة مدير المخابرات . فالصورة هي لزياد وحوله شباب من الجنسين بملابس السباحة ، أما صورة ابنة مدير المخابرات فلم تظهر مطلقاً . وقد نشرتها في كل وسائل الإعلام لتضرب سمعةَ أفراد الجماعة ، وتُشَوِّه سيرةَ المنتمين إلى تلك الجماعة . وقد سبَّبت الصورُ إحراجاً كبيراً للجماعة التي حوصرت من كل الموالين للحكومة التي تدفع لهم لقاء تأييد سياساتها الصحيحة والخاطئة . أما زياد فسارت الأمور باتجاه معاكِس لنواياه الطيبة ، فالآن يُنْظَر إليه على أنه شخص غير أخلاقي يتردد على المسابح المختلطة في أكثر الفنادق فساداً ، ويمثل دور المتديِّن ، ويقف مع العاريات يتحدث ويناقش . وقد جاء قرار فصله من الجماعة ، والتبرؤ من فعلته ، ليزيد المصائب الهابطة فوق رأسه . صحيحٌ أنه حاول إنقاذ فتاة ضائعة ، وتقديم مساعدة لها ، ولكنْ يبدو أن تاريخه الأخلاقي قد شُطِب ، فهو لم ينتبه إلى أن رجال الحكومة يقفون وراء تصرفاته ، ويريدون أي خطأ لكي يضربوا ضربتهم . وبالفعل جاءت هذه الضربة الشرسة التي صيغت بصورة تضمن تشويه سمعة الجماعة ، وهذا ما تحلم به الحكومة . فمن غير المعقول أن كل الصحف تنشر نفس الصورة ونفس التعليق . فهذا يعني أن الأمر مُدَبَّر ، وتقف خلفه جهة كبيرة متنفذة . وقد لعبت الحكومةُ الدورَ بحرفية عالية . ها هو الدمار يستوطن. وبعد عدة أيام صارت الأمور مكشوفة للجميع ، فَكُرَةُ الثلج تم تكبيرها عمداً لتُرْمَى على مستقبله الشخصي ، ومستقبل حزبه السياسي . وامتد الدمار إلى بيته . فأهل بيته يقاطعونه ، وزوجته حبست نفسها في غرفتها رافضةً أن ترى وجهه . أما أبوه فقد قال له على انفراد : _ اسمع يا زياد ، كل الشباب يمرون بحالات ضعف . استغفر ربَّك بسبب ما فعلتَه . وإذا كان بينك وبين أي شابة علاقة محرَّمة ، فاقطعها ، وانتبه لأسرتك . قال زياد وعيناه تدمعان لأن الأمور وصلت إلى هذا الحد ، وقلبه يتقطع ، وعظامه تقشعر قلقاً وغضباً وحزناً : _ واللهِ العظيم يا أبي أنا مظلوم . أنتَ تعرف كيف كانت تربيتي . لقد ساعدتُ فتاة كانت على حافة الهاوية لم تجد من يمد لها يد العون. كان عليَّ أن أساعدها لأنها تضيع. لو أردتُ علاقاتٍ غير شرعية لكنتُ الآن أشرب الخمر وألعب القمار مع أميرات أوروبا . هل هذا جزائي لأنني أنقذتُ الإنسانَ من الدمار ؟ . لا أُصَدِّق أنني صرتُ كبش الفداء لكي يُصَفِّيَ الناس حساباتهم مع بعضهم . _ أنا أُصَدِّقك يا زياد ، ولكن كلام الناس لا ينتهي. هذه زوجتك تحبس نفسها في الغرفة ، ولا تريد أن تُكَلِّم أحداً . اذهب إليها ، وأخبرها أنك بريء . _ لقد صرتُ أدور من مكان إلى مكان طالباً العفو على ذنب لم أقترفه . لو قضيتُ حياتي سكران لصرتُ مواطناً صالحاً ، أما عندما أتحرك لإنقاذ وطني وأبنائه فأصير خائناً . وذهب زياد يجر كل أيام الجنود المنتصرين في المعركة المهزومين في وسائل الإعلام . طرق الباب ، وقال : _ افتحي يا فايزة ، أرجوك أن تفتحي . لم يأت أي جواب ، وحينما همَّ بالمغادرة فُتِح الباب ، فإذا فايزة تحمل في حمرة عينيها كل حرارة الدموع . فتحتِ البابَ وذهبت لتجلس على حافة السرير ، وعلامات الغضب باديةٌ عليها . جلس زياد إلى جانبها ، وهو لا يعرف كيف يبدأ الحديث ، وبعد برهة قال : _ فايزة ، أنا أعرف أنك غاضبة، ولكني أريدك أن تعلمي أن الموضوع قد فُسِّر بطريقة خاطئة . واللهِ العظيم يا فايزة أنا أحبك ومخلص لك . ولكن هناك أموراً تستدعي تدخلاً سريعاً ربما ينقصه التفكير في النتائج ، فكثير من الناس ليس لديهم أحدٌ يمد لهم العون ، وعلينا أن نساعدهم بالطرق الصالحة . صحيحٌ أنني وضعتُ نفسي في موقف محرِج ، ولكن الضرورات تبيح المحظورات . _ يا زياد ، أنا امرأة تغار على زوجها ، ولا أريد أن يأخذك مني أحد . هذا كل ما في الأمر . ودخلا في العناق باكِيَيْن ، كأن دموعهما غسيل كل خطايا الزنبق البري. فقد كانا يُتقِنان لغة البكاء بطلاقة . جسداهما يرتجفان وينصهران في بعضهما البعض ، والدموع مختلطة. هذه هي محادثات السلام بينهما التي تكللتْ بالنجاح لأن الطرفين يثقان بصدق الدموع .

23‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثاني والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثاني والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان هاني يمشي في الأزقة القذرة التي تفصل بين مستودعات الميناء كأنه يبحث عن شيء محدد . وفي خضم المشي المرعِب الذي أرهقه شعر باليأس من مهمته التي جاء من أجلها ، وأيقن أن الذي يبحث عنه غير موجود في هذه الأرجاء . وخضوعاً ليأسه جلس في إحدى الزوايا البائسة وهو يندب حظه العاثر . طأطأ رأسه ، وركَّز نظره في زاوية ما حيث كانت الفئران تتقاسم إحدى قطع الجبن. وبينما هو مشغول بمتابعة قسمة الغنيمة شعر بوقع أقدام تقترب منه شيئاً فشيئاً . التفت هاني فإذا بالرَّجل المطلوب يأتي على رجليه ، وبعد أن وصل إلى مكان جلوس هاني قال : _ هل كنتَ تبحث عني يا كابتن هاني ؟ . _ لقد تعبتُ من البحث عنك ، ولكني لم أجدك ، فمللتُ من كثرة المشي ، وقررتُ أن أستريح . _ إن كنتَ تريدني فسوف آتيك حيثما كنتَ ، ولا داعي أن تبحث عني . _ لدي عملية بخمسمائة دولار لا أكثر ولا أقل . _ ادفع مُقَدَّماً ، وأخبرني عن العملية ، واعْتَبِرْها قد تَمَّت . _ أريدك أن تفخخ سيارة أحد الرؤوس الكبيرة في البلد ، الأمين العام للحزب الشيوعي . _ هل يمتلك حراساً شخصيين ؟ . _ لا . _ إذاً ، استعد لأن تزور قبره ، وتبكيَ عليه مثل دموع التماسيح . ومضى الاثنان إلى الشاطئ يشقان الروائحَ الكريهة التي تنبعث من كل عناصر الموت في هذه الأزقة . وجلسا على صخرة تحفر اسمها على حنجرة البحر ، وبحثا كل تفاصيل العملية . وما إن هَمَّا بالافتراق حتى أقبل عليهم أسعد بهيئته المعهودة قائلاً : _ إن اجتمع غرابان على جثة البحر ، فهذا يدل على أن البحر يستحق الموت. أنت لص يا هاني لأنك سارق أحلام وأجساد . قال هاني بلهجة غير قاسية : _ أرجوك يا أسعد، ابتعد عنا، فهذه البلد لديها من المجانين ما يكفي، ولا تحتاج لمجانين جدد . صحيحٌ أنني لص ، وكلنا لصوص . فالفرق بيني وبين زعيم الدولة هو أنه يسرق الشعب وينال التصفيق والتأييد، أما أنا فأسرق وكل الشعب يحتقرني. _ لستُ مجنوناً ، لأني ما زلتُ أُطالب بدم قطتي في محاكم الرمال الشاسعة ، ولا أملك أتعاب المحامين . وحيداً أسرق أعضائي ليلاً لئلا يراني قلبي . أركض في وكر الاتحاد الأوروبي نادي الصليبيين ، أَسأل عن لون قميص عماد الفايد حينما قُتِل ، وتفرَّق دمه بين القبائل ، ولم يجد حكومةً تُطالِب بدمه . إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ . وسأذهب لأفرش له السجاد البرتقالي لون دم الجنون . ومضى أسعد كالعادة إلى اللاأين يسأل اللاأين عن وجهته المقبلة ، ويقول : _ سَيِّدي مَلَكَ الموت ، شرفٌ كبير لي حين تزور شخصاً حقيراً مثلي . حتى القططُ الشريدة سوف تمشي في جنازتي. أنا محترم ، لذلك لا أصلح أن أكون رئيس هذه الجمهورية . أما هاني فقال وهو مُشتَّت وفي قمة اكتئابه : _ لستُ أدري من أين تأتيني المصائب. ما هذا الكلام الصادر من هذا الغبي؟!. هل ينقصني اكتئاب في هذا الشاطئ القاتل ؟ . هل عليَّ أن أموت مليون مرة لكي تتمكن البرجوازيات من احتساء الشمبانيا في حطامي ؟ . يجب أن أترك الجامعة لأستمع إلى محاضرات البروفسور أسعد ، هذا المجنون الذي سيحرر العالَم . ألمانيا قدَّمت للعالَم آينشتاين ، وحكومتنا قدَّمت للعالَم هذا المجنون . وبعد يومين كانت سيارة الأمين العام للحزب الشيوعي أثراً إثر عَيْن بعد أن تفجرت ، وانطلقت شظاياها في الهواء . وصار جسده قطعة لحمة انصهرت مع الحديد ، فلم يعد لها معالم حقيقية . تابع هاني المشهد عبر شاشة التلفاز، فقد قطع التلفاز الحكومي بثه ، وبدأ بنقل أخبار الانفجار. ضحك هاني في تلك اللحظة من كل قلبه ، كأنه يثأر لكل أعضائه التي خُدِشَت . وقال وهو ينظر إلى شاشة التلفاز : _ لقد أخطأتَ يا سَيِّدي عندما ظننتَ أنك الذكي الوحيد في هذا العالَم. أرجو أن تُسَلِّم على كارل ماركس في قعر جهنم عندما تلقاه . أَغلق التلفازَ ، وراح يمشي إلى البحر وصدره ممتلئ بالأكسجين . لأول مرة يستشعر أن الأكسجين قد صادق رئتيه . وقف على شاطئ البحر ، وصار يُعَبِّئ جيوبَه بحجارة كبيرة ، فصار كمنطاد من الحجارة القاسية ، وعندما وقف على حافة البحر الملامس لرجليه قال : _ لقد وصلتَ أيها الأكسجين إلى رئتي متأخراً جداً . أيها البحر ، أُسَلِّمكَ نفسي بدون رهن . أعرف أن عيونك تتركز على روحي منذ تعارفنا ، وها أنا ذا أعترف بأنك كسبتَ المعركة . خذ كل ميراثي من الاكتئاب والضياع والعار ، وشكراً لهذه الأرض التي يحكمها الشيطان . أبي وأمي مارسا الجنسَ في ليلة صاخبة ، وأنجباني فَرِحَيْن لأشقى في فوهة التعاسة على هذه الأرض الضائعة ، فشكراً لهما ، وشكراً لهذا الشعب الضائع . لم أَجْنِ على أحد ، هذا ما جناه أبي عليَّ . إننا ندفع ثمن أخطاء آبائنا بشكل مضاعَف. كل البشر يرقصون، كلٌّ حسب أسلوبه الخاص ، وكل البشر ينتحرون ، كلٌّ حسب أسلوبه الخاص . كل إنسان مزرعة للتجاعيد ، حتى لو كان في ريعان شبابه . إن الموت ليس شيئاً جديداً عليَّ . يا فرجينيا وولف ، اسمحي لي أن أنتحر وفق طريقتك الخاضعة للملكية الفكرية ، لقد ظفرتَ بي أيها الموتُ لكني أنا مَن أختار التوقيت،وشكراً لكِ يا مارتا لينش على فلسفتك الحمقاء. فالشيء الوحيد الذي استفدته من الحضارة الغربية هو الطرق الإبداعية في الانتحار. هكذا أصير مثل أُمٍّ جرَّبتْ كل شيء ، وبقي أن تُجَرِّب الخيانةَ الزوجية . ومن فرط ما تعرفتُ على زوجاتٍ خائنات في هذا العالَم الأعمى صرتُ أشك في أُمي . وعلى أية حال فإن الشخص الذي لم يتزوج سيكون واثقاً من أنه لا توجد له زوجة تخونه. من يعرف طريقَه لا يلتفت وراءه أثناء سيره ، وهذا ما أفعله. ومضى إلى تلك الزرقة العنيفة الشاسعة مغمض العينين . دخل في رعشة الأكسجين المائي . شيء ما يشده إلى أسفل بلا رحمة أو استئذان ، هل هي جاذبية نيوتن أم لاجاذبية آينشتاين ؟ . لم يعرف في تلك اللحظات ، ولكنه يعرف أن نهايته في أوج احتراقها الذاتي . وتفشى الموجُ ثائراً يجتاح ، وعلت طبقاته على المكان ، كأن شيئاً لم يكن .

22‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الحادي والعشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الحادي والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان القس دانيال أنهانيوس يشرب الشاي مع الراهبة تيريز المصابة بالقرف من نكاته التي يلقيها ليبعث جواً من البهجة . وفي خضم الملل المتشظي في الأرجاء قالت تيريز : _ رجاءً يا حضرة القس، ادخل في الموضوع مباشرة ، ودعكَ من هذه النكات المملة . احمر وجه القس بعدما سمع هذا الكلام ، وقال : _ بصراحة يا أخت تيريز ، إن الإقبال على الكنيسة ضعيف للغاية ، وقد جاءتني فكرة عبقرية أطلعتُ عليها وزير السياحة في حكومتنا وأُعجب به جداً ، وقام بعرضها على رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووافقا على تنفيذ خطتي العبقرية من أجل تنشيط الحركة في هذه المنطقة ، وكل محافظات البلاد قاطبة . جحظت عينا تيريز شوقاً لهذه الفكرة ، وقالت ولعابُ فضولها يسيل في طرقات دماغها : _ وما هي هذه الفكرة يا حضرة القس ؟ . _ أنا وأنتِ سنقيم مؤتمراً صحفياً في مكتبة الكنيسة ، ونعلن أننا رأينا السيدة مريم متجسدة أمامنا في كنيستنا ، وصارت تحادثنا ثم اختفت فجأة . وهذا الحدث سوف تنقله كل وكالات الأنباء، وسوف يأتي إلينا كل الناس من شتى بقاع العالَم . ابتسمت تيريز لأول مرة منذ مدة طويلة ، وتهلَّلت أساريرها فرحاً بهذه الخطة ، وقالت : _ ولماذا لا نقول إننا رأينا السيد المسيح ؟ . _ إن غالبية مرتادي الكنيسة من النساء لأنهن يملكن نزعة عاطفية ، والسيدة مريم امرأة ، وهذا سيزيد الإقبال علينا أكثر وأكثر... وتذكَّري يا تيريز أننا سنجمع أموالاً طائلة من وراء هذا المشروع عدا عن المكافأة المالية الضخمة التي وعدني بها وزير السياحة ، وسنصبح مشهورين على صعيد العالَم . _ اعتبرني رأيتُ السيدة مريم بأم عينيَّ ، ولكنْ متى سنبدأ تنفيذ المشروع ؟ . _ في أقرب وقت ، لكنني بحاجة إلى ترتيب هذه المسرحية من كل الجوانب . وغرق الاثنان في ضحكة مدوية . وبينما كان الضحك يمزق جدرانَ المكان ، ظهرت راحيل حاملةً أدوات التنظيف ، وبدأت تمسح الأرض . انتبه القس إليها ، وهاله جمالُها ، فقال : _ من أين أتت هذه الراهبة ؟ ، إنني لم أرها قبل هذا اليوم . _ إنها ليست راهبة . إنها مجرد فتاة يهودية تافهة لا قيمة لها رماها أهلها عندنا ورحلوا . وهي تعمل خادمة في الدَّير مقابل الطعام الذي نطعمها إياه . _ انتبهي يا أخت تيريز إلى هذه اليهودية المتعفنة ، فاليهود قوم غدر ومكر ، لقد صلبوا ربَّنا المسيح ، وسخروا منه ، وبصقوا عليه ، واتهموا السيدة مريم بالزنا. لذا عليك أن تسحقيها تحت قدميك ، وتذليها ، وتبصقي عليها ، انتقاماً من اليهود الذين دمَّروا حياتنا . _ لا تقلق ، فهؤلاء اليهود سيظلون خدماً لنا لِيُكَفِّروا عن خطاياهم بحقنا . لم تستمع راحيل إلى هذا الحوار ، واستمرت في مسح الأرض بكل جدية . في تلك اللحظة الهاربة من صراع الزمان مع المكان ، كانت تلك البنت التي تمسح الأرضية القذرة التي يبدو أنها لم تُمْسَحْ منذ ملايين السنين متصالحة مع نفسها ظاهرياً . فمن فرط ما مر بها من صدمات لم تعد تشعر بمعنى الصدمة ، ومن كثرة جروحها لم تعد قادرة على العيش إلا ضمن دائرة الجروح والنزيف العنيف . كأنها قد اقتنعت بأن وظيفتها في هذه الحياة هو أن تظل خاضعة للآخرين ، تخدمهم رغماً عنها بكل مهانة وازدراء بسبب فقدانها للبصر . لقد وصلت إلى مرحلة نسيان كيفية البكاء ، فقد بكت طويلاً في حياتها ، ولكن الأمور ازدادت سوءاً ، فربما لو جرَّبت الضحك والابتسام لتغيَّرت حياتها ، من يدري ؟! . في المساء ، كان الجميع يتحلَّقون حول مائدة الطعام ، أما راحيل فظلَّت في المطبخ تنتظر انتهاء الراهبات من الأكل ، لتتناول عشاءها مما تبقى من الطعام . وبينما الجميع يلتهم الطعام ، قالت جودي : _ أين راحيل ؟ ، لماذا لا تأكل معنا ؟ . نظرت تيريز إلى جودي شزراً ، وقالت : _ الخادمة لا تجلس مع سيدتها على نفس المائدة . _ وهل نحن في عصر الإقطاعيات وماري أنطوانيت وقياصرة روسيا ؟ . _ نحن في عصر تيريز ، أنا إمبراطورة الدَّير ، وإذا كان للفاتيكان بابا ، فأنا ماما الفاتيكان ، وما أقوله سيمشي على الصغير والكبير ، والتي ترفض هذا الكلام فلتبحث لها عن مكان آخر . كانت الراهبات ينظرن إلى بعضهن البعض نظرات غامضة مخلوطة بمشاعر شتى. لكنهن ظللن جالسات على مقاعدهن ، ولم تجرؤ أية واحدة على المغادرة . وبعد أن رأت جودي هذا المشهد هبَّت واقفةً ، وقالت : _ أما أنا فسأذهب إلى المطبخ ، وأتناول الطعام مع راحيل . وبالفعل ذهبت إلى المطبخ بينما انتشر الهدوء على وجوه الراهبات اللواتي كنَّ يتناولن الطعام كأن شيئاً لم يحدث . كانت راحيل تجلس في المطبخ على كرسي خشبي متهالك واضعةً رِجلاً فوق أخرى ، والإضاءة الخافتة تزيد المكان غموضاً سينمائياً عميقاً . وطريقة جلوسها تعطي انطباعاً بأنها من سيدات المجتمع المخملي. ولما وقعت عينا جودي على راحيل أحسَّت بدفء غريب، وخُيِّل إليها أن تلك الأنثى الجالسة على الكرسي ملكة قديمة مرت على هذه الأرض في عصور أقل وحشية . قالت جودي : _ لقد جئتُ إليك يا راحيل لنجلس معاً ، ونتناول الطعام . _ وهل انتهين من تناول الطعام ؟ . _ أنا وأنتِ سوف نعد طعاماً الآن ، ولن ننتظر تناول بقايا الطعام مثل الجرذان الذليلة . وبعد أن صنعتا الطعام ، ذهبتا إلى غرفة جودي على مرأى من كل الراهبات وخصوصاً تيريز التي قالت بصوت عالٍ وأسمعت الجميع عن قصد : _ انظرن إلى جودي التي علَّمت هذه الخادمةَ العمياء كيف تتجرأ على سيداتها. كل من هبَّ ودبَّ صار يتحدانا ! . همست جودي في أذن راحيل قائلة : _ هذه العجوز تغار منك لأنك أجمل منها مليون مرة ، فاعتبري أنك لم تسمعي شيئاً . جلست المرأتان على السرير ، وصارتا تتناولان الطعام ، وفي أثناء ذلك قالت جودي : _ ما الذي جاء بك إلى هذا الدَّير ؟ . _ لقد هاجرت أسرتي ، ولم تشأ أن تأخذ بنتاً عمياء معها خوفاً من أن أكون عبئاً ثقيلاً لا تقدر على تحمله . تفاجأت جودي بهذا الكلام ، وقالت وعلامات الاستغراب تنحت خدودَها : _ لا أُصدِّق وجود أهل يرمون ابنتهم بهذه الطريقة المتوحشة . _ لن أكون أول بنت في هذا العالَم يرميها أهلها ولن أكون الأخيرة ، فنحن ندفع ثمن أخطاء آبائنا . _ ولكني لا أراك حزينةً أو متضايقة . _ وماذا سيفيدني الحزن ؟ . لقد بكيتُ أكثر مما ينبغي ، ولم يتغير شيء. ولم أعد مستعدة لأن أندب حظي أو أبكيَ بسبب انعدام بصري ، ففي آخر المطاف كل البشر عميان . استغربت جودي من هذه الفلسفة ، وأرادت أن تُغَيِّر الموضوع فقالت : _ راحيل ، أنت شابة مفعمة بالأنوثة ، ألم تحبي رَجُلاً ما في حياتك ؟ . _ بصراحة ، لقد أحببتُ شاباً مُسْلِماً من جماعة الإخوان المسلمين كان جاراً لنا مع أنني لا أستطيع رؤيته ، ولكني كنتُ أستشعر صوته الطاهر والدافئ ، فقد ساعدني في أحيان كثيرة ، ولم يحاول استغلال ضعفي لكي يفترسني أو يلعب بي . وأظن أنه أحبني بكل شرف ، ولكن للأسف ذهب كلٌّ منا إلى طريقه ، وتزوج امرأة أخرى . كانت جودي تتابع هذا الكلام بدقة بالغة ، واستوقفتها عبارة " جماعة الإخوان المسلمين " ، وتذكرت على الفور ذلك الكتاب الذي وجدته على الشاطئ في الماضي ، فقالت والفضول يأسر جوارحها : _ أنا آسفة يا راحيل ، ولكن هل يمكن أن تقولي اسم ذلك الرَّجل ؟ . _ اسمه " زياد خضر " . وما إن سمعت جودي الاسم حتى تجمَّدت مكانها كأنها صُعِقَت كهربائياً فلم تنبس ببنت شفة ، وظلت واجمةً ، وصارت القشعريرة تحفر في مناجم جسدها . وعم الصمتُ العنيف أرجاء هذا المكان الحزين . فكَّرت راحيل أن جودي قد تركتها وخرجت من الغرفة ، لكنها وأدت هذا الخاطرَ بعد أن تحسَّست جسمَ جودي بيديها ، وقالت : _ ماذا حصل يا أُخت جودي ؟ . استعادت جودي قدرتها على الكلام ، وقالت بنبرة كسيرة : _ لا شيء ، ولكني مرهقة بعض الشيء ، وأحتاج إلى النوم . حملت راحيل الطعام ، ومضت به إلى المطبخ ، وقبل أن تخرج من الغرفة قالت لها جودي : _ أنا آسفة يا راحيل ، فأنا غير قادرة على مساعدتك في حمل الطعام . _ لا بأس ، المهم أن ترتاحي وتنامي جيداً . ذهبت جودي إلى سريري كالجثة المهرولة في مدارات نواةٍ تتحطم . لم تذهب لتنظيف أسنانها بالفرشاة والمعجون كالعادة ، فهي غير قادرة بالفعل على الوقوف على رجليها . كان ترددُ ذلك الاسم كفيلاً بقلب كيانها . إنها تعيش مع أشباح ذلك الاسم ، وكلما خدعت نفسها بأنها نسيت حروف اسم ذلك الرَّجل ظهر لها من جديد من حيث لا تتوقع. تدثرت باللحاف لتطفأ هذه القشعريرة العنيدة ، كأن جسدها يخسر ملايين السعرات الحرارية ، يخسر كرياتِ الدم ، يخسر ذاته مجاناً. استسلمت للبكاء العنيف ، واختبأت كالسلحفاة داخل بيتها الصلب الحارق .

19‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل العشرون

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل العشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
في ظهيرة أحد الأيام كان زياد نائماً بعد أن أنهكه التعب. إنه يتشرب النوم مثل الإسفنج . لم يكن منامه سوى ظل نوارس قديمة تكتب اعترافات البحر على ورق البردي . تشظى منامه كما لو كان برميل نفط تتخبط فيه دلافين لا تاريخ لها سوى جثث مجهولة الهوية منسية تحت المطر . لقد رأى في منامه سوزان اللويمي في البكيني تُدَخِّن الماريجوانا قرب بركة السباحة في أحد فنادق الخمس نجوم . لقد رأى المشهد كأنه بث حي ومباشر ، مترافِقاً مع نداء عميق وخفي قادماً من كل الجهات : (( لقد أَنْقَذَتْكَ هذه المرأة ، فاذهب وانقذها فوراً )) . هبَّ من نومه مذعوراً ، وهو يتلفَّت حوله . ارتدى ثيابه بأسرع كبيرة ، وخرج من بيته دون أن يخبر أحداً عن وجهته . استقل سيارة تاكسي وطلب من السائق أن يوصله للفندق الذي رآه بالمنام . كان زياد يعرف تلك الشابة ، فهي رئيسة مجلس الطلبة السابق الذي كان عضواً فيه رغم كل التزوير ومحاولات إقصائه . ويعرف كذلك أن والدها هو مدير المخابرات . شعر أن عليه إنقاذها . شيء يناديه من أقاصي أعماقه وأقاصي منامه يطلب منه ذلك بإلحاح ، لكنه لم يجد تفسيراً لعبارة " لقد أَنْقَذَتْكَ هذه المرأة " . هل يمكن أن يكون ما رآه أضغاث أحلام ؟ . لقد فكَّر زياد بهذا الخاطر، ولكن سرعان ما طرده، لأنه كان يُلَبِّي نداء غريزياً في نخاع عظمه لم يجد تفسيراً منطقياً له. دخل زياد إلى المسبح بعد أن دفع مبلغاً من المال . لقد أصبح الآن في فوهة اللهب المائي . حوله العراةُ من كل الأديان والأجناس . والكل ينظر إليه باستغراب بالغ لأنه لم يكن بملابس السباحة . إنه الوحيد الذي يرتدي ثياباً رسمية في هذا المكان. توجَّه إلى المكان الذي رآه في المنام ، فوجد سوزان جالسةً وهي شبه عارية لا يغطي جسدها سوى قطعتين ، وحولها أصدقاؤها وصديقاتها ، وقد كانت تُدَخِّن الماريجوانا . وما إن رأت زياد حتى ارتبكت ، ورمت المخدِّر في البركة بصورة ميكانيكية شبه تلقائية . بدا المشهد محتوياً على تلميذة خائفة من أستاذها المهيب . هذه هي خلاصة اللقاء العاصف الذي لم تتوقعه . اقترب زياد منها ، وقال : _ آنسة سوزان ، ارتدي ملابسك رجاءً ، لكي نخرج من هذا المكان الذي لا يناسبك . وقفت سوزان منصاعة للأوامر بشكل غريب . فمن هذا الشخص الذي يلقي عليها الأوامر على الملأ وتستجيب له كأنها تخاف من العقاب ؟ . هذه اللبؤة الجامحة هل جرى ترويضها ببضع كلمات ؟ بهذه السهولة ؟ . قال أصدقاؤها وقد انبهروا بأناقة هذا الشاب المنتصِب بكل ثقة وجدية : _ من هذا الشاب يا سوزي ؟ . لم تعرف سوزان ماذا تجيب في تلك اللحظات الحرجة ، لكن ذهنها أسعفها بكلام وهمي ، فقالت : _ إنه ابن عمي ، ونحن في حكم المخطوبَيْن . ومضت سوزان لتغيِّر ملابسها ، وظل زياد ينتظرها في الخارج . وبعد أن ذهبا قالت إحدى صديقاتها بحسد ممزوج بالطيبة : _ إن سوزان لا تقع إلا واقفة ، وهي تعرف كيف تصطاد الرَّجل المناسب في الوقت المناسب . خرج الاثنان من الفندق ، وقد لاحظ زياد أن سوزان في حالة غير طبيعية ، فتيقَّن من أنها كانت تتعاطى المخدرات ، خصوصاً بعد أن لاحظ ما رمته في البركة ، وأيضاً الآثار الظاهرة على وجهها وطريقة كلامها تدل على أنها كانت تتعاطى. وقد سبق لزياد أن أنقذ أحد أصدقائه من الإدمان ، فهو يعرف أعراض التعاطي بشكل مُجْمَل . كان سائقها الخاص ينتظرها في سيارة المرسيدس ، وقد كان يمسك زجاجة ويسكي أحضرها من الفندق مجاناً بعد أن أخبرهم بأنه يعمل عند مدير المخابرات ، وأراهم هويته . إنه في حالة يُرْثَى لها ، فالسُّكْر أذهب عقله ، وجعله غير شاعر بما حوله . ولما رأى زياد المشهد أنزله من السيارة ، وقال لسوزان : _ هل تريدين هذا السكير أن يوصلك إلى البيت ، إنه سيوصلك إلى الموت . أخذ السائق يترنح في الطريق ، وهو يشتم زياداً وسوزان معاً ، وعلى الرغم من محاولته التهجم على زياد إلا أن زياداً رد الاعتداء ، ووكَّل به أحد موظفي الاستقبال في الفندق لإيقاظه،بعد أن ناوله زياد خمسة دولارات بدل التعب في إيقاظ هذا السكير . قاد زياد السيارة بنفسه وإلى جانبه سوزان التي خُيِّل إليها أنها في يوم زفافها ، أو أنها في حلم غريب يمر حاملاً على ظهره كل التناقضات . وبالطبع فهي غير مصدقة ما يحدث. تجري الأحداث بسرعة أكبر من قدرتها على التقاط موقف محدد، وبعد أن تنفست بعمق قالت : _ من أنتَ حتى تفعل هذا ؟! ، من تظن نفسك ؟ ، لستَ زوجي ولا أبي . _ أنا أقرب إليك من زوجك وأبيك . وقعت صدمة الجواب على عيونها كصخرة سفلية ظهرت على السطح بفعل زلزال قديم مر على هذه الأرض . ذُهِلت من ثقل الجواب الذي خلع قلبها من بين ضلوعها ، وقد أحس زياد بأنه تسرع جداً في جوابه ، وارتكب إثماً قد يُكَلِّفه غالياً، فهو لم يفكر في تلك العبارة التي جاءت كرد فعل عاجل بلا تخطيط مسبق ، ولقد ندم على تلك العبارة أشد الندم ، واستغفر ربه في قرارة نفسه لأنه اعتقد أنه تجاوز حدوده بصورة كارثية. أما سوزان فظلت تردد هذه العبارة في نفسها كأنها تريد أن تمتصها حتى الرمق الأخير . تلك العبارة كانت أكبر مداعبة لأنوثتها منذ وُلِدَت . لقد فتحت أمامها نافذةً من حضور الذاكرة في ظل هذا الهوس الذي تحياه كالموتى . وتابع زياد كلامه قائلاً : _ آنسة سوزان هل أنتِ مدمنة على المخدَّرات ؟ ، أرجوك لا تكذبي عليَّ . كانت إجابة سوزان ستأخذ طابع الكذب ، إلا أنها تراجعت في اللحظات الأخيرة ، وقالت بكل صدق : _ لستُ مدمنةً ، فأنا مسيطرة على نفسي ، ولا أتعاطى غير الماريجوانا بصورة مخفَّفة ، لأنها ببساطة المتوفرة بين يديَّ ، وأبي هو الذي يحتكرها في هذه البلاد ، ورغم أنها ممنوعة ويُعاقِب عليها القانون ، إلا أن أبي فوق القانون يلعب به كيفما يشاء ، ويصوغه بشكل يضمن مصالحه الشخصية هو وشركاؤه الحيتان من كبار رجال الدولة . وقد نصحتُه كثيراً ، ولكن هذه التجارة صارت تمشي في دمه . قال زياد بصوت دافئ كأنه يخاطب ذاته الأخرى : _ بالله عليك يا سوزان أن تبتعدي عن الماريجوانا ، وكل أنواع المخدَّرات من الآن فصاعداً . هزَّت رأسها كناية عن موافقتها على هذا الكلام دون أن تنبس ببنت شفة . تذكرت سوزان ذلك القرب من الله عندما صلَّت الفجر في تلك الليلة العجيبة التي رأت فيها زياداً في المنام . ارتبطت في ذهنها علاقة ما بين صلاة الفجر وزياد ، مع أنها لم تقدر على اكتشاف تلك العلاقة . وفي خضم هذه الانبعاثات الضوئية في ذهنها قالت بصورة صاعقة ومباغِتة : _ أستاذ زياد ، أنا أعرف أنك من الإخوان المسلمين ولديك علم بالأمور الشرعية ، وأعرف أنك الذي تقود المظاهرات في الجامعة ، وتلقي الخطابات النارية بكل فصاحة . فهل تستطيع أن تُدَرِّسنا أمور الدِّين أنا وقريباتي في منزلنا ؟ ، فنحن مُسْلِمات بالاسم فقط . تفاجأ زياد بهذا السؤال المباغِت ، واستمر في قيادة السيارة بدون أن يتكلم ، وبعد ثلاث دقائق من الصمت قال : _ أنا مستعد لذلك ، اكتبي لي رقم هاتفك ، وسأتصل بك لنحدد المواعيد بالضبط . كانت الدقائق الثلاث ملأى بالمخزون الذهني في عقل زياد ، فقد أيقن أن هؤلاء الفتيات بحاجة إلى مساعدة لأنهن ضائعات في محيط من الذئاب البشرية ، وعليه أن يمد لهن يد العون . استقر في رأسه هذه المعاني فقرر أن يساعدهن بلا تأخير .

18‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل التاسع عشر

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل التاسع عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كانت خولة تلعب أمام بيتها مع صغار الحارة من الجنسين ، فالأمور الأمنية ممتازة ، وليست كما كانت في السابق . بدت مندمجة في اللعب إلى حد التماهي مع خيالات الضحك الخارج من نخاع العظم دون تكلف . إنها تركض في الأرجاء مع أترابها ، وبينما هي تركض انقض على قدمها وحش معدني ، ونجم عن ذلك صوتٌ عظيم . لقد انفصل جزءٌ من كيانها عنها . فقد كان ذلك الوحش لغماً أرضياً . سقطت على الأرض والبكاء يمزق خاصرةَ المكان . فهي تبكي بكاءً مراً ممزوجاً مع الألم ، حيث فقدت رجلها اليمنى بكل بساطة . وصار الأطفال يتصايحون ، وهم يحيطون بها خائفين من منظر الدم والعضو المبتور . لم يملك الأطفال في تلك الساعة الرهيبة إلا أن يهربوا إلى بيوتهم بسرعة جنونية كأن حمماً بركانية تجري وراءهم . أما الناس فتجمهروا محاولين المساعدة ، ومتسائلين عن أهل هذه الطفلة . لكن أحدهم تعرَّف على هوية الطفلة ، وحملها إلى بيتها وهو يركض ، والناس يجرون وراءه ، دون أن يخطر على باله نقلها مباشرة إلى المستشفى . سمع زياد صوتَ الانفجار المرعِب وهو يتناول الطعام. فالصوتُ كان قريباً جداً منه ، وخُيِّل إليه أن عظامه تناثرت وانفصلت عن بعضها البعض . وأيضاً سمع أهل الدار الصوتَ القريب . ترك زياد الطعامَ ، وخرج ليرى ما الذي حدث دون أن يغسل يديه ، وتبعته زوجته وأخته لتشاهدا ما الذي يحصل ، هل عادت الحرب أم لا ؟ ، إلا أنهما وقفتا على باب المنزل دون اقتحام الشارع . وكم كانت الصدمة مدوية حين رأى زياد خولة محمولة على الأكف ، وقادمة نحوه . هرع إليها ومنظر الدماء تزيده حرقةً وألماً ، فالطفلة بدت كالدجاجة المذبوحة التي تضيع تدريجياً ، وقال زياد مخاطباً الجمع : _ نريد سيارة لإرسالها إلى المستشفى . أدركت فايزة أن ابنتها قد أصابها مكروه ، فحاولت أن تركض نحوها ، إلا أن فاطمة منعتها قائلة : _ أين ستلقين نفسك وسط كل هؤلاء الرِّجال ؟ . وقامت فاطمة باحتضان فايزة التي بدت فاقدةً لتركيزها تماماً ، خوفاً من أن تقتحم جمهرةَ الرِّجال ، وما هي إلا أجزاء من الدقيقة حتى أُغْمِيَ على فايزة ، وسقطت على باب المنزل . تطوَّع أحدهم بأخذها في سيارته الخاصة ، حمل زياد الطفلةَ بين ذراعيه فصارت كل ملابسه دماء ، إنها تنزف بشدة ، كأنما شرايينها تم إفراغها من محتواها بالكلية . ركب الجميع في السيارة التي كانت تلتهم الطرقات التهاماً ، فسرعتها صارت جنوناً رسمياً مفعماً بالهستيريا ، وفي خضم هذا الطيران العنيف ، قال زياد : _ لنأخذها إلى أحسن مستشفى في البلد . رد صاحب السيارة بلهجة حانية : _ ولكن المستشفيات الخاصة مُكْلِفة للغاية، وأنا أرى أن نأخذها لأي مستشفى حكومي . _ المستشفيات الحكومية تزيد الإنسانَ مرضاً إلى مرضه .. لنأخذها إلى أكبر مستشفى ، والله يُسَهِّل الأمور . أدخلت فاطمةُ زوجةَ أخيها إلى البيت وهي تجرها جراً . ثم أحضرت الماء ، وقامت بسكبه على وجهها مرات عديدة حتى استعادت وعيها . وراحت تُخَفِّف عنها ، فتارة تخبرها بأن زياداً سيقوم بالواجب ، وتارة تقول إنها مسألة بسيطة لا تدعو للقلق . أما فايزة فظهرت وكأنها في حالة احتضار شاملة ، فقد ارتمت على الأرض ، وزرعت بصرَها في السقف المتآكل . أما فاطمة فقامت بنزع حجاب فايزة تماماً لكي يدخل الهواء إلى رأسها في هذه الحالة الكارثية . إنه مشهد تراجيدي لن تجده في الأفلام السينمائية ولا الروايات الموغلة في السوداوية . أسرع زياد المصبوغ باللون الأحمر إلى داخل المستشفى حاملاً الطفلة بين يديه ، وصاحب السيارة يركض وراءه . وعند الاستقبال رفضوا السماح بدخول الطفلة النازفة قبل أخذ البيانات ، ودفع قيمة التأمين المالية . وكان الذي يلقي هذه التعليمات امرأة في أوائل الثلاثينات تضع على وجهها عدة أطنان من المكياج ، وقد بدت كالدمية في مسرح العرائس . والعجيب أن منظر الدماء لم يؤثر فيها بتاتاً ، فهي تتكلم بهدوء أعصاب مرعِب ، وتلقي الأوامر يمنة ويسرة ، والعلكة في فمها . وهذا الهدوء الكارثي جعل زياداً يُصاب بكل أنواع الاكتئاب والألم ، فقال : _ هذه الطفلة تموت ، وتضيع من بين أيدينا .. أرجوكم أدخلوها إلى غرفة العمليات ، وأنا مستعد لكل شيء . ردَّت المسؤولة وهي تمط كلامَها مطاً ، وتتكسر في قولها كأنها في غرفة نومها ، وتخلط العربية والإنجليزية مع أنها لا تتقن اللغتين : _ يا أستاذ ، هذه تعليمات الإدارة ، وأنا مجرد موظفة . لم يملك زياد في ذلك الموقف إلا أن يُعليَ صوتَه إلى درجة ما فوق الصراخ ، وكان يهدف من وراء هذا العمل أن يجمع المسؤولين لينقذوا البنت التي تضيع بكل بساطة. وبالفعل كان له ما أراد، واجتمع المسؤولون الذين كان موقفهم أكثر رعباً من موقف تلك الموظفة الصغيرة ، فقد قال كبيرهم : _ يا أُستاذ ، نحن مستشفى خاص ، يعني بالعربي الفصيح مستشفى تجاري . يجب أن تدفع أولاً، ثم بعد ذلك نقوم بعلاج المريضة وفق أحدث التقنيات والأجهزة والكوادر الطبية ... ولا أحدٌ ضربك على يدك لتأتيَ إلى مستشفى خاص ، فالمستشفيات الحكومية تملأ البلد ، خذها إلى أي واحد منهم ، ولا داعي أن تنظر إلى من هم فوقك . أحس زياد بلطمة قاسية استوطنت خدَّه، وشعر أن أحداً رشقه بماء بارد بشكل مفاجئ . في تلك اللحظة فقط عرف ما هو الفرق الحقيقي بين الفقير والغني . لم يدخل زياد في جدال طويل ، فحمل البنت إلى السيارة ، وصاحبها يجري وراءه كالعادة ، وانطلقا إلى أقرب مستشفى حكومي . ظهرت الشوارع كأنها كهوف خفافيش . لأول مرة يشعر زياد بظلمة هذه الشوارع التي طالما مشى فيها . شيء غريب كان يغلي في صدره ، ويحيل أحاسيسه إلى بركان مكبوت ، واستمر يحادث نفسه طوال مدة الطريق ، وهو يحضن الطفلة بكلتا يديه لأنه لا يريد أن تنزل أية قطرة دم.وكان يقول في نفسه في تلك اللحظات الرهيبة : _ لقد أصبحت دولتنا إقطاعيةً ، مَن يملك المال يستحق الحياة ، ومن لا يملك فليذهب إلى ألف داهية . دخلوا المستشفى الحكومي ، واستغاثوا بالأطباء والممرِّضين لتقديم المساعدة اللازمة . قامت إحدى الممرضات بتعقيم الجروح ، ولف الضمادات اللازمة في إحدى الغرف ، فقال لها زياد بحسن نية : _ سوف يقوم بالأطباء بهذا العمل حينما تَدخل غرفة العمليات الآن ! . كادت الممرضة تنفجر من الضحك، إلا أنها أمسكت نفسها في اللحظة الأخيرة لأن الوضع لا يحتمل الضحك ، وقالت : _ هذه الطفلة لن تدخل غرفة العمليات قبل أسبوع على الأقل ، فكل غرف العمليات محجوزة . قال زياد وقد انهار فعلياً : _ أرجوك يا أُختي افعلي أي شيء ، أنا مستعد لبيع ملابسي ، مستعد أن أرهن نفسي .. واللهِ العظيم سأحضر لكم المال الذي تريدونه ولكن أدخلوها غرفة العمليات فكفاها عذاباً . _ صدقني يا أستإذ إنا أُقدِّر مشاعرك ، ولكن الأمر أكبر مني ومنك ، وغرف العمليات محجوزة لحالات أكثر خطورة من هذه الحالة ، ولكني أعدك أن ندخلها في أسرع وقت . أيقن زياد في قرارة نفسه أن البنت ستموت لا محالة ، إلا أنه في اللحظة الأخيرة استشعر عظمة الله ، فتوجَّه إليه بالدعاء سراً راجياً منه أن ينقذ هذه البريئة من هذا الكابوس . وترك الطفلةَ مع الممرضة ، وذهب لتعبئة كافة البيانات، والتوقيع على الأوراق اللازمة . ودفع كل ما في جيبه ، وأيضاً صاحب السيارة دفع كل ما في جيبه من أجل الضمان المالي المبدئي . وعاد الاثنان كالمقاتلين العائدين من المعركة مهزومين ، يعودون إلى اللاشيء ، إلى حيث لا مكان ولا زمان . شكر زياد صاحبَ السيارة ، ووعده بأن يعيد له ماله في أسرع وقت ، لكن صاحب السيارة أخبره بأن المبلغ هدية من أخ لأخيه ، ورغم هذا ظل زياد مصراً على إرجاع المبلغ في أقرب فرصة . دخل زياد بيته بثيابه الحمراء التي تشبه ثياب المحكومين بالإعدام . إن منظره حزين كحزن الشمس لحظة الغروب الساقط في البحر. أسرع إليه أهل الدار كلهم مرة واحدة ، وكلهم يسألونه في نفس الوقت عن مصير الصغيرة . وتداخل الكلام فلم يفهم شيئاً مما يُقال . حاول زياد تهدئة الجميع ، فقال : _ يا جماعة، الطفلة بخير، لقد تعرضت لحادث بسيط، وهي الآن تتلقى العلاج، وسنزورها في الأيام المقبلة . قالت فايزة وقد صار وجهها مزرعةً للألوان المتضارِبة ، والهواجسِ القلقة : _ ولماذا لا نزورها الآن ؟ . _ إنها تتلقى العلاج في هذا الوقت ، وسوف يستمر علاجها بضعة أيام ، ولا نريد تعطيل الأطباء ، وزيارتنا لن تأتيَ بنتيجة لأننا لن نتمكن من رؤيتها ، وصَدِّقوني لا يوجد أي مبرر للقلق، فخولة جزء مني، وأنا الأب الروحي لها ، ولن أَرميَها بأي حال من الأحوال ، وأُديرَ ظهري لها . ورغم كل هذا فسأذهب كل يوم إلى المستشفى لأتأكد من حالتها . ونظر إلى زوجته فايزة قائلاً : _ أعرف يا فايزة أن مشاعرك كأم تسيطر على حواسك، ولكن عليك أن تثقي بي يا فايزة ، سوف أظل معها ، وعندما يحين الوقت المناسب لزيارتك لها فسوف آخذك معي ، وآخذ كل الأسرة . كان العجوز خضر الزاوي يستمع إلى كلام ابنه مثل التلميذ الذي يستمع لكلام الأستاذ . لقد وقع العجوز تحت سطوة شيخوخة الصمت ، فلم يظهر قادراً على المناقشة ، كما أنه لم يظهر قادراً على مواصلة الوقوف ، فقرر الجلوس على الفِرَاش الأرضي ، وأخرج مسبحته من جيبه ، وصار يذكر الله بصوت ممتزج بالهمس ، وعيناه تدوران في أرجاء المكان . وفي زحمة القلق وفوضى الألم والحزن الأخرس لم يطلب أي شخص من زياد أن يذهب ليغتسل أو يُغَيِّر ملابسه ، فاتخذ هذه الخطوة بنفسه ، وانسحب من المكان . وفي الحمَّام غيَّر ملابسه ، واغتسل على وجه السرعة . وبعد خروجه صلى ركعتين، ثم استقر على سجادة الصلاة ليقرأ وِرْده القرآني. وقامت المرأتان بقراءة القرآن في غرفة فاطمة دون أن يَطلب منهما أحدٌ فعل ذلك . فهناك قناعة في هذا البيت بأن المصائب التي تنزل عليهم واحدةً تلو الأخرى لن يرفعها إلا اللهُ ، ولن ينقذهم سوى اللجوء إليه . هذه هي القاعدة التي يسير عليها الجميع في هذا المنزل . وفي المساء سلَّم زياد نفسه لأحلام اليقظة . لقد تكوَّر حول فكرة محددة تدور في رأسه كالفراشة التي تحمل على جناحيها أباريق الماء المكسورة . وقد عزم أن يُنَفِّذها في الصباح بأسرع وقت ممكن . أخذ زياد مجموعة ضخمة من الأوراق ووضعها في كيس . إن تلك الأوراق عبارة عن كتابه " الرد على أرسطو " . ولكن أين سيأخذ هذا الكتاب في هذا الوقت الصعب ؟ . ذهب إلى الجامعة ، إلى مكتب الدكتور وائل عمَّاش . كان يعرف هدفه بعناية فائقة فلم يُعَرِّج على أي مكان آخر ، ويعرف كذلك مواعيد تواجد الدكتور في مكتبه . دخل عليه وهو يحمل ذلك الكيس ، وما إن رآه الدكتورُ حتى أحس بأنه يرى وحشاً منقرِضاً منذ ملايين السنين قد عاد للتو . قال الدكتور وهو يسحب الكلمات سحباً بطيئاً ليلعب بأعصاب زياد أطول وقت ممكن : _ لا ترجوني يا أستاذ زياد لكي أُعيدك إلى الجامعة ، لقد قلتُ كلمتي والرَّجل لا يعود في كلمته ، حتى لو قَبَّلْتَ حذائي ، واعتذرتَ لي . ضحك زياد ضحكة خفيفة استخفافاً بهذا الكلام ، وقال : _ دَعْكَ يا دكتور من موضوع الأحذية لأنه ليس من مستوانا العلمي ، وأنا لم أُخْطِئ لكي أعتذر ... ودعني أكن صريحاً معك ، فأنا أريد أن أعرض عليك كتاباً قمتُ بتأليفه ، وبصراحة أكثر أنا أعرف أنك مفكِّر وروائي ومرشَّح لجائزة نوبل في الآداب ، وأنا أمر في ضائقة مالية خانقة وظروف عائلية صعبة، وإذا أردتَ شراء هذا الكتاب ، فسوف أتنازل لك عنه بكل هدوء وسرية . تفاجأ الدكتور بهذا الكلام العجيب ، وأطرق برهة قبل أن يقول : _ أرني الكتاب . أذهله العنوان " الرد على أرسطو " ، وشده إلى تصفحه . أظن أنه قرأ أول خمس عشرة صفحة ، فأُعْجِب جداً بهذا الأسلوب الجذاب ، والأفكار الجديدة ، وقال متحمساً لفكرة لشراء الكتاب : _ اسمع يا زياد ، صحيحٌ أنني أكرهك وأحتقرك ، ولكني مذ رأيتُك أيقنتُ أنك غير عادي ... وأود أن أقول إنك محظوظ ، فاسمك بعد يومين سَيُعَمَّم على كل جامعات البلاد ، فلا تستطيع دخول أية واحدة . وأردف قائلاً : _ على أية حال لنعد إلى موضوعنا ، سأدفع لك خمسة آلاف دولار بشرط أن تكتب ورقةً بخط يدك تُثْبِت أنني أنا مؤلف الكتاب ، وأن لا علاقة لك به من قريب أو بعيد . راح يكتب تلك الورقة وفوق كتفيه كل ذكريات دماء ابنة أخيه، وحاجتها إلى عملية جراحية قد تكون مُكْلفة ، وأجرة البيت التي لم يدفعوها منذ وقت بعيد ، وملابس أخته التي تلبسها ليل نهار ، ولا تجرؤ على التفكير في شراء فستان جديد مثل كل الفتيات ، وزوجته التي تكتم حزنَها في قلبها ، وتُخَزِّن بؤسَها في عيونها ، ووالده الذي يطمح أن يذهب إلى الحج لكنه لا يملك مالاً . أنهى كتابة الورقة محتوية على كل ما يريده الدكتور ، ووقَّع في أسفل الصفحة ، وما إن رفع رأسَه حتى هبطت دمعةٌ مِلحية على حِبر إحدى الكلمات . مسحها بطرف كُمِّه ، ثم أعطى الورقة للدكتور الذي قرأها بعناية فائقة متأكداً من دلالة كل كلمة خوفاً من حدوث مشاكل مستقبلية . فتح الدكتور درج مكتبه، وأخرج خمسة آلاف دولار كانت جاهزة دون عَد، وأعطاها لزياد . لأول مرة يدرك زياد أن اللون الأخضر في هذه الأوراق له لمعة خاصة خادشة كأنها دبابيس في قميص الريح . في تلك اللحظة شعر أن بينه وبين اللون الأخضر عداوة غير منطقية ، وعلى الرغم من أنه حاول طرد هذا الهاجس ، إلا أن اللون الأخضر ظل يطارده ، وشكَّل عقدةً في منشار أحزانه التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ . وعندما خرج من بوابة الجامعة أيقن أنه لن يعود إلى هذا المكان مرة أخرى ، وأن جامعات وطنه صارت حراماً عليه. لقد صارت مُخَصَّصة لبشر آخرين يحملون لون جِلده ، ولكنهم مستعدون لتغيير جِلدهم إذا تغيرت بوصلة الشمس المزوَّرة . لأول مرة يحمل مبلغاً كبيراً في جيبه حسب مقياسه الشخصي . وكلما مشى في الشوارع الموبوءة تحسَّس جيبه ليطمئن على وجود المال . عرَّج على محل الصرافة ، وقام بتحويل المبلغ إلى العملة المحلية . وقبل أن يعود إلى بيته اشترى بعض الفواكه والخضراوات ، فلا بد أن هذا الأمر سيفرحهم ، ويخفف عنهم . وبعد مضي عشرة أيام تقريباً عادت خولة إلى بيتها برفقة أهلها الذين أحضروها من المستشفى . ولكنها لم تعد مثل باقي أطفال الحي ، فإحدى رجليها صناعية. كانت تمشي بصعوبة بالغة، وقد أدركت منذ اللحظات الأولى لدخول هذا الجسم الغريب إلى جسدها بلا استئذان ليصبح عضواً شقيقاً لباقي الأعضاء رغم الاختلافات أن حياتها اتخذت مساراً جديداً بالكلية . والعجيب أن الطفلة لم تكن تبكي ، بل أمها التي كانت تبكي طول الطريق بصوت هامس ، رغم أنها تُقاتِل نفسها لوأد البكاء . دخلت الصغيرة المنزل برجلها اليمنى الصناعية . صارت عرجاء تخطو على البلاط المشقَّق ، وثقل جسدها لا يتوزع بالتساوي على القدمين . تفاجأت الصغيرة بالزينة التي تملأ المكان ، فقالت ببساطة الطفولة وعفوية المشهد موجهة كلامها إلى فاطمة : _ هل ستتزوجين يا عمتي ؟ . ضحكت فاطمة ، بينما تكفل العجوز خضر الزاوي بالقول : _ لقد قامت عمتك بتزيين المكان فرحاً بقدومك . وأخرج زياد قالباً من الحلوى موضوعاً في علبة كرتونية ، وعبوة بلاستيكية كبيرة من العصير ، وقال : _ خذي هذه الأشياء يا فايزة ، وقومي أنتِ وفاطمة بتجهيز الحفلة المخصصة لخولة التي نحبها كلنا . كان الجميع يريد إضفاء جو من البهجة على نفسية خولة الطالعة من تجربة قاسية للغاية سترافقها رغماً عنها طوال حياتها . ولم يريدوا أن يُشْعِروها بأنها صارت عبئاً عليهم ، أو أنها صارت فتاة ذات إعاقة وتستحق الشفقة والإحسان من الآخرين . وفي المطبخ ، حيث يتم تجهيز الحلوى والعصير ، انفجرت فايزة باكيةً، وصارت تنتحب بصورة عنيفة للغاية . حاولت فاطمة تهدئتها والتخفيف عنها قائلةً : _ اصبري يا فايزة ، أنتِ امرأة مؤمنة ، والبنت إذا رأتكِ في هذه الحالة فلا بد أن تسوء حالتها ، وتنهار نفسياً . بدأت فايزة تكافح دموعها بشتى الوسائل ، ثم قالت وقد هدأت قليلاً : _ سوف تظل معاقة مدى الحياة ، والناس ينظرون إليها على أنها نصف إنسان، أو إنسان من الدرجة الثانية . _ لا درجة ثانية ولا درجة عاشرة ، غداً تصبح من أحسن الناس، فدعكِ من الدموع، وقومي بتشجيعها ، ولا تشعريها بأنها ناقصة أو مريضة. وتمت الحفلة على أحسن ما يرام كما لو كانت حفلة عيد ميلاد ، وهي بالفعل كانت ميلاداً جديداً لهذه البنت التي لا تملك إلا أن تقف على رجليها. إن صمودها في هذا الوقت العصيب يُحَيِّرني ، فهي لم تذرف أي دمعة منذ أدخلوا تلك الرِّجْلَ الصناعية في جسدها الغض . أما فاطمة فقد كانت في مزاج رائق بسبب استلامها رسالة من خطيبها أنس الذي وكَّل والده بإتمام كافة إجراءات الزواج ، ومن ثم سفرها إلى خطيبها . وقد حثَّها على مراسلته من خلال الإنترنت بعد أن وضع عنوان بريده الإلكتروني ، فالرسائل الورقية بطيئة جداً إذا ما قيست بالإنترنت.هذا ما قاله في رسالته الأخيرة. وقد انتظرت فاطمة الوقت المناسب لتخبر أهلها بالموضوع حتى يتم على أحسن حال .