أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثامن والعشرون )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كان زياد جالساً مع أبيه في بيت أسرته . يجلسان على فراش أرضي بسيط. بدا وجه أبيه كمزرعة تجاعيد وهموم لا نهائية . لكن هذه التجاعيد جديدة ، فهي لم تكن منذ مدة ، وربما يكون التعب النفسي قد ساهم في تفشيها .
قال زياد بلهجة الابن البار :
_ ما بك يا أبي ؟ ، أشعر أن صحتك ليست على ما يرام ، هل آخذك إلى الطبيب ؟ .
_ لا طبيب ولا مهندس ، أنا بخير ، ولكن بصراحة يا زياد أُفكِّر أن أذهب إلى الحج ، فلم يعد في العمر سوى ساعات ، وأحب أن أُلاقيَ وجهَ ربِّي وقد أديتُ هذا الفرض ، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة .
_ توكَّل على الله ، وسوف أُدبِّر لك المالَ اللازم ، وغداً سوف نسعى لإتمام هذا الموضوع مع الوزارة ، ولكن لا تنسانا من الدعاء هناك .
_ وهناك شيء أُريدك أن تقوم به ، وهو أن تظل تزور أخاك دائماً ، وتطمئن على صحته .
_ لقد زرتُه في الأسبوع الماضي ، وبصراحة لم يعد يتعرف على أحد ، فعندما رآني لم يقدر على معرفتي ، لكن الأطباء أكَّدوا أن هناك فرصة لا بأس بها لكي يتحسن وضعه الصحي بعد تنفيذ بعض البرامج الطبية المتطورة .
تهلَّلت أسارير الوالد ، وكأن التجاعيد قد اختفت فجأة ، وهاجرت من رقعة وجهه . هكذا تصورتُ المشهد . لقد دبَّت فيه الروح من جديد ، فهذا الكلام المتعلق بالحج وتحسن وضع ابنه أرجعه إلى عنفوان شبابه لدرجة أنه هبَّ واقفاً كعمود الكهرباء ، وقال إنه ذاهب ليُجهِّز حقيبةَ السفر من أجل الحج. ضحك زياد من هذا الأمر المبكِّر جداً ، لكنه لم يرد أن يقضيَ على سعادة أبيه فتركه يفعل ما يريد .
كانت فايزة تقوم بعملية جلي الصحون في المطبخ . سائل التنظيف آيل لأن يصبح فارغاً . لم تعد قادرة على مواكبة شراء هذه السوائل التي ارتفعت أسعارها بصورة جنونية . كل شيء ارتفع سعره أضعافاً مضاعفة . وفي زحمة تفكيرها بهذه الغلاء الفاحش أحسَّت بأن الصحون تتكاثر كقطيع من دبابات الصفيح التي تدوسها . وكانت الصغيرة خولة تجلس على كرسي متواضع تأكل تفاحةً غَسَلَتْها بعناية فائقة .
دخل زياد إلى المطبخ صارخاً :
_ أين أنتِ يا حبيبتي ؟ .
وبعد أن نطق بتلك الكلمات رأى خولة فخجل مما قاله ، فهو حريص على أن تظل هذه الكلمات بينه وبين زوجته ولا تخرج إلى العلن . وفي محاولة منه لتغيير الموضوع قال ممازِحاً خولة :
_ لماذا تأكلين تفاحة كاملة وتتركيني جائعاً ؟ .
صدَّقت خولة هذه الكلمات فأرادت أن تقسم التفاحة ، لكن زياداً منعها من فعل ذلك وأكَّد لها أنه كان يمزح معها ، مما أشاع جواً من البهجة .
أخرج زياد من جيبه بعض النقود ، وأعطاها لخولة لكي تشتريَ ما تحبه من البقالة القريبة . وبالفعل خرجت خولة سعيدة بهذا المبلغ الكبير في عينيها ، وها هي تمشي بشكل جيد ، فيبدو أنها تعوَّدت على رجلها الصناعية التي أضحت جزءاً من جسدها الغض بعد أن كانت جسماً دخيلاً .
تأففت فايزة بصوت عال من شيء ما يضايقها ، فاقترب منها زياد وسألها عن سبب ذلك فأجابت وقد أوقفت مضغ العلكة بعد أن أرسَلَتْها إلى المنفى في إحدى زوايا فمها :
_ سائل الجلي ما إن أستخدمه حتى يصبح فارغاً ، ونحتاج إلى آخر جديد ، والأسعار تطير كالصاروخ. لم نعد في وطننا قادرين على العيش ، فقد صارت بلادنا للسياح وليست لنا .
ابتسم زياد ، وقال :
_ لا تحرقي دمك، هذه الحكومة تريد أن تسرق الشعب بأية وسيلة ، والشعب مستمتع لأنه صار مثل قطيع الغنم لا يتكلم ... في أوروبا يقومون بمظاهرات تشل البلدَ وتُرَكِّع الحكومةَ حتى يلهث المسؤولون وراء المواطن ، أما في بلادنا فالحكومة تبصق على الشعب ، وهو يظل يمدحها ويقدسها .
وتابع يقول :
_ صَدِّقيني يا سوزان ... أقصد يا فايزة .
وانقطع صوت زياد فجأة بعد أن نطق اسم زوجته الثانية أمام زوجته الأولى . لقد تحجَّر ريقه في حلقه بعد أن اصطدمت عيناه بعيون فايزة التي كانت في أقصى مدار الألم والدهشة والرعب ، وقالت والدموع تقرع زجاج عيونها في هذا الشتاء الصيفي :
_ هل اسمها سوزان ؟ ... بصراحة اسم جميل وأُنثوي وأكثر رومانسية من اسمي الذي يبدو موضة قديمة ... لقد نسيتَ اسمي يا زياد بعد ليلة واحدة قضيتَها معها . اذهب إليها وعش معها ليظل اسمها على لسانك ... لا تأت إلي ، ابْقَ معها طول حياتك ، واتركني في هذا المطبخ كالخادمة المنسية .
وصارت تبكي بحرقة كُلِّ إناث النخيل العاري من الأمطار ، فأدرك زياد حجم الكارثة التي اخترعها عن غير قصد ، وقال :
_ واللهِ العظيم يا فايزة، أنا أخطأتُ عن غير قصد ، وأطلب منك أن تسامحيني.
أدارت ظهرها وهي تمسح دموعها بظاهر كفها ، فقال بحرقة بالغة :
_ أرجوكِ يا فايزة لا تحرميني من منظر صدرك النافر كالهضبة . لا تحرميني من رؤية بطنك التي تزداد انتفاخاً وتحمل ثمرة حبنا. أنا كالسمكة أموت إذا خرجتُ من منتجعات رموشكِ . لا تتركيني مع عمودك الفقري وحيداً أعد الفقراتِ وأخطأ في العد. عينك اليمنى نهرُ الفرات ، واليسرى نهرُ دجلة ، دعيني أُقبِّلهما ليصبح فمي شط العرب .
_ مشكلتي أنني أحبك ولا أقدر على مقاومة كلامك .
وبعدها أرادت بصق العلكة في سلة النفايات ، فهجمت كلمات زياد بشكل مباغِت :
_ لا ترميها ، بل ضعيها في فمي لأمضغها من بعدك .
_ وهل أخرجها بيدي ثم أضعها في فمك ؟ .
_ ضعي فمك في فمي لتمر العلكة من لعابك إلى لعابي .
ترددت فايزة بعض الشيء لكنها فعلت ذلك ، والتصق الجسدان في بؤرة بركانية صهرت مشاعرَ هذا العنف الرومانسي . كأن جسديهما في تلك اللحظة صاروخان احترقا تماماً بعد أن غادرا الغلاف الجوي للأرض . لستُ عالم فضاء أو خبير أسلحة ، لكن المشهد بدا حريقاً من العواطف الزوجية والقنابل والصواريخ المحترقة بعيداً عن طبقة الأوزون أو اتفاقية كيوتو .
ذهب زياد ليتفقد غرفته القديمة على السطح التي لم يزرها منذ مدة بعيدة . وكان الحنين قد استولى على كل عواطفه . أشكال البلاط في هذا الدَّرج الذي يبدو لا نهائياً ، والتشققات التي لم يفكر أحدٌ ما في إصلاحها ما زالت على حالها . تذكر خطواتِ راحيل المزروعة في نخاع هذا البلاط الأثري . كل الذكريات هجمت عليه فجأة .
إن غرفته كما هي ، لم يتغير فيها شيء سوى أن تلالاً من الغبار حلَّت مكانَه ، وتحرَّشت بأشيائه العزيزة . نظر من خلال شباك الغرفة إلى السطح ، فلم يجد أحداً . حبال الغسيل عارية من الغسيل . بدا منظراً مرعباً ، هذا الفراغ الحتمي الصاعق لم يترك في خياله سوى صور حفاري القبور الشباب الذين لم يجدوا أي مصدر دخل سوى العمل في حفر القبور وحراستها . كان خاطراً غريباً استوطن في ذهنه بعد أن رأى عُرْيَ حبال الغسيل . تذكر راحيل تلك الفتاة التي مرت تحت حبال الغسيل في الماضي الذي لا يعود إلا على شاشة الذهن . تُرى ماذا تفعل الآن ؟ ، داهمه هذا السؤال في عقر دار أحزانه لكن زياداً لم يجد إجابة واضحة . وسرعان ما هرب من تخيُّل أية إجابة محتملة ، وقام بالعودة إلى منزله هارباً من ألم الذكريات المتربصة به .
لاحظ زياد هدوء بيت جيرانه اليهود ، فلا يوجد أحذية عند الباب ، ولا يوجد أي صوت على عكس العادة . لكنه قال في نفسه إنهم قد يكونون قد ذهبوا لزيارة أحد ما .
وفي المنزل قال لأبيه المنتشي بعد أن انتهى من تجهيز حقيبة السفر :
_ يبدو أن جيراننا اليهود غير موجودين في بيتهم .
_ لقد سافروا بشكل نهائي إلى أوروبا بعد أن قطعوا كل العلاقات مع هذا المكان ، لكن بعض الناس يقولون إنهم رموا ابنتهم في دير الراهبات القريب منا ، والله أعلم بالحقيقة .
_ وهل يُعقَل أن يرميَ الإنسانُ ابنته ؟ .
_ هؤلاء يهود قد يفعلون أي شيء .
_ وما علاقة هذه البنت اليهودية بدير الراهبات ؟ .
_ أنا لا أفهم هذه المواضيع ، ولا أُتعب رأسي بالتفكير بهذه المسائل .
عَلِقَ هذا الموضوع برأس زياد ، ولم يقدر على التخلص منه، فقرر الذهاب فوراً إلى الدير وإنهاء هذه القضية تماماً .
ها هو يزرع أطراف أصابعه على باب الدَّير ، يقرعه بحماسة ولهفة عنيفَتَيْن رغم نعومة طرقه على الباب ، ويتحرق شوقاً إلى فتحه . وكانت كل راهبة في الداخل تطلب من زميلتها فتح الباب . وقررت جودي الذهاب إلى فتح باب لتنهيَ حالة الجدل . وبعد أن فَتَحَتْه رأت شاباً أنيقاً عليه علامات الوقار ، ويظهر أنه شخص محترم ، ففرحت جودي أنه ما زال هناك رجالٌ محترمون في هذا العالَم .
قال زياد :
_ لو سمحتِ يا أختي ، هل يمكن أن أُقابِل الآنسة راحيل ؟ .
_ من يريدها ؟ .
_ أنا ، زياد خضر .
وما إن هبط هذا الاسم في فوهة أُذنيها حتى جحظت عيناها بشكل مرعب ، وحدَّقت في زياد كأنها تريد أن تأكله بأسنانها . وقد ارتبك زياد حينما رأى هذا المشهد الغريب . لاحظ زياد لمعانَ الدمع في عينيها دون سبب واضح ، فقال لها :
_ عفواً يا أُختي ، هل أنتِ بخير ؟ .
كانت جودي في تلك اللحظة كالطفلة الصغيرة التي تضم نفسها أمام مُعلِّمتها ذات الشخصية القوية ، وقالت بصوت هامس يحمل كل رغبة الأسئلة الحارقة :
_ أنتَ زياد خضر ؟ .
_ إن كنتِ لا تُصَدِّقيني فسأُخرج لك هويتي الشخصية .
_ لا داعي لذلك ، فمثلك يا أُستاذ زياد لا يكذب .
تفاجأ زياد من هذا الرد ، أما جودي فدخلت إلى الدَّير دامعةً تلم كل أشلاء قلبها المقلي على نار الشوق إلى الوهم ، ومضت لكي تخبر راحيل . وفي طريقها اصطدمت بعيون تيريز الجارحة التي قالت بلهجة خشنة :
_ من بالباب ؟ .
_ إنه شخص يريد الآنسة راحيل .
_ وهل هذا الدَّير وكالة من غير بوَّاب ، وكل من هبَّ ودبَّ يأخذ ما يريد وينصرف ؟ ... سأرى من هذا الرَّجل الذي يريد هذه البنت التي لا يجيء من ورائها غير المصائب .
ومضت تيريز إلى الباب فاصطدمت بهذا الشاب الذي بدا من ملابسه أنه غني نسبياً ، وقالت له :
_ ماذا تريد يا أستاذ من الآنسة راحيل ؟ .
أدرك زياد عدمَ وجود إمكانية في الدخول ومناقشة الموضوع بهدوء ، فقرَّر أن يُنهيَ الموضوع سريعاً ، فقال :
_ بصراحة يا أختي أنا جار راحيل منذ مدة طويلة ، وكنتُ أحبها طوال هذه المدة ، وقررتُ أن أتزوجها ، لذا جئتُ إلى الدَّير لكي آخذها معي .
ضحكت تيريز استخفافاً ، وقالت :
_ قصة رومانسية لا بأس بها ، ولكن السيناريو ركيك ، وينقصكما أغنية لسيلين ديون لتبدوَ القصة أكثر إقناعاً ، أنصحك أن تدرس الأفلام العربية جيداً ، وعلى أية حال أنا لا أُمانِع أن تأخذها معك فهي عبء علينا ، ولكن يجب أن تُعَوِّضنا عن المبالغ التي أنفقناها عليها، فهي تأكل مجاناً، وتشرب مجاناً، وتلبس مجاناً، وتسكن مجاناً .
أدرك زياد أنه يتعرض لعملية ابتزاز وتحايل ، لكنه لم يرد أن يخوض في هذه المسائل ، وقرَّر أن ينهيَ الموضوع بدون جدال ، فقال :
_ أنا مستعد للدفع ، قَدِّري كل المصاريف ، وسأدفعها لك الآن .
احتارت تيريز في اختيار المبلغ المناسب ، لكنها أجمعت أمرها ، وقرَّرت أن تضاعف الرقم عدة مرات لتكسب أكبر قدر ممكن من المال ، فقالت :
_ المبلغ هو مئتا دولار فقط لا غير .
أخرج زياد المبلغ من محفظته وناولها إياه ، وقال لها :
_ أرجو أن تُخبري الآنسة راحيل لكي تستعد ، وتُجَهِّزَ نفسها وكامل أشيائها.
أشارت تيريز إلى جودي لكي تذهب وتخبر راحيل . وبالفعل أسرعت جودي كالفرس غير المروَّضة ، كأن حذاءها الصغير وجواربها البيضاء الرقيقة قد اندمجت في عنفوان هذا الركض في مسارات النهايات السعيدة .
كانت راحيل تمسح بلاط المطبخ . لم تنتبه إلى قدوم جودي ، فقد كانت مندمجة بالكلية في مسح البلاط بكل إخلاص وإتقان . صرخت جودي وعيناها توغلان في مسارات الحلم الكهربائي :
_ ارمي هذه الممسحة من يدك يا راحيل، فقد جاء شاب رائع لكي يتزوجك .
وقفت راحيل على قدميها مشدوهة ، وحدَّقت في هذا الفضاء الأسود حيث تذهب العناصر إلى الانطفاء القسري ، وقالت :
_ هل تمزحين ؟! ، فأنا لا أحد يعرفني من الرِّجال ، ولا أعرف رِجالاً .
_ وماذا عن زياد خضر .
ارتبكت راحيل حالما سمعت هذا الاسم، ولم تقدر على الوقوف ، فجلست على كرسي قريب منها ، وهي بين اليقظة واللايقظة ، وقالت بصوت يحمل كل انكسار الرمال المتحركة :
_ هل الأستاذ زياد موجود هنا وجاء ليسأل عني ؟ .
_ أنتِ تستحقين كل خير يا بَطَّة ، وتستحقين أن يحبك رَجُل بهذا الشكل ... والآن لا تُضَيِّعي الوقت ، لنُجَهِّز كل أشيائك كاملةً .
لم تكن أغراض راحيل الشخصية كثيرة ، فحقيبة واحدة متوسطة الحجم كانت كافية لجمع كل أغراضها البسيطة، ومشت إلى باب الدَّير الخارجي بمساعدة جودي كالعروس التي تُزَفُّ في محيط أخرس حتى النخاع بدون فستان العرس وبدون أية حفلة .
وما إن رآها زياد حتى تقدَّم ، وأمسك بيدها ، دون أن ينبسا ببنت شفة . فقد كان دفء اليدين أكثر بلاغة من أي حديث.وزياد يؤمن أن تلاصق اليدين لا يجوز، ولكن الضرورة فرضت عليه هذا الموقف الذي لا يقتنع به .
ومضى الاثنان في هذه الطريق الطويلة دون كلام ، فالصمت الذي كان بينهما يتكلم بالنيابة عنهما. لم يكونا يعرفان أين يذهبان، واكتفيا بالمشي وهو يمسك بيدها.
أما جودي فكانت تراقب المشهد من خلال نافذة غرفتها . دموعها المتوحشة متجمدة في عيونها ، لكنها تفجرت كالتراب اللوزي ، كأضرحة الملوك المخلوعين ، كآخر نظرات فتاة لاتينية قبل أن يتم اغتصابها فلسفياً . إنها تنتحب بكل عنفوان الجنون ، فحلمها الذي نَسَجَتْهُ من خيوط جِلْدها ها هو يضمحل أمام عينيها ، وهي لا تملك إلا الدموع خلف زجاج النافذة الموحش. فهذا الرَّجل عاشت مع شَبَحه لمدة طويلة، وطالما نادت عليه في المنام . ولم تتخيل في يوم من الأيام أن يلتقيا وجهاً لوجه ثم يختفيَ بكل سهولة . لقد اكتفت بهذا الشبح ، واقتنعت بأنه لن يظهر متجسِّداً على أرض الواقع، لكنه ظهر كالإعصار ، وأحرق جسدَها الغض ، ورحل بعد أن زرع كل مسامير الألم في لحمها المزروع في رئة الوهم المتكاثر .
قال زياد أثناء سيره :
_ هل تقبلين بي زوجاً يا راحيل ؟ .
لاذت بالصمت اللذيذ ، بينما تسلَّلت الحمرة إلى وجنتيها ، وبعد برهة من الصمت والاحمرار قالت بحياء شديد :
_ نعم .
ومضى الاثنان إلى المأذون الشرعي الذي أتم عقد الزواج على أصوله . وارتأى زياد أن يُبقيَ هذا الزواج سراً لئلا تحدث مشاكل في الوقت الراهن ، وقد قرَّر أن يعلنه في فترة قادمة بعد أن تكون الأمور قد سارت كما يريد .
استأجر زياد غرفة في فندق متوسط الفخامة ليقضيَ فيها ليلته مع زوجته ريثما يستأجر شقة تجمعهما . وبعد أن تناولا عشاءً خفيفاً جلس الزوجان قُبالة بعضهما كأنهما يستعدان للحوار الذي يسبق حلم الجسد الواحد . والعجيب أنه في كل زيجات زياد كانت ليلة الدخلة أشبه بمحاضرة فلسفية أو مكاشفة من نوع خاص جداً .
نظر زياد إلى عيون راحيل من مسافة قريبة جداً ، وقال :
_ لم أكن أعرف أن عينيك جميلتان لهذه الدرجة ، إنهما تفاحتان زجاجيتان غاطستان في بركة من الفضة .
_ هل تحبني يا زياد أم تشفق عليَّ ؟ .
ابتسم زياد ، وقال بصوت هامس :
_ أنا لا أُحبك ، ولا أُشفق عليك . أنا أعشقك حتى احتراق العشق ، وأعشق كل تفاصيل جسدك من رأسك حتى أخمص قدميك .
_ لماذا تَذَكَّرْتَنِي بعد كل هذه الأيام ؟ .
_ أنا لم أقدر على نسيانك حتى أتذكرك ، ولكن أموراً بالغة التعقيد حدثت معي ، وجعلتنا نبتعد عن بعضنا ، وإلا فكان يتوجب عليَّ أن أتزوجك منذ مدة طويلة .
وأردف قائلاً :
_ أرجوك يا راحيل ، البسي الثياب التي كانت عليك عندما كنتِ تنشرين الغسيلَ في الماضي دون أن تحمر خدودك .
ترددت راحيل بعض الشيء قبل أن تُلَبِّيَ رغبةَ زوجها الذي كان ينظر إلى حزن عينيها ، ويتخيله شلالاً من الحِبر الأبيض نازلاً من كتابات رعشتها العنيفة بلا موعد مسبق .
قال زياد وفي حروفه أمواج الشَّبق :
_ اسمحي لي يا حياتي أن أحرق جسدكِ بدموعي ، هذه هي المحرقة الحقيقية ، وليست خرافة الهولوكوست . أُريدكِ أن تُفَجِّري كل الكبت الجنسي في حياتك ، كلَّ أحزان الشوارع الباردة ، لتكن ليلة الدخلة هي سِفْر الخروج الخاص بنا نحن الاثنين فقط . أَخرج من جسدي ، وأَدخل في جسدكِ ، وتخرجين من أعضائكِ ، وتدخلين في أعضائي . ليكن الحب بيننا معركة قاتلة ، فلا فائدة من العشق الذي لا يمتزج بالموت. سأكتشف تضاريس هذا الجسد اليهودي الذي سيحرقني بأنوثته ونعومته وبياضه . أريد أن تكون كل قمصان نومك بلون دموعي .
وبدأ يقترب منها ، وهي تبتعد بشكل غريب ، كأن خوفاً من شيء ما يقتلعها . فقال زياد بصراحة وهدوء :
_ راحيل ، لا أستطيع أن أجبرك على شيء لا تريدينه، وإذا كنتِ غير مستعدة فيمكننا أن نؤجل الموضوع حتى تجدي الرغبة لذلك .
_ لا داعي للتأجيل .
وبعد الانتهاء من ممارسة تلك الرغبة ، كانت الصدمة أكبر من كل احتمالات الانهيار الشامل. فزياد قد صُعِقَ بشراسة، وراحيل غرقت في بحور الدمع المر . انتهى المشهد بكابوس وتواريخ كل الاكتئاب . فهول الصدمة لم يكن متوقعاً في أية مرحلة من مراحل هذه المشاعر التي يبدو أنها ذهبت أدراج الرياح ، فقد اتضح أن راحيل ليست بِكْراً، الأمر الذي كان فوق قدرة زياد على التحمل ، فها هو يبكي كالنساء على هذا الحلم المتكسر في العاصفة بَغتةً، قابعاً في إحدى زوايا شهيقه المتكسر، وهو لا يعرف ماذا يفعل أو ماذا يقول .
كان التشويش الهلامي في أوج جنونه ، فانسحب الاثنان من أحلامهما وتركا الساحة للدموع تخبط أطرافَهما بوحشية بالغة، وبعد برهة قال زياد بصوت خالٍ من الصوت :
_ لماذا فعلتِ هذا يا راحيل ؟ ، لماذا كسرتِ هذا الحلم الذي انتظرتُه منذ زمن بعيد ؟ . ليتكِ رفضتِ زواجنا لكي يحتفظ كلٌّ منا بذكرى طيبة عن الآخر .
قالت والدموع تتجذر خنادق بين كلماتها :
_ واللهِ يا زياد لا ذَنْبَ لي في هذا الموضوع كله ، فأبي اعتدى عليَّ بوحشية ، وسلب عُذْرِيَّتِي . حاولتُ المقاومة ، ولكني فتاة عمياء لا حول لي ولا قوة ، فلا تُحَمِّلْني آثامَ الآخرين ، فصورة الأب وهو يقتل ابنته ما زالت في رأسي . إن الكوارث التي زرعوها في حياتي كافية ، وقد أخذتُ نصيبي من العذاب ، فلا تزد عذابي . لقد دخلوا حياتي رغماً عني ، ودَمَّرُوها ، ثم رحلوا مبتسمين . إن أردتَ أن تُطَلِّقني فلكَ هذا . ارمني في الشارع ، وأرحني من الشكوك في عينيكَ اللتين أراهما الآن مع أنني لا أرى .
شعر زياد أنه قسى على راحيل بعد أن أدرك القصة كاملة ، فلم يملك في تلك الساعة الحرجة إلا أن يمسح دموعها بظاهر كفه، ويحاول التخفيف عنها. ضَمَّها إلى صدره بحنو الأب الحقيقي قائلاً :
_ أنا آسف يا راحيل ، لقد أنساني الشيطانُ طهارتك التي تمنعك أن تُفَرِّطي بنفسك ، سامحيني يا قطتي الصغيرة ، واعتبري الموضوع ليس له وجود . وغادر المكانَ وهو يصارع كل أنواع السموم في حَلْقه الذي كان يلتهب التهاباً . إن جسده المضمحل يتقاتل مع إلحاح مجنون يدفعه إلى البكاء . وبصراحة لم يكن يتحمل هذا الأمر . وأخيراً استسلم لزلزال البكاء الذي كان ينهش لحمَه بلا رحمة ، وهو يصارع غصةً في كل جوانحه .