سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

09‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثاني عشر

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثاني عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
وصل القس الجديد دانيال أنهانيوس وهو يوناني الأصل إلى هذه البلدة ، فقد تم تعيينه كراعي كنيسة . وصل مرهقاً من أثر السفر والعرق يمضغ زِيَّه الكهنوتي الذي يأكل جسدَه النحيل جداً ، فرأى في طريقه خمارة الأرمني ، فظن أنها مطعم لا أكثر ولا أقل . فهذه الخمارة ليس عليها لافتة تُوَضِّح أنها خمارة . ورأى القس من خلال الزجاج المعتم أناساً جالسين حول الطاولات، فاعتقد أن هذا مطعم. وبعد التحديق لمح أطياف بشر يجلسون حول الطاولات ، فالزجاج كان يميل للسَّواد ، ويمنع الرؤية بوضوح . ودخل في لحظة نحس عارمة ، ومن شدة التعب جلس على إحدى الطاولات القريبة من الباب دون أن يُحَدِّق في الحضور . ولو حدَّق لرأى زجاجات الخمر تجتاج خشب الطاولات بشكل كارثي . رأى الأرمني ذلك القس بزيه الكهنوتي فتعجب كثيراً ، فما الذي يفعله القس في هذا المكان ؟ ، أما الزبائن فكانوا غاطسين في عوالم أخرى من السُّكْر والهذيان ، إنهم يجلسون حول الطاولات غير شاعرين بمن يدخل ومن يخرج . عدَّل الأرمني صليبه بعد أن كان مائلاً بعض الشيء ، واقترب من القس بخطى غير واثقة ، وقال : _ بماذا أخدمك يا سَيِّدي ؟ . انتبه القس إلى منظر الصليب على صدر الأرمني ، وفي ذات الوقت شم رائحة فم الأرمني الكريهة ، فأُصيب بالاشمئزاز والقرف من الرائحة الكريهة القادمة من ذلك الفم ، فأشاح بوجهه عن الأرمني ، وقال : _ أريد عشاءً ، قليلاً من لحم الخنزير أو لحم الضأن ، وصحن سلطة ، وبعض المقبِّلات ، وكوب شاي . أُصيب الأرمني بالوجوم ، فهو لا يُقَدِّم أي شيء مما ذُكِر ، وقال في نفسه : _ يبدو أن في الأمر سوء تفاهم . وقال الأرمني : _ ولكن هذا المكان ليس مطعماً . _ وما هو إذاً ؟ . _ إنه خمارة ! . انتفض القس كالملسوع ، وهب واقفاً ، والارتباك والدهشة تنتفان لحيته المصبوغة بالسواد لكي يبدوَ في مرحلة الشباب مع أنه تجاوز الخمسين بقليل ، وصار يجيل بصره في المكان خوفاً من أن يراه أحد ما ، وتصبح فضيحة مدوية ، لكن السكارى المتناثرين في المكان المعتم لم يكونوا عالمين بما يجري ، فكل واحد منهم يُحَدِّق في زجاجة الخمر كما لو كانت زوجته التي تخونه مع ابن الجيران أو صورة أرملة جندي هرب من المعركة . وقال بعد هذه الانتفاضات السريعة : _ ولكنني لم أدخل خمارة في كل حياتي . قال الأرمني مبتسماً ابتسامة خفيفة فضحت منظرَ أسنانه الصفراء : _ ولكنك دخلتَها الآن ! . وأردف الأرمني قائلاً بسخرية لاذعة محاوِلاً استفزاز القس والعبث به : _ يا سَيِّدي القس ، كل هؤلاء الذين تراهم في الخمارة أبناء عائلات محترمة من شتى الطبقات . إنني أُحقِّق الوحدةَ الوطنية وتلاحم قوى الشَّعب في هذه الخمارة بعد أن عجز الساسة عن ذلك ! ، فالفقير على طاولة واحدة مع الغني ، والعالِم مع الجاهل ، والنظيف مع القذر . وبهذا يتحد أبناء الوطن ، وهكذا نكون في غنى عن مشاريع الحكومة التي تسرق الشعب ! ، فالعلاقة بين الشعب والحكومة مثل علاقة الرَّجل مع زوجته التي تخونه أمام عينيه ، وتظل تمضغ العلكة بكل وقاحة . كان القس يعرف أن هذا الخمَّار يعبث بالكلمات عمداً ، لكنه صار يفكِّر فيما يسمع بشكل عميق ، كأنه سُحِرَ بهذا السخرية اللاذعة ، وصدَّق الأكذوبة ، ووقع في الوهم معتنقاً إياه . ولمعت عينا الأرمني ، وتداخل الاحمرار الدموي مع بياض بؤبؤ العينين ، وقال : _ ماذا لو أطفأتَ عطشك بزجاجة نبيذ فرنسي معتَّق كان يوماً ما عنباً جزائرياً؟ . لن تخسر شيئاً ، اشرب واسكر ومتِّع نفسك ، واعترف أمام نفسك بالخطيئة ، ألا يأتي الناس ليعترفوا أمامك بذنوبهم لأنهم يعتقدون أنك تملك سلطة غفران الذنوب ؟! ، فاسكر واغفر لنفسك هذا الذنب . فهذه البلاد لا تحب المستيقظين، إنها تعشق السكارى والمساطيل. وما الذي فعله المستيقظون في بلادنا ؟. إن الحي والميت لهما نفس المكانة في هذا الوطن المقبرة . إن القس يدرك أن كلام الخمَّار سخيف للغاية وغير مقنع ، لكن هذه الشبهات تسرَّبت إلى تفاصيل جسده ، مما جعله يجلس على الطاولة بعد أن هم بالمغادرة ، وقال : _ أحضر لي زجاجتي نبيذ لا زجاجة واحدة . _ هذا هو الكلام ، وثِقْ يا سَيِّدي القس بأنك لن تكون أول سكير في هذا العالَم ولا آخر سكير ، فالذين يقودون بلادنا سِكِّيرون . فدولتنا تقتل أصحابَ العقول المستيقظة ، إنها تريد كائنات بلا أدمغة ليسهل حكمهم كالأغنام التي صار مستقبلها وراءها . كان القس لأول مرة في حياته يسمع كلاماً من هذا النوع . بدا الكلام ظلاً للرعب السحيق ، حيث ينقلك الوهم من جرح مفتوح على كل الاحتمالات إلى احتمال مفتوح على كل الجراح. إن الطاولة التي يجلس عليها صارت مقبرة زجاجية ترصده جراحاً لكل السنابل المنطفئة . استقرت زجاجتا النبيذ على الطاولة . رسم الصليب على صدره مثلما فعلت أنَّا كارنينا قبل أن تنتحر ، وطلب المغفرة قائلاً : _ ليغفر لي يسوع . وشرب الأولى حتى آخر قطرة، وقفز إلى الثانية بشبق هستيري كشهوة صحراء ترضع من اللبؤة . لأول مرة يريد أن ينسى كل ما حوله ، أن يعيش في عوالم بدون انتظار الراتب آخر الشهر، أو دفع الضرائب المتكاثرة كالجوارب الشتائية . ظن أن بإمكانه صناعة عالمه الخاص خارج نفوذ رجال المخابرات ومومسات البلاد ولصوص الحكومة . هكذا كان يُفكِّر ، ولستُ أدري كيف سقط في هذه الحفرة ، وهو نفسه لا يدري كيف سقط . ومن يوقع نفسه في هذه الحفرة فلا يَتوقع مرور شخص ما لينقذه ، فالذي لا ينقذ نفسه لن ينقذه الآخرون مهما استغاث طالباً المساعدة . في تلك الليلة حيث يتجول النحس بين الطاولات، ويلتصق على ألواح صدور البشر الدائرين في أفلاك زحمة الفراغ العدمي . وصل القس إلى ذروة السُّكر والانطفاء الشرس ، بحيث لم يعد قادراً على المشي ، وصار يتفوه بكلمات غير منطقية . جاء الخمَّار إلى الطاولة المنحوسة ، واتخذ وضعية محدَّدة من أجل أن يجر القس الذي فقد قواه العقلية تماماً . أدخله إلى الغرفة الصغيرة حيث السرير الذي كان يستريح عليه هاني ، ورمى القسَّ على السرير ، ورفع قدميه عن الأرض . غرق في سبات الأعاصير ، وبدأ الشخير يغزو أركان الغرفة المضمحلة . وفي جبهة الخمَّار انتحرت سنابل الخريف الذي يتشمس في الذبول الكَوْني ، وتعالت صفرة وديان قلبه الميت ، ففكَّر في سرقة القس الذي لن يُقاوِم لأنه فاقد لقواه العقلية والجسدية . ابتسم الخمَّار بخبث ، وألقى يديه في جيوب القس ، وقام بتمشيط منطقة العمليات بشكل كامل ، وأخذ كل المال الذي كان في الجيوب . عد المبلغَ فوجده مئة وأربعة وخمسين دولاراً ، فقال باستهزاء مخاطباً القس الذي غدا كالجثة الهامدة بلا حراك : _ سامحني يا سَيِّدي القس ، فقد انتهى الإخلاص والشرف في هذا العالَم ، وصار صعباً على الإنسان أن يجد صديقاً مخلصاً ! . وقُرب الخمَّارة ، وفي أحد الأزقة البائسة حيث الروائح الكريهة ، روائح النفايات والمجاري الفائضة ، وعيون القطط الهزيلة التي لا تجد شيئاً لتأكله ، والمخلوقات الآخذة في الانقراض ، كان أسعد يمشي وحيداً إلى اللاهدف ، فإذا لم تعرف وجهتك صار المشي وجهتك اللانهائية . صار يخاطب نوافذ الأبنية ذات الزجاج المتكسِّر ، والحيطان الكالحة . وقد كان يسمع الأحاديث الجنسية والضحكات بين الأزواج في غرف النوم ، فخجل من نفسه ، وصار مهاجراً من زقاق إلى زقاق ، وما زلتُ أسمع كلامه الذي كان ينثره على أجساد البيوت بعد أن لم يجد أحداً يكلمه : _ ذهبتْ حياتي مثلما يذهب كل شيء إلى اللاشيء . من كثرة جروحي لم أعد أشعر بالجرح ، وصرتُ أستغرب إذا كنتُ يوماً غير مجروح . يا أيها الحزن المتدفق كالسيول من ألواح صدري من حيطان غرفتي من الأرصفة الكالحة من اليود البحري . يا أيها الألم الطالع من حفر المجاري ، من جثث الفتيات المغتصبات من دم القطط الشاسع على الإسفلت بعد أن دهستها سيارات المرسيدس للأرستقراطيات. لو كان عندي زوجة لاختبأتُ في أجفانها وقرأتُ تعاليمَ الضباب على أضواء السيارات . ما زلت أُقاتِل ، كل النساء اللواتي أحببتهن باعهن أهلهن للأمراء ورجال الأعمال وضباط المخابرات ، وصرتُ مهرِّجاً لا أكثر . أنا المنبوذ الذي لا تحبني إلا القطط الشريدة والكلاب الضالة قبل أن يُطْلَق عليها الرصاص . إذا أعجبتك امرأةٌ فأحببها ، وإذا أُعجبتَ بامرأة متزوجة فأحبها هي وزوجها معاً . وكانت إحدى النساء قريبة من شرفة بيتها الوضيعة فسمعت هذا الكلام لكنها لم تفهم شيئاً ، وأقنعت نفسها بأن هذا كلام مجانين ، وليس غريباً أن يصدر من واحد كأسعد الذي صار في هذه البقعة المنسية أكثر شهرة من رئيس الدولة ، وطلبت من إحدى بناتها أن تحضر ماءً لتسكبه عليه . وبالفعل خرجت إلى الشرفة بقميص النوم وبرفقتها ابنتها وسكبت على رأسه الماء البارد بقسوة منقطعة النظير قائلة : _ اذهب من هنا أيها المجنون ، ابحث لك عن الزرائب لتنام فيها . لم ينتفض أسعد كأن شيئاً لم يكن ، واكتفى بالقول بصوت عال : _ أجارتَنا إنا غريبان ههنا ، وكُلُّ غريبٍ للغريب نسيبُ . وبالطبع لم تفهم المرأة شيئاً ، في حين أن ابنتها قالت والمفاجأة تقتلعها : _ إن هذا بيت شِعر لامرئ القيس ، إنهم يُدَرِّسوننا إياه في المدرسة . _ هذا كلام مجانين ، لا امرؤ القيس ولا امرؤ البطيخ ! . وتابع أسعد كلامه قائلاً : _ يا جارتي ، أنا لستُ رَجُل أعمال تنتظرينه خلف زجاج سيارات المرسيدس ، أنا انتصارُ المعارك الحاسمة وأعواد المشانق وأحلام الشحاذين وذكريات البنات المغتصَبات في سراييفو ورواندا وسان بطرسبرغ . كانت هذه المرأة الأمية لا تعرف من الحياة غير ممارسة الجنس ، فهي لم تذهب إلى مدرسة في حياتها ، حتى مَدْرسة ابنتها لا تعرف أين تقع ، وتزوَّجت وهي في الرابعة عشرة، شأنها شأن الكثيرات في هذه البلدة المحذوفة من خارطة الحلم .وهناك نساء عقولهن في شهواتهن الجامحة ، لا مكان للثقافة في حياتهن ، المهم أن تشبع شهوتها مع زوجها، وتنجب له أولاداً ليفتخر بهم في الأعراس والمآتم . أما إن أنجبت إناثاً فالويل لها من كلام زوجها ، وكلام جاراتها اللواتي لسن في وضع أفضل منها . وفي هذا المكان تُسْحَق المرأة مثلما يُسْحَق الرَّجل . الكل يركض في الفراغ ، فلو سألتَ هذه المرأة أو زوجها عن الإمام الغزالي أو المتنبي أو أحمد شوقي لما عرفوا من هؤلاء الأشخاص ، وربما ظنوا أنهم سائقو سيارات الأجرة أو وزراء في الحكومة ! . وفي صباح اليوم التالي كانت الشمس تعانق الطيور المهاجرة . استيقظ القس والانبهار يملأ زوايا تجاعيد وجهه . _ أين أنا ؟ . سأل نفسه . لكنه بدا وكأنه يسأل الحيطان في هذه الغرفة الغريبة . كل شيء هنا يبدو غريباً وخارجاً عن المألوف . نهض وخرج من هذه الغرفة الضيقة ، فانفتحت عيناه بكامل استدارتهما على الطاولات . كان الخمَّار يُرَتِّب زجاجات الخمر على الرفوف الخشبية، وما يثير تعجبي أن الخمر لم تنقطع من هذه الحانة طوال فترة الحرب ، وهذا الأمر ما زال يُحَيِّرني بشدة منقطعة النظير . صار القس يتذكر تدريجياً ما حصل معه البارحة . مر الأمر مثل الحلم ، بل مثل الكابوس . لم يُصَدِّق أنه ارتكب هذه الخطيئة . واقترب من الخمَّار الذي أظهر لامبالاة مقصودة . ولما رأى القس المشهدَ بهذا الاستخفاف وعدم الاكتراث قرَّر المغادرة دون أن يُكَلِّم الخمَّار . ولم يكد القس يصل الباب حتى سمع صوت الخمَّار وهو يقول : _ سَيِّدي القس ، أنتَ لم تدفع لي البارحة ثمن ما شَرِبْتَه ، ولكنني سامحتك من أجل يسوع المخلِّص ! . كان الخمَّار وقحاً للغاية في كلامه، فهو أصلاً لا يؤمن بفكرة الإله المصلوب المخلِّص ، ويعتقد أن هذه العقائد متناقضة مع المنطق يتم ترويجها بين البسطاء الذين يسهل الضحك عليهم ، لكنه أراد أن يغيظ القسَّ ، ويُمَثِّل دورَ العارف بالمعتقدات الإنجيلية ليبدوَ مثقفاً ، وليس خمَّاراً فحسب . أحس القس بالإحراج والإهانة، وشعر كأنه أسير مهزوم في المعركة أشفق القائد المنتصر عليه فخلى سبيله . خرج من الخمَّارة وهو يجر أذيال الخسارة كالعاشق الفاشل ، أو كالزوج الذي يحب زوجته ويعلم أنها تخونه، فلا هو قادر على فراقها ، ولا هو قادر على منعها من الخيانة . كان القس يعرف موقع الكنيسة بدقة ، فقد زارها قبل ثمان سنوات برفقة وفد كنسي أوروبي لبحث زيادة عدد الكنائس في هذه المنطقة . وفي أثناء طريقه تحسَّس جيوبه فلم يجد المال . عاود الكرَّة ، وأدخل يديه في جيوبه فأدرك أن ماله قد سُرِق منه ، وأيقن أن ذلك الخمَّار له يد في الموضوع . فعندما دخل الخمَّارة كان بحوزته المبلغ كاملاً ، وبعد خروجه منها لم يجد ذلك المبلغ . وعلى الرغم من يقينه التام بسرقة الأرمني له، إلا أنه قرَّر عدم العودة لأنه قرف من ذلك المكان ، واستغنى عن ماله ، ولم يطالب به بتاتاً . وصل القس إلى موقع الكنيسة والدَّير ، وقرَّر أن يزور الدَّير ليُعرِّف الراهبات على هويته بوصفه راعياً جديداً للكنيسة . طرق الباب ففتحت له الراهبة عايدة قائلةً : _ نعم ، أية خدمة ؟! . اشمأز القس من رؤية نظارات الراهبة السميكة التي تعكس انطباعاً بالاكتئاب والسذاجة ، واشمأز أكثر من هذا الاستقبال الجاف ، كأنها لم تلاحظ زيه الكهنوتي . وقال في نفسه : _ ألا يوجد راهبة أفضل من هذه لتستقبلني ، راهبة شقراء شابة ممتلئة بدلاً من هذه الجثة الواقفة أمامها كشاهد القبر . إن عايدة موغلة في البساطة والسذاجة في آن معاً ، وهي طيبة القلب لا تعرف الحقد ، كل مستقبلها وراءها ، لا تاريخ لها سوى الحزن المقطَّر على حواف نظارتها السميكة التي رافقتها منذ شبابها حتى الآن ، وكلما انكسرتْ أَصْلَحَتْها دون أن تفكر بشراء واحدة جديدة . إن منظرها يُقَطِّع القلب ، فلا أحد يسأل عنها في هذا المكان ، فأهلها قد أهملوها نهائياً كأنها كانت عبئاً على أكتافهم ، وسرعان ما ألقوه في حفر الدموع السحيقة . عدَّلت عايدة وضعية نظارتها، وركَّزت النظر في ثياب القس الكهنوتية، فأيقنت أن هذا الشخص رجل دين. ارتعبت من رؤيته، وخالجها شعور بالرهبة ، فهي أصلاً غير واثقة بنفسها في الظروف العادية ، فما بالك إذا كان الظرف غريباً كرؤية رجل دين بزيه الكهنوتي ؟!. وهي غير معتادة على رؤية الرجال ، فالدَّير صار قبرها الجوال في صحاري الروح . قالت والارتباك يقضم أجزاء صوتها : _ تَفَضَّلْ يا سَيِّدي القس إلى الداخل . _ بدايةً دعيني أُعرِّفك بنفسي ، أنا جاركم القس دانيال أنهانيوس راعي الكنيسة الجديد . لم تعرف ماذا تفعل في ذلك الموقف سوى السماح بإدخاله إلى الدَّير دون تنبيه الراهبات اللواتي قد يكن في وضع غير لائق . وما إن دخل الدَّير حتى وقعت عيناه على تيريز وهي في ملابس رقيقة . كان المشهد كارثياً من جميع النواحي ، وبدت عيناه كجمرتين على حبال غسيل قرميد الوداع ، وسرى في خدوده الاحمرار العنيف ، فأسرعت تيريز للاختباء في الغرفة التي تتواجد فيها الراهبات ، وهي تشتم عايدة في نفسها لأن سمحت بدخول رجل دون أن تُنَبِّه الراهبات لكي يأخذن الاحتياطات ويظهرن بمظهر لائق . أحس القس بفداحة الموقف ومقدار الإحراج الهستيري ، واقتنع بأن هذه الراهبة لا تتقن التصرف، فانسحب بهدوء، وخرج من الدَّير ، وأغلق الباب وراءه. وفي أثناء ذلك كانت تيريز تخبر الراهبات بوجود رجل في الدَّير ، فعم الارتباك في أوساط الراهبات ، والمشكلة أن زي الرهبنة الخاص بتيريز كان في الغرفة الأخرى ، وهي الآن في ملابس النوم، فالوضع بالغ السوء لدرجة شرسة جداً بالنسبة للجميع. وبينما كانت الراهبات يغرقن في القلق والحيرة والرهبة دخلت عليهن عايدة بابتسامتها الحمقاء ، وقالت : _ لقد خرج القس . تنفست الراهباتُ الصعداء ، وبدأن يُوَبِّخْن عايدة بصورة قاسية ، ومسحن الأرضَ بكرامتها أو ما تبقى من كرامتها ، فكيف سمحت بدخول رجل غريب إلى مكان لا يوجد فيه إلا النساء الخارجات للتو من النوم ، وهن يضعن على أجسادهن ملابس رقيقة للغاية . تأثرت عايدة بهذا التوبيخ الجماعي الذي انهمر عليها كأعواد الكبريت المتساقطة من أجنحة المروحيات العسكرية ، وبدأت تبكي بحرقة بالغة منتهاها. انسحبت تيريز من المكان دون أن تنبس ببنت شفة ، في حين أن باقي الراهبات أخذن يخففن عنها ، ويعتذرن لها ، ويطلبن منها أن تكف عن البكاء . وبالفعل توقف بكاء عايدة . وخرجن كلهن لإعداد طعام الإفطار بعد أن غَيَّرْنَ ثيابهن. تَجَمَّعْنَ حول المائدة، وشبَّكت تيريز أصابع يديها ، وقالت بصوت عال : _ بسم الرب يسوع ، أبانا الذي في السماوات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك على الأرض كما هي في السماء ، خبزنا كَفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا، كما غفرنا نحن للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير . وبدأ التهام الطعام بعد هذه المقدمة التي ترددها تيريز على مائدة الطعام . لكن جودي لم تكن ترددها ، فقد أصبحت لا تعترف بالمسيح ربَّاً لها من كثرة المطالعات التي قامت بها ، مع احترامها له ومحبتها إياه ، فالمخلوق الذي يذهب لقضاء الحاجة ويحمل الأوساخ في جسمه لا يمكن له أن يكون إلهاً. هذا ما تقوله في نفسها . لكنها أيضاً لم تعتنق ديانةً أخرى . فهي الآن تبني أفكارها وفق عقائد متضادة ، كل جزء فيها ينفي ما يقابله . وهي تعلم أن وضعها بالغ التعقيد والتصادم . وفي أثناء الطعام قالت تيريز وقد تكوَّم الطعام في فمها حيث كانت بطيئة المضغ، وتستعمل طقم أسنان بعد سقوط عدد كبير من أسنانها : _ من هذا الرَّجل الذي أدخلته إلى الدَّير ؟ . فهمت عايدة أن الكلام مُوَجَّه إليها ، فقالت : _ إنه القس دانيال أنهانيوس راعي الكنيسة الجديد . ظهرت اللامبالاة على وجه تيريز ، وقطَّبت حاجبيها، وقالت بلهجة استنكارية: _ الآن تذكروا أن يرسلوا راعياً لهذه الكنيسة المهجورة بعد أن أكلها الغبار والقاذورات ، ولم يعد يدخلها إلا الجرذان ؟! . وأردفت قائلة : _ لن يستطيع القس أن يقوم بتنظيف هذه الكنيسة لوحده، وسوف يرجع إلينا ليطلب مساعدتنا في التنظيف ، هكذا نعيش خادمات ونموت خادمات . وكان توقع تيريز صحيحاً، فبعد أن فتح القس باب الكنيسة شم رائحة سيئة خانقة . وعندما توغل في هذا المدى الهستيري رأى المنظر كارثياً ، فالغبار يبدو كأنه ناطحات سحاب على المقاعد وصور الجدران، والصلبان الضخمة بدت بلا لون من كثرة الغبار، والأوساخ على الأرض، وقطعان الفئران تقفز على المقاعد سعيدة، ثم أخذت في الهجرة إلى مخابئها بعدما أحست بحركة القس . أسرع القس بالخروج والسعال يمزِّق حنجرته قائلاً في نفسه : _ لا بد أن الرَّب غاضب عليَّ إذ أحضرني إلى هذه الكنيسة . وكما قالت تيريز فإن القس عاد إلى الدَّير ليطلب المساعدة . همَّت عايدة بفتح الباب لكن تيريز أوقفتها ، وقالت : _ أنا سأفتح الباب لأعرف كيف أتعامل مع هذا القس . وبالفعل فتحت تيريز البابَ فالتقت عيناها بعيون القس الذي ظهرت على سحنته ممالك الاكتئاب وعوالم القرف والضيق بعد أن رأى الأوساخ في الكنيسة . وتفاجأ القس بملامح تيريز القاسية التي جعلت منها التجاعيد امرأة خشبية صارمة ودميمة ، فقال بنبرة خائفة بعض الشيء : _ أنا جاركم القس دانيال أنهانيوس راعي الكنيسة الجديد . _ أهلاً وسهلاً أيها القس ، بماذا أخدمك ؟ . _ بصراحة أنا خجلان منكن لأني أريد مساعدتكن في تنظيف الكنيسة بيت الرَّب ، فهذا الأمر لا أقدر عليه وحدي . وبصراحة أنا آسف أنني أطلب منكن ذلك ، ولكن للضرورة أحكام . قالت تيريز وقد ظهر على وجهها الاشمئزاز : _ بصراحة يا حضرة القس ، إن التنظيف ليس من وظيفتنا ، ولكنْ بوصفنا أخوات يسوع وخادمات الرَّب ، فسوف نساعدك في تنظيف الكنيسة ، وسنحضر بعض نصف ساعة . تهلَّلت أسارير القس وشكر الراهبة بكل كلمات الشكر التي خطرت على باله، وانصرف بعد أن انحنى لها . وفي طريق عودته إلى الكنيسة كان جريحاً في قلبه بسبب ما أبدته من عجرفة من وجهة نظره ، حتى إنها لم تدعه إلى الدخول ، وظل الحديث بينهما على الباب ، وهذا الأمر أثَّر سلباً في نفسيته ومشاعره . عادت تيريز لتخبر الراهبات بالأمر ، وقد استقبلن النبأ بمزيد من الإحباط والاكتئاب ، وقالت لارا : _ يا أخت تيريز ، لماذا لم تعتذري له عن التنظيف ؟ . _ يا جاهلة ، لو اعتذرتُ له فسوف يُخبر المجلس الكنسي الأعلى ، مما قد يؤدي إلى حرماننا من المكافآت المالية . وهنا تدخلت عايدة قائلة : _ أحسنتِ يا أخت تيريز ، فالمكافآت المالية تستحق التضحية والعناء . وهنا تدخَّلت كاترين قائلةً : _ سنظل خادمات طوال حياتنا، ونظل ممسحة على أقدام الوهم . أنوثتنا تضيع مجاناً ، ولا أحد يسأل عنا إلا إذا كان يريد منا أن نخدمه . هي كلمات صاعقة تنهمر على أكتاف تلك الآنسات اللواتي ينتظرن في محطة القطارات الفارغة قدوم تجاعيد الغابات المحترقة. ولم تقم أية راهبة بالتعليق على هذا الكلام لأنهن يشعرن بوخز فظيع في مسامات جلودهن الجافة ، وخز بركاني ينبع من أنوثتهن المستلَبة ، ودموعهن المخفية عن سجاجيد المكان . أما جودي فلاذت بالصمت المرعِب، ولم تُعَلِّق على الموضوع سلباً أو إيجاباً ، فهي قد وصلت إلى ذروة القرف ونهايات الحلم الهش ، فلم تعد الأشياء المحيطة بها تعني لها شيئاً . قالت تيريز بلهجة حادة : _ لن أتراجع في كلامي، فلتُجَهِّز كل واحدة منكن نفسها لكي نذهب لمساعدة هذا القس الذي لم يأت إلا ليُدَمِّر حياتنا ، ويزيدها قرفاً ومشقة . وبعد أن جهَّزن أنفسهن وحملن معدات العمل ذهبن إلى الكنيسة التي كانت في وضع هستيري بامتياز ، ففي تلك اللحظة أدركن حجم الكارثة ، فالروائح الكريهة تنبعث من كل شيء ، من الرسومات الحائطية ، من زجاج النوافذ، من شقوق الجدران ، من المقاعد التي صارت مزرعة فئران وأغبرة لا نهائية. تَسَلَّحْنَ بالاكتئاب وبدأن العمل في ساعة نحس مستمر . وأيضاً كان القس يُنَظِّف المكان، واستمر العمل بلا كلل ، لكن الجميع كان يتأفف في دواخله دون أن ينبس ببنت شفة .