أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثالث عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كانت حالة بلال تزداد صعوبة بصورة مقلقة ، فقد قضى الليل في التقيؤ والذهاب إلى المرحاض . ازداد انهمار العرق من كل زوايا جسده المفكَّك ، ورفض أن يترك سلاحه. ظل حاضناً له طوال الليل الذي لم يستطع أن ينام فيه . وقد قضى أهل البيت ليلتهم في الأرق والتفكير والانهيارات التي يقاتلونها بما تبقى من دماء في أجساد أحزانهم. وحدها خولة هي التي نامت في تلك الليلة الطويلة جداً . بدا الليل كأنه قطعة من العذاب الذي لا ينتهي . العجوز خضر وابنه زياد بقيا ساهرَيْن يتناوبان على الاعتناء ببلال ، لكن زياداً طلب من أبيه أن يرتاح لأنه سيعتني بأخيه. أما فاطمة وفايزة فتذرعان المكان ذهاباً وجيئة دون أن يُغمَض لهما جفن . وصار بلال يسمع صوت الرصاص يرن في أُذنيه ، ويشاهد صور المعركة على الحائط كأنه شاشة سينما عملاقة. إنه يرى الأمكنة التي سقط فيها رفاق السلاح . وصار يركض في الغرفة كأنه يريد أن يُسعف أحداً ما . وأخذ يُكَلِّم نفسه بصوت عال قائلاً :
_ سوف أقتل هؤلاء الأعداء . لن أسمح لهم أن يمروا على جثتي . سأقتلهم واحداً واحداً . أطلقي أيتها المدفعية كل ما جعبتك ، تعالي يا طائراتنا لتقصفي الأعداء . في رأسي أصوات الرصاص والقنابل ، وأصدقائي يتساقطون واحداً تلو الآخر .
ثم نظر إلى أبيه وأخيه اللذين اكتفيا بالمشاهدة وهما غير مُصَدِّقَيْن ما يحدث ، وقال :
_ سوف أذهب إلى إنقاذ الجرحى ، ودفن جثث الجنود ، وسأعود فوراً ، فإن سأل عني القائد فأخبراه أنني لم أهرب من المعركة .
وخرج من الغرفة ، وصار يركض في مدارات البيت ، وأهل الدار يركضون وراءه ليُمسكوا به ويُخفِّفوا عنه . وحاول الخروج من البيت لكنه وجد الباب مغلقاً . قفز عليه أخوه زياد ، وأمسكه ، وأجلسه على الأرض ثم بدأ يُخفِّف عنه ، ويتلو عليه آيات قرآنية ، فهدأ واستقرت نفسه ، ثم قال بهدوء :
_ لكنني لن أترك الأعداء ينتصرون علينا ، سوف أطلق عليهم النار .
وهم بإطلاق النار من سلاحه، فقفز عليه زياد، ومنعه من فعل ذلك . وللأسف فالأمور اتخذت منحى كارثياً ، فصار من الصعب السيطرة على الوضع . وحمداً لله فقد هدأت نفسية بلال بعض الشيء بعدما عاود أخوه قراءة القرآن عليه . لقد استسلم للنوم ، وقبل أن يستسلم لسلطان النوم حضن الرَّشاش ، كأنهما صارا جزءاً واحداً في جسد منهك حتى الوخز .
قال العجوز :
_ يجب أن نأخذه للمستشفى لكي يعالجه الأطباء .
عارض زياد هذه الفكرة ، وقال :
_ يا أبي إن مشكلة بلال نفسية ، وليست جسدية ، فأنا أقترح أن نأخذه إلى طبيب نفسي .
انتفض العجوز كأنه قد تلقى دلواً من الماء البارد ، وقال مستنكراً :
_ طبيب نفسي ؟! ، وماذا سيقول عنا الجيران ؟ .
_ دعك من الناس يا أبي ، المهم صحة بلال الذي يضيع من بين أيدينا تدريجياً ، واطمئن فلن يعرف الناس بقصة الطبيب النفسي .
استقبل العجوز الفكرة بكثير من عدم الارتياح ، لكنه كان مجبراً على الرضوخ لها . وبعد أن تجرعها سعالاً وصديداً في ذهنه قال :
_ وهل تعرف طبيباً نفسياً جيداً ؟ .
_ أعرف أهم طبيب نفسي في البلاد كلها ، الدكتور عبد الرحيم جوهر ، وهو صديق عزيز لي .
_ لكنه قد يأخذ مالاً كثيراً لعلاج حالة أخيك ، ونحن كما تعلم لا نملك مبالغ ضخمة .
دارت هذه المناقشة في حضور فاطمة وفايزة اللتين ظلتا واقفتين تراقبان مسار الحوار بكل تلهف . وعندما وصل الأمر إلى مسألة المال قالت فايزة :
_ أنا مستعدة أن أبيع كل ما أملك من ذَهَب وملابس وغيرها من أجل علاج زوجي .
ضحك العجوز ضحكة امتزجت فيها السخرية بالمرارة العاصفة ، وقال :
_ وهل تسمين هذا الخاتم والسلسلة ذهباً ؟ .
وتدخلت فاطمة قائلة :
_ أنا وفايزة سندفع كل ما نملك مقابل أن يُعالَج بلال .
وفي تلك اللحظة قال زياد :
_ يا جماعة ، دعونا لا نستبق الأحداث ، مسألة المال محلولة وليست مشكلة ، فأنا أملك جزءاً لا بأس به ، وسأتدبر أموري . المال يأتي ويذهب ، المهم أن ننقذ بلالاً الذي دمَّرته الحروبُ العبثية التي اخترعتها حكومتنا الغبية بلا معنى .
وأردف قائلاً :
_ سأصعد إلى غرفتي، وأرتدي ثيابي ، وسأُحضر معي مبلغاً من المال ، ثم نذهب إلى الطبيب .
صعد زياد إلى الغرفة . طرق الباب فلم يجبه أحد ، أعاد الكرَّة ، لكن محاولته باءت بالفشل . أمسك مقبض الباب وحرَّكه فإذا الباب يُفْتَح ، فهو لم يكن مغلقاً بالمفتاح . فتَّش كل أجزاء الغرفة فلم يلمح أثراً للشيخ ، لكنه عثر على ورقة موضوعة على السرير وفوقها مئة دولار أمريكي . أمسكها وراح يقرأ ما فيها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، أخي زياد ، أنا آسف لأنني تركتُ الغرفة دون أن أُعْلِمك . أرجوك لا تبحث عني ، فأنا في مكان ما تحت شمس بلادنا التي تعترف بنا. لقد ضاقت الأرض علينا واتَّسعت لحكوماتنا القاتلة ولصوص الوطن والمومسات . ربما نلتقي يا زياد في ظروف أفضل من هذه . واعلم بأن الأرواح جنود مجنَّدة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف . لكننا نعاهد اللهَ أن نظل جنوداً أوفياء ضد أعداء الدَّاخل والخارج . كما أود أن أشكرك على كرم الضيافة الذي قابلتني به ، وأنا آسف لأني كنتُ عبئاً ثقيلاً عليك . وقد تركتُ لك مبلغاً متواضعاً عبارة عن مئة دولار كهدية من أخ مخلِص ، لعلمي أنك بحاجة إليه . وقد كان بودي أن أترك لك المبلغ بالعملة المحلية وليس بعملة الغزاة الأمريكان ، ولكن حكومتنا ضيَّعت البلاد بسياستها الرعناء . وأخيراً أقول لك :
أخي صبراً على ألم الفـراق كلانا للنوى والشوق بـاقِ
إذا انفصلت هياكلنا وبالت فروحي نحو روحك في عناقِ
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أخوك سليمان ثويني )) .
ولم يكد زياد ينهي قراءة الرسالة حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وكاد يجهش بالبكاء ، لكنه تمالك نفسه ، وقال كأنه يخاطب الحِبر الذي كُتِبت به الرسالة :
_ السلام عليك يا سَيِّدي الشيخ ، يوم وُلِدْتَ ويوم تموت ، ويوم تُبْعَث حياً .
أمسك ورقة المئة دولار ، ثم ارتدى ثيابه، ونزل إلى قاع الأحزان ، حيث تتزلج الانهيارات على بقايا جسد أخيه . أيقظوا بلالاً فنهض كالمصروع الذي تنخر قفصَه الصدري خريفُ الألم وشتاءاتُ الماضي السحيق . أخبروه بأن عليه أن يرتديَ ثيابه لكي يذهب إلى الطبيب . عارض الأمر في البداية قائلاً إنه بصحة جيدة ولا يحتاج إلى طبيب ، لكن إصرار أهله أقنعه بضرورة الذهاب . قادته زوجته إلى غرفة النوم وساعدته في تغيير ملابسه ، وقد بقي متمسكاً بسلاحه رافضاً تركه .
قال العجوز :
_ يا بلال ، ضع سلاحك مع زوجتك ، وهي سَتُخَبِّئه لك لئلا يأخذه الأعداء، فلا يليق أن نذهب بالسلاح إلى الطبيب . ماذا سيقول عنا ؟ .
رد بلال بكل إصرار وحزم :
_ لن أتركه هنا . افرض أن الأعداء تعرَّضوا لي في الشارع ، كيف سأُدافِع عني وعنكم ؟ .
وهنا تدخل زياد قائلاً :
_ اتركه يا أبي يفعل ما يشاء . المهم أن نلف الرَّشاش بقطعة قماش أو كيس لئلا يفزع الناس من رؤيته .
راقت هذه الفكرة لبلال. وبالفعل فقد أحضرت فايزة قطعة قماش قديمة كانت لديها ، ووضعت الرَّشاشَ فيها ، وقامت بِطَوْيِهَا ، ووضعتها في كيس نظيف من أكياس القمامة لم يُسْتَخْدَم بعد .
وقالت فايزة :
_ سوف آتي معكم .
ومثل هذا الكلام قالت فاطمة . لكن العجوز قال بحدة :
_ أين تذهبان ؟ . هل تظنان المسألة عُرْساً أم حفلة عند الجيران ؟ . ابقيا في المنزل لحين عودتنا .
قالت فايزة :
_ وهل سأترك زوجي يذهب بدوني ؟ . أنا زوجته ، ويجب أن أعلم ما وضعه الصحي .
فقال زياد :
_ يا أم خولة ، المسألة لا تحتمل . وبصراحة فالحق معك ، ولكننا سنذهب لنستشير الطبيب حول وضعه الصحي ، ولا نريد أن تتسع المسألة ونُضخِّمها . فاستعيني بالله واصبري، وأنتِ امرأة مؤمنة ، وثقي بأن هذا المرض عابر .
رضخت فايزة لهذا الكلام المنطقي من وجهة نظرها ، خصوصاً أنه جاء من شخص متعلِّم في هذه العائلة ، ولم يأت مثلاً من العجوز الذي لا يملك مثل هذا المنطق الهادئ في الحوار .
وخرج الرجال الثلاثة من البيت ، وبقيت النساء يذرفن الزرنيخَ كإسطبلات الحزن الذي يتكدَّس على ظهور الأحصنة المحقونة بالعار . كان بلال يمشي بصعوبة ، يحدِّق في كل شيء يحيط حوله ، ينظر إلى الأشياء بعينين منفيَّتين عن هذا الوجود . يمسك الرَّشاش المختبئ بكل عنف ، ويجيل بصره في الأزقة والشوارع الموحلة والإسفلت المخلوع كأنه يبحث عن فريسة يصطادها . مشوا عابرين هذا الدمار الرهيب إلى أن وصلوا إلى الشارع الرئيسي ، وانتظروا سيارة تاكسي . جاءت سيارة فأوقفها زياد بإشارة من يده . توقفت بجانبهم . وأول ما انتبه إليه السائق هو ذلك الشيء الموضوع في كيس كبير، فقال والسيجارة على طرف فمه :
_ احذروا أن يمزِّق هذا الشيءُ فَرْشَ السيارة ، فقد تم تجديده مؤخَّراً . وإن رأى صاحب السيارة الفَرْشَ مخدوشاً فسوف يقتلني فوراً .
قال زياد :
_ لا تخف ، فهذا الشيء لا يُؤثِّر على الفَرْش .
واستقل الجميع السيارة . صعد العجوز إلى الكرسي الذي بمحاذاة السائق ، أما بلال وزياد فركبا في الخلف ، جاعلين الرَّشاش في أحضانهما دون أن يمس الفرش .
نزلوا من السيارة بعد أن قام زياد بالدفع . كانت عيادة الطبيب في الطابق الثالث من عمارة فخمة في المركز التجاري في العاصمة . ركبوا في المصعد الذي أوصلهم إلى العيادة . دخل الجميع إلى العيادة ، وجلسوا في قاعة الانتظار . لم تكن هناك سكرتيرة لأن الدكتور عبد الرحيم جوهر كان إسلامياً فلم ترق له فكرة إحضار سكرتيرة ، الأمر الذي قد يثير شبهات كثيرة وخلوة ومخالفات شرعية في غنى عنها . هكذا كان ينظر للأمر .
والدكتور عبد الرحيم جوهر شاب في الثامنة والثلاثين، يحمل شهادة الدكتوراة من جامعة كامبردج، وهو عضو سابق في حزب التحرير المحظور ، أصدر ما يزيد عن ستة كتب . وبسبب إتقانه للإنجليزية وتخرجه من جامعة عريقة عالمياً اضطلع بدور تجنيد الشباب الأوروبي المسلم في صفوف الحزب . وقد اصطدم أكثر من مرة مع المخابرات البريطانية ، لكنه كان مدعوماً من إحدى أميرات أوروبا التي كانت تحبه ، وتتدخل لإنقاذه من براثن النظام الأمني. ووالده هو الشيخ طارق جوهر الأمين العام لحزب التحرير الذي كان العقل المدبِّر للانقلاب العسكري الفاشل في هذا البلد ، وقد اغتالته الحكومةُ في بروكسل عام 1995م بعد أربع سنوات من الرَّصد والمراقبة . لقد قامت بتفخيخ سيارته ، وتم تفجيرها بواسطة جهاز تحكم عن بعد . وما زلتُ أذكر آخر حوار أجرته إحدى المحطات الأجنبية مع الشيخ طارق جوهر، أذكره كلمة كلمة رغم مرور كل هذه السنوات ، فقال سأله المذيع :
_ هل تعترف بالأنظمة الحاكمة ؟ .
ابتسم الشيخ طارق ، وقال :
_ أنا لا أعترف بأي نظام حاكم على سطح كوكب الأرض في الوقت الراهن. ولا أعترف بأي خليفة سوى الخلفاء السبعة : أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذو النورين ، وعلي المرتضى ، والحسن السِّبط ، وعمر بن عبد العزيز ، والمهدي المنتظر . أما غير هؤلاء فلا أعترف بهم ، ولن أبايعهم طوال حياتي . لكنهم إن قتلوني فبإمكانهم أن يحصلوا على البيعة من جثتي ، ولكن قبل ذلك عليهم أن يفصلوا رأسي عن جسدي .
تعجَّب المذيع من هذا الكلام الناري الصادر عن رجل عجوز نسبياً . وقد كان ذلك الحوار الملتهب آخر حوار أدلى به الشيخ طارق قبل اغتياله . أما ابنه الدكتور عبد الرحيم فقد انخرط في الحزب منذ شبابه ، لكنه اختلف معه مؤخراً ، مما جعله يقدِّم استقالته من الحزب .
ذهب زياد إلى سكرتير الدكتور ، وهو شاب نحيل ملتحي في منتصف العشرينات ، وقال له :
_ لو سمحتَ ، نريد أن ندخل على الدكتور في أسرع وقت لأن معنا حالة إنسانية صعبة .
رد الشاب بلطف وصوت منخفض :
_ هل لديكم موعد مسبق ؟ .
_ بصراحة لا ، ولكن قل للدكتور إن زياد خضر الزاوي ينتظر في الخارج .
كان بلال يحدِّق في وجوه الجالسين على مقاعد الانتظار الذين يشبهون الحزانى المزروعين في مقاعد محطات القطار حتى إشعار آخر، ولم يكونوا كثيري العدد ، فهم لا يتجاوزون الخمسة أشخاص. فكَّر للوهلة الأولى أن هؤلاء الأشخاص قد يكونون من الأعداء ، وأن عليه إطلاق النار عليهم خوفاً من أن يقتلوه ، لكنه تراجع عندما رأى الانكسار اللانهائي يرتسم على وجوههم الموغلة في اضمحلال نهايات الضوء . عيونهم غائرة ، وأبصارهم محنية باتجاه البلاط الملمَّع . محالٌ أن يكون هؤلاء من الأعداء. هذه القناعة التي وصل إليها بلال في نهاية الأمر .
دخل السكرتير على الطبيب قائلاً :
_ عذراً يا دكتور ، هناك شخص اسمه زياد خضر الزاوي يريد الدخول عليك.
تساءل الدكتور وقد برقت عيناه بشدة :
_ زياد خضر موجود في العيادة ؟ ... أدخله فوراً .
وما إن هم السكرتير بالمغادرة حتى استوقفه الطبيبُ قائلاً :
_ انتظر ، لا نريد أن نأخذ أدوار الناس الذين ينتظرون .. كم عدد المراجعين في الخارج ؟ .
_ تقريباً خمسة مراجعين .
_ إذاً ، رَحِّبْ بالأخ زياد ، وأخبره أن يتكرَّم وينتظرني حتى أنتهيَ من هؤلاء المراجعين .
كان الدكتور عبد الرحيم تقياً ، فلم يشأ أن يأخذ دور الناس الآخرين الذين جاؤوا قبل زياد على الرغم من معرفته الوثيقة بزياد والصداقة المتينة بينهما . فقد اشتركا في تحرير مجلة " ثورة الإسلام " ، وهي مجلة شهرية تصدر باللغتين العربية والإنجليزية ، إلا أن الحكومة أوقفتها بعد تدخل الإدارة الأمريكية التي اتهمت المجلة بالتطرف ودعم الإرهاب دون دليل . والحكومة رضخت كالعادة بعد أن هدَّدت الإدارة الأمريكية بوقف المساعدات المقدَّمة للبلاد . كما أنهما عضوان في جماعة " تثوير"، وهي جماعة أدبية من الشعراء الشباب تهتم بالحداثة الشِّعرية من منظور عربي إسلامي ، وهي متخصصة بقصيدة النثر ، وكانت تصدر مجلة شهرية تحمل نفس اسم الجماعة ، وقد أنجبت شعراء مشهورين لهم إسهامات واضحة مثل : بكر عبد الرشيد الذي تُرْجِمت أعماله لعشر لغات وأخذ جوائز عالمية ، وسامح المنصوري الذي باع من ديوانه الأول أربعين ألف نسخة ، وحسن دهام الذي صار فيما بعد أستاذاً محاضراً في الأدب العربي في جامعة برنستون ، وغيرهم . وقد كان زياد هو أصغر المجموعة على الإطلاق ، وقد انضم إلى الجماعة وهو في السادسة عشرة . واستمرت الجماعة ثلاث سنوات قبل أن تصبح جزءاً من الذكريات بعد أن ذهب كل واحد إلى حال سبيله ، يضرب في هذه الأرض العريضة ، يُفتِّش عن أحلامه وذكريات جديدة وماضٍ سيأتي ومستقبل مضى .
وبعد أن فرغ الدكتور من المراجعين دخل عليه زياد وأسرته . ابتسم الدكتور ابتسامة تنبئ عن حب عميق ، وأخذ زياداً بالأحضان قائلاً :
_ أهلاً بزياد ، اشتقتُ إليك يا رَجُل . أين كنتَ طوال هذه المدة ؟ .
_ بصراحة يا دكتور ، أنا مُقصِّر معك كثيراً ، وقد انشغلتُ بأحداث كبيرة أبعدتني عن حضرتكم .
_ نادني باسمي مجرَّداً ، وارفع الكلفة بيننا ، فلفظة "دكتور " ولفظة" حضرتكم" ليست بيننا ، وكل هذه الألقاب مجرَّد وهم باطل يسبح في الخيال . ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
وبدأ زياد يُعرِّف الدكتور بوالده وأخيه . وبعد أن جلسوا جميعاً ، قال زياد :
_ بصراحة يا دكتور ، هذا أخي بلال جندي في الجيش ، وقد عاد من الحرب للتو . وهو يعاني من اضطرابات في سلوكه ونفسيته ، فقد أطلق النار في غرفة النوم بعد أن تخيَّل أنه في ساحة الحرب، وهو لا يريد أن يترك الرَّشاش ، وقد أحضره معه إلى العيادة .
توجَّه الدكتور بالكلام إلى بلال قائلاً :
_ كيف حالك يا بلال ؟ .
تلفَّت بلال حوله في كل الاتجاهات قبل أن يجيب قائلاً :
_ الحمد لله رب العالمين ، أنا بخير .
_ لماذا التفتَّ قبل أن تجيبني ؟ .
_ خشيتُ أن يكون أحد من مخابرات العدو مختبئاً في الغرفة .
ابتسم الدكتور بإشفاق ، وقال :
_ لا تخف يا بلال ، أنا لا أسمح للمخابرات أن يُدَنِّسوا هذا المكان .
وأردف قائلاً :
_ أعطني سلاحك لأعرف هل هو مناسب للقتال أم لا .
راقت الفكرة لبلال الذي استبشر خيراً بهذا الكلام ، لذا لم يمانع من إعطائه السلاح دون ضغط من أحد .
أمسك الدكتورُ بالسلاح ، وصار يتفحصه بشكل محترِف يدل على أنه خبير بالأسلحة ، ثم قال :
_ هذه صناعة بريطانية . لقد ذكَّرتني قطعةُ السلاح هذه بخطيبتي السابقة التي كانت مقاتِلة في الجيش الجمهوري الإيرلندي . وقد أسلمت وتحجَّبت ، وهي الآن تُدَرِّس في إحدى المدارس الثانوية في ليفربول .
وأردف قائلاً :
_ حبيبي بلال ، ستظل قطعةُ السلاح هذه عندي خوفاً من أن يباغتنا الجنود ، وأنت غير منتبه .
هز بلال رأسه موافقاً بعد أن اقتنع بأن الدكتور سيُقاتِل معه ضد الآخرين . وبعدها قام الدكتور بإجراء فحوصاته على بلال ، وفي نهاية الأمر قال الدكتور :
_ حقيقةً إن وضعه بالغ الصعوبة ، فهي غائبٌ عن المشهد الوجودي الحالي ، ويعيش في عوالم أخرى وهمية . والحق يُقال إن جيشنا قد أنشأ قِسْماً نفسياً لإعادة تأهيل الجنود العائدين من الحرب ، لكن هذا القِسْم ما زال متخلِّفاً ، ومحتاجاً للتقنيات المتطورة . وعلى الرغم من هذا فأنا أرى أن نضعه في ذلك القِسم لحين الوقوف على حالته الصحية بشكل أكثر دقة ، ومدى قابليته للتحسن . وسوف أُشرِف بنفسي على حالته الصحية ، حيث لدي اتصالات قوية وعلاقات شخصية بالقائمين على هذا القِسم . ولنبدأ من الآن ، فالوقتُ ليس في صالحنا .
قال زياد :
_ كما تريد يا دكتور ، افعل ما تراه مناسباً .
وهز العجوز رأسه بشيء من الألم والحرقة موافقاً على اقتراح الدكتور ، فهو يثق بكلامه ، لذا استجاب له سريعاً دون معارضة .
ولما رأى الدكتور هذه الموافقة أجرى اتصالاً مع مدير مركز إعادة تأهيل الجنود العائدين من الحرب ، وعرَّفه المسألة بكل أبعادها ، وقال له إن الأوراق الثبوتية المطلوبة ستكون عنده غداً مع أهله . وطلب من المدير أن يبعث عدة أشخاص لكي يأخذوا بلالاً . وقد أعطاهم موقع العيادة بدقة ، وهي أصلاً كانت معروفة لديهم .
كان بلال يشعر أن شيئاً غريباً يجري حوله ، أن ماءً يجري من تحت قدميه وهو لاهٍ ذاهل عن موجودات المكان وعناصر جسده المثقَل بالهواجس . إنه يتلفت يمنة ويسرة ، فهو يشعر أن شيئاً ما سيخرج من أسمنت الجدران ، وينقض عليه . إنه إحساس مرعب بالغ الصعوبة .
وراح الدكتور يحادث بلالاً ليخفِّف عنه ، ويحقنه بالطمأنينة التي يفتقدها بشكل كارثي . وبعد نصف ساعة تقريباً جاء أربعة أشخاص ، واستأذنوا بالدخول على الدكتور فأذن لهم . ولما رأى بلال مشهد الرِّجال المخيف بحث عن الرَّشاش ليطلق عليهم النار ، فقد ارتبطت صورتهم في ذهنه بصورة الأعداء الذين يتخيَّلهم . لكنه لم يجد سلاحه ، فانكمش على نفسه ، وتخندق في ذاتية ألمه المتكوِّم كالخرقة البالية .
قال الدكتور للرجال الأربعة :
_ هذا هو الأخ بلال ، فأرجوكم أن تعاملوه برفق ، وأن لا تُشْعِروه بالألم .
واقترب الرجال من بلال الذي صار يصرخ بأعلى صوته :
_ ابتعدوا عني أيها الأعداء ، سوف أُطلق عليكم النار ، ابتعدوا .
أَمْسَكُوه من كل الجهات ، وصار يصرخ بأعلى صوته :
_ أبي ، لا تتركني . زياد ، لا تتركني . يريدون أن يأخذوني إلى حبل المشنقة .
وحملوه رغماً عنه ، وقد كان والده يذرف دمعاً مراً إشفاقاً على ابنه ، لكنه لم ينبس ببنت شفة . أما زياد فقد أشاح بوجهه لئلا يرى منظر أخيه المؤلم .
واستمر صراخ بلال ممزوجاً ببكاء حارق، وهو ينادي على والده وأخيه اللذين يتقطعان حزناً على حالته المأساوية ، ولكن بلا فائدة . وغاب بلال رغماً عنه خلف ستائر الضباب المرعِب مثلما يغيب كل شيء، لكن وخز صراخه ظل يحفر في أذهان الحضور خنادق من الكهرمان المسموم ، وينحت على الجدران معالم أحزان صارخة في وجوه كل البجع القتيل على جلود البشر المرقَّعة .
قال الدكتور محاولاً التخفيف على العجوز خضر وابنه :
_ يا جماعة ، أنا آسف لأني قمتُ بهذا العمل ، ولكن صدِّقوني أن هذا الأمر لم يكن منه مهرب ، وإن شاء الله يرجع بلال كما كان وأفضل . وأنا أعدكم أنني لن أتركه .
قال زياد :
_ شكراً لك يا دكتور ، ونحن واثقان بجهودك المخلصة الطيبة ... والآن اسمح لنا أن ننصرف .
_ سنكون على اتصال لمتابعة حال بلال أولاً بأول ، وهذه بطاقتي تحمل أرقام هواتفي . وإن شاء الله سوف نذهب غداً للمركز من أجل تزويده بأوراق بلال الثبوتية ، والتوقيع على بعض الأوراق .
وغادر العجوز وابنه المكان بعد أن شكرا الدكتور . كانا يمشيان بتثاقل رهيب، ومن يراهما يظن أنهما مصابان بشلل من نوع خاص ، فهما يبدوان غير قادِرَيْن على المشي . فالهموم هبطت عليهما كأسراب الجراد المعدَّل وراثياً . ارتمت المسافاتُ أمامهما كحقول من النفط المشتعل ، فكل شيء في دواخلهما يشتعل ولا يجد حزناً يقدِّم الماء ، أو رصيفاً يمتص هذه الخطوات المرتعشة إلى درجة التماهي مع الشلل .
كان فاطمة وفايزة والصغيرة خولة يأكلن بلاط المنزل قلقاً وخوفاً ، فهن يذرعن المكان ذهاباً وجيئة . خطواتهن كومةُ أشجار ذابلة متجمعة في مقلاة ملتهبة . وقُرِع جرس الباب، فأسرعن كلهن لفتحه. لاحظن عدم وجود بلال.فقالت فايزة وعيناها تهبطان في محيط سحيق من النباتات المسمومة ، ولسانها منقوع في براميل اليورانيوم المخصَّب :
_ أين بلال ؟ .
قال العجوز :
_ يا جماعة ، لندخل أولاً ثم نتحدث .
ودخل الجميع إلى حافة الحزن. ولم يعرف الرَّجلان كيف يفتتحان الحديث . أما الإناث اللواتي أسلمنَ أنوثتهن للحزن والدهشة فلم يفهمن ما الذي يحدث . وفي خضم هذا الضباب الفُسفوري قال العجوز :
_ قل لهنَّ يا زياد ما الذي حدث ، فأنتَ مثقَّف وتعرف كيف تجمِّع الكلامَ .
أحس زياد بأكوام من المسؤولية تدق في أكتافه مسامير الهم ، لكنه استجمع قواه قائلاً :
_ يا جماعة المسألة بحاجة إلى صبر ، والصبر عند الصدمة الأولى ، نشكر في السراء ونصبر في الضراء . وبصراحة فإن بلالاً تم وضعه في مركز للصحة النفسية تابع للجيش ، وسنذهب غداً لتزويد المركز بأوراق بلال الثبوتية ، ومن أجل التوقيع على بعض الأوراق .
لم تستطع فايزة أن تفعل شيئاً حيال هذه الصدمة سوى أنها ضحكت ضحكة مريرة خلعت كبدَها كما يخلع زوجها البزة العسكرية ، وقالت وهي غير مصدِّقة :
_ بلال صار مجنوناً بكل بساطة ، وصار متخلِّفاً عقلياً بهذه السهولة ؟! .
وركضت إلى غرفتها والنحيب يطمس معالم وجهها . دخلت الغرفة كقطيع من الحطب يدخل غابة الحريق الحاسم ، وارتمت على السرير ، وغرقت في كل محيطات النشيج والدمع اليابس من كثرة الهطول .
قال زياد مخاطباً أخته فاطمة :
_ اركضي وراءها وخفِّفي عنها ، ولا تتركيها وحيدة .
وبالفعل ذهبت فاطمة وبدأت مهمتها الشاقة ، تحاول التخفيف عنها ، ومسح دموعها التي كانت تسقط بكثافة مطر متواصل في ليلة شاتية يبكي فيها حبيبان غامضان استعداداً للرحيل .
وفي اليوم التالي جهَّز زياد كافة أوراق أخيه وذهب برفقة أبيه والدكتور، وقدَّما كامل الأوراق للمركز ، ووقَّعا على بعض الوثائق والمعاملات . وقد حاولت فايزة الذهاب معهما إلا أن حالتها النفسية السيئة حالت دون ذلك ، فقد كانت في وضع نفسي مأساوي لدرجة أنها بدت عاجزة عن المشي ، فبقيت في السرير وحولها فاطمة تقوم على خدمتها . أما الصغيرة خولة فجلست حول السرير تمسح العَرَق عن وجه أمها الذي بدا كأنه بركة سباحة مخلوطة بالكلور إلى درجة تأجج السم الهادر .