سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

10‏/08‏/2010

أشباح الميناء المهجور/ الفصل الثالث عشر

أشباح الميناء المهجور
( رواية / الفصل الثالث عشر )
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
كانت حالة بلال تزداد صعوبة بصورة مقلقة ، فقد قضى الليل في التقيؤ والذهاب إلى المرحاض . ازداد انهمار العرق من كل زوايا جسده المفكَّك ، ورفض أن يترك سلاحه. ظل حاضناً له طوال الليل الذي لم يستطع أن ينام فيه . وقد قضى أهل البيت ليلتهم في الأرق والتفكير والانهيارات التي يقاتلونها بما تبقى من دماء في أجساد أحزانهم. وحدها خولة هي التي نامت في تلك الليلة الطويلة جداً . بدا الليل كأنه قطعة من العذاب الذي لا ينتهي . العجوز خضر وابنه زياد بقيا ساهرَيْن يتناوبان على الاعتناء ببلال ، لكن زياداً طلب من أبيه أن يرتاح لأنه سيعتني بأخيه. أما فاطمة وفايزة فتذرعان المكان ذهاباً وجيئة دون أن يُغمَض لهما جفن . وصار بلال يسمع صوت الرصاص يرن في أُذنيه ، ويشاهد صور المعركة على الحائط كأنه شاشة سينما عملاقة. إنه يرى الأمكنة التي سقط فيها رفاق السلاح . وصار يركض في الغرفة كأنه يريد أن يُسعف أحداً ما . وأخذ يُكَلِّم نفسه بصوت عال قائلاً : _ سوف أقتل هؤلاء الأعداء . لن أسمح لهم أن يمروا على جثتي . سأقتلهم واحداً واحداً . أطلقي أيتها المدفعية كل ما جعبتك ، تعالي يا طائراتنا لتقصفي الأعداء . في رأسي أصوات الرصاص والقنابل ، وأصدقائي يتساقطون واحداً تلو الآخر . ثم نظر إلى أبيه وأخيه اللذين اكتفيا بالمشاهدة وهما غير مُصَدِّقَيْن ما يحدث ، وقال : _ سوف أذهب إلى إنقاذ الجرحى ، ودفن جثث الجنود ، وسأعود فوراً ، فإن سأل عني القائد فأخبراه أنني لم أهرب من المعركة . وخرج من الغرفة ، وصار يركض في مدارات البيت ، وأهل الدار يركضون وراءه ليُمسكوا به ويُخفِّفوا عنه . وحاول الخروج من البيت لكنه وجد الباب مغلقاً . قفز عليه أخوه زياد ، وأمسكه ، وأجلسه على الأرض ثم بدأ يُخفِّف عنه ، ويتلو عليه آيات قرآنية ، فهدأ واستقرت نفسه ، ثم قال بهدوء : _ لكنني لن أترك الأعداء ينتصرون علينا ، سوف أطلق عليهم النار . وهم بإطلاق النار من سلاحه، فقفز عليه زياد، ومنعه من فعل ذلك . وللأسف فالأمور اتخذت منحى كارثياً ، فصار من الصعب السيطرة على الوضع . وحمداً لله فقد هدأت نفسية بلال بعض الشيء بعدما عاود أخوه قراءة القرآن عليه . لقد استسلم للنوم ، وقبل أن يستسلم لسلطان النوم حضن الرَّشاش ، كأنهما صارا جزءاً واحداً في جسد منهك حتى الوخز . قال العجوز : _ يجب أن نأخذه للمستشفى لكي يعالجه الأطباء . عارض زياد هذه الفكرة ، وقال : _ يا أبي إن مشكلة بلال نفسية ، وليست جسدية ، فأنا أقترح أن نأخذه إلى طبيب نفسي . انتفض العجوز كأنه قد تلقى دلواً من الماء البارد ، وقال مستنكراً : _ طبيب نفسي ؟! ، وماذا سيقول عنا الجيران ؟ . _ دعك من الناس يا أبي ، المهم صحة بلال الذي يضيع من بين أيدينا تدريجياً ، واطمئن فلن يعرف الناس بقصة الطبيب النفسي . استقبل العجوز الفكرة بكثير من عدم الارتياح ، لكنه كان مجبراً على الرضوخ لها . وبعد أن تجرعها سعالاً وصديداً في ذهنه قال : _ وهل تعرف طبيباً نفسياً جيداً ؟ . _ أعرف أهم طبيب نفسي في البلاد كلها ، الدكتور عبد الرحيم جوهر ، وهو صديق عزيز لي . _ لكنه قد يأخذ مالاً كثيراً لعلاج حالة أخيك ، ونحن كما تعلم لا نملك مبالغ ضخمة . دارت هذه المناقشة في حضور فاطمة وفايزة اللتين ظلتا واقفتين تراقبان مسار الحوار بكل تلهف . وعندما وصل الأمر إلى مسألة المال قالت فايزة : _ أنا مستعدة أن أبيع كل ما أملك من ذَهَب وملابس وغيرها من أجل علاج زوجي . ضحك العجوز ضحكة امتزجت فيها السخرية بالمرارة العاصفة ، وقال : _ وهل تسمين هذا الخاتم والسلسلة ذهباً ؟ . وتدخلت فاطمة قائلة : _ أنا وفايزة سندفع كل ما نملك مقابل أن يُعالَج بلال . وفي تلك اللحظة قال زياد : _ يا جماعة ، دعونا لا نستبق الأحداث ، مسألة المال محلولة وليست مشكلة ، فأنا أملك جزءاً لا بأس به ، وسأتدبر أموري . المال يأتي ويذهب ، المهم أن ننقذ بلالاً الذي دمَّرته الحروبُ العبثية التي اخترعتها حكومتنا الغبية بلا معنى . وأردف قائلاً : _ سأصعد إلى غرفتي، وأرتدي ثيابي ، وسأُحضر معي مبلغاً من المال ، ثم نذهب إلى الطبيب . صعد زياد إلى الغرفة . طرق الباب فلم يجبه أحد ، أعاد الكرَّة ، لكن محاولته باءت بالفشل . أمسك مقبض الباب وحرَّكه فإذا الباب يُفْتَح ، فهو لم يكن مغلقاً بالمفتاح . فتَّش كل أجزاء الغرفة فلم يلمح أثراً للشيخ ، لكنه عثر على ورقة موضوعة على السرير وفوقها مئة دولار أمريكي . أمسكها وراح يقرأ ما فيها : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، أخي زياد ، أنا آسف لأنني تركتُ الغرفة دون أن أُعْلِمك . أرجوك لا تبحث عني ، فأنا في مكان ما تحت شمس بلادنا التي تعترف بنا. لقد ضاقت الأرض علينا واتَّسعت لحكوماتنا القاتلة ولصوص الوطن والمومسات . ربما نلتقي يا زياد في ظروف أفضل من هذه . واعلم بأن الأرواح جنود مجنَّدة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف . لكننا نعاهد اللهَ أن نظل جنوداً أوفياء ضد أعداء الدَّاخل والخارج . كما أود أن أشكرك على كرم الضيافة الذي قابلتني به ، وأنا آسف لأني كنتُ عبئاً ثقيلاً عليك . وقد تركتُ لك مبلغاً متواضعاً عبارة عن مئة دولار كهدية من أخ مخلِص ، لعلمي أنك بحاجة إليه . وقد كان بودي أن أترك لك المبلغ بالعملة المحلية وليس بعملة الغزاة الأمريكان ، ولكن حكومتنا ضيَّعت البلاد بسياستها الرعناء . وأخيراً أقول لك : أخي صبراً على ألم الفـراق كلانا للنوى والشوق بـاقِ إذا انفصلت هياكلنا وبالت فروحي نحو روحك في عناقِ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أخوك سليمان ثويني )) . ولم يكد زياد ينهي قراءة الرسالة حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وكاد يجهش بالبكاء ، لكنه تمالك نفسه ، وقال كأنه يخاطب الحِبر الذي كُتِبت به الرسالة : _ السلام عليك يا سَيِّدي الشيخ ، يوم وُلِدْتَ ويوم تموت ، ويوم تُبْعَث حياً . أمسك ورقة المئة دولار ، ثم ارتدى ثيابه، ونزل إلى قاع الأحزان ، حيث تتزلج الانهيارات على بقايا جسد أخيه . أيقظوا بلالاً فنهض كالمصروع الذي تنخر قفصَه الصدري خريفُ الألم وشتاءاتُ الماضي السحيق . أخبروه بأن عليه أن يرتديَ ثيابه لكي يذهب إلى الطبيب . عارض الأمر في البداية قائلاً إنه بصحة جيدة ولا يحتاج إلى طبيب ، لكن إصرار أهله أقنعه بضرورة الذهاب . قادته زوجته إلى غرفة النوم وساعدته في تغيير ملابسه ، وقد بقي متمسكاً بسلاحه رافضاً تركه . قال العجوز : _ يا بلال ، ضع سلاحك مع زوجتك ، وهي سَتُخَبِّئه لك لئلا يأخذه الأعداء، فلا يليق أن نذهب بالسلاح إلى الطبيب . ماذا سيقول عنا ؟ . رد بلال بكل إصرار وحزم : _ لن أتركه هنا . افرض أن الأعداء تعرَّضوا لي في الشارع ، كيف سأُدافِع عني وعنكم ؟ . وهنا تدخل زياد قائلاً : _ اتركه يا أبي يفعل ما يشاء . المهم أن نلف الرَّشاش بقطعة قماش أو كيس لئلا يفزع الناس من رؤيته . راقت هذه الفكرة لبلال. وبالفعل فقد أحضرت فايزة قطعة قماش قديمة كانت لديها ، ووضعت الرَّشاشَ فيها ، وقامت بِطَوْيِهَا ، ووضعتها في كيس نظيف من أكياس القمامة لم يُسْتَخْدَم بعد . وقالت فايزة : _ سوف آتي معكم . ومثل هذا الكلام قالت فاطمة . لكن العجوز قال بحدة : _ أين تذهبان ؟ . هل تظنان المسألة عُرْساً أم حفلة عند الجيران ؟ . ابقيا في المنزل لحين عودتنا . قالت فايزة : _ وهل سأترك زوجي يذهب بدوني ؟ . أنا زوجته ، ويجب أن أعلم ما وضعه الصحي . فقال زياد : _ يا أم خولة ، المسألة لا تحتمل . وبصراحة فالحق معك ، ولكننا سنذهب لنستشير الطبيب حول وضعه الصحي ، ولا نريد أن تتسع المسألة ونُضخِّمها . فاستعيني بالله واصبري، وأنتِ امرأة مؤمنة ، وثقي بأن هذا المرض عابر . رضخت فايزة لهذا الكلام المنطقي من وجهة نظرها ، خصوصاً أنه جاء من شخص متعلِّم في هذه العائلة ، ولم يأت مثلاً من العجوز الذي لا يملك مثل هذا المنطق الهادئ في الحوار . وخرج الرجال الثلاثة من البيت ، وبقيت النساء يذرفن الزرنيخَ كإسطبلات الحزن الذي يتكدَّس على ظهور الأحصنة المحقونة بالعار . كان بلال يمشي بصعوبة ، يحدِّق في كل شيء يحيط حوله ، ينظر إلى الأشياء بعينين منفيَّتين عن هذا الوجود . يمسك الرَّشاش المختبئ بكل عنف ، ويجيل بصره في الأزقة والشوارع الموحلة والإسفلت المخلوع كأنه يبحث عن فريسة يصطادها . مشوا عابرين هذا الدمار الرهيب إلى أن وصلوا إلى الشارع الرئيسي ، وانتظروا سيارة تاكسي . جاءت سيارة فأوقفها زياد بإشارة من يده . توقفت بجانبهم . وأول ما انتبه إليه السائق هو ذلك الشيء الموضوع في كيس كبير، فقال والسيجارة على طرف فمه : _ احذروا أن يمزِّق هذا الشيءُ فَرْشَ السيارة ، فقد تم تجديده مؤخَّراً . وإن رأى صاحب السيارة الفَرْشَ مخدوشاً فسوف يقتلني فوراً . قال زياد : _ لا تخف ، فهذا الشيء لا يُؤثِّر على الفَرْش . واستقل الجميع السيارة . صعد العجوز إلى الكرسي الذي بمحاذاة السائق ، أما بلال وزياد فركبا في الخلف ، جاعلين الرَّشاش في أحضانهما دون أن يمس الفرش . نزلوا من السيارة بعد أن قام زياد بالدفع . كانت عيادة الطبيب في الطابق الثالث من عمارة فخمة في المركز التجاري في العاصمة . ركبوا في المصعد الذي أوصلهم إلى العيادة . دخل الجميع إلى العيادة ، وجلسوا في قاعة الانتظار . لم تكن هناك سكرتيرة لأن الدكتور عبد الرحيم جوهر كان إسلامياً فلم ترق له فكرة إحضار سكرتيرة ، الأمر الذي قد يثير شبهات كثيرة وخلوة ومخالفات شرعية في غنى عنها . هكذا كان ينظر للأمر . والدكتور عبد الرحيم جوهر شاب في الثامنة والثلاثين، يحمل شهادة الدكتوراة من جامعة كامبردج، وهو عضو سابق في حزب التحرير المحظور ، أصدر ما يزيد عن ستة كتب . وبسبب إتقانه للإنجليزية وتخرجه من جامعة عريقة عالمياً اضطلع بدور تجنيد الشباب الأوروبي المسلم في صفوف الحزب . وقد اصطدم أكثر من مرة مع المخابرات البريطانية ، لكنه كان مدعوماً من إحدى أميرات أوروبا التي كانت تحبه ، وتتدخل لإنقاذه من براثن النظام الأمني. ووالده هو الشيخ طارق جوهر الأمين العام لحزب التحرير الذي كان العقل المدبِّر للانقلاب العسكري الفاشل في هذا البلد ، وقد اغتالته الحكومةُ في بروكسل عام 1995م بعد أربع سنوات من الرَّصد والمراقبة . لقد قامت بتفخيخ سيارته ، وتم تفجيرها بواسطة جهاز تحكم عن بعد . وما زلتُ أذكر آخر حوار أجرته إحدى المحطات الأجنبية مع الشيخ طارق جوهر، أذكره كلمة كلمة رغم مرور كل هذه السنوات ، فقال سأله المذيع : _ هل تعترف بالأنظمة الحاكمة ؟ . ابتسم الشيخ طارق ، وقال : _ أنا لا أعترف بأي نظام حاكم على سطح كوكب الأرض في الوقت الراهن. ولا أعترف بأي خليفة سوى الخلفاء السبعة : أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذو النورين ، وعلي المرتضى ، والحسن السِّبط ، وعمر بن عبد العزيز ، والمهدي المنتظر . أما غير هؤلاء فلا أعترف بهم ، ولن أبايعهم طوال حياتي . لكنهم إن قتلوني فبإمكانهم أن يحصلوا على البيعة من جثتي ، ولكن قبل ذلك عليهم أن يفصلوا رأسي عن جسدي . تعجَّب المذيع من هذا الكلام الناري الصادر عن رجل عجوز نسبياً . وقد كان ذلك الحوار الملتهب آخر حوار أدلى به الشيخ طارق قبل اغتياله . أما ابنه الدكتور عبد الرحيم فقد انخرط في الحزب منذ شبابه ، لكنه اختلف معه مؤخراً ، مما جعله يقدِّم استقالته من الحزب . ذهب زياد إلى سكرتير الدكتور ، وهو شاب نحيل ملتحي في منتصف العشرينات ، وقال له : _ لو سمحتَ ، نريد أن ندخل على الدكتور في أسرع وقت لأن معنا حالة إنسانية صعبة . رد الشاب بلطف وصوت منخفض : _ هل لديكم موعد مسبق ؟ . _ بصراحة لا ، ولكن قل للدكتور إن زياد خضر الزاوي ينتظر في الخارج . كان بلال يحدِّق في وجوه الجالسين على مقاعد الانتظار الذين يشبهون الحزانى المزروعين في مقاعد محطات القطار حتى إشعار آخر، ولم يكونوا كثيري العدد ، فهم لا يتجاوزون الخمسة أشخاص. فكَّر للوهلة الأولى أن هؤلاء الأشخاص قد يكونون من الأعداء ، وأن عليه إطلاق النار عليهم خوفاً من أن يقتلوه ، لكنه تراجع عندما رأى الانكسار اللانهائي يرتسم على وجوههم الموغلة في اضمحلال نهايات الضوء . عيونهم غائرة ، وأبصارهم محنية باتجاه البلاط الملمَّع . محالٌ أن يكون هؤلاء من الأعداء. هذه القناعة التي وصل إليها بلال في نهاية الأمر . دخل السكرتير على الطبيب قائلاً : _ عذراً يا دكتور ، هناك شخص اسمه زياد خضر الزاوي يريد الدخول عليك. تساءل الدكتور وقد برقت عيناه بشدة : _ زياد خضر موجود في العيادة ؟ ... أدخله فوراً . وما إن هم السكرتير بالمغادرة حتى استوقفه الطبيبُ قائلاً : _ انتظر ، لا نريد أن نأخذ أدوار الناس الذين ينتظرون .. كم عدد المراجعين في الخارج ؟ . _ تقريباً خمسة مراجعين . _ إذاً ، رَحِّبْ بالأخ زياد ، وأخبره أن يتكرَّم وينتظرني حتى أنتهيَ من هؤلاء المراجعين . كان الدكتور عبد الرحيم تقياً ، فلم يشأ أن يأخذ دور الناس الآخرين الذين جاؤوا قبل زياد على الرغم من معرفته الوثيقة بزياد والصداقة المتينة بينهما . فقد اشتركا في تحرير مجلة " ثورة الإسلام " ، وهي مجلة شهرية تصدر باللغتين العربية والإنجليزية ، إلا أن الحكومة أوقفتها بعد تدخل الإدارة الأمريكية التي اتهمت المجلة بالتطرف ودعم الإرهاب دون دليل . والحكومة رضخت كالعادة بعد أن هدَّدت الإدارة الأمريكية بوقف المساعدات المقدَّمة للبلاد . كما أنهما عضوان في جماعة " تثوير"، وهي جماعة أدبية من الشعراء الشباب تهتم بالحداثة الشِّعرية من منظور عربي إسلامي ، وهي متخصصة بقصيدة النثر ، وكانت تصدر مجلة شهرية تحمل نفس اسم الجماعة ، وقد أنجبت شعراء مشهورين لهم إسهامات واضحة مثل : بكر عبد الرشيد الذي تُرْجِمت أعماله لعشر لغات وأخذ جوائز عالمية ، وسامح المنصوري الذي باع من ديوانه الأول أربعين ألف نسخة ، وحسن دهام الذي صار فيما بعد أستاذاً محاضراً في الأدب العربي في جامعة برنستون ، وغيرهم . وقد كان زياد هو أصغر المجموعة على الإطلاق ، وقد انضم إلى الجماعة وهو في السادسة عشرة . واستمرت الجماعة ثلاث سنوات قبل أن تصبح جزءاً من الذكريات بعد أن ذهب كل واحد إلى حال سبيله ، يضرب في هذه الأرض العريضة ، يُفتِّش عن أحلامه وذكريات جديدة وماضٍ سيأتي ومستقبل مضى . وبعد أن فرغ الدكتور من المراجعين دخل عليه زياد وأسرته . ابتسم الدكتور ابتسامة تنبئ عن حب عميق ، وأخذ زياداً بالأحضان قائلاً : _ أهلاً بزياد ، اشتقتُ إليك يا رَجُل . أين كنتَ طوال هذه المدة ؟ . _ بصراحة يا دكتور ، أنا مُقصِّر معك كثيراً ، وقد انشغلتُ بأحداث كبيرة أبعدتني عن حضرتكم . _ نادني باسمي مجرَّداً ، وارفع الكلفة بيننا ، فلفظة "دكتور " ولفظة" حضرتكم" ليست بيننا ، وكل هذه الألقاب مجرَّد وهم باطل يسبح في الخيال . ألا كل شيء ما خلا الله باطل . وبدأ زياد يُعرِّف الدكتور بوالده وأخيه . وبعد أن جلسوا جميعاً ، قال زياد : _ بصراحة يا دكتور ، هذا أخي بلال جندي في الجيش ، وقد عاد من الحرب للتو . وهو يعاني من اضطرابات في سلوكه ونفسيته ، فقد أطلق النار في غرفة النوم بعد أن تخيَّل أنه في ساحة الحرب، وهو لا يريد أن يترك الرَّشاش ، وقد أحضره معه إلى العيادة . توجَّه الدكتور بالكلام إلى بلال قائلاً : _ كيف حالك يا بلال ؟ . تلفَّت بلال حوله في كل الاتجاهات قبل أن يجيب قائلاً : _ الحمد لله رب العالمين ، أنا بخير . _ لماذا التفتَّ قبل أن تجيبني ؟ . _ خشيتُ أن يكون أحد من مخابرات العدو مختبئاً في الغرفة . ابتسم الدكتور بإشفاق ، وقال : _ لا تخف يا بلال ، أنا لا أسمح للمخابرات أن يُدَنِّسوا هذا المكان . وأردف قائلاً : _ أعطني سلاحك لأعرف هل هو مناسب للقتال أم لا . راقت الفكرة لبلال الذي استبشر خيراً بهذا الكلام ، لذا لم يمانع من إعطائه السلاح دون ضغط من أحد . أمسك الدكتورُ بالسلاح ، وصار يتفحصه بشكل محترِف يدل على أنه خبير بالأسلحة ، ثم قال : _ هذه صناعة بريطانية . لقد ذكَّرتني قطعةُ السلاح هذه بخطيبتي السابقة التي كانت مقاتِلة في الجيش الجمهوري الإيرلندي . وقد أسلمت وتحجَّبت ، وهي الآن تُدَرِّس في إحدى المدارس الثانوية في ليفربول . وأردف قائلاً : _ حبيبي بلال ، ستظل قطعةُ السلاح هذه عندي خوفاً من أن يباغتنا الجنود ، وأنت غير منتبه . هز بلال رأسه موافقاً بعد أن اقتنع بأن الدكتور سيُقاتِل معه ضد الآخرين . وبعدها قام الدكتور بإجراء فحوصاته على بلال ، وفي نهاية الأمر قال الدكتور : _ حقيقةً إن وضعه بالغ الصعوبة ، فهي غائبٌ عن المشهد الوجودي الحالي ، ويعيش في عوالم أخرى وهمية . والحق يُقال إن جيشنا قد أنشأ قِسْماً نفسياً لإعادة تأهيل الجنود العائدين من الحرب ، لكن هذا القِسْم ما زال متخلِّفاً ، ومحتاجاً للتقنيات المتطورة . وعلى الرغم من هذا فأنا أرى أن نضعه في ذلك القِسم لحين الوقوف على حالته الصحية بشكل أكثر دقة ، ومدى قابليته للتحسن . وسوف أُشرِف بنفسي على حالته الصحية ، حيث لدي اتصالات قوية وعلاقات شخصية بالقائمين على هذا القِسم . ولنبدأ من الآن ، فالوقتُ ليس في صالحنا . قال زياد : _ كما تريد يا دكتور ، افعل ما تراه مناسباً . وهز العجوز رأسه بشيء من الألم والحرقة موافقاً على اقتراح الدكتور ، فهو يثق بكلامه ، لذا استجاب له سريعاً دون معارضة . ولما رأى الدكتور هذه الموافقة أجرى اتصالاً مع مدير مركز إعادة تأهيل الجنود العائدين من الحرب ، وعرَّفه المسألة بكل أبعادها ، وقال له إن الأوراق الثبوتية المطلوبة ستكون عنده غداً مع أهله . وطلب من المدير أن يبعث عدة أشخاص لكي يأخذوا بلالاً . وقد أعطاهم موقع العيادة بدقة ، وهي أصلاً كانت معروفة لديهم . كان بلال يشعر أن شيئاً غريباً يجري حوله ، أن ماءً يجري من تحت قدميه وهو لاهٍ ذاهل عن موجودات المكان وعناصر جسده المثقَل بالهواجس . إنه يتلفت يمنة ويسرة ، فهو يشعر أن شيئاً ما سيخرج من أسمنت الجدران ، وينقض عليه . إنه إحساس مرعب بالغ الصعوبة . وراح الدكتور يحادث بلالاً ليخفِّف عنه ، ويحقنه بالطمأنينة التي يفتقدها بشكل كارثي . وبعد نصف ساعة تقريباً جاء أربعة أشخاص ، واستأذنوا بالدخول على الدكتور فأذن لهم . ولما رأى بلال مشهد الرِّجال المخيف بحث عن الرَّشاش ليطلق عليهم النار ، فقد ارتبطت صورتهم في ذهنه بصورة الأعداء الذين يتخيَّلهم . لكنه لم يجد سلاحه ، فانكمش على نفسه ، وتخندق في ذاتية ألمه المتكوِّم كالخرقة البالية . قال الدكتور للرجال الأربعة : _ هذا هو الأخ بلال ، فأرجوكم أن تعاملوه برفق ، وأن لا تُشْعِروه بالألم . واقترب الرجال من بلال الذي صار يصرخ بأعلى صوته : _ ابتعدوا عني أيها الأعداء ، سوف أُطلق عليكم النار ، ابتعدوا . أَمْسَكُوه من كل الجهات ، وصار يصرخ بأعلى صوته : _ أبي ، لا تتركني . زياد ، لا تتركني . يريدون أن يأخذوني إلى حبل المشنقة . وحملوه رغماً عنه ، وقد كان والده يذرف دمعاً مراً إشفاقاً على ابنه ، لكنه لم ينبس ببنت شفة . أما زياد فقد أشاح بوجهه لئلا يرى منظر أخيه المؤلم . واستمر صراخ بلال ممزوجاً ببكاء حارق، وهو ينادي على والده وأخيه اللذين يتقطعان حزناً على حالته المأساوية ، ولكن بلا فائدة . وغاب بلال رغماً عنه خلف ستائر الضباب المرعِب مثلما يغيب كل شيء، لكن وخز صراخه ظل يحفر في أذهان الحضور خنادق من الكهرمان المسموم ، وينحت على الجدران معالم أحزان صارخة في وجوه كل البجع القتيل على جلود البشر المرقَّعة . قال الدكتور محاولاً التخفيف على العجوز خضر وابنه : _ يا جماعة ، أنا آسف لأني قمتُ بهذا العمل ، ولكن صدِّقوني أن هذا الأمر لم يكن منه مهرب ، وإن شاء الله يرجع بلال كما كان وأفضل . وأنا أعدكم أنني لن أتركه . قال زياد : _ شكراً لك يا دكتور ، ونحن واثقان بجهودك المخلصة الطيبة ... والآن اسمح لنا أن ننصرف . _ سنكون على اتصال لمتابعة حال بلال أولاً بأول ، وهذه بطاقتي تحمل أرقام هواتفي . وإن شاء الله سوف نذهب غداً للمركز من أجل تزويده بأوراق بلال الثبوتية ، والتوقيع على بعض الأوراق . وغادر العجوز وابنه المكان بعد أن شكرا الدكتور . كانا يمشيان بتثاقل رهيب، ومن يراهما يظن أنهما مصابان بشلل من نوع خاص ، فهما يبدوان غير قادِرَيْن على المشي . فالهموم هبطت عليهما كأسراب الجراد المعدَّل وراثياً . ارتمت المسافاتُ أمامهما كحقول من النفط المشتعل ، فكل شيء في دواخلهما يشتعل ولا يجد حزناً يقدِّم الماء ، أو رصيفاً يمتص هذه الخطوات المرتعشة إلى درجة التماهي مع الشلل . كان فاطمة وفايزة والصغيرة خولة يأكلن بلاط المنزل قلقاً وخوفاً ، فهن يذرعن المكان ذهاباً وجيئة . خطواتهن كومةُ أشجار ذابلة متجمعة في مقلاة ملتهبة . وقُرِع جرس الباب، فأسرعن كلهن لفتحه. لاحظن عدم وجود بلال.فقالت فايزة وعيناها تهبطان في محيط سحيق من النباتات المسمومة ، ولسانها منقوع في براميل اليورانيوم المخصَّب : _ أين بلال ؟ . قال العجوز : _ يا جماعة ، لندخل أولاً ثم نتحدث . ودخل الجميع إلى حافة الحزن. ولم يعرف الرَّجلان كيف يفتتحان الحديث . أما الإناث اللواتي أسلمنَ أنوثتهن للحزن والدهشة فلم يفهمن ما الذي يحدث . وفي خضم هذا الضباب الفُسفوري قال العجوز : _ قل لهنَّ يا زياد ما الذي حدث ، فأنتَ مثقَّف وتعرف كيف تجمِّع الكلامَ . أحس زياد بأكوام من المسؤولية تدق في أكتافه مسامير الهم ، لكنه استجمع قواه قائلاً : _ يا جماعة المسألة بحاجة إلى صبر ، والصبر عند الصدمة الأولى ، نشكر في السراء ونصبر في الضراء . وبصراحة فإن بلالاً تم وضعه في مركز للصحة النفسية تابع للجيش ، وسنذهب غداً لتزويد المركز بأوراق بلال الثبوتية ، ومن أجل التوقيع على بعض الأوراق . لم تستطع فايزة أن تفعل شيئاً حيال هذه الصدمة سوى أنها ضحكت ضحكة مريرة خلعت كبدَها كما يخلع زوجها البزة العسكرية ، وقالت وهي غير مصدِّقة : _ بلال صار مجنوناً بكل بساطة ، وصار متخلِّفاً عقلياً بهذه السهولة ؟! . وركضت إلى غرفتها والنحيب يطمس معالم وجهها . دخلت الغرفة كقطيع من الحطب يدخل غابة الحريق الحاسم ، وارتمت على السرير ، وغرقت في كل محيطات النشيج والدمع اليابس من كثرة الهطول . قال زياد مخاطباً أخته فاطمة : _ اركضي وراءها وخفِّفي عنها ، ولا تتركيها وحيدة . وبالفعل ذهبت فاطمة وبدأت مهمتها الشاقة ، تحاول التخفيف عنها ، ومسح دموعها التي كانت تسقط بكثافة مطر متواصل في ليلة شاتية يبكي فيها حبيبان غامضان استعداداً للرحيل . وفي اليوم التالي جهَّز زياد كافة أوراق أخيه وذهب برفقة أبيه والدكتور، وقدَّما كامل الأوراق للمركز ، ووقَّعا على بعض الوثائق والمعاملات . وقد حاولت فايزة الذهاب معهما إلا أن حالتها النفسية السيئة حالت دون ذلك ، فقد كانت في وضع نفسي مأساوي لدرجة أنها بدت عاجزة عن المشي ، فبقيت في السرير وحولها فاطمة تقوم على خدمتها . أما الصغيرة خولة فجلست حول السرير تمسح العَرَق عن وجه أمها الذي بدا كأنه بركة سباحة مخلوطة بالكلور إلى درجة تأجج السم الهادر .